(٣-١) المعارضة السرية في الداخل
وتشمل كل الفِرق التي ظهرت في مجتمع الاضطهاد، يغلب عليها طابع التحول
إلى الداخل، والانقلاب إلى الباطن، والمُغالاة في الرفض، والتشيع والتحزب
لفريقٍ دون فريق.
٣٩ تغلِب على عقائدها موضوعات الألوهية والنبوة والإمامة، دون
العدل بعد أن كفروا بالعدل في الدنيا، ودون المعاد بعد أن رفضوا العدل في
الآخرة. وفي مقابل الاختيار الإنساني يضعون القدر، وفي مقابل العقل يضعون
الروح. ويرون الإيمان نفاقًا، والعمل تبريرًا للظالم. غرض المعارضة السرية
في الداخل تقويض الدولة وهدم النظام، والقضاء على السلطة اللاشرعية. فإذا
ما اتَّحدت مصالحها مع إحدى فِرق الأمة الحضارية، فإن المؤامرة تتحوَّل إلى
نظام الإسلام ذاته من أجل ضياع شوكته، ابتداءً من ضياع العقيدة والقضاء على
أسباب قوَّتها. ففي الإلهيات تظهر الثنائية بديلًا عن التوحيد؛ ثنائية الله
والشيطان، الخير والشر. ومع أن الأول خلق الثاني إلا أنهما معًا مُدبران
للعالم؛ وبالتالي يُقضى على الدين الجديد القائم على التوحيد، وتُعاد
الثنائية القديمة، وتُساعد ثنائية الخير والشر فِرق المعارضة على مقاومة
سلطة البغي؛ لأنها عقائد صراع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين
المقهور والقاهر، وكما تُساعد عقائد التوحيد عند الفرقة الناجية على قهر
المعارضة باسم الإله الواحد والسلطان الأوحد. وبالنسبة للنبوات، لما كان
تركيز فرقة السلطان على أن المعجزة هي الدليل على صدق النبوة، فقد أنكرت
المعجزات الخارقة للعادة من أجل إنكار النبوة وتقوية الأئمة. كما تم إنكار
الملائكة من السماء الحاملين للوحي في مَعرِض إنكار النبوة من أجل تقويض
مصدر النبوة في الوحي. وتم تأويل الملائكة لحساب المعارضة؛ فجبرائيل
وميكائيل وإسرافيل زعماؤها، أما الشياطين فهم مُخالفوهم، الأبالسة علماء السلطان.
٤٠ ليس الأنبياء سحَرة، بل قادة. هم قومٌ أحبُّوا الزعامة، فساسوا
العامة بالنواميس والحيل طلبًا للزعامة وبدعوى النبوة، ثم استعبدوهم
بالشرائع من أجل إبقاء الناس تحت إمرتهم، على عكس الأئمة الذين يأتون
لتحرير الناس، لكل نبي دور سبع، إذا انقضت ظهر في دور آخر. يقومون بتأويل
الشرائع حتى تخفَّ قبضتها على الناس ويتحرَّرون منها؛ فالصلاة الثناء على
الإمام، والزكاة دفع الخُمس إليه، والصوم الإمساك عن إفشاء أسرارهم عند
مُخالفيهم، والزنا إفشاء أسرارهم بغير عهد. وينتهي التأويل إلى إسقاط
العبادات والحدود؛ فيُباح الخمر، ويُباح نكاح ذوات المحارم، ويعود دين
المجوس. فإذا كانت الثنائية عقيدة صراع لمجتمع الاضطهاد في مُقابل عقيدة
التوحيد لمجتمع الغلبة، فإن الإمامة أيضًا تكون في مجتمع الاضطهاد ووسيلة
تحرُّر من النبوة كعنصر قهر في مجتمع الغلبة. وإذا كان تطبيق الحدود
والشرائع في مجتمع القهر وسيلة للضغط الاجتماعي، فإن تأويل الشرائع في
مجتمع الاضطهاد وسيلة للتحرر من الشريعة حتى تسقط نهائيًّا، ويتحرَّر
الإنسان مع نفسه أولًا قبل أن يتحرر من الآخر، وإلى الداخل قبل أن يتحرر
إلى الخارج؛ فالإباحة رد فِعل طبيعي على الكَبْت. وإن طبيعة السلوك في
المجتمع المغلَق هو التحرر في إطار الانغلاق، التحرر المُنعكس على الذات
كوسيلة لتقويض مجتمع القهر من الداخل.
٤١ وكان من الطبيعي أن تحكم عليها فرقة السلطان بأنهم مجوس، تؤخذ
منهم الجزية، وتحرم ذبائحهم ونكاحهم، أو بأنهم زنادقة تُقبَل توبتهم إذا
جاءوا تائبين، ولا تُقبَل بعد ضبطهم مُتلبسين في خلاياهم السرية.
٤٢
وقد تعتمد عقائد أخرى للمقاومة السرية لا على الثنائية المُتعارضة بين
الخير والشر، بل على الحلول، حلول الله في الإنسان، وحلول الروح في البدن.
فنتيجةً لإبعاد الله عن العالم يأتي إليه، ونتيجةً لإبعاد المظلوم وإنكار
حقه فإنه يتأكد بحلول الله فيه. يظلُّ الله حاضرًا حتى ولو فنِيَ الإنسان،
فالحقُّ باقٍ حتى ولو انهزم أنصاره. وكما يحلُّ الله في الإنسان يحلُّ في
الكون، ويصبح الله والإنسان والطبيعة شيئًا واحدًا. هذا الإنسان الذي يحلُّ
فيه هو الإنسان المُتميز، القائد الزعيم، وهو الإمام الذي يقوم بالتبليغ عن
الرسالة ثانيةً باسم الله إلى الأمة ليمحق الظلم، ويُعيد الحق، ويؤسِّس
العدل. فإذا ما حلَّت الروح في البدن أصبح سلوك الجوارح شرعيًّا بفعل
الروح، فتسقط العبادات والمحرَّمات والشرائع التي تُمارسها وتطلبها فرقة
السلطان، وتكون للجماعة السرية شريعتها الخاصة التي تقوم على التحرر الذاتي
مع النفس إن استحال التحرر من الآخر في الخارج. وتجوز شهادة الزور على
مُخالفيهم، بل وخنقهم تقويةً لأواصر الجماعة السرية، وتفكيكًا لنظام جماعة
الغلبة والقهر. كل من عداهم كافر، كافرون الذين لا يُناصرون الإمام الحق،
وكافرٌ الإمام الحق الذي يترك قتال أعدائه. ونتيجة ذلك كان حكم فرقة
السلطان عليهم بالردة، وحكمهم حكم المرتدِّين.
٤٣
وقد تأخذ عقائد المعارضة صورًا أبسط بدلًا من الثنائية بين الله
والشيطان، أو حلول الله في الإمام، وهي عقائد التجسيم والتشبيه؛ ففي
التجسيم يكون لله حد ونهاية من جهة السفل، ومنها يماس عرشه، ويكون محلًّا
للحوادث، يرى الشيء برؤيةٍ تحدُث فيه، ويدرك ما يسمعه بإدراك ما يحدُث فيه.
وفي التشبيه يكون الله على صورة إنسان. وإذا ما عبد الإنسان الله فإنه يعبد
إنسانًا مثله. والحقيقة أن التجسيم والتشبيه إنما يُمثلان رد فِعل على
إبعاد الله عن حياة البشر، واعتباره الفوق المطلَق الذي ليس كمثله شيء، ثم
يعتمد السلطان على هذا التصور ليتمثله ويصبح هو الله. فبدلًا من الله
السلطان أو السلطان الله، هناك الإله التاريخ أو التاريخ الإله، الذي يحدُث
فيه كل ما يقع في العالم من حوادث ومآسٍ. وهناك الإله الإنسان والإنسان
الإله، أيُّ إنسان وليس السلطان القريب من المباشر والشبيه به. ولا يعني
ذلك إفساد دلالة الحدوث على التوحيد؛ لأنه إن لم يكن العالم حادثًا ثم يكن
هناك طريق لمعرفة الصانع، فالعالم ليس سلمًا لغيره، وإثبات الله لا يكون
على حساب العالم بنفيه. فالله هو العالم، والعالم هو الله. وبالتالي تعود
الروح إلى الطبيعة كي ترفعها إليه. وكلهم في حكم الكفرة عبَدة الأوثان عند
فرقة السلطان.
٤٤
وفي صياغةٍ أخرى لعقائد المعارضة بالإضافة إلى الثنائية المتعارضة بين
النور والظلمة، أو حلول روح الله في شخص الإمام، أو القول بالتجسيم
والتشبيه، يتم الإعلان عن ألوهية الأئمة. فالإمام لم يمُت، بل هو حيٌّ قائم
في الجبال يعيش مع الأُسود والنمور وفي الكهوف والوديان، تأتيه الملائكة
برزقه غدوةً وعشيَّة، لا يموت إلا بعد أن يُعيد الحق إلى نِصابه، ويملأ
الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا. يتَّحد بالعالم وبالكون فيأتي في السحاب.
والتصديق به داخليٌّ محض عن اقتناعٍ باطني، وليس عن شهادة حسية، حتى ولو
أُوتي أنصاره بدماغه سبعين مرة لم يُصدقوا بموته.
٤٥ وما دام الإمام إلهًا حيًّا لم يمُت فإنه يعود ويرجع، ينتظره
الناس حتى يقودهم للقضاء على نُظُم البغي وشرائع البُطلان. ومن الطبيعي في
مجتمع الاضطهاد أن يتحول الموت إلى حياة، والهزيمة إلى نصر، والزعيم إلى
إله؛ فالتقصير في حق الإمام يؤدي إلى الغلو فيه. وقد ترتبط ألوهية الأئمة
بالتجسيم، فيكون الرب سبعة أشبار بشبر نفسه؛ نظرًا لأن العدد سبعة عددٌ
رمزي، والله يكون مقياس نفسه ذاتًا وموضوعًا، ولا يُقاس بشيءٍ غيره. لحم
ودم على صورة إنسان ترِد عليه الشمس مرتين، على رأسه تاج، أعضاؤه على عدد
حروف الهجاء، الألف للساقَين. لما أراد أن يخلق تكلَّم باسمه الأكبر، فوقع
التاج؛ فالله كلمة، أي إن جسمه حروف، وعدد أعضائه بعدد الحروف، الألف
للساقين، والخلق جزء منه بالكلمة، تاج على رأسه. فالله إنسان وكون، ثم
يتحول التوحيد إلى العدل عندما يكتب الله بأصبعه أعمال العباد من المعاصي
والطاعات؛ أي إنه كل شيء مقدَّر سلفًا، ولا حرية ولا اختيار للعباد. ولما
كانت رؤية المعاصي مُثيرة للإزعاج والغضب، انفضَّ عرقًا واجتمع منه بحران؛
الأول مالحٌ مُظلم للمعاصي، والثاني عذبٌ نيِّر للطاعات. وكأن العالم في
البداية أصله الشر. فلما رأى ظلمة في البحر وأتى ليأخذها، طار وأخذه، وقلع
عينَي الظل، وخلق منه الشمس وشمسًا أخرى، الكفار من الملح المظلم،
والمؤمنون من العذب النير. هذه أسطورةٌ تُمثل الصراع بين الخير والشر بين
العدل والظلم، بين مجتمع الاضطهاد ومجتمع القهر. مصائر البشر طبقًا لخطةٍ
كونية، وليست طبقًا لاختيار العباد بعد أن أساء العباد الاختيار، أو وقعوا
تحت ضغوط الرشوة والتعذيب، فتأفَّفوا واختاروا على غير ما اعتقدوا.
٤٦ وإذا كان الله قريبًا من العباد فإن علمه مُحدَث، لم يكن يعلم
شيئًا حتى أحدث لنفسه علمًا. والله يريد الشيء ويعزم عليه، ثم تبدو له
البداوات؛ لأن علمه حادثٌ مُتغير. وقد رجع ذلك إلى قوة الحوادث وإلى قرب
الله، وأن الله يصبح كصفحة للتاريخ تُسطَّر فيها الحوادث، وتُسجَّل مآسي البشر.
٤٧
وفي السمعيات، تظهر النبوة على أنها الموضوع البارز في عقائد المعارضة
السرية في الداخل، فالنبوة تعني القدرة الخارقة، وهي مستمرة في الأئمة. وهم
مثل خاتم الأنبياء حرفيون، بشرٌ عاديون، وليسوا من الأشراف بالضرورة. فكما
تحلُّ روح الله في الأئمة تستمرُّ النبوة فيهم.
٤٨ وقد تأتي النبوة للإمام من الأساس بعد غلط جبريل وخلطه بين
محمد والإمام. وبصرف النظر عن تعارض ذلك مع العقل، كيف يغلط جبريل سهوًا أو
عمدًا والملائكة لا تُخطئ، وإن أخطأت فالله يُصححهم كما يفعل مع الأنبياء؟
وكيف يتعمَّد جبريل الخطأ وهو مُطيع بالضرورة، معصوم من الخطأ؟ وهل يمكن
الخطأ بين أوصاف خاتم الأنبياء وأوصاف الإمام النبي؟
٤٩ والإلهام طريق المعرفة وللإمام، وهو أوثق من القرآن الذي بُدل
وزِيد فيه ونُقص منه.
٥٠ كل ذلك إنما يهدف إلى إعطاء قوة لزعيم جماعة الاضطهاد حتى
يستطيع الوقوف على قدم المساواة مع النبي في مجتمع القهر والغلبة. وفي
المعاد تفنى الجنة والنار، ويكون الثواب والعقاب في هذه الدنيا إلى أبد
الآبدين دونما انتظار إلى حياة بعد الموت ما دامت الأرواح تُتناسخ؛
الخيِّرة في ملائكة، والشرِّيرة في حيوانات. الخيِّرة هم دعاة مجتمع
الاضطهاد، والشريرة زعماء مجتمع الغلبة.
٥١ وفي الإيمان والعمل، وطبقًا لطبيعة المجتمعات السرية، فإنه
تسقط الشرائع التي تُمثل أداة ضغط وضبط اجتماعي في يد مجتمع القهر والغلبة،
ويُباح كل شيء. وفي الوقت نفسه يخلق المجتمع السري شريعته الخاصة التي
تُساعد على تماسكه الاجتماعي، ويخلق محرَّماتٍ جديدةً فيه؛ فيتراوح سلوك
المجتمعات السرية بين التوسع والتضييق، بين الإباحة والتحريم، بين اللين
والتشدد، دون توسط أو اعتدال؛ فالسلوك باستمرار في أحد الطرفين.
٥٢ وفي الإمامة الكلُّ كافر، من بايع غير الإمام، والإمام لرفضه
حرب من لم يُبايعه. وقد كان الإمام مرتدًّا قبل أن يتولى الإمامة. وقد يكون
النبي هو المسئول عن هذا الخطأ لعدم توضيحه الأمر عن الإمامة من بعده.
٥٣ ويبدو أن النماذج الدينية من البيئات الحضارية المُجاورة قد
ساهمت في إثراء الصور الفنية وتنوع أشكال التعبير، خاصةً من اليهودية
والمسيحية. وقد شاركت اليهودية مجتمع الاضطهاد في الظروف الاجتماعية
والسياسية نفسها فيما يتعلق بألوهية الأنبياء والأئمة، أو مشاركتهم في
الخلق باعتبارهم أول المخلوقات، ونزولهم آخر الزمان أو رجعة الأموات. وقد
تداخلت البيئتان ليس فقط بفعل الترجمة، ولكن بفعل التعايش بين الأمم داخل
الأمة الكبرى. ولكن يظل العامل الغالب هو الظروف النفسية والاجتماعية
لمجتمع الاضطهاد الذي قد ظهر في شكلٍ سياسي كما هو الحال في فِرق المعارضة،
أو في شكل احتفالي كما هو الحال في جماعات الصوفية.
٥٤
(٣-٢) المعارضة العلنية في الخارج
وتشمل كل فِرق المعارضة التي آثَرت حمل السلاح لتقويض دولة الظلم علنًا.
ولما استحال ذلك في الداخل لاصطدامها مع فرقة السلطان والعسكر والشرطة،
فإنها خرجت على أطراف الأمة للعودة إليها غزوًا وفتحًا جديدًا. ويستحيل
تكفير عقائدها في الإلهيات؛ لأنها تقوم على أصلَي التوحيد والعدل، كما هو
الحال في المعارضة العلنية في الداخل، ولكن يأتي التكفير أساسًا موجهًا ضد
السمعيات (النبوات)، خاصةً في موضوعَي النظر والعمل والإمامة، أي في عمل
الفرد وعمل الجماعة، فعل الفرد وفعل الدولة. فإذا كانت قوة المعارضة السرية
في الداخل في الإلهيات في عقائد التأليه والتجسيم والتشبيه، فإن قوة
المعارضة العلنية في الخارج في النبوات في النظر والعمل وفي الإمامة. ويصعب
على فرقة السلطان تكفير التنزيه وتكفير أصلَي التوحيد والعدل. ونظرًا لأن
المعارضة العلنية في الخارج أهل عمل وليسوا أهل نظر، مُتحمسون سياسيًّا،
فإنهم يعتمدون في نظرهم على المعارضة العلنية في الداخل، وهم أصحاب النظر
والمعارضة العقلية.
٥٥
ففي السمعيات لا يظهر موضوع النبوة إلا قليلًا؛ فتحتَ وطأة المعارضة
لفرقة السلطان وللنظام اللاشرعي تُستلهم نبوةٌ أخرى قادمة من قومٍ آخرين
تنسخ النبوة التي تحوَّلت إلى شريعةٍ ظالمة. تستمرُّ النبوة ولا تنقطع؛ لأن
تحوُّل النبوة إلى خلافةٍ ظالمة لا تقضي عليها إلا نبوةٌ جديدة. ويكون
الدين الجديد عودًا إلى الدين الطبيعي بعد أن انهار دين الوحي ومثَّلته
دولةٌ ظالمة. ويكون للدين الجديد كتابٌ آخر مُطابق للدين الطبيعي ينزل مرةً
واحدة، ويكشف الحقائق مرةً واحدة دون تغير أو تطور أو نسخ طبقًا لمصالح
أحد، حتى ولو كان الإنسان نفسه أو جماعة المؤمنين. ويكفي للإيمان الشهادتان
حتى ولو كانت النبوة للعرب وحدهم، والتزم الناس بالشهادة الأولى، ثم
طبَّقوا شرائع اليهودية أو النصرانية؛ فشريعة خاتم الأنبياء تحوَّلت على
أيدي الناس إلى شريعةٍ ظالمة. في هذه الأمة إذن شاهدان؛ الأول خاتم
الأنبياء، والثاني شاهدٌ آخر قد لا يتعين ظهوره قبله أو بعده. وهنا تلحق
المعارضة العلنية في الخارج بالمعارضة السرية في الداخل في إثبات الحاجة
إلى إمامٍ آخر؛ أي إلى قيادةٍ جديدة للأمة. وتعبيرًا عن التطهر والتزهد
والتعفف تُنكَر إحدى سور القرآن التي تُشير إلى الغواية تمسكًا بالنقاء
والطهارة الروحية.
٥٦
وبصرف النظر عن إشارةٍ عابرة إلى المعاد، واعتبار أن عذاب النار ليس هو
العذاب الوحيد، وأن العذاب لمُخالفيهم وليس للمُوافقين معهم، لغيرهم وليس
لهم، فإن الموضوع الغالب على المعارضة العلنية في الخارج في السمعيات هو
النظر والعمل والإمامة. وهما مُتشابكان؛ إذ إن الثاني، إيمان الإمام أو
كفره، يقوم على الأول، تحديد معنى الكفر والإيمان. فمرتكب الكبيرة كافر،
ومن لا عمل له لا إيمان له، ولا وسط بين المؤمن والكافر، فاسقًا كان أم
عاصيًا أم منافقًا؛ ففي لحظات المقاومة لا وجود للحلول الوسط، ولا يثبت إلا
طرفا الصراع، الشيء ونقيضه. وكيف يوجد وسط بين الإيمان قولًا دون التصديق
وجدانًا أو التحقيق عملًا؟ والمعصية جهل، وليست مجرد ارتكاب فعل مُخالف
للإيمان. ومن أتى بكبيرة فقد جهل، ليس من أجل الفعل، ولكن من أجل المعرفة؛
فالفعل معرفة، والعمل نظر؛ فلو ضاع الفعل والعمل ضاعت المعرفة والنظر. وقد
تكون المعرفة بالله والمعرفة بالنبي؛ فمن عرف الله وكفر بالنبي فهو كافر لا
مشرك، ومن جحد الله أو جهله فهو مشرك. فالمعرفة بالله، أي التوحيد، أساس
الإيمان والكفر تأصيلًا للأصول وبحثًا عن الجذور.
٥٧ وإذا كانت الكبيرة هي ما طُبق فيه الحد، فإن أي فعل مهما كان
صغيرًا وكان به الإصرار كان كبيرًا.
٥٨ ويظهر التأرجح بين الشدة مع الخارج واللين مع الداخل في قوانين
الطعام والنكاح؛ فيكفر الإمام في كل مكان، وتحرم المياه كلها لو وقعت فيها
قطرة خمر! ويحرم طعام أهل الكتاب، وتحرم أنواعٌ من الطعام مثل ذكر الحيوان،
رمز الحياة والقوة والعنف، أو طهارةً واستحياءً وتعففًا، والقضاء على من
نام في رمضان فاحتلم واجب، ويحرم أكل السمك حتى يُذبَح، ويكفر من يخطب في
العيدين، الفطر والأضحى. ومن مظاهر اللين الشرب من ماء الحموم، ولا صلاة
واجبة إلا ركعة واحدة بالغداة وأخرى بالعشي، وأن الواجب في الزكاة نِصف
العُشر مما سُقي بالأنهار والعيون، والحج في جميع شهور السنة، ولا تؤخذ
الجزية من المجوس، بل يصل الأمر باللين إلى تصور أن أهل النار في لذةٍ مِثل
لذة أهل الجنة. ويمكن إسقاط حد الخمر، ويُجاز نكاح البنات وبنات البنين
وبنات الإخوة وبنات الأخوات حفاظًا على جماعة المؤمنين.
٥٩ وتبلغ حماية مجتمع الاضطهاد ولذَّاته ومقاومته لمجتمع الغلبة
ونصرته لإمام العدل في مواجهة الإمام الظالم في تكفير المخالفين. ولا فرق
بين البالغين والأطفال، بين الرجال والنساء. وكل من قعد عن نصرتهم أيضًا
فهو كافر؛ فالحقُّ مع الخروج على الإمام الظالم، ولا سبيل للقضاء على الظلم
إلا بالخروج بالسلاح، واستعمال العنف، وقتل المُخالفين، والقسوة على
المُخالفين أشد من القسوة على أهل الكتاب.
٦٠ وبالرغم من استطاعة الناس الاستغناء عن الإمام نظرًا لطبيعتهم
الخيِّرة، والتي لا تفسُد إلا بالسلطة الجائرة، فإن الإمام هو الذي يقوم
بتطبيق الحدود؛ وبالتالي هو الذي يُحدد الكفر، وإذا كفر الإمام كفرت رعيته
معه مهما امتدَّت أطراف البلاد شرقًا وغربًا، ومن مات قبل أن تبلغه الرسالة
فقد كفر أيضًا. يُكفرون الأمة، والأمة تُكفرهم، ومع ذلك يمكن التعايش بينهم
ما داموا لا يحملون السلاح؛ فالمحكُّ هو الطاعة لأُولي الأمر والإذعان للسلطان.
٦١
(٣-٣) المعارضة العلنية في الداخل
وتُمثل المعارضة العلنية في الداخل أقوى أنواع المعارضة وأمضاها؛ نظرًا
لأنها معارضةٌ شرعية تقوم على النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وليس في أصولها النظرية الخمسة، التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة
بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما يستوجب التكفير إلا عن
سوء نية وتعمُّد حصار. وهي معارضةٌ عقلية لا انفعالية، علنيةٌ لا سرية،
تعتمد على الحجة والدليل، وتطلب مقارعة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان.
يصعب إذن تكفيرها على مستوى العقائد النظرية أو الممارسات العملية. وهي
التي أنشأت الحضارة؛ لأنها تعمل عقليًّا من الداخل، كما أنها كانت الدافع
على صياغة عقائد فرقة السلطان كردِّ فِعل عليها، ولتحقيق غايات مُضادَّة
لها. ويمكن عرضها بطريقتين؛ الأولى بعقائدها الرئيسية، ثم بعقائدها الفرعية
طبقًا لتنوعات الفِرق داخلها؛ والثانية طبقًا لموضوعات علم أصول الدين بصرف
النظر عن فِرقها الرئيسية أو الفرعية. الأولى الموضوعات من خلال الفِرق،
والثانية الفِرق من خلال الموضوعات.
٦٢ وإن تسمية الفِرق بأسماء مؤسِّسيها لأولى وسائل الإبعاد
والمحاصَرة، وكأن الفرقة تدعو لأفكار مؤسِّسها وليست نسقًا عقائديًّا
مُكتملًا يبني موضوعات عقائدية وأصولًا عقلية، بل توضع مع المُشبهة، وفرق
بين التنزيه والتشبيه؛ أو مع الجبرية، وفرق بين الجبر وخلق الأفعال.
٦٣ ولا تُذكَر من فِرق الأمة إلا فِرق المعارضة دون فِرق التأييد
مثل الصوفية، مع أن عقائدهم مُخالفة تمامًا لعقائد فِرق السلطان؛ مما يدل
على أن مقياس التكفير ليس العقائد، بل طاعة السلطان. فالصوفية ليسوا من
قُوى المعارضة، بل نزعةٌ هروبية من العالم في البداية، وتنتهي بالاستسلام
والرضوخ والإذعان. تؤيدها الدولة نظرًا للمصالح المشتركة بينهما في إبعاد
الناس عن العقل، والوقوع في أَسْر الشعوذة والسحر. وقد قامت عقائد الفرقة
الناجية وازدوجت بعقائد الصوفية ما دامت الغاية واحدة. كما تم استثناء
الفلاسفة عن التكفير، وعقائدهم شبيهة بعقائد المعارضة السرية من الداخل،
ويعتمدون على التأويل مثلهما. ولا تُقسَّم الفِرق حسب العقائد، بل حسب
التطرف والاعتدال، الإسراف والاقتصاد، المغالاة والتوسط، وكأن الهدف هو
القضاء على التطرف والإسراف والمُغالاة حتى يبقى النظام قائمًا على الحلول
الوسط بعد استبعاد وحصار كل الحلول الجذرية. فكل الفِرق تقوم على التأويل،
والتأويل مشروعٌ بناءً على حق الاجتهاد؛ فدماء المسلمين وأموالهم محرَّمة
فيما بينهم بواقع الشهادتين، وإنَّ ترك ألف كافر في الحياة خيرٌ من الخطأ
في سفك دم مسلم واحد. التكفير إذن ليس من أجل العقائد، بل من أجل المواقف
السياسية، وهذه تتحدد بالتطرف أو التوسط تجاه السلطان.
٦٤
ففي المقدمات النظرية الأولى في نظرية العلم، ما العيب في القول بأن
المعارف ضرورية؟ أليست المعارف الضرورية هي المعارف الفطرية المغروزة في
النفس، والتي تدل على أن الطبيعة البشرية عاقلة؟ أليست المعرفة الضرورية
شرطًا للمعرفة الاستدلالية، وكلاهما شرط التكليف؟ إن رفض المعارف الضرورية
من فرقة السلطان، والتركيز على المعارف المكتسَبة، إنما يهدف إلى زعزعة ثقة
الإنسان بعقله، وإيمانه بالمعارف الآتية من الخارج، والتي تأتي من نظام
الدولة، وليست من داخل الفرد. وإن الصراع بين المعارف الداخلية والمعارف
الخارجية هو صراعٌ سياسي بين الحرية الطبيعية والقهر الاجتماعي، بين
المساواة الطبيعية واللامساواة الاجتماعية. أما التدقيق في شروط التواتر
وتصعيبها، فإن ذلك رد فِعل على التساهل فيه، ومن أجل التخفيف من سلطة
النقل؛ فتحديد العدد بخمسة، وأن يكون من بينهم ولي، إنما هو إمعان في
الدقة، وتركيز على شرط الأمانة الداخلية والورع في النقل، بعد أن خضع النقل
أحيانًا للهوى والتحزب والمصلحة.
٦٥
ولكن الغالب في التكفير هو نظرية الوجود؛ لأنها تتعلق بالعالم والسيطرة
عليه؛ فالوجود في ظاهره طبيعيات، ولكن في حقيقته إلهياتٌ مقلوبة على
الطبيعة؛ وبالتالي أمكن التكفير فيها لأنها ليست مسائل طبيعية خالصة لا تمس
العقائد. فإذا تكوَّنت نظرية الوجود من الأمور العامة (الميتافيزيقا) ومبحث
الأعراض (الظاهريات) ومبحث الجواهر (الأنطولوجيا)، فقد كان الغالب هو مبحث
الأعراض والجواهر أكثر من ميتافيزيقا الوجود الخالصة التي هي مبادئ صورية
عامة يحكمها العاقل، مثل الوجود والماهية والعدم والوحدة والكثرة والعلة
والمعلول والوجوب والإمكان والاستحالة، باستثناء إثبات المعدومات أشياء على
الحقيقة لا نهاية لها، وذلك تعبير عن قوة الإحساس بالظلم من أجل إثبات
الشر، وليس مجرد تبخيره بتفاؤل المُتنصر الذي بيده الأمر.
٦٦ وفي مبحث الأعراض غلَب مبحث الكيف على أنه تحليل للحواس،
وخاصةً الرؤية. والقول بأن الحواس أكثر من خمس، سبع مثلًا، من أجل التركيز
على أهمية المعارف الحسية وتنوعها.
٦٧ ويطغى مبحث الجواهر والأجسام على مبحث الأعراض والكيف؛ وذلك
تكفيرًا للقائل بالموقف الطبيعي من أجل هدم القانون وإثبات لقدرة الله
المطلَقة القادرة على إيجاد جواهر بلا أعراض، أو أعراض بلا جواهر، وإنكار
نظريات الكون والطفرة والتولد وخلق الأجسام لأعراض بذاتها؛ وبالتالي يتم
تدمير الطبيعة لحساب الله، أي القضاء على العالم لحساب السلطان، مع أن خلق
الطبيعة لذاتها ليس إنكارًا للخلق. والخلاف هو: هل الخلق من الخارج أم من
الداخل؟ هل هو خلقٌ وفق إرادة مطلَقة أم أنه يتم وفقًا لقانون؟ وكيف يخلق
الله الشرور والآثام والعقارب والحيَّات والآفات؟ وهل يصدُر عن الخير شر،
وعن الحكمة سفه، وعن الإتقان خلل؟ وأيهما أكثر تنزيهًا لله؛ أن يكون هو
خالق الشر أم أن يكون الإنسان مصدر الشر؟ وإذا كان الخير من الله، والشر من
الإنسان، أليس سوداويةً صرفة، واتهامًا للذات أن يكون السلطان مصدر الخير،
ولا يفعل إلا الخير، وأن الشر مصدره الإنسان الشرير، وهو المُعارض الرافض
لأوامر السلطان؟ ولصالح مَن إنكار العلل الثانية، وإرجاع كل شيء إلى العلة
الأولى؟ ألا يعني ذلك إنكار إرادات البشر، وتحويلها كلها إلى إراداتٍ واحدة
يصعب بعدها معرفة إرادة من، إرادة الله أم إرادة السلطان؟ ولماذا تكفير
القائل بأن الأعراض كلها من جنسٍ واحد؟ ولماذا التمايز في المادة؟ إن الهدف
من الفكر العلمي هو إيجاد قانون مُطرد، وإيجاد المتشابهات في الأشياء، في
حين أن الهدف من الفكر الديني هو إيجاد الاستثناءات والمختلفات في الأشياء.
وإن إثبات الأعراض حركةٌ أقرب إلى العلم من إثباتها أشياء ثابتة. ولماذا
تكفير القبائل بأن الأجسام خلقت الأعراض بأنفسها؟ وهل يحتاج كل عرَض إلى
خلقٍ مستقل وتدخُّل الإرادة الإلهية في كل لحظة، وكأن الشيء ليس له قوة
طبيعية من داخله؟ وما الكفر في أن يخلق الله قوانين الطبيعة، وأن تكون هي
أسباب الحركة والثبات في الكون؟ وما العيب في أن يكون الإنسان خالقًا
للإدراكات على سبيل التولد؟ أليس الإنسان صاحب أفعاله الجسمية العضوية؟ وهل
تدخل قدرة الله في عمل العين أو الأذن؟ هل هذا تنزيه لله وتقديره حق قدره
أم هو تصور اللاهوت القاهر ضد العلم وضد قوانين الطبيعة؟ وأيهما أقرب
لإثبات القدرة الإلهية؛ خلق الأعراض أم خلق الأجسام؟ ما العيب في القول بأن
الإنسان مُدبر الجسد، وأن الله مُدبر الكون، وأن مملكة الإنسان في بدنه كما
مملكة الله في الطبيعة؟ هل هذا شرك؟ وهل من عظمة الله الاستئثار بكل شيء
دون قوانين ودون أسباب أو وسائط؟ أليس ذلك تبريرًا للسلطة المطلَقة في
السياسة والاجتماع، أو في غيرها من النشاطات الإنسانية ابتداءً من بنية
النفس وتصورات الذهن؟ وما المانع من إثبات أعراض لا نهاية لها؟ وهل يوقع
ذلك في الشرك لأن الله لا نهاية له؟ وهل التفرد بالوحدانية يعني الاستئثار
بها أم تعميمها حتى تكون الوحدانية في كل شيء؟ ألا يمكن التفكير في الطبيعة
دون حدود لاهوتية؟ إن اللاهوت موقفٌ نفسي خالص، وليس موقفًا علميًّا، يُعبر
عن وضعٍ وجداني تجاه العامل، وليس عن اتجاهٍ علمي نحو الطبيعة. وما العيب
في القول بالطباع أو قانون الجاذبية وباقي قوانين الطبيعة؟ هل مهمة اللاهوت
إدانة العلم وإثبات العقيدة ضد قوانين الطبيعة وتصور الله مُضادًّا للعالم؟
ألا يؤدي ذلك إلى النتيجة العكسية بإثبات الطبيعة ضد الله، وقوانين العلم
ضد قواعد الإيمان؛ ومن ثَم ينتهي علم العقائد إلى القضاء على نفسه بنفسه،
وإثبات شرعية مكتسَبة للعلم؟ وما المانع أن تكون الرؤية بين الرائي والشيء
المرئي تفاعلًا مشتركًا بين الذات والموضوع، وأن تكون الأجسام كيفياتٌ محضة
تتلاقى فيها الذاتية والموضوعية، بدلًا من الذاتية الخاصة والموضوعية
الخالصة، ووضع الله كذاتٍ مُطلق يرى الأشياء بدل الإنسان ولا ينفعل بها؟
وما الداعي لإدخال الله في خلق الإدراكات الحسية بعد تقابل الذات والموضوع؟
٦٨ ولماذا تكفير القائل بأن الإنسان جسد لا روح؟ وماذا يكون
الإنسان إذن إن لم يكن هذا المرئي أمامنا؟ إن علاقة الله بالعالم مثل علاقة
الروح بالبدن، مُدبر له دون أن يكون حالًّا فيه. وما العيب في تعريف النفس
بأنها ماهية لا وجود، ماهية خالصة؟
٦٩
وفي الإلهيات كان القول بحدوث الصفات حرصًا على الذات الإلهية، وتنزيهًا
لها من الشرك والقول بتعدُّد القدماء، الذات والصفات، واعترافًا بأن الصفات
هي في النهاية تشبيه، تُطلَق على الإنسان حقيقةً، وعلى الله مجازًا. وإنكار
الصفات ليس وقوعًا في التعطيل، بل حرص على التنزيه الخالص، وعلى أن الله
ليس كمثله شيء، تعالى عما يصفون. كما أن ذلك سيحلُّ قضية خلق الأفعال،
ويُعطي الإنسان القدرة على خلق أفعاله بنفسه؛ فإنكار الصفات أو القول
بحدوثها هو إثباتٌ سلبي لحرية الأفعال عن طريق القضاء على موانعها، وفي
مقدمتها عِلم الله المسبق وإرادته المطلَقة. فلماذا إذن تكفير القائل بقسمة
العلم إلى قسمين؛ الأول العلم بالعام والشامل، والثاني العلم بالخاص؛ الأول
قبلي، والثاني بعدي؟ ليس في ذلك وقوع في التناقض أو إثبات جهل الله، وليس
ظاهره علمًا وباطنه جهلًا، إنما الغاية إثبات العلم الاستقرائي الإنساني
الذي يقوم على الكسب والمعارف الخارجية، ثم إنقاذ الحرية الإنسانية من علم
الله المسبق الحاوي لكل شيء. وإن اعتبار الصفات أحوالًا هو تحوُّل الموضوع
من مستوى الطبيعة، الجوهر والأعراض، إلى مستوى النفس، فأحوال النفس هي أحد
الحلول الوسط بين الذاتية والموضوعية، بين الإثبات والنفي، بين القِدم
والحدوث، بين التشبيه والتنزيه، بل إن التجسيم أيضًا دافعه عند الصوفية
وعند جماعات الاضطهاد. فالواقع أبلغ من الفكر، والمادة أكثر حضورًا من
الروح، والحس مشاهدة، والعقل تصور. وإن اعتبار الأفعال من العرش وليس من
الله هو زيادة في التنزيه حتى يبقى الله، وليس كمثله شيء، غير متصل
بالحوادث. والسمع والبصر وسائل للعلم، وليسا صفاتٍ مستقلةً حتى يمكن رد
التشبيه إلى التنزيه. وما المانع أن يُقال إن الله عقل وعاقل ومعقول كما هو
الحال عند الحكماء، فالمثل الأعلى هو وحدة الذات والموضوع؟ إن إثبات الحدوث
في الذات أو في الصفات هو في النهاية إثبات للزمان والتغير والحركة
والتاريخ، ورفض تصور الله فاعلًا بلا مضمون، فالله محل للحوادث، وكل ما
يحدث في التاريخ إنما يحدث فيه، فلا شيء خارج الله ما دام الله هو كل شيء.
وإن خلق الأشياء على مِنوالٍ سابق ونمط في الذهن صورةٌ إنسانية لِما يكون
عليه الخلق يُقاس فيها الغائب على الشاهد. وإن نفي الرؤية إنما هو رفض
لتحويل الذات إلى موضوع، والوعي الخالص إلى مادة. وفي الوقت نفسه يكون
إثبات حدوث الكلام عودًا إلى تجسيم الكلمة وتحقيقها في التاريخ، ما دامت
أصبحت مقروءة ومسموعة ومكتوبة ومرئية كصوت وحرف، أو محققة ومطبقة كمعنًى
وشريعة. وإنه لَمن الأجدى الاعتراف بأن الإنسان لا يقدر على أن يصف الله في
ذاته، بل أن يُدركه قياسًا للغائب على الشاهد، وأن الأصل في الوصف هو
النفي؛ نفي النقائص الإنسانية وقلبها إلى أوصاف الكمال الإلهي.
٧٠
وفي أصل العدل، لماذا يكون خلق الإنسان لأفعاله ومسئوليته عنها كفرًا؟
ولماذا تكون حرية الاختيار كشرط للتكليف كفرًا؟ إن استرداد الإنسان
لأفعاله، وجعلها إما له أو للطبيعة، لأنه لا يمكن أن يكون لا فاعل لها
أصلًا، أو أن يكون فاعلها هو الله، لأن الله لا يفعل مباشرةً في الطبيعة،
ذلك ليس تجديفًا على الله أو إنكارًا لسلطانه؛ لأن قوانين الطبيعة مِن خلق
الله، وسنن الكون مِن وضعه. ليس في خلق الأفعال أي خروج على التوحيد، بل هو
إكمال له وإثبات للوسائط والأسباب. وهل الله ساحر ومُشعوذ، يقلب القوانين
رأسًا على عقب، يجعل الشيء ساكنًا متحركًا أو في مكانين معًا أمام دهشة
الناس؟ إن بعض العبارات بالرغم من صياغتها التي قد تصطدم بإيمان العوام تحت
سيطرة فرقة السلطان تُدافع عن القدرة الإنسانية والقانون الطبيعي. إن القول
بفناء مقدَّرات الله إنما يهدف إلى إثبات حرية الإنسان، وإن إثبات الإنسان
خلق أفعاله ليس وقوعًا في الشرك، بل وحدانية الفعل ومسئولية الإنسان، بدلًا
من إعزاء الوحدانية والمسئولية إلى الله كما هو الحال في الجبر، أو إثبات
الشركة بين الله والإنسان كما هو الحال في الكسب. وما المانع، بصرف النظر
عن الصياغة، أن يُقال إن الله مُطيع لعباده إذا فعل مُرادهم؟ لهذا الحد
بلغت قيمة الإنسان واحترامه لنفسه ولفعله.
٧١ وما العيب في أن تكون للإنسان استطاعة قبل الفعل لأخذ القرار،
ومع الفعل للتنفيذ، وبعد الفعل لاستمرار النتائج وبقاء الأثر؟ وهل في إثبات
استطاعة الإنسان وقدرته أي خروج على العقيدة أو الشريعة؟ وكيف تُقام
الشريعة إن لم يكن للإنسان استطاعة على الفعل؟ وكيف يقع التكليف والاستحقاق
دون استطاعة؟ ولماذا لا يكفي القول بالجبر وإنكار الاستطاعة والفعل؟ هل
العدل أقل قيمة من التوحيد؟ ولماذا لا يكفر القول بالقضاء على حرية الإنسان
وعقله؟ هل التكفير فقط في حق الله وليس في حق الإنسان؟ وهل يكفر الإنسان
لقوله بفناء الجنة والنار أو بحدوث علم الله، ولا يكفر لقوله بالجبر
وإنكاره المسئولية، وكأن إيمان الناس بالجبر في صالح فرقة السلطان، ويظل
القائل به مؤمنًا مُطيعًا ومُواطنًا صالحًا؟ يكفر الإنسان إذا ما قال
بعقائد فِرق المعارضة، ويؤمن إذا قال بعقائد فرقة السلطان!
٧٢
وفي العقل الغائي الشِّق الثاني في أصل العدل، ما الكفر في القول بالصلاح
والأصلح أو بالعلية والغائية في الخلق؟ ما العيب في أن يوجب الله على نفسه
القانون درسًا للإنسان وتعليمًا له بأن كل شيء يخضع لقانون، وأن لا شيء
متروك للهوى أو للمصادفة؟ وبصرف النظر عن الصياغة التي قد تبدو مُتناقضة —
كيف يوجب الله على نفسه فعلًا وكيف يُخضع نفسه لقانون — وبصرف النظر عن
النتائج المتخوَّف منها — كيف تكون أفعال الله الحادثة — فإن الغاية هي
تصور عالم يخضع لقانون حتى يمكن تسخيره والعيش فيه. إن وجود قانون خلقي أو
طبيعي لا يعني تحديد أية قدرة مطلقة؛ وذلك لأن صفات هذا القانون الاطراد
والعموم والشمول، وهي صفات مطلقة يُدركها الإنسان ويمتد بها، فيكون قادرًا
على خلق أفعاله وممارسة حريته. وما العيب في أن يكون الإنسان خالقًا،
والتضحية بالله في سبيل الإنسان يرضاها الله؟ بل إن خلق الإنسان لأفعاله لا
حدود لها، ويستطيع المسلم أن يفعل حسنات أكثر من النبي لو طال عمره. ولماذا
سد الطريق أمام إمكانيات الإنسان وتفاؤله؟ بل إن الله يُزيح علل العباد حتى
يجعلهم أكثر قدرةً مما هم عليه. وهو لا يفعل بهم إلا الصلاح، ولا يختار إلا
الأصلح لهم. لم يخلق الإيمان ولا الكفر ولا أفعال العباد، ولكن العباد هم
خالقو أفعالهم الداخلية والخارجية والطبيعية والاجتماعية. وهو لا يظلم
أحدًا، ولا يخرق قانون الاستحقاق، ولا يقلب الأضداد، ولا يفعل الشر. وأيهما
أكثر تنزيًها لله إذن؛ جعل الله وهو الخير مصدر الشر، أم تبرئته عن فعل
الشر؟ أيهما أخطر؛ ارتكاب خطأ في الصياغة اللغوية بقول «الله لا يقدر على
…» أم ارتكاب خطأ فعلي وهو جعل الله مسئولًا عن الظلم؟ الله خيرٌ محض ولا
يفعل الشر، بعكس الإنسان الذي يفعل الحسن والقبيح. ليس معنى ذلك أن الإنسان
أقدر من الله، بل إن للإنسان حرية الاختيار، ولله ضرورة الخير. فما البديل
عن هذا التصور بحيث يحفظ لله ضرورته، وللإنسان حريته؟
٧٣
وبالنسبة للسمعيات، فإن القول باستمرار النبوة هو رغبة في استمرار
المقاومة بالسلاح الفكري نفسه. ولما أوَّلت فرقة السلطان النبوة لصالحها،
فإن فِرق المعارضة قالت باستمرارها. فليس من العدل أن تتحول النبوة إلى
خلافةٍ ظالمة، ولا تستمر كي تُحقق غايتها من إقرار العدل. فالنبوة مستمرة
في المقاومة، والإمام العادل وليس الإمام الظالم هو خليفة النبي، والزمان
لم ينتهِ بعد، والتطور لم يكتمل بعد، والنبوة لم تُحقق غايتها بعدُ طالما
أن حكم العدل لم يتحقق، وأن حكم الظلم هو الذي يسود. ولا يتطلب ذلك إلهامًا
من الله أو وحيًا منه بالضرورة، بل يمكن أن تكون النبوة مكتسَبة؛ فكلُّ من
بلغ الغاية من الصلاح وطهارة النفس أدرك النبوة، فالنبوة ليست هبة أو
اختصاصًا أو وقفًا على أحد، بل هي عامة في كل من يبغي الإصلاح ويهدف إلى
الكمال؛ فكل داعية رسول، وكل رسول داعية. الرسل مثل الزعماء والقادة
والمصلحين والثوار، يهدفون إلى تغيير مجتمعاتهم إلى ما هو أفضل، ولا حاجة
إلى ألقابٍ مثل رسول الله أو نبي الله خشيةَ أن يتحول اللقب إلى شخص،
وتنقلب اللغة إلى وجود، والمظهر إلى الحقيقة، والنداء إلى مُنادٍ. يكفي
النداء على الرسول أو على المُصلح باسمه دون ألقاب؛ منعًا للتأليه أو
التعظيم الزائد كما حدث في الديانات السابقة. والقرآن هو تجسيد النبوة، ليس
بالضرورة في المصاحف المكتوب في الورق بالحبر بين دفتَي الكتاب، بل هو إحدى
صياغاته أو رواياته أو حكاياته؛ فالوحي أكثر من صياغاته الزمانية، وتجربةٌ
أعم من التجسيدات الوقتية. ولا حرج في إنكار بعض حروف القرآن، أي قراءاته؛
لأنها اجتهادات شخصية تُصيب وتُخطئ.
٧٤
وفي موضوع المعاد، لماذا لا يكون العقاب في الدنيا قبل الآخرة، في العاجل
قبل الآجل؟ وهل يتحمل العقاب على الظلم التأجيل؟ وإذا كان الأمر كله مجرد
تشبيهات وصور وقياس للغائب على الشاهد، فلماذا يكون تشبيهٌ أفضل من آخر
وأولى منه؟ إن العقاب في الدنيا أفضل من العقاب في الآخرة، ويُعطي المظلوم
أملًا لرفع الظلم عنه في الدنيا برؤيته عقاب الظالم والقصاص منه تطبيقًا
لقانون العدل، وإلا كان فارغًا من غير مضمون بلا زمان ولا مكان، بلا شعب
وبلا تاريخ. وأيهما أفضل؛ تصور الثواب في جنةٍ حسية بها طعام وشراب ونكاح،
أم جنةٍ روحية أرفع قدرًا بها معرفة وحكمة وتأمل؟ وأيهما أفضل؛ القول ببقاء
الجنة وأهلها فيُشاركان الله في صفة البقاء، أم القول بفناء الجنة وأهلها
حتى يظل الله متفردًا وحده بالبقاء؟ وإذا كان الأمر كله تشبيهًا في تشبيه،
وقياسًا للغائب على الشاهد، فما المانع أن تجذب النار أهلها طباعًا لما
كانت الطبائع أساس الحركة والاندفاع؟ أليست كل إلهيات طبيعياتٍ مقلوبةً،
كما أن كل إلهيات طبيعياتٌ مقلوبة؟ وإذا عمَّ قانون الاستحقاق على كل كائن
حي، فلماذا لا يُحشَر يوم القيامة الكلاب والخنازير والحشرات وكل مخلوق حي؟
وما المانع أن يكون العقاب على كل كائن حي ترابًا؛ أي تنعدم منهم حياة
الوعي ويقظة الشعور؟ وهل يألم الأطفال وهم غير عاقلين مكلَّفين، والهدف من
العقاب تصحيح حياة الوعي وبناء الشعور؟ وإذا كان الأمر كله أمنيات وتمنيات،
فما المانع أن يُرى الله يوم القيامة في صورة يخلقها ويُكلم عباده منها؟
٧٥
وفي النظر والعمل، لماذا تكفير القول بالمنزلة بين المنزلتين؟ ألم يؤدِّ
دورًا في التخفيف من حدة تكفير العصاة أو التضييق على جعلهم مؤمنين؟ لماذا
لا يكون المسلم فاسقًا أو عاصيًا أو منافقًا إذا ما ارتكب الكبيرة، ويكون
وسطًا بين المؤمن والكافر بحيث يتأكد على رد الفعل وأثره في كمال الإيمان؟
وإذا كان من شروط التوبة ترك الزلة في الحال، والندم على ما فات، والإصرار
على عدم العودة عليها في المستقبل، فما وجه الضلال في ذلك؟ وإذا كانت
التوبة من ذنبٍ تقتضي التوبة من جميع الذنوب، فإن ذلك لتحميس التائب وجعله
أقرب إلى الكمال الكمي بالإضافة إلى الكمال الكيفي. لا يكون ذلك قسوةً بقدر
ما هو سلوكٌ مبدئي لا يعرف الاستثناء؛ فالمعصية تُساوي جميع المعاصي، ومن
قتل النفس فكأنما قتل الناس جميعًا. والسلوك المبدئي العقلي في المعارضة
العلنية لا يفترق عن أسلوب التطرف والمغالاة عند المعارضة السرية في
الداخل. وإن العاصي قد تتحول عنده المعصية إلى طبيعةٍ ثانية، فيُطبَع على
قلبه، وتنتهي لديه حرية الاختيار، ولا يمكن تغييرها إلا بطبيعةٍ ثانية
أقوى، أو بالرجوع إلى الطبيعة الأصلية الأولى. والشهادة لا تُطلَب للشهادة؛
لأنها تعني إنهاء المقاومة وتغليب الظلم، بل تعني الإعداد للنصر، وأن تكون
فرص النجاح أكبر من احتمال الهزيمة. وإذا كان أساس الجزاء والعقاب هو قانون
الاستحقاق، فمن الطبيعي ألا يدخل الأطفال أو غير العقلاء؛ إذ ليس لهم ثواب
ولا فضل، ويصيرون ترابًا؛ أي يتحولون إلى جماد. وإذا كانت الحياة نعمة
وتقدمًا بالنسبة إلى الجماد، ولا يمكن إرجاعها إلى الوراء، فقد يصير
الأطفال إلى الجنة لتغليب الحياة على الموت، ونظرًا لطبيعة الخير. وما
المانع من البعث الروحي دون الجسدي، والروح أفضل من الجسد؟ وما المانع من
بقاء المادة دون فنائها، والقول بدوراتٍ لا مُتناهية، وتحوُّل المادة
وتعاقُّب الأشكال والصور على مادةٍ لا تفنى؟
٧٦ أما بعض المسائل العملية الأخرى، فإنها ترتبط بطبيعة مجتمع
المقاومة من أجل توثيق الروابط الاجتماعية فيه وشحذ المقاومة، ولمزيد من
الضبط والإحكام في مواجهة الآخر، وفي الوقت نفسه التراضي والتسامح واللين
مع النفس تخفيفًا عنها؛ فقد يُحلَّل شحم الخنزير ودماغه وتفخيذ الذكور، وقد
يُحرَّم أكل الثوم والبصل، ويوجب الوضوء عن قرقرة البطن. ونظرًا للحساب
العقلي الكمي للمعارضة العقلية العلنية، فقد يُحدَّد نِصاب السرقة تحليلًا
رياضيًّا دونما مراعاة للقصد والنية، دون أن يستوجب ذلك الكفر أو الضلال.
٧٧
وينتهي موضوع الإيمان والعمل في موضوع الإمامة الذي يتراوح أيضًا بين
الشدة واللين؛ الشدة مع مجتمع القهر، واللين مع مجتمع المعارضة؛ التصلب مع
الخارج، والتراخي مع الداخل؛ القسوة مع الآخر، والعطف مع الذات. فإذا كانت
الثروة في مجتمع القهر أقرب إلى الحرام منها إلى الحلال في صناعة أو تجارة،
فإنه لا يجوز للمعارضة إلا قوت يومها تعففًا عن المال الحرام، وتكون دماء
مجتمع القهر وأمواله مُباحة. وفي مقابل هذا التشدد مع الآخر يجوز نكاح
المتعة تساهلًا مع النفس. ولا يجوز الطلاق بكنايات وإن قارنتها نية الطلاق
تعبيرًا عن الدقة المُتناهية والتشدد في حقوق الغير. ويمكن الشك في شهادة
المجتمع كله تحريًا للعدالة.
٧٨ فإذا ما صعب تجريح عقائد المعارضة فإنه يسهل اتهامها بالعمالة
للخارج، وتبعيتها لأفكارٍ أجنبية، وترويجها لأفكارٍ مستوردة من الكفار،
سواء من البراهمة أو النصارى أو المجوس،
٧٩ ويصبح حكم المعارضة العلنية في الداخل حكم المجوس أو المرتدين،
٨٠ وتتوحد الفرقة الناجية بالأمة كلها، وتُكفر فِرق المعارضة
بأنواعها باسم الأمة، وهي في النهاية إحدى الفِرق، فرقة السلطان. فإذا
شابهت عقائد الفِرق الضالة عقائد الفِرق الناجية نجت، وإذا خالفتها هلكت.
٨١ ونظرًا لضيق فِرق المعارضة بفرقة السلطان فإنه ينتهي ضيقها
ببعضها البعض، ويُكفر بعضها بعضًا، كلٌّ منها يعتبر نفسه الوريث الشرعي
لها، فتفتَّت المعارضة، وينتهي الأمر بمزيد من السيطرة لفرقة
السلطان.