سادسًا: مرتكب الكبيرة
إن عرض الاحتمالات السابقة في العلاقات الثنائية أو الثلاثية لكلٍّ من المعرفة والتصديق والإقرار والعمل في مقابل الاحتمال الرابع والأخير، يضع مسألة الفرق بين الواقع والمثال؛ فالاحتمالات الأولى واقعة في حين أن الاحتمال الأخير، أي وحدة الشعور في أبعاده الأربعة، مثالٌ ممكنٌ الوصول إليه. ويظل التقابل في الحالات الممكنة الأولى بين النظر الذي يشمل المعرفة والتصديق والعمل الذي يشمل الإقرار والفعل. فإذا ما حدث الفصم بين أيهما والشعور فإنه يحدث بين النظر والعمل، بين الداخل والخارج، وليس بين بعدَي النظر الداخلي، المعرفة والتصديق، أو بين بعدَي العمل الخارجي، الإقرار والفعل. الأول هو الخصم الرئيسي، في حين أن الثاني خصمٌ فرعي. ولما كان الواقع هو الأساس فإن الفصم بين الداخل والخارج هو الاحتمال السائد، لدرجة أن الإيمان قد أُطلقَ على الداخل دون الخارج، أي على النظر دون العمل، باستثناء لحظات الضيق والشدة وأوقات الغضب والتمرد حيث يأتي العمل مُكملًا للنظر، ويبدو النظر فارغًا دون العمل، ويستصرخ الناس العمل ويدعون إليه. وهذه هي مسألة مرتكب الكبيرة التي هي لبُّ موضوع النظر والعمل. هل يمكن أن توجد معرفة وتصديق دون إقرار وعمل؟ هل يمكن أن يوجد الداخل دون الخارج؟ هل يكون المؤمن مؤمنًا لو كان لديه النظر دون العمل؟ وهل يمكن أن يكون للإنسان عمل دون نظر؟ هل هذه هي التفرقة المشهورة بين الإيمان الحي الذي يُطابق فيه الإيمان العمل والإيمان الميت الذي هو مجرد إيمان لا يتخارج منه عمل؟ الإيمان القادر والإيمان العاجز، الإيمان بالفعل والإيمان بالقوة، الإيمان العملي والإيمان النظري؟
(١) هل مرتكب الكبيرة مؤمن أو كافر أو فاسقٌ منافق؟
(١-١) هل مرتكب الكبيرة مؤمن؟
(١-٢) هل مرتكب الكبيرة كافر؟
والحقيقة أنه لا يوجد حكمٌ واحد لمرتكب الكبيرة، بل تتعدد الأحكام طبقًا للمواقف السياسية وللموقع في السلطة. وإن الحجج النقلية أو العقلية والحجج المضادة كلها قراءات في النص وإسقاط من الموقع عليه، سواء الموقع من السلطة أو الموقع من المعارضة. إن التكفير سلاحٌ مزدوج بين السلطة وخصومها، لعنة قديمة ما زالت تُلقى، بالإضافة إلى أنها ادعاءٌ باطل فكريًّا، سلاح تستعمله السلطة ضد مُعارضيها، وتُشهره على خصومها، خاصةً إذا كانت السلطة غير شرعية، في حين أن الخلاف في الفهم والتعارض في الفكر خصبٌ ونماء، ونتيجة لأعمال الحرية والاجتهاد، وتوفي مناخ للجِدة والابتكار، وإلزام الأفراد بقضايا الجماعة ومشاكل الأمة. كما أن أحكام التكفير على مختلف درجاتها لا يمكن لأي إنسان أن يُصدِرها؛ لأنه يخرج بها عن نطاق حدوده كإنسان. كل الأحكام الخاصة بالكفر والإيمان والشرك والفسوق والعصيان لا يمكن لأحدٍ أن يُصدِرها إذا كان الهدف منها توقيع الجزاء ثوابًا أم عقابًا في نهاية الزمان؛ لأن الإنسان ليس حاضرًا هناك. وأي إنسان يستطيع ذلك؟ لا يمكن لإنسانٍ إصدار حكم على آخر قائلًا «هذا كافر»، «هذا فاسق»؛ لأنها أحكام تخرج عن نطاق الوضع الإنساني.
(١-٣) هل مرتكب الكبيرة فاسق ومنافق؟
(٢) هل الإيمان يزيد وينقض؟
لما كانت الأعمال مُقترنة بالإيمان، وكان العمل لا ينفصل عن النظر، ظهر سؤالٌ ثانٍ عن الإيمان: هل يزيد وينقص؟ هل هو كلٌّ أم بعض؟ هل يتفاضل فيه الناس؟ فإذا كان أبعاد الشعور الأربعة، المعرفة والتصديق والإقرار والعمل، قد وضعت مسألة وحدة الشعور من حيث الكم، فإن سؤال الزيادة والنقصان في الإيمان يضع الشعور من حيث الكيف، ولو أن اللغة هي لغة الكم. وقد ركَّز القدماء على الشعور الكمي بأبعاده الأربعة أكثر مما ركَّزوا على الشعور الكيفي بأسئلته الثلاثة: هل الإيمان يزيد وينقص؛ أي هل له أجزاء، أي خصال يمكن تجزئتها، أم أن الإيمان كلٌّ واحد لا يتجزأ؟ هل الإيمان يتفاضل فيه الناس كما تتفاوت مراتبه عند الشخص الواحد؟ هل تأتي قوة الإيمان وضعفه من الإيمان أم من البواعث والغايات؟ هل هناك فروقٌ فردية طبيعية أو مكتسَبة، جِبلية أم تربوية، وراء التفاوت في الإيمان والأعمال؟ وفي أي مظهر من الإيمان يقع التفاوت في المعرفة أو التصديق أو الإقرار أو العمل؟ وهل يؤدي التفاوت في المعارف إلى تفاوت في الأعمال؟ هل يؤدي التفاضل في التصديق إلى تفاضل في الأعمال؟ هل هناك تفاضل في الإقرار مثل تفاضل المعرفة والتصديق؟ وكل هذا الأسئلة التي تُثار في الإيمان تُثار أيضًا في الكفر، وكأن المسألة ليست في الإيمان أو الكفر، بل في الشعور ذاته يوجبه الإيمان والكفر، الإيجاب والسلب.