ليست الإمامة عقدًا واختيارًا بناءً على نص من الوصي، أو بناءً على عهد من
الإمام السابق إلى الإمام اللاحق، فهذه شروط الابتداء وليست حالة الاختيار.
فالاختيار تعبير عن واقع، والعقد إقرار لمصلحة. ولما كان النص كذلك في نشأته
تعبيرًا عن واقع بفعل أسباب النزول، وحفاظًا على مصلحة بناءً على مقاصد
الشريعة، الْتقى الاختيار مع النص. فبالرغم من ثبوت الإمامة بالنص وبالعهد
وبالإجماع إلا أن ذلك هو البداية فقط؛ أي مجرد افتراض أو اقتراح لا يتحقق إلا
بالعقد والاختيار، ببيعة الأمة. فالنص والعهد والإجماع كلُّ ذلك يقوم على حسن
الاختيار للأمة. فالعهد يتم بحضور الرفاق، بعض أهل الحل والعقد، ولا يُنكره أحد
منهم، ومن حقهم الاعتراض على المعهود إليه؛ فالعهد اختيارٌ ضيق قبل البيعة
كاختيارٍ موسَّع. وإن تُوفي الإمام دون أن يعهد إلى إمامٍ بعده يُنادي رجلٌ
مستحق لها فيدعوها لنفسه، ثم تأتي البيعة العامة اختيارًا من الأمة وعقدًا
عليه. وفي هذه الحال لا يتحول النداء الذاتي إلى إمامة إلا بالبيعة العامة.
فإذا ما عهد الإمام حين وفاته إلى اختيار إمام من كثير، فإن ذلك الاختيار يكون
أيضًا عقدًا من الرفاق تتلوه بيعة الأمة. ويتم ذلك في أقصر وقت منعًا للشقاق،
وحرصًا على المصلحة العامة. ولا يمكن تأجيل رضا الجماعة حتى في حال موت الإمام،
أو الاقتصار على رضا الرفاق، أو استنادًا إلى العهد دون بيعة عامة. وقد يُعهَد
الأمر إلى رجلٍ ذي شوكة وثقة، فيتولى عقد الجماع واختيار الإمام لجمع الآراء
وعقد الحوار واختيار الأصلح.
٣٥ والحقيقة أن كل هذه النظريات إنما هي تنظير لحوادث التاريخ وتبرير
لوقائعه في كيفية اختيار الأئمة الثلاثة الأوائل اختيارًا أم عهدًا أم تفويضًا،
ومع ذلك يبقى التقابل بين التعيين بالنص والاختيار بالبيعة والعقد تقابلًا
نظريًّا يتجاوز حوادث التاريخ، ويُعبر عن حقائق الواقع المستمر.
(٢-١) صفة العقد
لما كان كل عقد يشمل صفة العقد وصفة المُتعاقدين، فإن صفة العقد هي أن
يقع ممن يصلح للإمامة، ولا يكون ذا عهد من إمام وإلا يُقارن هذا العقدَ
عقدٌ لمثله من يصلح للإمامة؛ أي به الشروط نفسها التي للإمام ولا يكون
إمامًا. فلا يصح أن يعقد إمام لإمام أو أن يكون ذا عهد مع إمام أو أن يعقد
لمثله. ويمكن معرفة من يصلح للإمامة عن طريق الشروط التي تتوافر في الإمام.
والعهد يحتاج فقط إلى بيعة وقبول دون عقد، فالعهد من الإمام السابق إلى
الإمام اللاحق بمثابة العقد الجديد. والعقد يكون واحدًا حتى لا يُعقَد
لإمامين في وقتٍ واحد. ويقتضي العقد القبول والرضا عن طريق البيعة وإظهار
الانقياد لذلك، فلا يكفي في الرضا مجرد التصفيق أو التهليل وإضمار المخالفة
خوفًا أو نفاقًا، بل يتطلب القبول، والقبول صراحةً دون تأويل. وقد يُقبَل
عقد دون قبول؛ إذعانًا للمصلحة العامة، وتسليمًا بإرادة الغالبية.
والبيعة تجبُّ النص، وتقوم على الاختيار الحر؛ فالنص لا يُعين أحدًا،
خاصةً لو كان نصًّا من الوحي، وحتى لو كان مُتفقًا مع البيعة. ومع ذلك لا
يجوز إثبات العقد والاختيار عن طريق إبطال التعيين بالنص، كما أنه لا يجوز
إثبات التعيين بالنص بإبطال العقد والاختيار. فهذا هو برهان الخلف، إثبات
الشيء عن طريق إبطال نقيضه، وهو برهانٌ سلبي خالص لا يكفي للإثبات؛
٣٦ لذلك اشتمل الاختيار على ثلاثة جوانب لا اثنين فقط: ماذا تعني
البيعة؟ من هم المُبايعون أو الذين لهم حق العقد والاختيار؟ ما الدليل
عليه؟ فإذا كان من يصلح للإمامة لا يصبح كذلك إلا بعقدٍ يصير به إمامًا،
وبتوافر شروط معيَّنة، فإن الشروط وحدها تُحقق المساواة بين الأئمة، إلا أن
ما فصل بينهم هو الاختيار. هناك إذن مقياسٌ موضوعي واختيارٌ حر بين
مُتعادلين؛ فالإمامة عقد وبيعة واختيار. والتعيين غير ثابت بالنص، بل
بالاختيار؛ وبالتالي كان عقدًا وبيعة. ويقوم الاختيار على الاجتهاد وإعمال
الرأي والتفضيل.
٣٧ وقد يُستعمل لفظ الشورى كمُرادف للاختيار.
٣٨ ولكن هل تجوز الإمامة اغتصابًا من صاحب شوكة، حتى ولو بايعته
الأمة بعد ذلك عن رضًا وقبول؟ إن إقرار الواقع وهو اغتصاب السلطة لا يجعلها
شرعية. وفي هذه الحالة لا بد من البيعة والرضا والاختيار والقبول. وإن لم
تحدث البيعة يصبح الإمام مُغتصبًا للسلطة لا حق له في الإمامة.
٣٩ والدليل على ذلك الإجماع. فكل من انتدب لنصرة الأمة، وقاوَم
الظلمة، ودافع عن البيعة، وأقام الثغور، وأعطى الحقوق للمستضعَفين، فهو الإمام.
٤٠ وهناك علاقة بين الوجوب وكيفية الثبوت؛ فالوجوب على الله يؤدي
إلى إثبات الإمامة بالنص والتعيين، والوجوب السمعي أو العقلي على العباد
يؤدي إلى إثبات الإمامة بالعقد والاختيار.
وبالرغم من الشبهات التي تُلقى على العقد والاختيار فإنه يمكن إزالتها،
ويظل الاختيار هو الطريق الوحيد أمام الجماعة لتنصيب إمامها، فيُقال مثلًا:
لو كان الأصل هو العقد والاختيار لكان الطريق إليها إما العقل أو الشرع؛
والعقل لا يجوز لأن الإمامة حكمٌ شرعي، والطريق إليها شرعي؛ والشرع إما
الكتاب أو السنة أو الإجماع، وليس فيها عقد أو اختيار. والحقيقة أن ذلك
بناءٌ نظري مغلوط؛ فالاختيار طريقه العقل، وبالرغم من أن الإمامة حكمٌ شرعي
إلا أن الشرع يقوم على العقل، وهي وظيفةٌ عملية مصلحية تُدرَك بالعقل. وإذا
كان حكمها شرعيًّا في الكتاب أو السنة أو الإجماع، فإن الشورى منصوص عليها
في الكتاب والسنة، أجمع عليها المسلمون وأقرَّها الاجتهاد. والإمام ليس
خليفة لله أو للرسول لا يجوز إلا بالنص، بل هو خليفة لمن اختاره؛ فالله لا
يخلُفه أحد، والرسول أيضًا لا يخلُفه أحد.
٤١ والرسول لا يتولى الإمامة بنفسه، ولا يوكِّلها إلى غيره، بل
يقضي بها بعد إبلاغ الرسالة، ويقوم الإمام نائبًا عن الأمة وليس خليفة
للرسول. وفرقٌ بين النبوة والإمامة، ولا قياس بينهما؛ فالنبوة تعيين ونص،
في حين أن الإمامة عقد واختيار. وإذا اختص النبي بالعلم عن طريق الوحي، فإن
الإمام يختص بالعلم عن طريق الاجتهاد. وإذا كانت وظيفة النبوة نظرية فإن
وظيفة الإمامة عملية. النبي يُبلغ الوحي ويُعلم الشريعة، والإمام يُنفذه
ويُطبقها. الاختيار إذن ليس حتمًا نصًّا من الرسول وإن كان كذلك، بل نابع
من طبيعة العقل وضرورة المصلحة. وإن القول بالاختيار نصًّا مثل القول بالنص
عقلًا. ولا خوف من الخطأ في الاختيار؛ فالأمة لا تجتمع على خطأ، والناس
أدرى بشئون دنياهم. وإن تحقيق المصلحة يكون طبقًا للغالب، والاجتهاد في
النهاية أصل من أصول الشريعة. وفي القياس أصول وقواعد تحميه من الخطأ
وتحرسه من الوقوع فيه. وإن من شروط الإمام التقوى والورع اللذان يمنعان
ازدواجية الظاهر والباطن؛ حتى لا ينخدع الناس في الاختيار. وإن جواز الوصية
والعهد لا يطعن في جواز الاختيار؛ لأن العهد إنما هو اختيارٌ مبدئي في حاجة
إلى تصديق من اختيار الأمة في بيعةٍ عامة بقبول جميع الناس ورضاهم. ولا
حاجة إلى معصومٍ يُعلم الناس كيف يختارون، فالاختيار يتم طبقًا لشروط
موضوعية في الإمام، ويحتوي على أكبر قدر من الصحة في الحكم، حكم الجماعة
وليس حكم الفرد. وإن اختلاف الأمة إلى مذاهب وفِرق لا يمنعها من الإنفاق
على إمام، فالمصلحة العامة واحدة، والخلاف لا يُفسد في الود قضية. ولا
يحتاج الاختيار إلى ضبطٍ آخر غير شروط الإمام وصفات المُتعاقدين، ولا توجد
إلا رقابة الأمة، ولديها أدوات لخلع الإمام والثورة عليه. وإن خطأ الإمام
محدود بالاجتهاد، ومصحَّح بالرقابة عليه والتذكير والنصح له.
٤٢ وقد تُثار شبهاتٌ حول طبيعة الاختيار والتناقضات فيه، وهي كلها
وهميةٌ يسهل إزالتها. فإذا كان الإمام واجب الطاعة فإن الاختيار يوجبها
أيضًا طالما التزم الإمام بشروط العقد، فلا تناقض بين الطاعة والاختيار.
الاختيار يوجب الطاعة المشروطة، بعكس التعيين الذي يوجب الطاعة المطلَقة.
وإذا أوجب الاختيار العزل فإن ذلك لا يجعل النص أفضل منه؛ لأن الإمام إذا
ما تهاون في الدفاع عن البلاد، أو ظلم وتجبَّر وقهر، ولم يستمع لنصح أو أمر
بالمعروف ونهي عن المنكر، وجب عزله. العزل إذن واجب كالاختيار، في حين أن
المعيَّن بالنص لا يمكن عزله.
٤٣ ولا قياس لمنصب القضاء على الإمامة إذا لم يقع الأول بالبيعة؛
فالقضاء حكم في الخصومات طبقًا للشرع، ولا فرق بين قاضٍ وآخر إلا في
الحصافة. والقاضي معيَّن من الإمام الذي اختاره الناس؛ وبالتالي يكون
مقبولًا تعيين القاضي على أساس من الاختيار غير المباشر. القضاء جزئي،
والإمامة كلية. القضاء فرع، والإمامة أصل. ولا ضير أن يكون الفرع بالتعيين،
والأصل بالاختيار؛ فالفرع يلحق بالأصل وليس العكس.
٤٤ وتقيم باقي الشبهات في المختار، سواء الذي يقوم بالاختيار أو
الذي يقع عليه الاختيار، كما يقع البعض الآخر في فعل الاختيار، اختيار
إنسان لإنسانٍ آخر كي يُمثله نيابةً عنه. فإن قيل في فعل الاختيار: لو جاز
لمن يختار الإمام ليُقيم الحدود لجاز له ذلك بنفسه، وهو أولى؛ لأن الإمام
مفوَّض من الجماعة لتنفيذ الشرع، وليس الفرد مفوضًا. ولو كان الفرد كذلك
لكان عدد الأئمة مُساويًا لعدد المؤمنين، كل مؤمن إمام. ولكن الإمام يُمثل
إرادة الجماعة، ويرعى المصلحة العامة؛ ومن ثَم لزم التمثيل، ووجبت النيابة؛
لذلك لو اختارت جماعة من الأمة الإمام لجعلته خليفة على أنفسها. والخلافة
تكون على الغير كما تكون على النفس. الإمام تمثيل للنفس وللغير، ونيابة عن
الأنا والآخر. وعلى الرغم من كون الإمام أعلم الناس إلا أنه يمكن اختياره
لذلك ممن هو أقل منه علمًا، ولا يكون ذلك طعنًا في الاختيار. العلم شيء،
والاختيار شيءٌ آخر. الاختيار تعبير عن إرادة الجماعة لا عن علمها. صحيحٌ
أن الاختيار يكون إما من كل الأمة، وهذا إهمال للإمامة؛ أو من البعض، وهذا
تعسُّف؛ فليس البعض أولى من البعض الآخر، ولكن لا حل آخر لتسيير أمور
الأمة، إما تمثيل الكل للكل، وهو مستحيل عمليًّا، نظرًا لاختلاف قدرات
الناس في العلم والفضل؛ وإما تمثيل البعض للكل، وهو الممكن عمليًّا،
والسائد واقعيًّا. ولا مكان للقرعة أو للتحكيم؛ فالإرادة الحرة أفضل من
المصادفة العشوائية في الاختيار، والقصد خير من الرجم بالغيب. وصحيح أيضًا
أن الاختيار ليس من واحد ولا في الكل، بل من البعض، وأن صفاتهم ليست أولى
من الأخرى، ومع ذلك فصفات العلم والفضل والقصد إلى رعاية مصالح الناس صفاتٌ
موضوعية تجب الكل والجزء، الجمع والفرد. وهي صفات المُتعاقدين في حدود
الإمكان البشري. وإن عظمة الإمامة لا تستوجب تركها لغير البشر؛ فالبشر هم
المئوِّلون والمفسِّرون للنصوص، ولكن بضماناتٍ أكثر من العامة والخاصة. من
الجماهير والعلماء يمكن اختيار الإمام، ولا يوجد بديلٌ إنساني آخر. وإن
اختيار البعض دون البعض لا يُسبب فتنة أي الفريقين يتبع الآخر؛ فالإمامة
مسئولية وبلية، وحسابها عسير من الله ومن الناس، في الدنيا والآخرة. ومن
يطلب الإمامة لنفسه تسقط عنه؛ فلا خوف من الشقاق. البعيد عنها خير من
القريب منها، والرافض لها أكثر أمنًا من الطامع فيها. كما أن وحدة الأمة
تمنع الشقاق. تندفع الفتنة لأنه لا تجوز البيعة ثانيًا بعد البيعة الأولى.
وإن التشكك في صفات المتعاقدين، أهل الحل والعقد، لأنهم لا يعرفون أمورهم،
فكيف يُولون عليهم غيرهم؟ أو لأنهم لا يتمثلون بصفات العصمة والعلم،
والإيمان يقوم على طلب المستحيل، وليس على تحقيق الممكن. فيمكن للإنسان ألا
يعرف أموره، ومع ذلك يكون قادرًا على اختيار من ينوب عنه في ذلك. وليس مِنا
معصوم، وكل علم أو إيمان يكون في مقدور الإنسان.
٤٥
ولو عُقِد لإمامين في وقتٍ واحد فالإمامة للبيعة الأولى لو كانت هناك
أسبقية، ولكن هل تجوز القرعة لو كانتا في وقتٍ واحد؟ إن القرعة حكم
بالمصادفة، وتحكيم للعشوائية، ونفي للقصدية. في هذه الحالة يتم الاختيار من
جديد عن طريق الأفضل طبقًا لمقاييس التفضيل. ويجوز أيضًا تنازل أحدهما
للآخر؛ لأن من يطلب الإمامة لنفسه تسقط عنه، والتمسك بها في حالة اختيار
إمامين في وقتٍ واحد نوع من طلبها للنفس. الإمام هو المتقدم وليس المتأخر،
وكان من واجب المتأخر بيعة المتقدم. لا وجود للقرعة أو للاحتكام، فالقرعة
مصادفة، والاحتكام يمكن للأهواء أن تتدخل فيه، والأضمن تطبيق الشروط،
ورعاية المصلحة، ووحدة الأمة، وتنازل الأخير للأول. فلو لم يتنازل أحدهما
لكان كلٌّ منهما راغبًا في الإمامة؛ وبالتالي تسقط عنه.
٤٦
ومع ذلك فقد يختلف الأمر إذا اختلف الزمان والمكان، إذا تم العقد لإمامين
في وقتين مختلفين نظرًا لصعوبة الاتصال الفوري، أو في مكانين مختلفين نظرًا
لاتساع الرقعة وترامي الأطراف؛ فالأولوية للزمان المتقدم على المكان. وقد
تكون الأولوية في المكان لبلد الإمام المتوفى على غيره من البُلدان. ومع
ذلك فالاتصال اليوم قائم، وتم تجاوز البُعدَين الزماني والمكاني معًا، بل
قد يكشف الإسراع في الزمان عن سوء نية وطلب للنفس، كما قد يدل على الغيرة
على الحق واهتمام بشئون الجماعة. أما أولوية المكان فتجعل الإمامة محصورة
في بلد بعينه لا تتعداها إلى بلدٍ آخر، مع أن المشهود لهم بالتقوى والصلاح
ومن تتوافر فيهم شروط الإمامة يتجاوزون بلد الإمام المتوفى.
٤٧ وما الفائدة من وجود إمامين أحدهما ناطق والآخر صامت؛ إذ كيف
يُدبر الصامت شئون الرعية أو يُراجع على الإمام الناطق؟
٤٨ وما الفائدة من وجود إمامين ناطقين في الوقت نفسه؟ أليس ذلك
شقًّا للأمة وانشقاقًا فيها؟ وقد يكون هذا الجواز تبريرًا لحدثٍ تاريخي
خالص في وقتٍ احتار فيه المسلمون بين إمامين، ووجب الاختيار حتى وقعت
الفتنة واندلعت الحرب. وقد يهدف تنصيب الإمامين إلى إزالة الصراع بين
الشرعية واللاشرعية حتى تضعف الشرعية وتقوى اللاشرعية، ويتكافأ الحق
والباطل بدعوى حقن الدماء ووحدة الأمة؛
٤٩ لذلك لا يجوز إلا إمامٌ واحد تعبيرًا عن وحدة الأمة وحرصًا على
مصالح الجماعة.
٥٠ وقد يُصاغ التساؤل بطريقةٍ أخرى، مثل: هل يجوز أن تجتمع الأمة
على أمرٍ تختلف في مثله؟ أو: هل يجوز أن تختلف الأمة في الشيء في وقتٍ
تجتمع عليه بعد الاختلاف؟ أو: هل يُعَد خلاف أهل الأهواء إذا خالفوا
الأحكام إطلاقًا؟
٥١ وهي صياغاتٌ أدخل في صفة المُتعاقدين، وأقرب إلى باب الإجماع
في علم أصول الفقه. والحقيقة أن الأمة لا تجتمع على خطأ ثقةً في العقل
البشري، وقدرة الإنسان على إدراك المصلحة، وقدرة الجماعة على الحرص على
المصالح العامة. والوحي لا يأتي إلى عقلٍ خاطئ مُضل، أو إلى صاحب هوًى
وميل. فاجتماع الأمة في أمرٍ خلافي ممكن، كما أن اختلافها في أمرٍ تجتمع
عليه وارد. أما أهل الأهواء فإنهم ليسوا من أهل الحل والعقد؛ فالهوى ليس
أصلًا في التعاقد، ولكن اختلاف الفِرق لا يمكن الحكم عليه بمقياس فرقة أهل
الحق؛ إذ إن كل فِرقة تدَّعيها. كما لا يجوز استعمال سلاح التكفير والتفسيق
والتضليل دون الحوار والإقناع وفهم الرأي الآخر؛ فلا استحالة في عقد
الإمامة أيام الفتنة والاتفاق على أكثر الموضوعات خلافًا.
٥٢
(٢-٢) صفة العاقدين
العاقدون هم أهل الحل والعقد. ولا يعقد الإمام البيعة لنفسه؛ إذ إن
العاقد غير الإمام. كما لا يعقد المتعاقد من أهل الحل والعقد الإمامة
لنفسه، بل يعقدها لغيره.
٥٣ فمن شروط المعقود عليه ألا يطلبها لنفسه حياءً وزهدًا، وضرورة
اعتراف الغير به، وعقد إرادة الأمة عليه؛ فالحكم مسئولية يتطلب زعامةً
شعبية وإجماع إرادة الأمة عن بكرة أبيهم، وإنما أراد بذلك الطعن في إمامة
علي إذا كانت البيعة والعقد. هل لا بد من إجماعٍ تام على اختيار الإمام أم
يكفي البعض؟ وما مقدار هذا البعض؟ قد يصعب إجماع الخاص. وهي القضية نفسها
في الإجماع في أصول الفقه، وقضية الاستقراء في المنطق.
٥٤ ولكن مع السيطرة على بعد المكان وتشابك وسائل الاتصال وسرعة
الانتقال، فإن الإجماع التام تقلُّ صعوبته، ولكن تبقى قضية اختلاف المصالح
باختلاف الأماكن والعادات والأعراف. وقد يكون الإمام المحلي أقدر على فهم
مصلحة أمته من الإمام العام للأمة الموحدة مجموع الأمم. وفي هذه الحالة
يمكن الجمع بين الاثنين عن طريق الإمام الواحد والولاة المُتعددين. ومع ذلك
قد يحدث في مراحل الضعف والانهيار أن يضعف الإمام ويقوى الوالي، فيستقل
بأمته، وتنشأ حركات الانفصال كما وقع في التاريخ.
فإن كان البعض هو الممكن، فما مقداره؟ هل يكفي واحد؟ ولكن الواحد مفرد
وليس جمعًا، والاثنان مثنًّى وليس جمعًا، كما أنهما لا يستبعدان التواطؤ،
فهل أقل الجمع ثلاثة لإمكانية عقد باثنين، أي بأغلبية اثنين ضد واحد؟ ولكن
في هذه الحالة يعود أقل الجمع إلى المثنى من جديد؛ وبالتالي لا تمتنع
إمكانية التواطؤ. إذا كانوا أربعة فإنه يمكن التعادل فيه، اثنان في مقابل
اثنين؛ وبالتالي تستحيل البيعة. فإذا ما كان الإجماع ثلاثة في مقابل واحد،
فإمكانية العقد وتواطؤ ثلاثة أصعب من تواطؤ اثنين. فإذا كان العدد خمسة،
وكان الإجماع ثلاثة في مقابل اثنين، فإنه يكون إجماعًا ضئيلًا، وإن كان
أربعة في مقابل واحد يكون الإجماع أكثر قوةً، وتزداد صعوبة التواطؤ. وإذا
كان ستة كما حدث في التاريخ في اختيار الإمام الرابع، فإن التعادل ثلاثة في
مقابل ثلاثة وارد، والأغلبية أربعة في مقابل اثنين، أو خمسة في مقابل واحد،
يُعقَد بها البيعة، وتزداد صعوبة التواطؤ كذلك. أما تحديد العدد ببلد
الإمام أو أهله أو ولايته، فإن ذلك أدعى إلى العصبية وأخذ الإمامة لأنفسهم؛
لذلك فإن العدد هو الذي يمنع من التواطؤ قلَّ أو كثر، كما هو الحال في
العدد الكافي في التواتر وفي الإجماع، بالإضافة إلى شروط العاقدين وصفات
أهل الحل والعقد؛ فالعقد بواحدٍ يُخشى منه الهوى والعقد بجميع من في أقطار
الأرض تكليف بما لا يُطاق.
٥٥ وصفات العاقدين أن يكونوا من أهل الاجتهاد والعدالة. ويشمل
الاجتهاد أعمال الرأي والنظر، والقدرة على الاستدلال، وحصافة الحكم، وسعة
العلم. أما العدالة فتشمل القدرة على النصيحة، والدفاع عن المصالح، والتقوى
والفضل. ولا فرق في ذلك بين الخاصة والعامة، بمعنى الأقلية والأغلبية، أو
الصفوة والدهماء. وأهل الاجتهاد والعدالة قادرون على التعبير عن المصالح
العامة للغالبية، والجهر بها في مواجهة الحكام. وهو فرض كفاية عليهم، إذا
قاموا به سقط عن غيرهم.
٥٦ ولا بد من شهود حتى يحضر العقدَ للإمام قومٌ من المسلمين أسوةً
بالعقود والشهود عليها، وإلا ادَّعى عقدًا سريًّا لا يعلمه أحد. وليست
الإمامة بأقل من النكاح الذي لا يتوافر فيه الإعلان. والإمامة خَطبٌ عظيم،
وأمرٌ جلل تعمُّ به البلوى، ويمسُّ كل المؤمنين. ولا يوجد حدٌّ معيَّن
للشهود، أربعة أو غير ذلك أو أكثر كما هو الحال في عدد العاقدين، يكفي
الشهود العدل، أو العدد الذي به تتحقق شهادة العدل.
٥٧
(٢-٣) الواقع التاريخي
يُثبت تحقُّق الإمامة في التاريخ أنها كانت من أوائل الموضوعات التي نشأ
حولها الخلاف إن لم يكن أولها على الإطلاق، ويدل ذلك على نشأة علم أصول
الدين كله نشأةً سياسية.
٥٨ وقد تم تفسير الواقع التاريخي بطرقٍ مُتعددة، كلٌّ منها يفهمه
طبقًا لنظريته المسبقة التي تدعم اختياره وتُقوي موقفه. ومع ذلك يبدو بعض
التناقض بين النظرية وتفسير الحدث التاريخي.
٥٩ فإذا كانت الإمامة عقدًا واختيارًا، فإن الإمام الأول يكون قد
تم تنصيبه بناءً على إجماع الأمة ورضا المسلمين به، وليس بنص من الله أو
بتوقيف من الرسول، سواء كان نصًّا جليًّا أم إشارة يُقاس عليها مثل إمامة
الصلاة. ويمكن أن تكون أفعاله ضِمن شروط الإمام مثل قتال أهل الردة. إن كل
الحجج النقلية هي في الحقيقة تركيب للنصوص على فرد معيَّن، واستعمال لنص
الوعي كنبوءة أو توجيه، ثم اختيار واقعة تاريخية معيَّنة كتحقيق لهذه
النبوءة، وتحقيق لهذا التوجيه. وذاك خطأ في التفسير؛ إذ لا يجوز إسقاط
الحاضر على الماضي وقراءته فيه، فليست مهمة نص الوحي الإخبار عن المستقبل،
بل تأسيس نظرية. ولا يتم اختيار واقعة معيَّنة إلا بناءً على مصلحة أو
هوًى، أو طبقًا لرغبة واختيار إنساني؛ مما يجعل الواقعة هي المُفسرة للنص،
وليس النص هو المُفسر للواقعة.
٦٠ والحق أن البيعة تجبُّ النص، فالنص لا يُعين أحدًا، خاصةً لو
كان نص الوحي، وحتى لو كان متفقًا مع البيعة. فالإمامة عقد واختيار كأساسٍ
نظري في الوحي وفي الواقع. وعلى هذا الأساس تم اختيار الخليفة الأول بإجماع
الأمة بعد أن توافرت شروط الإمامة فيه.
٦١ وإن كل الشبهات التي أُلقيت عليه لم تمنع من إجماع الأمة على
إمامته، كما أنه يسهل إزالتها؛ فمنعه ميراث النبي إنما يستند إلى النبوة
ذاتها، فالأنبياء لا تورِّث ولا تورَّث، ما يتركونه صدقة. والخلاف على مبدأ
لا يُراعى فيه الأشخاص حتى ولو كانوا بنات النبي. وإن كثيرًا من الأخبار
حول سوء معاملتهم موضوعة، وإن القسوة في محاسبة النفس لدرجة الإحساس بأن
هناك شيطانًا يعتريها أمرٌ يحتاج الحكام إليه. أما طريقة بيعته فقد كانت
فلتةً عصمت الأمة من الشقاق والفتنة. ولا يعني ذلك أنها خطأ، بل أكَّدت
الاختيار والبيعة. أما استدراك الأفعال ومراجعة النفس في آخر العمر فهو
إحساس بالمسئولية، وتعلُّم بالتجربة، وليس ضعفًا أو خطأً. وعهده إلى
الخليفة الثاني اجتهاد منه، وليس خروجًا على النبوة وتقليدها. عهدٌ أكَّده
الناس بالبيعة عن قبول ورضًا. وإن تأخير جيش لهُو اجتهاد قائد في حاجة إليه
داخليًّا قبل الحاجة إليه خارجيًّا، كما أن عدم توليته بعض الأعمال وتولية
آخرين إنما هو اختيار طبقًا للقدرات، ولا يدل على أي نقص أو شك. ونقص العلم
ليس عيبًا، إنما يحتاج الإمام إلى العلم النافع في تسيير أمور الرعية دونما
حاجة إلى تفقه وتعمق في الدين يُحسنه المتفرغ له. وإن إيقاف الحدود لهُو من
سلطة الإمام كالتعزير، وإيقاف حد على سيف الله المسلول نصرةً للأمة
وإيثارًا للجهاد على الأفعال الفردية. لم يسمِّ نفسه خليفة، بل سمَّاه
الناس كذلك. ولم يستنكره نظرًا لأنه كذلك بالمعنى الحرفي قبل أن يتحول
اللفظ إلى نظرةٍ شرعية. أما دفنه مع صاحبه فكذلك فعل آخرون إيثارًا للصحبة،
وليس عصيانًا لأمر.
٦٢ وكانت إمامة الخليفة الثاني بعهد من الخليفة الأول تلته البيعة
أمام جمع من الشهود. والغلاة وحدهم هم الذين لا يتولَّون الشيخين.
٦٣ وقد تم الاتفاق على الخليفة الثالث بعد الشورى، وعُقدت له
البيعة بالرغم من بعض الشبهات حول أفعاله عن خطأ في الاجتهاد.
٦٤ وتمَّت إمامة الخليفة الرابع عقدًا واختيارًا بإجماع الأمة.
ولما حدث الشقاق، وانفصمت عرى الإجماع، ونُصب إمامٌ آخر أقل فضلًا من
الأول، بدلًا عن أن يتنازل الثاني، تحوَّلت البيعة إلى نص كردِّ فِعل على
سوء اختيار البشر وتحكُّم الهوى والمصلحة الفردية.
٦٥ وبعد ذلك تحوَّلت الإمامة إلى ملكٍ عضود إلى حكمٍ وراثي في نسل
الإمام دون وراثة الروح.
٦٦ والحقيقة أن تحقُّق الإمامة في التاريخ وإن اختلف فيها
القدماء، فإنها لم تعد مشكلة اليوم أو مجالًا للاختيار والتحزب. لم تعد
الواقعة نفسها بذات دلالة إلا من حيث تحليل المواقف التاريخية في الدراسة
العلمية للتاريخ، ورؤية أي المواقف كانت أكثر ثورية من الآخر طبقًا
للالتزام السياسي لروح هذا العصر. ولا يبرأ هذا التحليل من قراءة الحاضر في
الماضي، ورؤية الواقع في التاريخ. ومع ذلك فالدخول فيه وكأننا طرف فيه هو
هروب من العصر، ونقص في الالتزام، وابتعاد عن الاختيارات الأساسية فيه.
حينئذٍ يكون الماضي تعويضًا عن الحاضر، ويكون التاريخ مَهربًا.
٦٧