إذا كان المسار الأول للتاريخ الفكري من الوحدة إلى التفرق عند القدماء، فإن
المسار الثاني له يمكن أن يكون من التفرق إلى الوحدة عند جيلنا. فالفِرق الثلاث
وسبعون يمكن ردُّها إلى ما هو أقل منها إلى فِرقٍ كبرى أربع هي فِرق المعارضة
الثلاث وفرقة السلطان؛ أي الصراع بين المعارضة والسلطة في مجتمعٍ واحد. فالوحدة
قائمة، وحدة الصراع بين القُوى الاجتماعية، يرتكز كلٌّ منها على أصولٍ عقائدية
يمكن أن تكون بؤرة توحيد جديدة تختلف عليها الفِرق. فبدلًا من أن تكون الوحدة
علةً فاعلة في البداية، والتفرق علةً غائية في النهاية كما هو الحال عند
القدماء، يكون التفرق هو العلة الفاعلة، والوحدة هي العلة الغائية في
عصرنا.
(٣-١) الشعور البنائي (المذهبي)
تكشف الفِرق الأربع، ثلاث للمعارضة وواحدة للسلطة، عن وجود موضوعات
للخلاف أو عقائد يتم عليها التفرق، كل فرقة حسب موقفها السياسي. فالمعارضة
السرية في الداخل تقول بالحلول، ويتم تكفيرها دينيًّا كستار للإبعاد
السياسي. والمعارضة العلنية في الخارج يصعب تكفيرها دينيًّا لقولها بأصلَي
التوحيد والعدل، وهما اليقين في الإلهيات، فلا مَفرَّ من تكفيرها سياسيًّا
بدعوى الخروج على السلطان. والمعارضة العلنية في الداخل يصعب تكفيرها
دينيًّا لقولها بالأصول الخمسة كفكر للمعارضة؛ لذلك يتم تكفيرها دينيًّا
وسياسيًّا، ويظل التكفير السياسي أقوى. وتظل المعارضة العلنية في الخارج
والداخل عن طريق أصلَي التوحيد والعدل أقوى من المعارضة السرية في الداخل
عن طريق الإمامة. وفرقة السلطان أيضًا يسهُل تكفيرها من الفقهاء لفصلها
الإيمان عن العمل.
٩٢
وكثير من فِرق المعارضة الفرعية تقرب من فرقة السلطان؛ مما يدل على أن
جذور الفرقة الناجية عند الفِرق الضالة، وأن جذور الفرقة الضالة في الفرقة
الناجية. إذا هلكت المعارضة هلكت السلطة معها، وإن نجت السلطة نجت المعارضة معها.
٩٣ فكل فرقة تُمثل عقيدة ومذهبًا وفكرًا، سواءٌ كانت المعارضة
سرية، أم علنية في الداخل أم في الخارج، أو كانت للسلطة. وتُمثل الفِرق
بصرف النظر عن كونها فِرقًا تاريخية خالصة، تياراتٍ فكريةً واتجاهاتٍ
نظريةً يمكن تحديد أصولها وتحويلها إلى تصوراتٍ مختلفة للعالم، أو مناهج
حياة، أو نُظُم اجتماعية وسياسية. كل فرقة حوَّلت الوحي إلى مذهبٍ نتيجةً
لظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية.
فالفرقتان الكبيرتان اليوم، السنة والشيعة، كلٌّ منهما يُمثل اتجاهًا
فكريًّا من التوحيد حتى الإمامة، في الله وفي الطبيعة، في الإنسان وفي
المجتمع. فبينما تقول الشيعة في التوحيد بالتأليه أو التجسيم، تقول السنة
بالتشبيه أو التنزيه. وبينما تقول الشيعة بالفيض، وبأن الفَرق بين الروح
والمادة هو فرق في الدرجة لا في النوع، تقول أهل السنة بالخلق، وأن الفَرق
بين الروح والمادة فرق في النوع لا فرق في الدرجة. وفي الإنسان بينما تقول
الشيعة بوجود حقائق الوحي في القلب، ويمكن العثور عليها بالتأويل، فإن
استعصى التأويل فتقليد الإمام، يُثبت السنة بديهيات العقول، ووضوح النصوص،
واجتهادًا في فهمها. وبينما ترى الشيعة أن نموذج السلوك الأمثل هو الطاعة
والانقياد وتنفيذ تعاليم الإمام، ترى السنة أن نموذج السلوك الأمثل هو
الفعل الحر والعمل المسئول. وبينما ترى الشيعة أن الإيمان مُكتفٍ بذاته،
وأنه إيمان بحب آل البيت، ترى السنة أن الإيمان قول وعمل، وأن لا وجود
للإيمان إلا بالعمل. وبينما تقول الشيعة بوحدة الأديان، ولا ترى ضيرًا في
الاستعانة بمراحل الوحي السابقة، أو الإلهام اللاحق الذي يكشف عنه الأئمة،
يقول السنة باكتمال الوحي وانتهائه بانقطاع الرسل. وبينما تقول الشيعة
بتعيين الإمام، تقول السنة بالشورى وبالبيعة العامة. وبصرف النظر عن الفروق
في الدرجة في هذا التقابل عند كل فريق، وعلى فرض صحة هذا التقابل كاختيارٍ
فكري، فإنه نظرًا لتغيُّر الظروف الاجتماعية لكلٍّ منهما عبر التاريخ، فقد
انقلب الاختيار. فقد لا يقلُّ السنة تجسيمًا وتشبيهًا بل وتأليهًا من
الشيعة، ولا يقلُّ الشيعة تنزيهًا عن السنة. وقد لا يقلُّ أهل السنة
تأويلًا من الشيعة، ولا يقلُّ الشيعة حرفيةً من السنة. وليس السنة أقل طاعة
من الشيعة، في حين أن الشيعة قادرون على المعارضة والثورة. كما أصبح
الإيمان عند السنة مُكتفيًا بذاته، في حين أصبح عند الشيعة عملًا
تاريخيًّا. وقد وقع السنة في الروحانية، وضاع لديها الفصل بين الروح
والمادة، وأصبح الشيعة أكثر فصلًا بينهما من السنة. كما أصبحت السنة أكثر
مُوالاةً للنصارى واليهود من الشيعة، يقومون بتعيين الإمام وراثةً من
العسكر، بينما تثور الشيعة على ملك الملوك. فالشعور المذهبي هو اختيارٌ
عقائدي يكشف عن موقفٍ سياسي مُتغير من عصر إلى عصر؛ وبالتالي يكون أحد
أبعاد الشعور التاريخي.
وفي داخل السنة هناك اختياران آخران؛ المعتزلة والأشاعرة، على طرفَي
نقيض، المعارضة العقلية المُستنيرة والسلطة النصية القاهرة. وكل فرقة تُمثل
مذهبًا مُتكاملًا، ابتداءً من التوحيد والخلق والبعث ونهاية العالم.
٩٤ ففي التوحيد تُنكر المعتزلة الصفات حرصًا على التنزيه، وتُنكر
كل صور التشبيه والتجسيم حتى ولو اضطرَّت إلى تأويل النصوص لإثبات معانيها
العقلية. ولما أنكرت الصفات أثبتت حرية الإنسان؛ فالإنسان خالق أفعاله،
ومسئول عن الخير والشر في العالم، وقادر على الأعمال. وفي النهاية يكون له
ما قدَّم من خير أو شرٍّ دون وساطة أو شفاعة، ويكون الحكم بعد البعث وهو
على وعي به وليس قبله. وكما رُفض التجسيم في البداية يُرفض في النهاية؛
فالثواب والعقاب خلقيان أكثر منهما ماديين؛ فالرضا عن الذات أفرح للنفس من
الجزاء المادي، وتأنيب الضمير أوقع على النفس من العذاب الجسماني. أما
الأشاعرة فتُمثل المذهب المُقابل؛ تثبت الصفات ولا ترى حرجًا في القول
بالتشبيه، بل وبالتجسيم، حرصًا على حرفية النصوص. وما دامت الصفات مثبَتة
فهي أيضًا فاعلة في العالم؛ فهي مسئولة عن كل ما يقع من الإنسان ومن
الطبيعة من خير أو شر. وفي النهاية يبدأ الحساب الجسماني، والحكم على أفعال
الإنسان، وتوقيع الجزاء المادي عليه ثوابًا أم عقابًا.
ونظرًا لغلبة المذهب على الفرقة، والموضوع على التاريخ، فقد عُرفت كل
فرقة بالموضوع الذي اشتهرت به، وأصبحت الموضوعات عناوين لفِرق؛ فغلاة
الشيعة يقولون جميعًا بالتأليه وبالتجسيم وبالتشبيه، وهو أحد الحلول لموضوع
التوحيد، فإذا ذُكر التأليه أو التجسيم ذُكر غلاة الشيعة. وتقول المعتزلة
بالتنزيه المطلق ونفي الصفات، فإذا قيل التنزيه أو نفي الصفات ذُكر
المعتزلة. ويغلب على الخوارج والمرجئة موضوع الإيمان والعمل، فإذا ذُكر
الموضوعان ذُكرت الفرقتان.
٩٥ ويغلب على كل فرقة موضوعٌ أو أكثر؛ فمثلًا يغلب على الخوارج
موضوعَا الإمامة والإيمان والعمل؛ مما يدل على الطابع العملي لفكر الفرقة،
وليس الطابع النظري كما هو الحال في الذات والصفات أو الجبر والاختيار؛
لذلك أسَّست الفرقة فقهًا ونظَّمت تشريعًا. والأهم من ذلك كله هو انتظام
الفِرق كلها في أصول بصرف النظر عن عددها. فإذا كانت الأصول أربعة؛
التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والإيمان والعمل؛ وكانت أمهات الفِرق
أربعًا؛ الشيعة والخوارج والمعتزلة ومرجئة (أشاعرة)، ثلاثة للمعارضة وواحدة
للسلطة؛ اختلفت الشيعة والمعتزلة في التوحيد، والمرجئة والخوارج في الإيمان
والعمل، والمرجئة والمعتزلة في الوعد والوعيد، والشيعة والخوارج في الإمامة.
٩٦ كل حل لمشكلة ليس قائمًا بذاته، بل يؤدي إلى حل المشكلة الأخرى
بالطريقة نفسها؛ فإنكار الصفات يؤدي بالضرورة إلى ترك العالم مفتوحًا إلى
فعل الإنسان وحرية اختياره، كما يؤدي بالضرورة إلى إعمال العقل وإثبات
قوانين مطردة للطبيعة. أما إثبات الصفات فإنه يؤدي إلى إثبات فاعليتها في
الطبيعة، ومزاحمة الفعل الإنساني ومشاركته، وإلى تصور الطبيعة ميدانًا
للصفات المطلقة، والعقل واقفًا وراء النقل؛ أي نافيًا لاستقلال العقل
والطبيعة.
(٣-٢) الشعور الجدلي (التاريخي)
يكشف الشعور المذهبي البنائي على أن الفِرق موضوعات، وأن الموضوعات أصول،
وأن أمهات الفِرق تدخل في جدل بينها حول هذه الأصول؛ فالمعتزلة والشيعة على
طرفَي نقيض في التوحيد، والشيعة والخوارج على طرفَي نقيض في الإمامة،
والخوارج والمرجئة على طرفَي نقيض في الإيمان والعمل، والمعتزلة والمرجئة
على طرفَي نقيض في الوعد والوعيد. ويستطيع الشعور الجدلي أن يصف التاريخ،
وفي الوقت نفسه يُدرك دلالة المذهب، ويُبرز النسق العقائدي للفرقة، وذلك من
خلال نشأة الفِرق وتوالدها بعضها عن البعض الآخر طبقًا لقانون الفعل ورد
الفعل؛ أي طبقًا للمنهج الجدلي القائم على التعارض والأضداد.
٩٧ ولا يوجد منهجٌ مُحكَم في معظم المصنَّفات الكلامية لعرض تاريخ
الفِرق. ويتأرجح معظمها بين تتبُّع النشأة الزمانية وبين عرض الموضوعات
العقائدية، وإن كانت أقرب إلى المنهج الثاني؛ أي عرض الفِرق من خلال
الموضوعات. ويختلف الترتيب الزماني والموضوعي حسب الموضوع؛ ففي الإمامة
مثلًا تظهر الرافضة أولًا ثم يُناقضهم فيها الخوارج، في حين أنه في التوحيد
تقول الرافضة أولًا بالتأليه أو التجسيم ثم يظهر المعتزلة ويقولون بالتنزيه.
٩٨ وقد ينشأ رد الفعل على الفور إذا كانت عمليةً خالصة مِثل
الإمامة، أو متأخرة إذا كانت نظريةً تحتاج إلى تفكير وتدبر مثل التوحيد.
فبعد أن ظهر التأليه مُبكرًا للغاية في حياة علي لم يظهر توحيد المعتزلة
ونفي الصفات إلا متأخرًا. وقد ظهرت الروافض بدعوى التأليه، فظهورهم هنا
سابق على الخوارج فيما يتعلق بالتأليه، وقد حدث ذلك في حياة علي.
٩٩ وفي هذا الجو العام من التوتر النفسي وجهل العرب، وشدة
انتسابهم إلى الدعوات في عصر الدعوات، يمكن أن يكون عبد الله بن سبأ مُنشئ
التأليه من خلفيَّاته الدينية القديمة. لم يكن العرب يعرفونه؛ إذ كانت
الوثنية لديهم سطحية، بالإضافة إلى أنه يقوم على الإعجاب بالبطل في عصر
البطولة وبين الأبطال. فالخوارج والشيعة نقيضان، وإن لم يخرج النقيض من
النقيض زمانيًّا. نشأ الخوارج أولًا برفضهم إمامة علي، ثم نشأ الشيعة
ثانيًا بعد مقتل علي وبنيه. فمن حيث موقعهم من علي هما نقيضان، وإن تولَّد
أحدهما عن الآخر زمانيًّا.
١٠٠
وينطبق قانون الفعل ورد الفعل أو قانون الجدل من الموضوع إلى نقيض
الموضوع إلى مركَّب الموضوع، ليس فقط على تاريخ الفِرق وتوالُد بعضها من
البعض الآخر، بل أيضًا على موضوعات العلم الرئيسية؛ إذ تُحلُّ المشكلة
أولًا باختيار أحد النقيضين، ثم يأتي الحل الثاني بالنقيض، وأخيرًا يأتي
الحل الثالث يُحاول الجمع بين النقيضين في وسطٍ مُتناسب مُتفاديًا الغلو
والتطرف. يأتي الحل الأول في ظروفٍ نفسية واجتماعية معيَّنة، ثم يأتي نقيضه
لإعادة التوازن، وإبراز ما خفي، إذ لا يقف أمام التطرف إلا تطرفٌ مُضاد، ثم
يأتي الحل الثالث لإلغاء الطرفين ومحاولة استعادة التوازن الفكري. فمثلًا
في نظرية الوجود (الطبيعيات) يقضي فريق على استقلال الطبيعة وعلى فعلها،
ويجعل حركتها ومسارها من خارجها؛ فينشأ رد فِعل عند أصحاب الطبائع القائلين
بالطباع، وأن فعل الطبيعة وحركتها من داخلها بفعل طبائع الأشياء؛ ثم يأتي
فريقٌ ثالث يجمع بين النقيضين ويقول بالطبائع، ولكنه يجعلها مخلوقة.
١٠١ وفي التوحيد يُعرَض التأليه أو التجسيم أو التشبيه من الشيعة،
فينشأ رد الفعل من المعتزلة فيقترحون التنزيه لدرجة نفي الصفات، فالتعطيل
أكبر رد فعل على التجسيم والتشبيه، ثم يأتي الحل الثالث الذي اقترحه
الأشاعرة لإعادة التوازن الفكري، ويقترحون إثبات الصفات بلا تشبيه ولا
تعطيل تفاديًا لتطرُّف النقيضين.
١٠٢ وفي خلق الأفعال (الجبر والاختيار) يُعرَض الجبر المُطلَق
أولًا، وتُثبَت الإرادة الإلهية المطلَقة، وتُنكَر حرية الاختيار؛ ثم ينشأ
رد الفعل ويوضع النقيض، فتتأكَّد حرية الاختيار ومسئولية الإنسان المطلَقة
عن أفعاله؛ ثم يأتي الحل الثالث للجمع بين النقيضين، ويُقال بالكسب وبخلق
القدرة في زمان الاستطاعة.
١٠٣ وأحيانًا تظهر القدرية وكأنها إثبات لدعوى نفي القدر وإثبات الاستطاعة.
١٠٤ وقد تُضَم المسألتان، مرتكب الكبيرة والاختيار، في مسألةٍ
واحدة هي الفعل أو السلوك. فإذا كانت المسألة هي الاختيار يكون إثبات
الاختيار رد فعل على الجبر لا العكس.
١٠٥ وفي العقل والنقل يُقال أولًا إن النقل مُكتفٍ بذاته ولا يحتاج
إلى عملٍ عقلي يُخرج النص من مكانه، وتُقدم الحشوية الاقتراح؛ فينشأ رد
الفعل ليجعل العقل أساس النقل، فإذا تعارض النقل مع العقل أُوِّل النقل
لحساب العقل، ويُقدم المعتزلة هذا الرأي؛ ثم يأتي حلٌّ ثالث يجمع بين العقل
والنقل، ويعرض اتفاق صحيح المنقول مع صريح المعقول ابتداءً.
١٠٦ وفي الحسن والقبح العقليَّين يقول فريق بأن حسن الأشياء وقبحها
من خارج الأشياء، وأن الأشياء لا تحتوي على صفاتٍ موضوعية كالحسن والقبح؛
ثم ينشأ رد الفعل بقول فريق آخر بأن حسن الأشياء أو قبحها من داخل الأشياء،
وصفات موضوعية يُدركها العقل؛ ثم يأتي فريقٌ ثالث ليُحاول الجمع بين
النقيضين، فيجعل حسن الأشياء وقبحها في الأشياء إلا الشرائع التي يكون
حسنها أو قبحها من خارجها.
١٠٧ وفي الوعد والوعيد يُثبت المعتزلة وجوب الثواب والعقاب طبقًا
للأعمال، وينفي أهل السنة هذا الوجوب، ويجعلون كل شيء مرهونًا بمشيئة
الإرادة المطلَقة، ويأتي فريقٌ ثالث ليقول بالوجوب الشرعي.
١٠٨ وفي الإيمان والعمل يبدأ الخوارج والمرجئة على طرفَي نقيض.
يُثبت الأولون العمل كمُعبِّرٍ وحيد عن الإيمان، وإلا فلا إيمان ويكون
الكفر. ويُثبت الآخرون الإيمان مُكتفيًا بذاته دون عمل، ويكون الإيمان في
غياب العمل. ثم تقترح المعتزلة المنزلة بين المنزلتين للجمع بين الحلَّين
المُتعارضين، والإبقاء على جزء من الإيمان وجزء من العمل.
١٠٩ نشأت المرجئة بدعوى الإرجاء في الإيمان؛ أي تأخير العمل على
الإيمان كرد فِعل على الأحكام القاطعة التي صدرت وقت الفتنة على الناس
بالإيمان والكفر والفسق، حيث تقطَّعت الرقاب من جرَّاء الحكم على أعمال
الناس وجعل العمل مِقياس الإيمان والمُعبر عنه. فإذا كان الخوارج يُثبتون
صلة الإيمان بالعمل، فإن المرجئة يُثبتون الإيمان دون العمل، ويجعلونه
نظرًا ومعرفة. وإذا كانت الخوارج تحكُم على الناس بالكفر والإيمان، فإن
المرجئة تُرجئ الحكم. وإذا كانت الخوارج ترى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص،
فإن المرجئة ترى أن الإيمان يزيد وينقص. وإذا كانت الخوارج ترى أن الدار
دار كفر وحرب، فإن المرجئة ترى أن الدار دار إيمان وسلام.
١١٠ كما تظهر المعتزلة إثباتًا لدعوى المنزلة بين المنزلتين كدعوى
مُناقضة للكفر أو للإيمان؛ ومن ثَم تُشارك الخوارج في الصلة بين الإيمان والعمل.
١١١ وفي الإمامة يقول فريق بالتعيين وهم الشيعة، ثم يظهر رد الفعل
عند فريق آخر في القول بالاختيار المطلَق وهم المعتزلة والخوارج، ثم يأتي
فريقٌ ثالث يجمع بين التعيين والاختيار، ويجعل الأئمة من قريش، وهم أهل
السنة والأشاعرة.
وكثيرًا ما يكون الجمع بين النقيضين أقرب إلى طرف منه إلى الطرف الآخر؛
فالطبائع المخلوقة أقرب إلى إنكار الطبائع منه إلى إثباتها، وإثبات الصفات
أقرب إلى التشبيه منه إلى التنزيه، والكسب أقرب إلى الجبر منه إلى
الاختيار، واتفاق النقل مع العقل أقرب إلى القول بأولوية النقل على العقل،
والمنزلة بين المنزلتين أقرب إلى إيمان الأشاعرة منه إلى إيمان الخوارج،
وجعل الأئمة من قريش أقرب إلى التعيين منه إلى الاختيار. وقد لا يبدو الوسط
على الإطلاق نظرًا لأنه لا يُمثل شيئًا، وأن التعارض الفعلي هو بين الموضوع
ونقيضه، فهما طرفَا الفكر، وهما الاتجاهان ولا ثالث لهما، ولا يُذكر الوسط
على الإطلاق، وهما في الغالب المعتزلة والأشاعرة؛ ففي التوحيد هناك إثبات
الصفات وإنكارها … إلخ.
١١٢ ويظهر التعارض بين النقيضين دون وجود حل ثالث بينهما خاصةً في
المسائل الصغرى؛ فالتعارض بين الطرفين أقوى من الجمع بينهما في طرفٍ ثالث،
فتغيب المقولة الثالثة بتاتًا. ففي الحسن والقبح يظهر الطرفان المتناقضان:
الحسن والقبح صفتان من خارج الأشياء، فالأشياء ذاتها ليست حسنة ولا قبيحة.
والحسن والقبح صفتان من داخل الأشياء، صفتان موضوعيتان في الأشياء يُدركها
العقل. ولكن الطرف الثالث، وهو أن الحسن والقبح بناءان اجتماعيان، غائب
تمامًا. وفي العقل والنقل أيضًا يبدو الطرفان المُتقابلان على أنهما النقل
أساس العقل أو العقل أساس النقل، وإذا تم التوحيد بينهما فإنه يتم عن طريق
التخصيص والاستثناء وإخراج ميدان الشرائع من العقليات. أما المقولة
الثالثة، وهي الواقع، فهي غائبة بتاتًا. فالواقع هو أساس النقل والعقل على
السواء؛ أي التطابق مع الواقع. وقد تظهر الحلول الثلاثة، النقيضان والجمع
بينهما في لا زمان، تظهر جميعًا في وقتٍ واحد؛ مما يدل على أن الحلول
الثلاثة نماذج دائمة للفكر، وأنه لا يعني ظهورها بالضرورة ظهور فرقة
تاريخية مُتزامنة أو مُتتالية في الزمان لتمثيلها والتعبير عنها؛ فالقول
بأن الإنسان بدن فقط أو روح فقط أو بدن وروح يظهر في الوقت نفسه وعند كل
فرقة. وقد يظهر قانون الجدل داخل الفرقة الواحدة بين الغلاة والمعتدلين؛
مما يجعل الحد بين الفِرق صعبًا؛ فمُعتدلو الروافض مثلًا الزيدية مثلًا لا
يبتعدون عن المعتزلة، وغلاة أهل السنة لا يبتعدون عن التجسيم والتشبيه عند الروافض.
١١٣
ولا يكون فريق بعينه باستمرارٍ هو الممثِّل للفعل أو لرد الفعل أو للجمع
بينهما، قد يكون فريقٌ هو صاحب الفعل مرة، وهو القائم برد الفعل مرةً
ثانية، وهو الذي يجمع بين النقيضين مرةً ثالثة. ففي التوحيد الشيعةُ هم
أصحاب الفعل بقولهم بالتأليه والتجسيم، وأصحاب الفعل أيضًا في الإمامة في
قولهم بالتعيين، ولكنهم في العقل والنقل أصحاب رد الفعل في ممارستهم
للتأويل كرد فِعل على الالتزام الحرفي بالنصوص، وفي كشفهم لميدان الشعور
والعواطف والانفعالات ضد عالم العقل المجرد، وفي تركيزهم على الحلول كرد
فِعل على المفارقة. والمعتزلة باستمرارٍ هم أصحاب رد الفعل؛ فهم القائلون
بالتنزيه ضد التشبيه، والمُثبتون للحرية ضد الجبر، والمُثبتون للعقل ضد
الحشوية، والقائلون بالشورى ضد التعيين، والقائلون بالطبائع ضد أهل السنة.
ولكنهم يُحاولون أيضًا الجمع بين النقيضين في المنزلة بين المنزلتين. ولكن
الغالب بأن الأشاعرة هم القائلون باستمرار بالجمع بين النقيضين؛ فهم
يُمثلون أهل الوسط والاتزان. ففي الطبيعة يقولون بطبائع مخلوقة، وفي
التوحيد يُثبتون الصفات بلا تشبيه ولا تعطيل، وفي الحرية يُثبتون الكسب
وسطًا بين الجبر والاختيار، وفي العقل والنقل يوفِّقون بينهما دون إعطاء
الأولوية لأحدهما على الآخر، وفي الإيمان والعمل يُحاولون الجمع بينهما دون
الحكم بأحدهما على الآخر. وفي الإمامة يُحاولون الجمع بين التعيين بالنص
والبيعة بالشورى بجعل الإمامة في قريش.
وبالرغم مما يُقال عن مُميزات الجمع بين النقيضين من فضائل الاتزان
والاعتدال، والتعبير عن الأصول وعدم الانحراف عنها، واتِّباع الحق دون
الهوى، والتعبير عن مصلحة الجماعة العامة دون ترجيح حق فئة على أخرى، فإن
العيوب والمثالب أوضح وأكثر خطورةً وأشد ضررًا؛ فكثيرًا ما يتحدد الجمع بين
النقيضين عن طريق النفي، مثل إثبات الصفات بلا تشبيه أو تعطيل، أو إثباتها
بلا كيف. وهذا مُستحيل؛ لأن إثبات الصفات يقتضي وصف هذا الشيء المثبَت،
والقول بأن الصفة لا توصف تهرُّب من الإشكال الأول. الاكتفاء بتحديد الفكر
عن طريق النفي اتجاهٌ سلبي خالص وهروب من أخذ المواقف. وفي هذه الحالة يكون
التوقف عن الحكم وإلغاء المشكلة أفضل وأكثر صراحة. فإذا حاول التوفيق بين
النقيضين قول شيء إيجابي فإنه لا يتجاوز تحصيل الحاصل، مثل صفة بلا وصف، أو
شيء لا ككل الأشياء؛ فمثل هذه الأحكام لا تتجاوز «محلك سر»، خطوة إلى
الإمام وخطوة إلى الخلف. فإذا حاول الجمع بين النقيضين قول شيء أكثر
إيجابية، فإنه في العادة يمكن نقضه بالعقل؛ لأنه لا يقوم أساسًا على نظرية
في العقل، بل يلحق العقل بالنقل، ويجعل عمله الفهم والتفسير، وليس الوضع
والتأصيل وتأسيس بداهات العقول. وفي الغالب يكون تنظيم العقل على هذا النحو
غامضًا صعبًا على الجمهور، كما يمكن للعقلاء نقضه. وقد كان هذا الموقف هو
العدو الألدَّ لموقف الفلاسفة، خاصةً آخر الحكماء الذين شنُّوا باسم العقل
أشنع هجوم على الجمع بين النقيضين والمواقف المُتوسطة باسم العقل. وأخيرًا
فإن التوسط بين الطرفين نهاية للحضارة وقضاء على الفكر؛ فهو يُعبر عن نقص
في الشجاعة وعدم التزام بالمواقف، ومحاولة تجاوز المتناقضات لا عن طريق
صراعها، بل بالتعالي عنها وتفادي حركتها المُتناقضة. وهذا ما حدث بالفعل؛
فقد انتهى الفكر، وتوقَّفت الحضارة، وهدأ الانفعال، ورجع الناس إلى العقائد
الأولى دون أي عمل عقلي أو حضاري، ثم أصبحت العقائد المذهب الرسمي للدولة،
فأصبح المُتوسط هو فكر السلطة، واستحال بعد ذلك قول شيء أو تأسيس دعوى كفعل
أو كرد فِعل.
وأصحاب ردود الأفعال هم في الغالب أصحاب المواقف الجذرية، أي المعارضة
بأنواعها الثلاثة، وعلى رأسهم الشيعة والخوارج والمعتزلة. فالتأليه
والتنزيه موقفان جذريان لا وسط بينهما، الجبر والاختيار، التعيين والبيعة،
النقل والعقل، الإيمان والعمل، الطبيعة والخلق؛ كل ذلك مواقف جذرية لا تقبل
الوسط أو التوسط. ويمتاز الفعل كموقفٍ جذري، بأنه دعوةٌ تقول شيئًا، وتضع
موضوعًا وتُقيم مذهبًا، وتؤسس فكرًا، وتبدأ تيَّارًا. كما أن الفعل موقفٌ
جذري، العامل المُحرك للفكر، وهو المُثير الذهني، شوكة في البدن، مهمته ضرب
المائدة بقبضة اليد، وإثارة المشاعر، وتفتيح الأذهان. ويُعبر عن ظروف العصر
وبنائه النفسي والاجتماعي. هو المُحول للوحي إلى موقف، والمُعبر عن الدوام
في الزمان. وباختصار إن هذا المُثير هو البادئ للحضارة؛ إذ تؤرَّخ الحضارات
ببداية الدعاوى الفكرية الأولى التي أثارت الانتباه. والدعوات الأصيلة
تظلُّ باعثًا على ردود الأفعال باستمرار مع توالي العصور وتعاقب
الأجيال.
وقد يُعاب على الفعل كموقفٍ جذري التطرفُ والمُغالاة، وإيقاف الوحي على
ساقٍ واحدة، ورؤية الحقيقة بعينٍ واحدة، وإحالتها إلى جانبٍ واحد. وهذا
العيب هو طبيعة تكوين الحضارة، فما دام الوحي قد تحوَّل إلى وضع، وتمثَّلته
جماعة في ظروفٍ نفسية واجتماعية معيَّنة، يبدو الوحي في هذا السياق مُعبرًا
عن الطرف الآخر من الواقع. فإذا كان الواقع اضطهادًا خرج الوحي تحررًا،
وإذا كان الواقع استئصالًا خرج الوحي في صورة دعوة سرية، وإذا كانت
الأغلبية مُنحازة خرج الوحي دعوة إلى أخذ الحق من النص غير المُنحاز. وقد
يُعاب على الفعل كموقفٍ جذري أنه عاطفي انفعالي خالص. والحقيقة أن الحضارة
كلها موقفٌ انفعالي، وأن الأفكار في نشأتها تجارب حية عند الجماعة، وأن
الفكر ذاته انفعالٌ وصل إلى حد التنظير في موقفٍ نفسي واجتماعي مُتَّزن.
وإذا كان الواقع مُنحازًا فلا يمكن التعبير عنه فعلًا أو كرد فِعل إلا
انفعالًا. لا يظهر العقل إلا في المرحلة الثالثة، وهي الجمع بين النقيضين،
ولكن الفعل ورد الفعل هما مرحلتان انفعاليتان. وقد يُعاب على الفعل ثالثًا
أنه يُعبر عن هوًى أو مصلحة، ولا يُعبر عن حقيقةٍ مستقلة أو عن مصلحة
الجماعة. ولكن هذا العيب أيضًا يُعبر عن طبيعة الجماعة ومسارها في التاريخ،
وتفرُّقها إلى جماعاتٍ أصغر كلٌّ منها تُحاول تمثيل الجماعة الكبرى، وتجعل
تصوُّرها تصوُّر الوحي. وما دام الوحي قد أعلن عن الجماعة، وما دام التفسير
قد بدأ، فإنه من الصعب التمييز بين الحقيقة والمصلحة، أو بين الوحي والهوى.
كل جماعة تُثبت ذاتها من خلال الوحي، ويحدث الصراع. وتبقى أبعد الجماعات عن
الهوى وأقربها للوحي إذا ما ضمَّت الجماهير إليها وجذبتهم لها. وقد يُعاب
على الفعل رابعًا أنه يتحول في نهاية الأمر إلى مذهبٍ مُغلَق، وإلى عقيدةٍ
مُحكَمة تكون مُماثلة للوحي أو بديلًا عنه، وأحيانًا مُناوئة له. وهذا
أيضًا طبيعي؛ فإذا ما تقدَّمت الجماعة في العمل خرج نُظارها إلى عرض
الاتجاه عرضًا عقليًّا خالصًا، فيتحوَّل الموقف النفسي الاجتماعي تدريجيًّا
إلى مذهب. وبتعاقب الأجيال يتكاثر العمل العقلي المذهبي، وتتحدد جوانب
المذهب، ويتَّضح اتساقه العقلي إلى أن يُقضى عليه بفعل الزمان، أو تظهر
دعواتٌ جديدة أكثر شبابًا وحيويةً تكون بداية مذهب جديد. وقد تُحاول
الأجيال الشابَّة للمذهب القديم تجديد حياته بالرجوع إلى الأصول الأولى
ومحاولة إيجاد الاعتدال، خاصةً بعد تغيُّر الموقف النفسي الاجتماعي
الأول.
أما ردود الأفعال فإنها تتميز أيضًا بأنها هي المُمارسة للفكر والمُلتزمة
به، والقائمة على المحافظة على الطرف الآخر الذي غاب في الفعل. رد الفعل هو
الجانب الآخر، الطرف المقابل. ومن التوتُّر بين الفعل ورد الفعل تنشأ
الحياة الفكرية، وتظهر الأفكار الثانوية حتى بداية محاولات الجمع بينهما.
ردود الفعل هي التي تُبين حدود الفعل، وتُعطي البديل، وتُعبر عن التكامل
الفكري أكثر مما تُعبر عن الظروف النفسية والاجتماعية. يوضع العقل في مقابل
الانفعال، والحق في مقابل الهوى. رد الفعل هو التحدِّي المستمر للفعل،
المُحدد لسلطته، والواقف له بالمِرصاد، والمُعبر عن حق المعارضة الفكرية
وعن حرية الفكر. ومع ذلك قد ينتاب ردَّ الفعل بعضُ العيوب، وفي مقدمتها
تمثُّل السلطة والاعتماد عليها، وتحويلها إلى فكرٍ رسمي للدولة، فتصبح بعد
ذلك مقياسًا للحق، وما عداها كفر وضلال. تنقلب حرية الفكر إلى قهر، ويضيع
حق المعارضة الذي نشأ رد الفعل تعبيرًا عنه.
وسواءٌ عُرضت المادة الكلامية كموضوعات أو كفِرق، كشعورٍ بنائي أو كشعورٍ
جدلي، فكلا الطريقين يؤدِّيان إلى الفكر وإلى الموضوعات الفكرية؛ فالفِرق
الكلامية اتجاهاتٌ فكرية، والتاريخ ليس تاريخ حوادث خالصة أو وقائع مادية،
بل هو ميدان لتحقُّق الأفكار وظهور الأينية الفكرية للوحي. فقد تطوَّر
موضوع التوحيد مثلًا في مراحل ثلاث؛ التأليه والتجسيم عند الشيعة، غُلاتها
ومُعتدليها، والتنزيه وإنكار الصفات عند المعتزلة، ثم التشبيه وإثبات
الصفات عند الأشاعرة. هذا التطور التاريخي نفسه هو بناء الموضوع الفكري؛
فالتأليه والتجسيم هما الموضوع، والتنزيه بإنكار الصفات هو نقيض الموضوع،
والتشبيه بإثبات الصفات هو مركَّب الموضوع. المراحل التاريخية هي نفسها
الجوانب المختلفة للموضوع، لا فَرق بين تطور الشيء وظهوره في التاريخ وبين
بنائه وتحليله في الشعور. وما يُقال عن التوحيد يُقال أيضًا في خلق
الأفعال، وفي العقل والنقل، وفي الإيمان والعمل، وفي الإمامة، ويُقال أيضًا
في الطبيعيات، وفي الوحي، وفي الإنسان.
١١٤
وهنا تبرُز أسئلة ثلاثة؛ الأول: إذا كانت الفِرق الكلامية اتجاهاتٍ
فكرية، وكانت الاتجاهات الفكرية أنماطًا مثالية للفكر البشري، وكانت هذه
الأنماط تُكون جوانب مختلفة للموضوع، فالسؤال هو: هل أعطى التاريخ كل هذه
الأنماط؟ هل كشفت الحضارة جوانب الموضوع؟ هل باستطاعة الباحث اكتشاف أنماط
جديدة وكشف جوانب أخرى للموضوع؟ فمثلًا في التوحيد ظهر التأليه والتجسيم
والتشبيه كفِرق واتجاهات وأنماط وجوانب للموضوع، ولم يظهر بعدُ التوحيد
كوظيفة. وفي خلق الأفعال ظهر الجبر والكسب وحرية الاختيار، ولكن لم يظهر
بعدُ التحرر. وفي العقل والنقل ظهرت أولوية العقل كما ظهرت أولوية النقل،
ولكن لم تظهر بعدُ أولوية الواقع … إلخ. والسؤال الثاني: إذا كانت
الاتجاهات الفكرية أنماطًا مثالية للفكر البشري، فهل هذه الأنماط حلولٌ
مُتزامنة أو مُتتالية في الزمان، أم أنها جوانب مختلفة لموضوعٍ واحد؟
فالتوحيد كموضوعٍ تأليه في أحد جوانبه، وتجسيم أو تشبيه من جانبٍ آخر،
وتنزيه من جانبٍ ثالث. وخلق الأفعال هو جبر من جانب، وكسب من جانب، وحرية
اختيار من جانب ثالث. مهمة الباحث الآن عرض الاتجاهات الفكرية التي تُمثلها
الفِرق كجوانب مختلفة لموضوعٍ واحد. وكأن الباحث ينظر إلى الموضوع من عل
كمُشاهدٍ مُحايد. والسؤال الثالث: إذا كانت الفِرق الكلامية تُمثل اتجاهاتٍ
فكرية، فالسؤال هو: هل هذه الاتجاهات الفكرية أنماطٌ دائمة للفكر الديني
تتكرَّر في كل زمان ومكان؟ ففي التوحيد مثلًا لا تُمثل الشيعة التأليه
والتجسيم فقط، ولا تُمثل السنة التشبيه فقط، ولا تُمثل المعتزلة التنزيه
فقط، بل إن التأليه والتجسيم والتشبيه والتنزيه أنماطٌ مثالية للفكر الديني
أو الفكر البشري العام فيما يتعلق بالألوهية. وكذلك الأمر في خلق الأفعال؛
فلا تُمثل الجبرية الجبر، ولا تُمثل الأشعرية الكسب، ولا تُمثل المعتزلة
حرية الاختيار؛ بل إن هذه الحلول الثلاثة، الجبر والكسب والاختيار، تُمثل
أنماطًا مثالية لمشكلة الحرية تتعدى حدود الزمان والمكان. ويمكن أن يُقال
الشيء نفسه في العقل والنقل، وفي التعيين والبيعة، والكُمون والخلق،
والإيمان والعمل، فيصبح علم أصول الدين علمًا بنيويًّا لكل حضارة وللفكر
البشري العام.
والتعدد في جوانب الموضوع وتطوُّره إنما هو مقدمة للاختيار البشري طبقًا
لظرف كل عصر. وقد لا يكون اختيار العصور الماضية هو اختيار كل عصر؛ فما
يكون فعلًا عند القدماء قد يكون رد فِعل عند المُعاصرين، وما قد يكون وسطًا
عند القدماء قد يكون فعلًا أو رد فِعل عند المعاصرين، وما قد يكون فعلًا أو
رد فعل عند القدماء، فلا يكون وسطًا عند المعاصرين. فالمعاصرون جيل الفعل
ورد الفعل إيقافًا للانهيار وبعثًا للنهضة. قد تُحتِّم الظروف النفسية
والاجتماعية المعاصرة مرةً اختيار الموضوع، ومرةً أخرى اختيار نقيض
الموضوع، ومرةً ثالثة مركَّب الموضوع، ومرةً رابعة إلغاء المشكلة كليةً
والعودة إلى الواقع الملموس أو النص الخام مُصوبًا نحوه. فمن الطبيعيات
مثلًا يُحتِّم واقعنا المعاصر اختيار استقلال قوانين الطبيعة واطرادها
ردًّا على تكويننا النفسي الذي يرجع الأفعال إلى خوارق العادات. وفي
التوحيد يكون التعطيل موقفنا النفسي المعاصر أكثر مُساهمةً في حل عُقَدنا
العقلية، وذلك بالقضاء على التشخيص في الفكر المعياري، وإفساح المجال
للإنسان لأن يفعل دون أن يوضع في بوتقةٍ عامة تُحيط بها الأغلاف. وفي خلق
الأفعال تُحتِّم ظروفنا النفسية المعاصرة نقيض الموضوع، وهو إثبات حرية
الأفعال تقليلًا من وطأة الجبرية وحتمية الأفعال التي نرزح تحتها، إما
جبرية الدين أو جبرية الدنيا وخضوع الجماهير للإرادة المطلَقة المشخصة،
إرادة الله أو إرادة السلطان، أو خضوعها لحتمية الرغيف والقهر المادي. كما
يُحتم واقعنا المعاصر اختيار العقل أساسًا للنقل ردًّا على حشوية العصر،
واعتماده على النقل كحجةٍ دون اتِّساق عقلي أو استشهاد واقعي. كما أن
الظروف النفسية لواقعنا المعاصر، إن كنَّا صادقي النية في التغيير، تتطلب
اختيار وجوب الثواب والعقاب، تصور العالم يحكمه قانون، ولا يخضع لإرادةٍ
مشخصة وأهوائها. كما يُحتم واقعنا المعاصر اختيار الموضوع، وهو وحدة النظر
والعمل، ردًّا على الفصل بينهما في حياتنا، أو تأخير العمل على النظر أو
الحكم على العمل كما تفعل مرجئة العصر. وقد يُعاني واقعنا المعاصر من
التوسط قدر ما يُعاني من التطرف، ولكن توسُّط السلطة أخطر على الأمة من
تطرُّف المعارضة، والأجدى تطرُّف السلطة وتوسُّط المعارضة. والتطرف العاقل
من أجل تغيير الوضع القائم خيرٌ من التوسط المبرِّر للأوضاع القائمة. كما
يُحتم واقعنا المعاصر اختيار رد الفعل القديم، وهو البيعة، ردًّا على
ظروفنا الحالية التي يغلب عليها التعيين، وأن «الإمامة في العسكر» حتى ولو
كانت في صيغةِ بيعةٍ صوريةٍ معروفةٍ نتائجُها مسبقًا. وقد تُحتم ظروفنا خلق
فرقة رابعة أو وضع حل رابع، فيُلغي المشكلة تمامًا ويعتبرها متاهةً عقلية،
ويُفضل حلها بإلغائها والرجوع إلى الأصول الأولى العامة التي حدَّدت
الموضوعات بلا تفريعات أو انحرافات، أو طرح مسائل نظرية لا ينتج عنها قيمةٌ
عملية، بل ينتج منها التشتُّت والتفرُّق والضياع. وقد تمثَّل الفقهاء
القدماء والمُصلِحون المُحدَثون هذا الاتجاه، الله وظيفة، والحرية تحرُّر،
والنص واقع، والحياة هدف، والوعي مستقل، والمعاد مستقبل، والحكم ثورة.
١١٥
(٣-٣) الشعور الاجتماعي (السياسي)
إن الشعور (المذهبي) البنائي الذي يكشف عن بنية العقائد والمذاهب والشعور
الجدلي (التاريخي) الذي يكشف عن تطور الفِرق وتاريخها، إنما هما في الحقيقة
داخلان في الشعور الاجتماعي (السياسي) الذي يُفسر نشأة العلم وتكوينه،
تطوُّره وبناءه. قد يكون علم الكلام هو أول العلوم العقلية النقلية من حيث
الزمان، تظهر فيه المحاولات الأولى لفهم النصوص فهمًا عقليًّا وتحويلها إلى
مَعانٍ، ثم تحويل المعاني إلى نظريات ومذاهب حول الإيمان والكفر والفسق
والعصيان والنفاق. وقد نشأ نشأةً داخليةً محضة لإيجاد أساس نظري للسلوك،
ولتنظير الأحداث التي وقعت وتكاثرت في الفتنة وما بعدها. وقد أدَّى البحث
عن النظرية إلى تفسير النصوص؛ فالنص الديني هو المَرجع الأول للنظرية، ثم
أدَّى اختلاف المصالح وتضارب الأهواء إلى اختلاف في تفسير النصوص التي
تؤديها كل فرقة لصالحها، ولإثبات آرائها والدفاع عن مواقفها ومواقعها. نشأ
علم الكلام نشأةً داخليةً محضةً دون أن يتأثر بمؤثراتٍ أجنبية في نشأته؛
مما حدا بالبعض إلى اعتباره الفلسفة الإسلامية الحقَّة، وأنه المُمثل
الوحيد للفكر الإسلامي، وهو الذي ظهرت فيه أصالة المسلمين فكان تصويرًا
لأحداث الواقع وتطوُّره. أما الْتقاء الحضارة الناشئة بحضاراتٍ أخرى وافدة
بعد ترجمة أعمالها، فهو عاملٌ مُتأخر ساعَد على تطوير العلم، وقوَّى من
تحليلاته العقلية، وخفَّف من وطأته كعلم للعقائد، كما وضح ذلك في
المؤلَّفات الكلامية المتأخرة، بل إن هذا العامل لم يأتِ مباشرةً من
الحضارات الوافدة، بل أتى من الفلسفة التي تشبَّعت بها ثم حذا علم الكلام
حذوها. ومع ذلك استطاع العلم ضمَّها ووضعها في إطاره وضْعَ الفرع في الأصل،
وأصبح علم الكلام مُمثلًا لعلم تاريخ الأديان ووارثًا له.
علم الكلام إذن ليس تاريخًا مقدَّسًا. ويُخطئ البعض عندما يوحِّد بينه
وبين العقيدة الدينية، خاصةً بعد أن وحَّد البعض بين علم الكلام والعقائد،
وجعل علم الكلام أصول الدين. وهناك فرقٌ شاسع بين علم الكلام والعقائد
الدينية؛ فعِلمُ الكلام محاولاتٌ اجتهادية لفهم العقيدة أو للعثور على
أساسٍ نظري لها، وتخضع كل هذه المحاولات للظروف التاريخية التي نشأت فيها،
وللأحداث السياسية التي سبَّبتها، وللغة العصر التي عبَّرت بها، وللمستوى
الثقافي الذي ظهرت من خلاله. لا يمكن إذن التوحيد بين العقيدة كحقيقةٍ
مطلَقة، وبين الصياغات التاريخية لها التي تحدُث في زمانٍ معيَّن، ومكانٍ
معيَّن، وبلغةٍ معيَّنة، وعلى مستوًى ثقافي معيَّن.
١١٦ ويظل السؤال قائمًا: هل العقائد المطلَقة أو العقائد في ذاتها
موجودة بالفعل، أم أن الوحي نزل في فترةٍ معيَّنة بلغةٍ معيَّنة، وعلى
مستوًى ثقافي معين، وفي حضارةٍ معيَّنة، وفي مرحلةٍ تاريخية معيَّنة من
تطور الوعي البشري؟ الوحي ذاته صياغاتٌ تاريخية ظهر على مراحل إنسانية
مُتتالية، وبلغاتٍ إنسانيةٍ مُتعددة، وفي سياقاتٍ حضاريةٍ مُختلفة.
١١٧ ويظل السؤال أيضًا: هل يمكن للعقيدة المطلَقة أن تتحدث عن
نفسها؟ هل يقرأ الوحي الوحي ويفهم ذاته، أم أنه في اللحظة التي يقرأ فيها
الوحي ويُعبر عنه في فكرة، أو في وصفه تجربة، أو في تحليله لواقع، فإن
العقيدة تتحول إلى فهمٍ معيَّن في عصرٍ معيَّن، وزمانٍ معيَّن، ولجماعةٍ
معيَّنة، بل ولشخصٍ معيَّن؟
١١٨ علم الكلام علمٌ تاريخي محض، وليس علمًا مقدَّسًا أو علمًا
للعقائد الدينية نشأ مُواكبًا للأحداث التي وقعت للجماعة منذ الجيل الأول.
ولو تغيَّرت الأحداث لتغيَّر العلم. علم الكلام ما هو إلا غطاءٌ نظري
لأحداث الساعة في بيئة توجِّه الوقائع توجيهًا نظريًّا، ويحتاج كل سلوك
فيها إلى أساسٍ نظري من الوحي.
والمنهج الاجتماعي في تفسير نشأة الأفكار وتطورها ليس فقط مَطلبًا
علميًّا للعصر، وبديهية من بديهيات العقول، وواقعًا ملموسًا مُشاهَدًا عند
كل فرد أبرزته إحدى الحضارات المُجاورة، وأطلقت عليه «علم اجتماع المعرفة»،
بل إنه كان يُستعمل في التراث القديم لتفسير نشأة الأفكار. فتُذكَر الفكرة
ثم تُذكَر الواقعة سببها، أو تُذكَر الواقعة ثم الأفكار التي نشأت منها.
١١٩ هو إذن ليس منهجًا مُستحدَثًا من حضارةٍ أخرى، أو يدل على
تبنِّي أيديولوجيةٍ خاصة، بل هو المنهج السائد أحيانًا في مؤلَّفات القدماء
عن وعي أو عن غير وعي. والمؤلَّفات الكلامية في النهاية هي تاريخ الجماعة
لفكرها تاريخًا فكريًّا واجتماعيًّا معًا؛ فكثيرًا ما ينتقل المؤلف من
الفكر إلى الواقع، ومن التوحيد إلى الإمامة، ومن الصفات إلى الشرعيات، دون
إحساس بتغيُّر الموضوع. وإذا كنَّا نحن نفصل أحيانًا بين الفكر والتاريخ،
فإننا نفعل ذلك لسببين؛ الأول تعارُض المنهجين في البيئات الثقافية المحيطة
بنا، ووصول هذا التعارض في ثقافتنا وأثره علينا. فعِلمُ اجتماع المعرفة
يُعارض النظرية المثالية في المعرفة، ولا سبيل إلى الجمع بينهما.
١٢٠ والثاني نقصٌ في وعينا الاجتماعي، وفي عِلمنا بتاريخ نشأة
الأفكار لانشغال طبقتنا المُتوسطة بالأفكار مُستنكفةً من الوقائع
الاجتماعية ذاتها. وكيف تنشأ ميزتنا، وهي الثقافة، من قاع الدست؟ وبالرغم
من أهمية الأفراد في التاريخ إلا أنه لا يمكن تفسير حوادث التاريخ بمجرد
ظهور الأفراد، إما عن حسن نية أو عن سوء نية، وتكون الحضارة قد نشأت لمجرد
ظهور أفراد حسَني النية أو سيِّئي النية. والحقيقة أنه لو لم يظهر الأفراد
لظهرت الأفكار من الحوادث التي كانت ستفرضها، وما الأفراد إلا المُعبرون
عنها، أو من التقاء الثقافات وظهور الثقافات الوافدة بعد تمثُّلها في لغة
الثقافة الناشئة، وإدخالها في تصوراتها للعالم.
١٢١ وقد يوضع الأفراد داخل إطارهم الحضاري، ويتم تحديد سلوكهم
الاجتماعي. وهنا يظهر سوء النية والتحايل والكيد والخداع والمكر والدسيسة
والخديعة كعوامل مُحركة للتاريخ.
١٢٢ وكان الواقع النفسي للجماعة مهيَّئًا لقبول هذه الأفكار التي
تُعبر عن هذا الواقع، ومن قام بها أهل خبرة بالأديان والشعوب، بتاريخ
الأديان وبحكم الشعوب.
ليس هناك إذن ما يُسمَّى بعلم الكلام، بل هناك تاريخ للفِرق الإسلامية؛
فنحن لا نجد حديثًا عن علم الكلام قبل القرن الخامس، ولا نجد في كتب الفِرق
حديثًا عن علم الكلام أو حتى تعريفًا له إلا في المؤلَّفات المتأخرة؛ مما
يدل على أن ما اصطُلح بتسميته علم الكلام هو في الحقيقة تاريخ الفِرق
الإسلامية. ولما كانت معظم الفِرق قد نشأت نشأةً سياسية، أو أن لعقائدها
مدلولًا سياسيًّا صراحةً أو بباعثٍ سياسي مُتستر وراء اختلاف الآراء في فهم
النصوص وصياغة النظريات، فإن ما يُسمَّى علم الكلام إن هو إلا تاريخ الفِرق
الإسلامية، وأن تاريخ الفِرق الكلامية ما هو إلا تاريخٌ اجتماعي وسياسي
للمجتمع الإسلامي في عصوره الأولى.
١٢٣ ويرفض كثيرٌ من علماء الكلام التاريخ الموجه، ويؤثِرون تاريخًا
موضوعيًّا خالصًا يكون في جوهره تاريخًا سياسيًّا، ويدل على نشأة الفِرق
الكلامية نشأةً سياسية، وأن أول مشكلة تعرَّض لها علم الكلام كانت مشكلةً
سياسية وهي الإمامة، وأن طابع الأحداث في الجيل الأول كان طابعًا سياسيًّا،
ثم عبَّر الخلاف السياسي عن نفسه في تفسير النصوص للحصول منها على نظرية.
والسياسة لا تعني شيئًا منفصلًا عن الدين، فالدين يُنظم كافة شئون الحياة؛
لذلك قد يصعب القول بأن علم الكلام نشأ نشأةً سياسية بالمعنى الحديث؛ لأن
الأحداث التي هزَّت وجدان المسلمين في العصر الأول وعلى رأسها الفتنة، لم
تكن أحداثًا سياسية بالمعنى الحديث، بل كانت وقائع أثارت الفكر. لم يكن في
ذلك الوقت ولا في هذه البيئة ولا في هذا الفكر تمييزٌ بين العامل السياسي
والعامل الديني. كان الفكر، وهو الوحي، الموجِّه لسلوك الجماعة والمنظِّم
لحياتها، وكان الواقع الذي تعيشه واقعًا مُتكاملًا، موجَّهًا بالفكر؛ لذلك
لا يمكن اتهام الخوارج بأنهم خلطوا شئون الدين بشئون الدولة؛ لأن الدين
والدولة كانا شيئًا واحدًا.
١٢٤ تبدأ الحوادث بالفتنة التي رجَّت شعور الجماعة، وجعلت الخلاف
أساسًا خلافًا سياسيًّا حول موضوع الإمامة.
١٢٥
فإذا كانت الإمامة هي أُولى المشاكل التي أثارها المسلمون، فإن ذلك يدل
على أن علم الكلام نشأ نشأةً سياسية. وإذا ما تمَّت إعادة بناء العلم من
جديد على أنه علمٌ إنساني، فإن هذه المحاولة تقوم أيضًا على واقعٍ سياسي
خالص، تحرير الأرض، والقضاء على التخلف، وإعادة بناء المجتمع، وإرساء قواعد
الديمقراطية، وتأسيس المجتمع اللاطبقي.
١٢٦ وقد ظهرت الإمامة كمشكلةٍ عملية لا كمشكلةٍ نظرية، ولم تنشأ
منها فرقة؛ فقد كان يكفي إلقاء الفكرة الموجهة حتى تُحَل المشكلة، ويُطيع
الناس، وتتوحَّد الجماعة. وقد تساءل الناس: هل الخلاف السياسي من الفروع أم
من الأصول؟ هل هو من المسائل الاجتهادية أم من المسائل النصية؟ هل هو من
المسائل الفقهية أم من المسائل العقائدية؟
١٢٧ والقول بإمامة المفضول مع وجود الأفضل إثبات للأمر الواقع،
وبيعةٌ فكرية للحكم الأموي، وتخلٍّ عن صاحب الحق الشرعي، وقبول للمساومة،
والرضا برغد العيش. والقول بأن الإمامة تكون من خارج قريش رفضٌ للحكم
الأموي الذي يعتمد على النسب لقريش، ورفض للحكم القومي الذي يجعل من الحاكم
عربيًّا بالضرورة، وإعطاء الحق لكل الرعايا عربًا كانوا أم موالي في أن
يُصبحوا أئمة للأمة وحكامًا لها.
١٢٨ والقول بأن الإمامة لا تكون إلا بالإجماع رفضٌ لأي حكم لم
تُجمِع عليه الأمة كالحكم الأموي مثلًا. وبالرغم مما قد يُوحِي به التشيع
بأنه أقلُّ معارضةً من حيث إن الإمام بالتعيين وليس بالاختيار، وإنه مصدر
الحق والتشريع حتى يرجع ويأخذ بنواصيهم بدل الثورة الفعلية في الحاضر، وأن
في خلوده قد يجد أنصاره عزاءً ونصرًا نفسيًّا واطمئنانًا إلى الحق الضائع
دون أن يأخذوه بالفعل، بالرغم من كل ذلك إلا أنه أيضًا قاوَم الحكم القائم
بالقوة نفسها التي قاوَم بها بعض علماء الكلام السُّنيين. ولم تخلُ سنة من
خروج إمام على الحكم الأموي. فمن الناحية النظرية القول بخلود الإمام
والقول بالرجعة يُعبر عن الأمل في الانتصار، ويُثبت ضرورة انتصار الحق على
الظلم مهما طال انتظار المظلومين والمضطهَدين.
ولم يكن التوحيد أول المسائل الخلافية، بل نشأ نتيجة إعمال العقل في
النصوص. أما المشكلة السياسية فقد كانت تابعة للمسائل العقائدية حتى
تحوَّلت هي نفسها إلى مسألةٍ اعتقادية.
١٢٩ وكانت للنظريات والآراء مدلولاتٌ سياسية؛ فإنكار القدر وإثبات
الإنسان حرًّا مُختارًا في أفعاله، مسئولًا عن الخير والشر، يجعل حكم
الولاة أصحاب السلطة مسئولين عن أفعالهم ولا يُمثلون قدر الله، كما يجعل كل
المُواطنين مسئولين عن أعمالهم، ويبعثهم على الثورة ضد السلطة المُغتصِبة
الخارجة على إرادة الجماعة.
١٣٠ وكل موضوعات علم الكلام ونظرياته لها مدلولاتٌ سياسية خالصة؛
ففي التوحيد مثلًا تهدف فكرة الله المخلِّص أو الإمام المؤلَّه إلى تحريك
الجماهير، وإعطائها أملًا بالنجاة والخلاص من الظلم، وانتصار الحق ضرورة في
النهاية، بينما تهدف فكرة الله القوة إلى تثبيت الوضع القائم، وإلى الطاعة
للسلطة القائمة المُمثلة لله القوة. وإعطاء الأولوية للنقل على العقل يُثبت
الوضع القائم، ويجعل الأمر موكولًا للتفسير، والتفسير تقوم به السلطة
الدينية التي تعتمد عليها السلطة السياسية. وإعطاء الأولوية للعقل على
النقل رفض للوضع القائم ولتعاوُن السلطتين الدينية والسياسية، ووضع مقياس
عام للناس جميعًا حاكمين محكومين، وهو مقياس العقل وطريق البرهان. وإخراج
العمل عن الإيمان أو إرجاؤه إثبات للوضع القائم، وجعل الإيمان خاويًا لا
يتطلب حركةً وفعلًا، ولا يتحول إلى رفض أو ثورة. وجعل العمل جزءًا من
الإيمان وتعبيرًا عنه رفضٌ للوضع القائم، وجعل الإيمان أساسَ حركةٍ وفعل
وتغيير وثورة. أما مسألة خلق القرآن فقد ظهرت مُتأخرةً للغاية.
١٣١
وكان لعلماء الكلام الأوائل أثرٌ بعيد في توجيه مَجرى الحوادث؛ فقد كانوا
من أوائل المُعارضين للحكم الأموي. وكثيرًا ما استعملت السلطة الآراء
الدينية كحجج للقضاء على قُوى المعارضة التي قامت أساسًا تطبيقًا للأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
١٣٢ لا تُمثل الفرقة إذن اتجاهًا فكريًّا فحسب، بل تُمثل قوةً
اجتماعية تُعبر عن وضعٍ اجتماعي. وقد تتحالف مع السلطة القائمة، وقد تتعارض معها.
١٣٣ وقد نشأت الخوارج من سلوكٍ عملي أثناء التحكيم،
١٣٤ واستمرُّوا في المعارضة والرفض للحكم الأموي كما استمرَّ
الشيعة وآل البيت، كلٌّ لحسابه. وهكذا تشتَّتتْ المعارضة إلى فريقين
مُتنازعين، وبقي الخصم قويًّا.
١٣٥ وقد شارك المعتزلة في ثورات بعض آل البيت للأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
١٣٦
والمعتزلة هم أول من ردُّوا البدع قبل الأشاعرة، فكانوا هم أهل السنة
والجماعة قبل أن يظهر الاسم ويتبلور؛ فهم الذين ردُّوا على القدرية مع
أنهما فيما بعدُ أصبحوا قدريين؛
١٣٧ لذلك ظهر المعتزلة مُبكرين للغاية، وانتهَوا أيضًا مُبكرين،
على حين ظهر الأشاعرة مُتأخرين، وانتهَوا مُتأخرين. وقد بلغ المد الاعتزالي
أوجه في القرن الثالث، في حين لم يخلُ قرنٌ واحد من مُمثل للأشاعرة. وإذا
ظهر الأشاعرة مُبكرين فإنما يرجع ذلك إلى أنهم قد نسبوا أنفسهم إلى الفقهاء
والمحدِّثين الذين كانوا يشتغلون بمسائل عملية خالصة لا بمسائل نظرية،
فضمهم الأشاعرة إليهم وكأنهم يُكملون لهم الجانب النظري فيما يتعلق
بالعقائد. وكان المعتزلة الأوائل من الدرجة الأولى في العلم والبيان، كانوا
هم حمَلة العلم الأوائل، وهم الذين أعملوا العقل في النظر والاستدلال. نشأت
الحضارة على أيديهم أولًا. كما استطاع المعتزلة أن يقوموا بعملٍ جماعي بعد
تعرُّفهم على بعضهم البعض، فما دام العقل هو الحكم فهناك موضوعات وحقائق
مستقلة يمكن للجميع الوصول إليها، ولا مكان للعبقرية الفردية التي قد تُعبر
عن هوًى أو ادعاء. ولا يوجد الاتجاه الاعتزالي باعتباره اتجاهًا عقليًّا
عند المعتزلة فقط، بل يوجد أيضًا مُمثلًا لدى كل فرقة، وكأن التنزيه والعقل
والحرية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبادئ عامة تتعدى حدود الفِرق،
وأصبحت قاسمًا مشتركًا بينهم. ففريق من الشيعة مثلًا يقول بالإمامة
والاعتزال (الزيدية)، وفريق من الخوارج يقولون بالقدر ويُثبتون الاستطاعة
للإنسان (الميمونية). وكان الاعتزال ثورة على التقليد والتعصب واللجاج،
ويعتزُّ بالعقل والبرهان ضد التقليد والهوى والمحاجَّة. وكان المعتزلة أول
من استعان بثقافة الغير، الفلسفة اليونانية. لم يكن ذلك رغبةً منهم في
تبعيَّتها، بل لأنها راجت في البيئة الثقافية بعد عصر الترجمة، وأصبحت
جزءًا من الثقافة المعاصرة آنذاك. فاستعملتها المعتزلة كعلوم للوسائل لا
كعلوم للغايات، خاصةً من مُتأخريهم في القرن الثالث.
١٣٨ وكان معظم الفلاسفة معتزلة نظرًا لاعتماد كلا الفريقين على العقل.
١٣٩
وقد خرجت الأشاعرة من جُبِّ المعتزلة وكرد فِعل عليها،
١٤٠ واستعملوا المنهج نفسه الذي استعمله المعتزلة، وهو العقل
والثقافة العقلية المعاصرة (اليونانية)، ولكنهم خلطوا بين العقل والنقل،
فلا هم انتهَوا إلى شيءٍ معقول في النقل أو في العقل. فهم في الوقت نفسه
يرجعون إلى أهل السلف، ويلتزمون بخط الفقهاء وأهل السنة والحديث، ويُحاولون
إعطاء الأساس النظري للاتجاه الفقهي. وظلَّت هذه المحاولة مشبوهةً عند
الفقهاء، المحاولة التي تريد الجمع بين أهل السنة والعقل. وظل الأشعري
مشبوهًا بشبهة الاعتزال؛ إما لأنه ظلَّ مُتأثرًا بطريق الاعتزال، أو لأنهم
كانوا يرفضون أي عمل عقلي في النص. وظلَّ الحنابلة يرفضون الأشاعرة وقتًا
طويلًا لا يَقْبلون محاولاتهم العقلية في النصوص.
١٤١ ويظهر الأشاعرة كحلٍّ وسط بين الاتجاهات المُتعارضة بكل ما في
هذا الموقف المُتوسط من مُميزات وعيوب.
١٤٢ فإذا كان المعتزلة قد روَّجوا الفلسفة في أول الأمر طلبًا
للدليل العقلي والبرهان النظري، فقد فرضت الفلسفة نفسها في النهاية على
الأشاعرة في القرون المُتأخرة بعد أن خمد العقل وركَد العلم. فسادت المباحث
الفلسفية المباحث الكلامية، واعتمد الأشاعرة كليةً على تحليلات الفلاسفة
يجِدُون فيها الأساس العقلي الضائع منهم. فما يتَّهم به الأشاعرة المعتزلة
وقعوا هم أنفسهم فيه، وشتان ما بين الموقعين؛ أخذ المعتزلة الفلسفة كوسيلة،
وظلَّت الغاية هي التوحيد، في حين أن الأشاعرة أخذوا الفلسفة كغاية، وتوارى التوحيد.
١٤٣
وبالرغم من أن الأشاعرة متأخرة في الظهور إلا أن شيخها لا يُعتبر واضع
أصول العلم؛ فعِلمُ الكلام ظاهرةٌ حضارية أكثر منها اكتسابًا عبقريًّا، على
عكس علم أصول الفقه الذي وضع قواعدَه الشافعي. ولما كان الأشاعرة هم أصحاب
التأليف، فقد اعتُبروا واضعي علم أصول الدين دون غيرهم.
١٤٤ ثم جمد المذهب الأشعري، ولم يعُد الدليل هو الوسيلة الوحيدة
إلى اليقين.
١٤٥ وبعد جمود الفكر واتِّباع التقليد، ظهرت الشروح والملخَّصات
تُعبر عن الفكر الشارح أكثر مما تُعبر عن الفكر المشروح،
١٤٦ ثم خمد الشرح وساد الجهل على العلم لدرجة أن منع بعض
المُصلِحين شرح مؤلَّفاته.
١٤٧ فإذا كان عِلم الكلام كغيره من العلوم الإسلامية، بل وكالحضارة
ذاتها، فقد نشأ من النص ثم عمل العقل فيه، فإنه يعود إلى النص من جديدٍ بعد
أن تجمَّد العقل، وساد التقليد، وحلَّ الجهل محلَّ العلم.
١٤٨
وفي العقائد المتأخرة اختلط التوحيد بالتصوف خاصةً في الشروح، ولم توجد
مادةٌ يُشرَح بها
١٤٩ إلا من التصوف، وأحيانًا من الفقه والأصول، وابتعد عن الفلسفة
لأنها لم تعُد خطرًا على التوحيد. ومعظم الصوفية أشاعرة؛ لأن التصوف موقفٌ
أشعري قلبي، والأشاعرة موقفٌ صوفي عقلي، ومن السهل تحويل التوحيد كما
يتصوره الأشاعرة إلى توحيد كما يُعبر عنه الصوفية بمجرد تغيير المنهج من
العقل إلى القلب.
١٥٠ وفي المؤلَّفات المتأخرة يسود التصوف، ويُقتبَس من أقواله ومن
أشعار الصوفية وأناشيدهم.
١٥١ كما يظهر في المؤلَّفات المتأخرة الفقه والأصول، وتسود المادة
الكلامية، وكأن اللجوء إلى الفقه والتشريع فيه اليقين.
١٥٢ والفقهاء غالبًا أشاعرة بلا استثناء؛ لأن الفقهاء هم
المُدافعون عن أهل السلف، وهم المُمثلون لأهل السنة والجماعة، والأشاعرة
يعتبرون أنفسهم أهل السنة والجماعة.
١٥٣ ثم جاء الإصلاح الديني مُحيِيًا مذهب الأشاعرة.
١٥٤ ولكن غزو الثقافات الأجنبية الوافدة ما زال يدعو إلى إعادة
بناء علم أصول الدين من جديد.
١٥٥