والإمام مُستودَع العلم الذي لا يعلمه غيره، وهو علمٌ قلبي يقوم على
الإلهام، أو هو حاجةٌ نفسية وليس علمًا نظريًّا خالصًا. والعلم متَّحد
بالشخص، والشخص متَّحد بالعلم. يُعرَف العلم بالشخص كما يُعرَف الشخص
بالعلم. وهو علمٌ مُجمَل في مُقابل الوحي كعلمٍ مفصَّل، له ظهر وبطن؛
وبالتالي في حاجة إلى تأويل.
٢٣ وهو فوق ذلك كله علمٌ مستور لا يعلمه إلا العالمون، علمٌ سِري،
مستودَع في القلوب، لا يُكشَف إلا لأصحابه أهل العلم. وهو علمٌ موروث لا
مُكتسَب، لا يتوارثه إلا الأئمة، إمام عن إمام حتى الإمام الحالي، فيكون هو
العالم وغيره الجاهل، هو المُعلم وغيره المُتعلم، هو المتصل بمَنبع العلم
وغيره لا يتعلمه إلا عن طريقه. قد يبزُّ فيه الإمام علم الرسول بكمه وكيفه؛
فالإمامة مُتممة للنبوة، وليس على الآخرين إلا التقليد للإمام والتبعية له
كما يتبع الأعمى البصير.
٢٤ النبوة مجرد حرف بلا معنًى، والولي أو الإمام هو الذي يُعطي
الحرف معناه.
٢٥ وهو علمٌ واحد لا اختلاف فيه؛ فالاتفاق صحة، والاختلاف بُطلان.
وعلامة الحق الوحدة، وعلامة الباطل الكثرة. والوحدة مع الإمام، والكثرة مع
أعدائه. والجماعة مع الإمام، والمجتمع المُضاد مع أعدائه. وهناك علم
الميزان يُمايز بين الاثنين، مستقًى من الشهادة، كنفي وإثبات أو كنفي
واستثناء في «لا إله إلا الله». فما يستحق النفي باطل، وما يستحق الإثبات
والاستثناء حق. وعلى هذا النحو يمكن وزن الصدق والكذب والخير والشر وكل
المتضادات، وقياسها به.
٢٦ والإمام يعلم كل شيء، ما كان وما يكون وما سيكون، لا يند شيء
عن علمه، في حين أن الرسول كان كاتبًا يعلم اللغات والحروف! ويشمل علمه
الأمور النظرية والعملية على حدٍّ سواء. قد يأتي علم الإمام من الوحي
مباشرةً أو قد يأتيه من قِبل الإمام السابق. فإن لم يحدث تطابق بين العلم
والمعلوم تم اللجوء إلى «البداء»؛ أي حدوث تغير في العلم الإلهي! فالإمامة
هنا كالولاية مُتممة للنبوة ومُكملة لها. والعلم واحد، فهو يتناسخ من شخص
إلى شخص، يكون في شخصٍ نبوة، وفي شخصٍ آخر إمامة، وفي شخصٍ ثالث ولاية.
والحقيقة أن وظيفة الإمام عمليةٌ صرفة في سد الثغور والدفاع عن الحدود
وتجهيز الجيوش وتحصين القلاع ورد المظالم وأخذ الحقوق. وإن تهاون في
التطبيق، ولم يستمع للنصح أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجب عزله؛
فالإمامة ولاية لا بمعنى الصوفية، بل بمعنى الوظيفة؛ أي تأدية الواجبات،
وهي مستقلة عن شخص الإمام.
٢٧ وتتمثل خطورة العلم والتعليم في اعتباره حكرًا على فئةٍ
معيَّنة هي المتصلة بالإمام بعد أن كان مشاعًا للجميع، بل لا يحقُّ لأحدٍ
سوى الأئمة الاطلاع عليه، ولا يجوز لأحد أن يرتفع إلى درجة الإمام حتى
يمكنه الاطلاع على العلم؛ لأن الإمام من عصب الإمام الأول. فالعلم حكر على
عصب. كيف وقد يخرج الابن جاهلًا أو معتوهًا من أبٍ عالم أو مُلهَم؟
٢٨ كما يؤدي ذلك إلى إنكار العلم مُطلَقًا لما كان العلم متوارثًا
وليس كسبًا واجبًا على كل مكلَّف. والعلم الضروري منه أيضًا ما هو شائع
وموجود في كل عقل وفي كل طبيعة بشرية، ولا يمكن توريثه، والنبوة ذاتها لا
تورث. العلم المتوارث مضادٌّ بطبيعته للعلم المكتسَب وقصر المعرفة على
السلالة والأنساب، في حين أن مصدر المعرفة هو الواقع ذاته الذي استُمد منه
الوحي محاولًا تنظيره.
٢٩ وإذا كان العلم سرًّا فإنه لا يمكن لأي أحد فهمه، ولا بد من
انتظار الإمام حتى يكشف له ما غمض عنه من العلم، ويظل الإنسان يجهله، فليس
لديه ما يستطيع به أن يعلم أو يعرف، في حين أن الوحي مُعطًى للجميع لا سر
فيه، بل إن مقولة السر مضادَّة بطبيعتها لمقولة الوضوح الذي يُعبر الوحي عن
نفسه من خلالها. وعادةً ما تُروج مجتمعات القهر لمقولة السر حتى لا يتساءل
الناس، ولا يكشفوا أسباب القهر والاستغلال والزيف. ويُفسَّر منع التساؤل عن
الأمور النظرية التي لا تنتج عنها آثارٌ عملية من أجل إرجاع الناس إلى
العالم ومنعًا للاغتراب عنه، على أنه منع للتساؤل على الإطلاق. مجتمعات
السر هي مجتمعات الكبت والتحريم كما هو الحال في مجتمعاتنا المعاصرة
القائمة على ثالوث محرم؛ الدين والسلطة والجنس، الكل لا يعلمه، ولا يجوز
الاقتراب منه أو الحديث عنه إلا من قِبل السلطة وريثة الإمام، وكل ادعاء
لعلمٍ سِري هو وسيلةٌ إنسانية لتغطية الجهل أو للتعمية، فلا تقوم ثورة على
علمٍ سِري؛ لذلك كان التعليم وتثقيف الناس وتساؤلاتها حول المحرَّمات
ومعارضتها للأسرار وكل طرق الاستنارة مضادَّة لنُظُم القهر، ووسيلة للقضاء عليها.
٣٠ كما تؤدي صفة العلم والتعليم إلى التقليد؛ لأن الإنسان لا
يستطيع بنفسه أن يعلم أو يفهم، بل لا بد من تقليد الإمام وانتظاره وسماع
شرحه، في حين أن التقليد مُدان شرعًا وليس أصلًا من أصول الدين، وأن النظر
أولى الواجبات على المكلَّف؛
٣١ وبالتالي تغيب كل إمكانية للتحقق من صدق أقوال الإمام بإرجاعها
إلى الوحي أو إلى العقل أو إلى الواقع، فتُقبَل أقوال الإمام بلا مناقشة أو
اعتراض، ويؤخذ عليه العهد بالتسليم والطاعة والقبول. تغيب أية وسيلة لضبط
العلم ومراجعته، فهو علم بلا برهان، في حين أن العلم هو طلب البرهان، وأن
كل ما لا دليل عليه يجب نفيه، وأن الإيمان لا يكفي دون التصديق؛ فحقائق
الوحي على مبادئ العقل ووقائع الحياة الإنسانية التي تكشف عنها التجارب
الشعورية، الفردية والاجتماعية.
٣٢ والأخطر من هذا كله هو هدم العقل وإثبات التقليد والتبعية،
وتدعيم هذا الهدم بحججٍ عقلية تُثبت دور العقل في الإثبات والنفي. فإذا كان
الفتى يعرف بنفسه اعتمادًا على العقل والنظر من غير حاجة إلى تعليم مُعلم
أو عن طريق معُلم صادق، فإنه يسمح بالضرورة بعلم غيره الذي توصل إليه أيضًا
بالعقل والنظر. فإذا ما أنكره عليه، فإن هذا الإنكار لا يحتاج إلى مُعلم،
بل يمكن أيضًا أن يتم بالعقل. وإذا كان لا بد من مُعلم، وكان من الضروري
قبول مُعلم الخصم، وبالتالي يتعدد المُعلمون، فإن ذلك لا يعني ضرورة وجود
مُعلم صادق؛ لأن الخصم سيدَّعي أن مُعلمه هو الصادق؛ وبالتالي يتعدد
المُعلمون الصادقون. فما هو مقياس صدق المُعلم إن لم تكن هناك وسائل للتحقق
منها ومن ضِمنها العقل؟ وإن صدق الراوي يمكن التحقق منه بشروط الرواية إذا
كان الخبر مُتواترًا، وبشروط الراوي إذا كان آحادًا. أما ضرورة تحديد العلم
الصادق بشخص بعينه حتى لا يتعلم من مُعلمٍ غير محدَّد بشخصه، فإنه تشخيص
للعلم بلا سبب. فالعلم لا يتحدد بشخص المعلم، والعالم كل من حمل العلم. وإن
البحث عن رفيق للطريق، أي عن مُرشد للمعلم، يجعل المرشد أهم من المعلم، ومن
لا مرشد له لا معلم له. أما حجة الواقع فإنها لا تكون حجة مبدأ. فإذا كان
كل معلم صادقًا مُتعينًا بشخصه على حق، وكل معلم صادق غير متعين بشخصه ليس
كذلك في ظرفٍ تاريخي خاص لجماعة بعينها، فإن ذلك لا يُعمَّم في كل ظرف وفي
كل مجتمع.
٣٣ فإذا ما ظهر العقل فإنه يبدو عقلًا أسطوريًّا غيبيًّا تعويضًا
عن غياب العقل الإنساني العلمي، العقل الأول، أول ما خلقه الله، والذي منه
تفيض الصور على الموجودات، والذي يدخل في حوار مع الله متشخصًا كفرد. وهل
وظيفة العقل حوار خالقه أم إدراك العالم؟ وهل يعلم العقل بالفيض أم بالنظر
والاستدلال؟ وهل هو مرتبط بالنفس أم بالحس؟ وهل هو وجود أم معرفة، شيء أم
آلة؟ هل هو أخلاق أم طبيعة؟ هل هو متجه إلى العالم العلوي أم إلى العالم
السفلي؟ وأين يعيش الإنسان ومن أين تأتي مآسيه؟ والعقل ليس مقتصرًا على
النبي أو على الوحي، بل هو عام في كل إنسان، يأتي من طبيعته وفطرته وليس
موهوبًا من أعلى، ينظر ويستدل دونما حاجة إلى صورٍ موهوبة تفيض عليه من
عقلٍ أول. فهو عقلٌ طبيعي موجود في هذا العالم، تعبير عن الفطرة، ولا شأن
له بعقلٍ أول، هو أو غيره، سابق على الخلق، لا نعلم عنه شيئًا.
٣٤ لذلك يُنكَر النظر والقياس، وتُعتبر المعرفة اضطرارًا. ولا
يأتي هذا الاضطرار من طبيعة العقل أو من طبيعة الإنسان، أي من الداخل، بل
يأتي من الخارج، من فضل الإمام، أو من ضرورة الوحي، أو من كشف وإلهام لا
حيلة للإنسان فيه. فالإنسان بطبيعته لا يقدر على النظر والمعرفة. فإذا
أقرَّ بمعرفة فإنها لا تأتي عن طريق النظر الحر، بل تأتي بالإقرار بالفرض
والإجبار، بل قد تُمنَع المعرفة وتُسفَّه إذا ما استقلَّت بنفسها عن الفيض
أو عن الإمام.
٣٥ فإذا ما سُمح بالنظر والاستدلال فإنه يكون بعد المعرفة
الاضطرارية، ولا يؤدي هذا النظر إلا إلى معرفةٍ نظرية دون أية معرفة عملية.
وقد يُسمَح بها اختيارًا إما اضطرارًا أو كسبًا، ولكنها تظل دون التكليف.
وقد يُسمَح بها بعد مجيء الرسل لا قبلهم، ولكن يظل النظر تابعًا للنبوة لا
مستقلًّا عنها.
٣٦ وإن إبطال النظر في الأمور النظرية ليؤدي بالضرورة إلى إنكاره
في الأمور العملية؛ وبالتالي يستحيل استنباط الشرائع والأحكام، ويبطل
الاجتهاد فيها.
٣٧