وكما كفَّرت الفرقة الناجية الفِرق الضالة في بعض آرائها في نظرية العلم،
كذلك كفَّرتها في بعض آرائها في نظرية الوجود في بحث الجواهر والأعراض. فما
العيب في اعتبار الأعراض أجسامًا، وأن يكون الجوهر مؤلفًا من أعراض؟
١٠ أليس هذا ما يعرفه الجميع، وما يتفق مع الموروث الفلسفي العام،
بل ومع إيمان العوام؟ هل بالضرورة لا بد أن تكون الأعراض مجرد صفات، وأن
يكون الجوهر وحده هو الجسم؟ إن تصوُّر علاقة الجوهر والعرَض على أنها علاقة
مركز مُحيط، يكون أقرب إلى تحقيق أهداف السلطة في تصوُّر العلاقة بين
الحاكم والمحكوم؛ وبالتالي يكون كل تصوُّر مُخالف يُعطي العرَض بعض
الاستقلال عن الجوهر، أو يكون مُشاركًا له في صفةٍ مِثل الجسمية؛ يكون
كفرًا! وإن بعض نظريات الفِرق الضالة إنما تُشابه نظريات الفرقة الناجية،
مثل جواز خلو الجوهر عن الأعراض، وجواز قيام العلم والقدرة والإرادة والسمع
والبصر بالميت، ولكن بهدفين مختلفين؛
١١ عند المعارضة جوازُ وجود الحاكم من غير محكوم، وضرورة وجود
مظاهر الحياة الحسية؛ وعند السلطة لأن الله قادر على كل شيء، حتى على فعل
المُتناقضات، فلا يصمد أمامه قانون عقل أو طبيعة. أما اعتبار المعدوم
شيئًا، وبالتالي يكون له جوهر وعرض، فربما للتأكيد على وجود العدم، بل نفيه
وإنكاره، وحتى يصمد العدم كطرفٍ مُقابل للوجود، وحتى يتساوى الطرفان، ولا
يكون الوجود إيجابًا والعدم سلبًا مطلقًا.
١٢ وما المانع من دراسة الأفعال الإنسانية دراسةً طبيعية من خلال
مفهومَي الجوهر والأعراض؛ وبالتالي تتساوى الأعراض فيما بينها كأعراض
لجوهرٍ واحد وإن لم تتساوَ من حيث الحكم النظري؟ فالإيمان علم، والجهل كفر،
وكلاهما أعراض للفعل أو للنظر من حيث هو جوهر. والأهم من ذلك كله هو تكفير
نظريات الكمون والطفرة والخلق المستمر والتقدم والتأخر والظهور في الطبيعة.
١٣ ما العيب في أن يكون الخلق قد تم دفعةً واحدة، ثم يستمر الخلق
من تلقاء نفسه، فتظهر الصفات الكامنة فيه؟ وما الحاجة إلى الخلق المُتقطع
من الخارج، كل شيء في حاجة إلى خلق؟ ولماذا يكون الخلق المستمر نظريةً
هالكة، والخلق المتقطع نظريةً ناجية؟ وأيهما أكثر تنزيهًا لله، ورعايةً
لمصالح العباد، وأكثر اتفاقًا مع العقل والعلم؟ وما العيب في الطفرة التي
تُشير إلى الخلق الإلهي في الطبيعة، وتجعل الكيف مُخترقًا للكم، وتضع
الحرية ليس في الإنسان فقط بل في الطبيعة كذلك؟ وما الكفر في القول بأن
الجنة والنار لم تُخلَقا بعدُ طالما أنه لا توجد حاجةٌ الآن لهما، أو أنهما
كامنان في الوجود وسيظهران بالخلق المستمر؟ وما الكفر في القول بأن الله
خلق الأجسام، ثم تظهر الأعراض في الأجسام بعد كونها فيها بفعل الخلق
المستمر؟ هل كل فعل لا بد وأن يأتي من الخارج وليس من الداخل، وكأن كل ما
يحدث في الكون إنما يقع بفعل إرادة خارجية، وليس بفعل إرادة ذاتية؟ وما
المانع أن تجذب النار أهلها بنفسها دون أن يدفعهم أحد فيها، وكأن كل شيء
يتحرك بطبيعته نحو غايته؛ فغاية النار إحراق من يستحقها، ونهاية من يستحقها
الوقوع في النار؟ ولماذا تكون نظرية الجزء الذي لا يتجزأ التي رفضها
الفقهاء هي النظرية الناجية، في حين تكون نظريات الطفرة والكمون والظهور هي
النظريات الهالكة؟ إن القول بالطفرة والكمون والظهور ما هو إلا رد فعل على
القول بالجزء الذي لا يتجزأ، ورد الاعتبار الكيفي الحيوي للطبيعة بعد
سقوطها في التصور الكمي الآلي. إن المذهب الطبيعي الذي يظنُّه الناس دعامة
الإلحاد القائم على العلم الطبيعي هو عند الطبائعيين أنفسهم دفاع عن
التوحيد ضد المُشبهة والمُجسمة، وإبقاء على الحُسنيَين معًا، الدنيا
والآخرة، العلم والدين، الطبيعة والله، دون التضحية بأحدهما من أجل إثبات
وحدانية الآخر. وإن اتهام مذهب الطبائع بالإلحاد لهُو حكم من السلطتين
السياسية والدينية قائم على تصوُّر وحدانية الله بمعنى وحدانية الحاكم،
وإنكار استقلال الطبيعة والإرادة الذاتية للشعوب.
١٤
إن الخلق من عدمٍ الذي يظنُّه الناس تعبيرًا عن الإيمان هو في الحقيقة
إفراز السلطتين السياسية والدينية للتعبير عن المُزايدة في الإيمان،
والتملُّق لشعور العامة، وإيقاع لها في السحر بهدف إثارة الإعجاب وسحر اللب
والخيال؛ وبالتالي فإن عقيدة الفرقة الناجية ليست بأقرب إلى الإيمان من
عقائد الفِرق الضالة. إن الرغبة في التعظيم والمُغالاة لتؤدي إلى عكس
المقصود؛ فمثلًا جواز الاقتصار على خلق السموات مُغالاة في التعظيم؛ لأن
الإرادة المُشخصة قادرة على كل شيء، ولكنه إنكار في الوقت نفسه للعناية
واصطدام بالحكمة، وهما من صفات الذات المشخصة كالإرادة تمامًا، بالإضافة
إلى أنه رفض لتكوين العلم وبنائه وتدمير للحياة فيه، وكأن الحياة كان يمكن
أن تكون على غير ما هي عليه، وافتراض عالم آخر ممكن مُخالف لهذا العالم
الواقع، واستبدال التمنِّي بما هو موجود بالفعل، وإنكار لواقعية العالم،
وافتراض عالم آخر لا وجود له إلا تعبيرًا عن قدرة مُشخص يُغالي في تعظيمها
إلى حد تدمير كل ما سواها. وإن افتراض وجود أجسام لا تُرى لا من حيث الوجود
ذاته، بل من حيث إمكان رؤيته، هو افتراض وجود علم خارج نطاق المعرفة
الإنسانية. وإن افتراض عالم متوهَّم هو هدم وإنكار لعالم الواقع. وإذا قويت
الرؤية بوسيلةٍ ما، وإذا استطاعت العين أن تمدَّ بصرها من الداخل أو من
الخارج، فيمكنها أن ترى الأجسام. يمكن رؤية باطن الأجسام الشفَّافة بنفاذ
الشعاع، كما يمكن رؤية باطن الأجسام المُعتمة باستعمال المناظر المكبِّرة.
الرؤية مُمكنةٌ ما دامت الأجسام موجودة، فإذا لم توجد الأجسام تستحيل
الرؤية. وإذا وُجدت عينٌ تتوافر فيها شروط الرؤية تكون الرؤية ممكنة.
١٥ إن الخلق له مَعانٍ كثيرة، وليس أحدها بأولى من الآخر أو أكثر
منه. كلها تصوُّرات طبقًا لمدى الإحساس بالتنزيه، ولاستقلال الطبيعة،
وإثبات الحرية الإنسانية. فقد يعني الخلق التقدير المسبق ونشأة الكون كله
بناءً على قدرٍ سابق. حينئذٍ تتمُّ التضحية بالحرية الإنسانية التي لا تخضع
لأي قدر مسبق، بل تُعبر عن الإمكانيات البشرية الخالصة. الخلق بهذا المعنى
قضاء على فعل الإنسان وفعل الطبيعة معًا، ويُوحي بأن هذا العالم لا يفعل
فيه إلا من هو أقوى منه، وأن الإنسان لا يستطيع أمامه شيئًا. يقف عاجزًا لا
يفعل إلا ما قد قرَّره القدر المسبق، وفي الوقت نفسه لا ينشأ العلم الذي
يهدف إلى السيطرة على الطبيعة ما دامت خارج كل سيطرة إنسانية.
١٦ وقد يعني الخلق إثبات قدرة قديمة أمام كسب الإنسان بقدرةٍ
حادثة من أجل إنقاذ الحرية الإنسانية داخل تصور عام للخلق. وهذا إرجاع
للخلق إلى مشكلة القدرة بين القِدم والحدوث.
١٧ وقد يعني الخلق إثبات قدرة مُطلَقة مسيطِرة على الطبيعة،
والقضاء التام على استقلال ظواهرها، وسلب أية قوة كامنة فيها، في طبائع
الأجسام، وأن إثبات الله فاعلًا للطبيعة ومجعلًا لها قضاء عليها وعلى استقلالها.
١٨ وقد يعني الخلق الفعل لا بآلة.
١٩ وهنا يتميز الخلق الإلهي عن الخلق الإنساني الذي يحتاج إلى آلة
الخلق، وجود من وجود بلا توسط آلة، وإلا كان صنعًا. ولكن يظل التصور
الإنساني هو أساس التصور الإلهي للخلق عن طريق القلب. وقد يتحول الخلق إلى
تجسيمٍ مادي مشخص بتحوُّل الخالق إلى صانع، والمخلوق إلى مصنوع.
٢٠ ولا يفترق تصوُّر الفرقة الناجية عن أي تصور ثنائي للعالم
وقسمته إلى قديم ومُحدَث؛ فهي قسمةٌ مادية. القديم لا مادة، والمُحدَث
مادة. والقسمة تتحدد على أساسٍ مادي. ويسهل أن يتحول التصور إلى تجسيمٍ
خالص حتى يكون أكثر اتساقًا بدل التجسيم المقنع، وهو القول بالقديم الذي
يتحدد بنفي المادة الحادثة عنه. ومن أجل رد اعتبار المادة، والتي جعلها
الخلق سالبةً محضة حين سلب عنها كل قوة، فقد تحوَّلت إلى مادةٍ خالقة
تُشارك الذات المشخصة في فعل الخلق.
٢١ كما أن هناك تصوراتٍ عديدةً لكيفية حدوث الخلق، ليس أحدها
بأولى من الآخر. هناك الخلق من عدم بفعل الإرادة وبأمر «كُن»، وهو خلق
للشيء من لا شيء.
٢٢ وقد يحدث الخلق لا بالإرادة وحدها، بل بالإرادة والحركة. فلا
تحدث الإرادة والذات ثابتة، بل تتحرك الذات كلها، والحركة هي الإرادة.
٢٣ وقد يحدث الخلق في الذات المشخصة نفسها، فالذات المشخصة محل
للحوادث. ولا يحدث الخلق بالإرادة بل بالقول. وكما أن الذات المشخصة باقية،
كذلك لا تُعدَم الحوادث ولا تخلو منه الأجسام. وقد نشأ هذا التصور كرد فِعل
للتصور الأول الذي يجعل الله خارج العالم ومُنفصلًا عنه.
٢٤ وقد يحدث الخلق على درجات كما هو معروف عند الحكماء في نظرية
الفيض، وتكون بدايته أشرف نقطة، ثم تقلُّ مراتب الشرف كلما هبطنا حتى نصل
إلى أقل الدرجات. قد تكون البداية جسمًا في التجسيم، وقد لا تكون جسمًا في
التنزيه، أو قد تكون أسطورةً قائمة على التفسير الحرفي للنصوص.
٢٥ وتتنوع تصورات الخلق إلى درجة نفي الذات المشخصة كليةً، ولا
يهمُّ بعد ذلك أن يكون قِدم العالم حسيًّا ماديًّا أو معنويًّا صوريًّا من
حيث الإمكانية.
٢٦ كل هذه تصورات للخلق ليس أحدها بأولى من الآخر، وكلها تُمثل
ردود أفعال على بعضها البعض، بما في ذلك تصورات الفرقة الناجية التي كانت
السبب في حدوث تصورات بديلة عند الفِرق الهالكة. لا يكون أحدها أصوب من
الآخر، أو أحق بالإيمان وأبعد عن الضلال. وهناك أسئلةٌ نظرية خالصة ناتجة
عن التوتر بين التنزيه والتشبيه لا يمكن تكفير أحد فيها؛ فهي كلها آراء
نظرية طبقًا لدرجة قرب الفكر من التنزيه أو من التشبيه. فإذا كان السؤال:
هل خلق الشيء هو الشيء أم غيره؟ فإن جعل الخلق غير الشيء يُركز على جانب
الفاعل والإرادة، أي من جانب الخالق، في حين أن التوحيد بين الخلق والشيء
يجعل الخلق من جانب المخلوق. الرأي الأول يجعل أهم عامل في الخلق هو الفعل
الإرادي أو العلة الفاعلة، في حين يُركز الرأي الثاني على العلة المادية.
التصور الأول يضع تمايزًا بين الذات والموضوع، بين الأنا والآخر، في حين أن
الثاني يُوحد بين الذات والموضوع، بين الأنا والآخر. تتصل الإلهيات
بالطبيعيات في الخلق؛ فعندما تطغى الإلهيات الخلق هو الشيء أو يكون الشيء
بلا صفة. في التصور الإلهي يُطلَق للإرادة الحرية في أن تخلق إلى ما لا
نهاية، في حين أنه في التصور الطبيعي تتحدد الإرادة بأفعالها وبخلقها المُتناهي.
٢٧ والتصور الطبيعي يقضي على التشخيص، ويرى الخلق في الشيء،
والإرادة في الطبيعة، والحياة في المادة، وهو أساس نشأة العلم. والحقيقة أن
ذلك ليس تفكيرًا في الخلق باعتباره صفةً إلهية، بل في الخلق باعتباره
عمليةً إنسانية؛ ثم يحدث التمايز بين الإنسان والله بحجة الأولى أو
المفارقة. فإذا كان الخلق هو المخلوق في الإنسان، فإن الخلق يكون مُخالفًا
للمخلوق في الله. وقد يحدث تمايز بين أفعال الخلق، فيكون الخلق هو المخلوق
في البداية، ولكن الإعادة غير المعاد في النهاية إثباتًا لتطور الخلق
وتغايره. فإذا كان الخلق صفة فإنه يصعب بعد ذلك معرفة هل هي صفة للخالق أم
صفة للمخلوق، مجرد محاولة للخروج من إشكالٍ قديم عن طريق إلغائه.
٢٨ وتستمر الإشكالات العقلية في كل تصوُّر دون حل، خاصةً في
التصور الثنائي الأول. فإذا كان الخلق غير المخلوق، فهل يكون الخلق
مخلوقًا؟ وهنا يكتمل التصور الثنائي بتصورٍ أحادي، فيكون الخلق مخلوقًا
هروبًا من قِدم العالم. فكل تصوُّر مُكملٌ للآخر، التغاير والتماثل،
الاختلاف والاتفاق. ويدخل بعد الحقيقة والمجاز في التصورات؛ مما يدل على
أنها جميعًا صيغٌ إنشائية، وليست أحكامًا على واقع، وإنما جميعًا تقوم على
قياس الغائب على الشاهد.
٢٩ والعجيب أن الفرقة الناجية اختارت تصورًا دون آخر على أنه
التصور الحق، وهو أن خلق الشيء هو المخلوق اعتمادًا على عدم جواز وجود
واسطة بين الخالق والمخلوق؛ وبالتالي تكون أقرب إلى التصور الأحادي
الطبيعي. وفي هذه الحالة لا يجوز تكفير المُشبهة والمُجسمة.
٣٠ وكما لا يجوز تكفير أحد التصورَين الإلهي والطبيعي، فإنه لا
يجوز أيضًا تكفير التصور الإنساني؛ فالخلق صفةٌ إنسانية خالصة، بل إنها
أولى صفات الإنسان، وأخصُّ ما يُميزه وما يُعبر عن حريته. يبدو ذلك عند
الفنَّان الخالق المُبدِع. ولكن الإنسان نظرًا لاغترابه عن العالم وعجزه عن
الدخول فيه، نسب إلى الذات المشخصة أفضل ما لديه، وتعبَّد صفة الخلق بدلًا
من ممارسته. أما العالم فإنه ينشأ في الشعور لحظة الوعي به؛ فقد لا يكون
العالم موجودًا على الإطلاق عندما يكون خارج الشعور، وقد يكون موجودًا في
إنسان لأنه نشأ في شعوره، وغير موجود بالنسبة إلى إنسانٍ آخر لم يعِه بعد.
ليست النشأة إذن ماديةً كونية، فذاك موضوع علم نشأة الكون، بل نشأته في
الشعور. السؤال عن النشأة الكونية نظرةٌ مادية خالصة، في حين أن النشأة
الشعورية نظرةٌ إنسانية مثالية. الأولى ادعاء وغُرور، والثانية تصف الواقع
على ما هو عليه.