وبعد قتل الإمام بدأ الخلاف حول الإمامة لحد الاقتتال بالسيف بين أنصار
الإمام الجديد وأتباع الإمام المقتول، وبدل أن تخفَّ الواقعة الأولى زادت
تعقيدًا بالواقعة الثانية.
٨ وتظهر الأحكام الثلاثة على الواقعة الجديدة، وهي الإيمان
والكفر والفسوق؛ فالإمام الجديد مُصيب في حروبه، في وقعتَي الجمل وصفين،
ومُحاربوه مُخطئون. ويتراوح خطأ قاتليه بين الفكر والفسوق والبغي والخطأ،
وذلك يستوجب التوبة والرجوع إلى الحق والتسليم له. وتظل الإمامة للإمام
الجديد دون مُنازعيه على الإمامة ومُقاتليه عليها.
وقد يُتلمَّس لمُقاتلي الإمام الجديد العذر بأنه أخطأ في التحليل وإن كان
على نيةٍ طيبة؛ فالقصد هو الصلاح، وليس الأمر إيمانًا أو كفرًا أو فسوقًا
بقدر ما هو خطأ في الاجتهاد. وهو أمرٌ فرعي وليس أمرًا أصوليًّا، موضوعٌ
فقهي وليس موضوعًا عقائديًّا.
٩ لكن قد يتم تكفير كل من قاتل الإمام الشرعي الجديد، وتكفير كل
من خالفه، سواء كان الكفر خالصًا أو شركًا، مغفورًا أو غير مغفور.
١٠ وبعد تكفير المُخالفين يتم الرجوع إلى الوراء تدريجيًّا حتى
يتم تكفير كل الأئمة السابقين، بل قد يبلغ الأمر تكفير الإمام نفسه إن لم
يُحارب مُخالفيه، ويكون مرتدًّا عن الدين!
١١
وقد يكون الإمام الجديد قد أخطأ نسبيًّا أو كليًّا؛ فهو وإن كان قد أصاب
في قتال مُخالفيه إلا أنه أخطأ أنصاره الخارجين عليه، وكان يمكنه أن يكون
أكثر رفقًا بهم، ولكن بوجهٍ عام كانت الحرب مفروضة عليه.
١٢ أما قلب الآية وتخطئة الإمام الجديد وتصويب مُقاتليه فيصعب
فهمه. وإن طلب القصاص من قتَلة الإمام السابق هو تحويل للقضية العامة إلى
قضيةٍ خاصة، ورد مصلحة الأمة إلى مجرد قصاص. والحقيقة أن تخطئة الإمام
الجديد إنما كان مَطمعًا في السلطة مع أخذ القصاص من قتَلة الإمام السابق
ذريعة وستارًا، وهو ما عُرف في التاريخ باسم «قميص عثمان»، وفي وقت الفتنة
والشقاق، كأن موضوع القصاص أخفُّ وطأة من وحدة الأمة. ولما كان القصاص يتم
بالإمام فإن قوة الإمام ووحدة الأمة وراءه تكون دافعًا لتنفيذ الحد، وإلا
كان الإمام أضعف من خصومه، وكان خصومه أقوى منه.
١٣ أما الاختيار الثالث، وهو القول بفسق مرتكب الكبيرة، فإنه
احتمالٌ نظري أيضًا، وليس خروجًا على الإجماع؛ لأنه لم ينعقد إجماع على
مرتكب الكبيرة والواقع التاريخي، وكانت الأمة منقسمة إلى قسمين، ومختلفة في
حكمين، الإيمان والكفر.
١٤ ففي النزاع بين الإمام وخصومه أحدهما، دون تحديد أيهما، فاسق.
والحقيقة أن هذه حيطة تجعل الإمام الشرعي وخصومه الذين يُنازعونه الشرعية
على المستوى نفسه، كما أنها تجعل الإمام الشرعي موضع احتمال في الفسق، كما
أن عدم التعيين هو موقفٌ نظري صرف وليس موقفًا عمليًّا، وكأن السياسة علمٌ
رياضي لا يتطلب موقفًا أو حكمًا. ولما تلاعن الفريقان وأقسم أحدهما على
تكذيب الآخر لا بد أن تسقط شهادتهما؛ فإذا لم يكن الحل الوسط رياضيًّا،
وكان أقرب إلى هذا الطرف أو ذاك، فيمكن أن تصح توبة خصوم الإمام لأنهم من
أهل بدر؛ أي ذنوبهم مغفورة نظرًا لقتالهم من أجل نصرة الحق أولًا، فكان
جزاؤهم الجنة. كما أنه لا يصح ذم الصحابة أو ذكرهم بسوء. وقد يمتد الأمر
إلى جعل الجميع مغفوري الذنوب مقبولي التوبة بما فيهم الإمام؛ وبالتالي
يوضع الإمام من جديد على المستوى نفسه مع خصومه؛ لذلك يمكن تولِّي كل فريق
على انفراد دون ضرب أحدهما بالآخر، إيقادًا لنار الفتنة، وضربًا للمؤمنين
بعضهم بالبعض الآخر.
١٥ ويمكن التمييز بين النيات، فإن كانت الحرب للسلطة والسياق
عليها فصاحبها فاسق، وإن كانت بغية المصالحة بين المؤمنين فصاحبها على حق.
١٦ ويمكن التوقف مع عدم البراءة من الإمام الشرعي، والبراءة من خصومه.
١٧ وقد يكفر الجميع يأسًا من الوصول، وزهقًا من البحث عن حقٍّ
تسيل منه الدماء، وتتطاير فيه الرقاب.
١٨ وفي مقابل ذلك قد يصوب الجميع، سواء كان زهقًا من التكفير
وحقنًا للدماء بصرف النظر عن عدم الاكتفاء النظري، أو كان عن اجتهاد؛
فللمُخطئ أجر، وللمُصيب أجران. والإمام اجتهد وأصاب، ومُقاتلوه اجتهدوا
وأخطئوا. وهذا يفترض حسن النية عند الإمام بخصومه، ويستبعد نزاع الخصوم على
السلطة ورغبتهم في انتزاعها منه.
١٩ وقد يكون المُصيب هو القاعد عن الفتنة والمُنعزل عن الفريقين
المُتخاصمين، حقنًا للدماء وإطفاءً للنار، بالرغم مما في ذلك من تقاعس عن
نصرة الحق وعدم مقاومة الباطل.
٢٠ وقد يسلم القادة ويهلك الأتباع؛ وذلك لأن القادة مجتهدون في
الرأي ومسئولون عن أفعالهم، في حين أن الأتباع مُقلدون لم يُعملوا الرأي
ولم يجتهدوا، بالإضافة إلى أنهم أعملوا سيوفهم في رقاب المسلمين.
٢١ وحلًّا للأمر كله بما في ذلك التوقف عن الحكم، قد تُنكَر
الواقعة التاريخية كلها كما أُنكرَ من قبلُ مَقتل الإمام السابق، أو
استبشاعًا للأمر.
٢٢ إن كل هذه الحلول الوسط تمحي التقابل بين الحق والباطل، وتضع
الاثنين على نفس المستوى. إن كان يبغي المصالحة العامة فهو حق دون استسلام
للباطل، وإن كان يبغي تقوية الباطل وإضعاف الحق فهو أقرب إلى الباطل منه
إلى الحق، ونصرة لخصوم الإمام على الإمام.
٢٣