تجوهر الأجسام
(١) تعريفات تمهيدية
ننظر إذن فيما كان الفلاسفة الإسلاميون يسمون بالعلم الطبيعي أخذًا عن اليونان، وما نسميه بالفلسفة الطبيعية تبعًا للتمييز الواجب التزامه في العصر الحديث بين الفلسفة والعلم، فإن مفهوم العلم الآن أنه معرفة الأجسام بتحليلها إلى أجزائها المدركة بالحواس، ووصف تركيب هذه الأجزاء بعضها مع بعض، وتعيين قوانين الظواهر كما يبدو للحواس كذلك، أعني تبعًا للملاحظة والاختبار، وترتيب القوانين من الأخص إلى الأعم، حتى نصل إلى أعم القوانين، إن لم نصل إلى قانون واحد شامل؛ بينما دأب العقل أن يتغلغل إلى أعمق ما تبلغ إليه المعرفة الحسية؛ فإذا ما عرض للطبيعة حاول أن يستكشف «المبادئ الذاتية والأولية» المكونة للجسم الطبيعي. ونعني بالمبادئ الذاتية تلك التي هي عين الماهية وليست زائدة عليها؛ ونعني بالمبادئ الأولية تلك التي هي سابقة على حلول الأعراض ورابطة بين الأعراض والماهية، وما هي إلا مبادئ الماهية.
فبحثنا يدور على ماهية الجسم الطبيعي بالإجمال، أو مطلق الجسم، حتى ليشمل الحي ولا يقتصر على الجماد، فلا يعرض لماهية هذا الجسم أو ذاك بالخصوص به؛ وإذا عرضنا لطائفة معينة من الأجسام، كالنبات أو الحيوان أو الإنسان، بحثنا عن أعم مقوماتها المميزة لجميع أفرادها، تاركين للعلوم الطبيعية ما كان أقل خصوصًا، أقل شمولًا، معلومًا بمناهجها التي أشرنا إليها.
وقبل البحث الموضوعي التقريري، لعلنا نمهد لموضوعنا ونعبد الطريق أمامه بشرح معاني لفظ «الطبيعة» اتباعًا لوصية المناطقة بالابتداء بالتعريف اللفظي أو الرسم، والتثنية بالتعريف الحقيقي أو الحد؛ لا سيما ولفظ «الطبيعة» لفظ مشترك يطلق على مدلولات مختلفة، ويشترك مع لفظ «الكون» في أحد مدلولاته، وبذلك لا تختلط الألفاظ بعضها ببعض، فلا تختلط الأفكار.
وبهذا المعنى يطلق لفظ «الكون»، ثم له مدلول أخص بالنسبة إلى كل واحد من الموجودات، فإن لكل موجود ماهيته، وقد جرى الاصطلاح العربي بإطلاق لفظ الكون على ما يحدث دفعة، كانقلاب الماء هواءً بالتسخين، فإذا كان على التدريج فهو «الحركة». وعنوان هذا الفصل «تجوهر الأجسام» وارد كعنوان للفصل الأول من كتاب النجاة، أعني التكون وصيرورة الشيء جوهرًا.
(٢) المذهب الآلي
لقد وجد هذا المذهب فعلًا. فمنذ العهد الأول للفلسفة اليونانية، في القرن السادس قبل الميلاد، قال طاليس: إن المادة الأولى التي صنعت منها مختلف الأجسام، هي الماء؛ تتكاثف فيصير ترابًا، ويتخلخل فيصير هواءً، ويتخلخل الهواء فيصير نارًا. وقال انكسمانس: بل هي الهواء، يتكاثف ويتخلخل. وقال هرقليطس: بل هي النار تتخلخل فتصير هواءً فماءً فترابًا، فكل منهم عين مادة أولى، وادعى أن القوى الأخرى تحصل عنها، وأن الأجسام تحصل عن هذه القوى.
ثم تقدم المذهب خطوة حاسمة بفضل ديموقريطس: فقد اعتبر تلك الأصول الأربعة فروعًا للمادة البحتة المجردة عن كل تعيين، الشبيهة بتلك التي نتصورها في العلم الرياضي حين نفكر في النقطة والخط والجسم، أي: امتدادًا وحسب؛ وارتأى أن هذا الامتداد مؤلف من أجزاء غاية في الصغر حتى لا تدرك بالحواس، ولا تقسَّم إلى أصغر منها؛ تتحرك في الفضاء وتتقابل على أنحاء لا تحصى، فتأتلف في مجاميع هي الأجسام المنظورة الملموسة، وتفترق بفعل الحركة أيضًا فتنحل تلك الأجسام ليتكون غيرها، وهكذا. واختلاف الأجسام في خصائصها يرجع إلى اختلاف تلك الجواهر أو الذرات المؤلفة لها عددًا وشكلًا ومقدارًا وترتيبًا بعضها من بعض. وبهذا الوصف صار المذهب أقرب إلى التمام، بل تامًّا، يمضي من البسيط غير المعين إلى المركب فالأكثر تركيبًا، بينما الماء أو الهواء أو النار تعينات لا يدل على أصلها، فكأنها موضوعة وضعًا.
وعند الكثيرين تعد هذه النظرية الفصل الأول من فصول المذهب المادي المدعوِّ في هذا المبحث بالمذهب الآلي؛ لتصوره الجسم الطبيعي على مثال آلة من الآلات الصناعية، وتصوره جملة الطبيعة آلة كبرى، أي: مركَّبة من أجزاء متجاورة ومتفاعلة بالحركة فقط دون أية قوة ذاتية، بل وتيرة أحداثها متعينة بوتيرة سوابقها، كما هو الحال في أفعال الآلة. والمادة هاهنا مستكفية بنفسها مستغنية عن خالق يوجدها ويطبعها بقوانينها، بل عن «صانع» يصور مادة مستقلة عنه في الوجود سابقة على تصويره الجزئيات وتنظيمها. وإذا سألناهم عن أصل المادة والحركة، أجابوا: إن المادة هي الأصل، وإن الحركة ملازمة لها، فلا يسأل عن أصلها. وتلك هي المبادئ العليا التي يصدر عنها الماديون في سائر المسائل؛ وهكذا فهم ديموقريطس وأبيقور ولوقريس، أئمة المذهب في العصر القديم، وهكذا فهم ويفهم كثيرون.
على أن هذه النظرية لا تحتم الإلحاد، بل تحتمل الاعتقاد بخالق الطبيعة. اصطنعها المتكلمون الإسلاميون ولم يجدوا فيها غضاضة على إيمانهم، واصطنعها ديكارت، فجعل محل المادة في مذهبه بعد محل الله، مرجعًا إلى الله وجود المادة والقوانين الطبيعية؛ وميَّز بين المادة والنفس تمييزًا دقيقًا مستثنيًا النفس الإنسانية من الوجهتين العقلية والروحية، فوزَّع الطبيعة إلى مملكتين: مملكة المادة ومملكة الروح. وتابعه جساندي فأضاف إلى مذهبه الآلي مذهبًا روحيًّا يقول بالله والنفس الناطقة، اعتمادًا منه على أن نظام العالم يمنع من الاعتقاد بأنه وليد حركات اتفاقية، وأن الأخلاق والدين تقضي بأن يوجد في الإنسان نفس روحية عاقلة حرة. وسواءٌ أكانت الآلية الجزئية تتفادى ما يستحقه إلحاد الآلية الكلية من انتقادات، فإنها تستهدف لنفس الانتقادات من جراء مخالفتهما للواقع وللعقل في تفسير الجسم الطبيعي.
(٣) تفنيد المذهب الآلي
أول ما يستلفت أنظارنا ونحن نفتحها على الطبيعة، تنوع موجوداتها بخصائص ثابتة لكل منها، مطَّردة على مر الزمان. ومحال أن تكون الخصائص وأن يكون ثباتها لكل فرد، نتيجة الذرات مجتمعة أو مفترقة، متزايدة أو متناقصة، ولا نتيجة اختلافها عددًا وترتيبًا، سواءٌ أكانت متشابهة أو كانت متباينة؛ إذ من البديهي أن الأجزاء المتشابهة لا يحدث عنها مركبات متباينة، ومن البديهي أن الاختلافات العرضية، كتلك التي يلح فيها الآليون، لا يحدث عنها اختلاف بالماهية. والتباين بالماهية بادٍ لأول وهلة، ليس فقط في الأجناس الكبرى من جماد ونبات وحيوان، بل في داخل كل جنس، وذلك باختلاف الخصائص والوظائف والكيفيات الفيزيقية والكيميائية، فضلًا عن الأشكال الظاهرية.
والأمر واحد بالنسبة إلى الذرات المتباينة الماهية التي يضطر العلماء إلى الاعتراف بها، فإنها هي أيضًا حين تأتلف يحدث عن ائتلافها مركبات مباينة لها بالماهية، كحدوث الماء عن ائتلاف الهيدروجين والأوكسجين، أو جسم النبات والحيوان من غذائهما المختلف عنهما. ونحن عاجزون عن تعرف خصائص نبات ما من العناصر المركبة له. وإذا سألنا الآليين عن أصل التباين بين العناصر؛ لم نظفر منهم بجواب أصلًا. وليس يلوح أن أملهم سيتحقق في تحليلها إلى ذرات متشابهة، وإن كانوا يبدون مطمئنين إلى أن كل ما هنالك هو أنهم لم يوفقوا بعد إلى هذا التحليل.
ومحال أن تكون تغيرات الأجسام وظواهرها وليدة حركة الذرات، المعقول أن ينتج عن الحركة اختلاف في حجم الأجسام، وفي قوة الحركة نفسها ليس غير؛ أما الاختلاف بالخصائص والماهية فهو من أصل آخر؛ وإذا كان ترتيب الحركات والهيئات يفسر اختفاء خصائص العناصر في ائتلافها، فإنها لا تفسر ظهور الخصائص الجديدة بتكون المركب الجديد، والحركة لا تنتقل من جسم إلى آخر كما يتوهم الآليون، إذ لا حركة إلا في متحرك، فإذا قلنا بالانتقال دون متحرك افترضنا الحركة شيئًا أو جوهرًا أثناء الانتقال، وهي عرض بالطبع، مفتقرة إلى ما يحملها ويمر بها من مكان إلى آخر. ونكرر القول: إن الاختلاف بالعرض لا يُنتج اختلافًا بالذات.
وإذا نظرنا في كل ذرة على حيالها وجدناها واحدة بوحدة حقيقية، وليست المادة سببًا للوحدة، ولكنها على العكس سبب للتفرق والتعدد بانقسامها أجزاءً؛ فإذا كانت الذرة غير منقسمة مع امتدادها فليس ذلك راجعًا إلى المادة، بل إلى مبدأ آخر سنفحص عنه بعد هنيهة. لكن الآليين يتصورون الجسم الطبيعي على مثال الجسم الصناعي فيسلبونه وحدته؛ وهذه الوحدة بينة في المركبات الجمادية، وأبين منها في الكائنات الحية. وفي الطائفتين جميعًا يصدر الفعل والانفعال عن الكائن بكليَّته كوحدة غير منقسمة، بينما الفعل والانفعال في الجسم الصناعي يصدر كل منهما عن جزء فقط. كما نشاهد في أجزاء أية آلة من آلاتنا. انظر إلى المادة المتبلورة كيف تتخذ شكلًا هندسيًّا معينًا بعد عدم التعيين، وكيف تجبر ما يصيبها من كسر: أليس هذا دليلًا على وجود مبدأ غير المادة البحتة، كما أن انتقال الجسم الحي من عدم التعيين إلى تصوير شخص من نوع معين بوظائفه وأعضائه دليل على وجود مبدأ مغاير للمادة البحتة؟
والمذهب الآلي لا يفسر اطراد الأنواع الجمادية والحية، وسيرها على قوانين معينة، فإن المادة الصرف والحركة ذاتها لا تقتضيان نوعًا دون آخر أو قانونًا دون آخر، إلا أن يكون في الجسم الطبيعي مبدأ ذاتيٌّ يعين نوعه وخصائصه، ويستخدم المادة والحركة تبعًا لمقتضيات ماهيته. ولكن المذهب الآلي ينكر مثل هذا المبدأ، ويريد أن يعلل خصائص الموجود بنظام تركيبه، كأن نظام التركيب نفسه غير مفتقر إلى تعليل. محال أن نرد إلى المصادفة اتساق الكائن الطبيعي مرة واحدة، فأمعن من ذلك في الإحالة عودة الاتساق في كل مرة.
ومن الأدلة القاطعة على وحدة الذرة: وزنها النوعي، وألفتها الكيميائية، وما يتبع هذه الألفة من تغير جوهري. الوزن النوعي خاص بكل ذرة، ثابت لها، والذرات متفاوتة في المقدار، ومع ذلك هي غير منقسمة من جهة ما هي ماهية معينة، وإذا انقسمت مادتها تغيرت هذه الماهية، فلو كانت الأجسام امتدادًا وحسب لانقسمت دون أن يعتريها تغير، إن ذرة الزئبق تزن مائة ضعف وزن ذرة الهيدروجين، فلم كان كلاهما غير منقسم؟
والألفة الكيميائية آية من آيات الغائية الباطنة المركوزة في الكائن نفسه، فإن لكل عنصر ميلًا خاصًّا إلى عنصر آخر أو عناصر أخرى معينة دون غيرها. والعناصر المتآلفة قابلة للامتزاج بحيث يتكوَّن منها جسم جديد بكافة خصائصه. وهذا الامتزاج لا يحدث اتفاقًا كما تقدم، بل كأنه نتيجة ميل واختيار، إن جاز هذا التعبير بخصوص الموجودات غير الحاسة غير المختارة، بخلاف الحال في «الخليط» حيث يجتمع من الأشياء ما نشاء ويحتفظ كل منها بوجوده وطبيعته، كالماء والخمر، أو العسل والطحينة، يختلطان فيؤلفان شيئًا وسطًا نستشعر فيه كلًّا منهما بالآخر، على حين أن «المزاج» متجانس لا أثر فيه لأصوله الممتزجة، مثلما كل جزء من الماء هو ماء. فالخليط من باب الطبيعة، والمزاج من باب الكيمياء. أليس يستحق هذا الفرق تفسيرًا غير ذلك الذي يعرضه الآليون باعتمادهم على ترتيب الذرات بعضها من بعض؟ لو كانت المادة امتدادًا وحسب لعاد كل امتزاج خلطًا، ولم يكن هناك مزاج أصلًا.
تلك بعض الاعتراضات التي توجه للمذهب الآلي. وسنعقبها بأخرى، خصوصًا حين نبحث في الكائنات الحية ووظائفها النامية والحاسة والناطقة، فما من مسألة من المسائل الفلسفية إلا وله دخل فيها، وأشياعه يعدونه مذهبًا عامًّا في الطبيعة عامة. على أنا نريد أن نبدي هنا ملاحظة تنصفه وتحدد وجه معارضتنا له، فلا يتهمنا أحد بالتجني عليه؛ ذلك أنه إن كان خاطئًا في تكوين المادة، كما ندعي، فقد يمكن اعتباره مطابقًا للواقع من حيث وصف الكائنات ووصف «أعضائها» التي تفعل بها، ووصف جريان أفعالها: وهذا هو نصيب الحق في رد العلوم الطبيعية إلى المادة والحركية، وعد العلم الطبيعي الرياضي صورة للعالم، دون أن يعد هذا الرد تحقيقًا للمذهب وبرهانًا في صالحه؛ إذ إن هذه الوجهة ثانوية في الحقيقة، بينما الوجهة الأولية هي التكوين الميتافيزيقي: فالفسيولوجيون مثلًا يبنون علمهم على تكوين الأعضاء وترتيب أفعالها، وهذا جائز، بل واجب، ولكنهم يستبعدون النظر في طبيعة الحياة وغائية أفعالها، على ما سنبين فيما بعد، وهذا غير جائز؛ إذ إن مهمة الفلسفة الكشف عن العلل الأخيرة والأصول الأولى. وهكذا نقول في كل طائفة من العلماء تنتهج هذا المنهج؛ والوجهة الأولية هي التكوين الميتافيزيقي؛ فنقدنا له هو من هذه الوجهة، أي: باعتباره المذهب المادي المنكر للماهيات والمستعيض عنها بتركيب أجزاء مادية تركيبًا عرضيًّا. إن القضية التي ندافع عنها هي أن المادة تنتظم من «طابقين»: أحدهما سفلي هو الآلية، والآخر أعلى، وهو الغائية.
(٤) المذهب الهليومورفي
خلص لنا مما تقدم دعويان ضد الآلية، وهما على جانب كبير من الأهمية، ولو أن التجربة تظهرنا عليهما في كل وقت، ولكن الفلاسفة الذين يرتابون في البديهيات كثير، فلا نجد بدًّا من السعي وراءهم وتبرير البديهيات بقدر ما يسمح المقام، والبديهيات لا تبرر. إحدى الدعويين وجود كائنات مختلفة بالنوع، والأخرى وجود تغيرات جوهرية. الدعوى الأولى يَلزم منها أن الكائنات تتشابه من وجه، هو وجه المادة والكمية، وتتخالف من وجه، هو وجه الماهية. وعلى ذلك فكل جسم هو مركب. وهذه النتيجة عينها تلزم من الدعوى الثانية: فإن الكائن المتغير لا يمكن أن يكون بسيطًا، ومعنى التغير أن شيئًا منه باقٍ، وأن شيئًا منه تغير، وإلا لم يكن الحال تغيرًا، بل كان إعدام كائن وخلق كائن، أي: إرجاع التغير إلى القدرة الإلهية، وسلب الفعل والعلية من المخلوقات، والآليون متفقون معنا في نبذ هذا الرأي وقد فندناه في كتاب «العقل والوجود». فالتغير الجوهري يقتضي موضوعًا باقيًا، ومبدأً يتم التغير بظهوره في الموضوع أو اختفائه منه.
لأجل فهم هذه النظرية على حقيقتها يجب الاحتراز من بعض التخيلات التي تتبادر إلى الذهن وتفسد فهمنا: يجب الاحتراز من تصور الصورة كأنها الشكل الخارجي بأقطاره الثلاثة، كما قد يوهم هذا اللفظ حين يسمعه المبتدئ في الفلسفة: الشكل عرض، والصورة المقصودة هنا تعين المادة الأولى، وتجلب لها جميع الخصائص والأعراض. والصورة هي «الفعل الأول للهيولي» أي: ما يعينها أولًا، تتحد بها وتكون معها جسمًا معينًا.
فالهيولي والصورة النوعية جزءان متكاملان، فلا توجد إحداهما دون الأخرى. فيجب النظر إليهما في المركب حيث تؤدي الهيولي مهمة الموضوع أو المحل، وتؤدي الصورة مهمة الماهية المعينة كل منهما جوهر ناقص في ذاته، مفتقر للآخر في الوجود والفعل، واتحادهما أولي لا يسبقه اتحاد، وهذا هو السبب في أنهما يؤلفان هيئة واحدة تامة. وفعل الجسم الطبيعي ليس من الهيولي وحدها، ولا من الصورة وحدها، ولا من الاثنتين متجاورتين متعاونتين، بل من المركب منهما تركيبًا أوليًّا، ومن ثمة جوهريًّا. ولفكرة الجوهر الناقص أهمية كبرى في تعيين نوع اتحاد النفس الإنسانية بالجسد، فإن القائلين بالهيولي والصورة على الوجه المتقدم، وبروحانية النفس وبقائها بعد الموت، يجدون أمامهم مسألة عسيرة هي: هل النفس الإنسانية صورة جسم فتفنى بفنائه؟ أم هي جوهر روحاني لا يتحد بالمادة اتحادًا حقيقيًّا؟ سنعود إذن إلى هذه المسألة حين نبحث في ماهية نفس الإنسان، ولعل هذا المبحث المعين يزيد المسألة وضوحًا.
ويجب الاحتراز من تصور العناصر المكونة للمركب الطبيعي باقية فيه بالفعل، أي على حيالها كما تكون خارج المركب. ذلك وهم الآليين وتصوير الخيال، ولكنا رأينا أن المركب هو من طبيعة مختلفة اختلافًا جوهريًّا عن عناصره، فلا نستطيع أن نفهم اختلاف نوع المركب مع بقاء عناصره بالفعل، كما نفهم الخليط. فالواجب أن نعتقد أن العناصر «كامنة» في المركب، باقية فيه بالقوة، كوجود النبتة في البذرة، ثم تبين بالفعل، أي بخصائصها وأفعالها، عند انحلال التركيب. لكن الآليين مضطرون من قبل مذهبهم الحسي إلى تخيل الأشياء وجحد ما لا يتخيل، فلا يحاولون تعقل الأشياء بمبادئها؛ و«القوة» لا تتخيل، فيأبون أن يجعلوا لها محلًّا من تفكيرهم، فيصلون إلى تلك النتائج غير حافلين بمناقضتها للعقل والتجربة جميعًا.
(٥) المذهب الدينامي
للمذهب الدينامي صورتان: الأولى نشأت في العصر القديم، وهي ساذجة غير ذات خطر، والثانية ابتدعها ليبنتز، وهي أدق وأعسر، وهي المقصودة عادة. فأوائل الفلاسفة اليونان، أولئك الذين عينوا عنصرًا من العناصر الأربعة مادة أولى للموجودات الطبيعية، اعتَقَد كل منهم أن العنصر الذي عينه حاصل على قوة باطنة متحرك بها؛ فدُعوا بأصحاب المادة الحية؛ وأنبا دوقليس الذي اعتبر العناصر منفعلة وحسب، افترض لتعليل الحركة قوتين كونيتين دل باسميهما، وهما المحبة والكراهية، على نوع عليتهما: المحبة تجمع بين العناصر، والكراهية تفرق بينها؛ ثم جاء الرواقيون وقالوا: إن العالم حيوان كبير حاصل على نفس وعلى قوة ذاتية أو حياة. فعندهم جميعًا أن الحركة صادرة عن الأجسام أنفسها، إما مباشرةً وتبعًا لطبيعتها، وإما بصفة غير مباشرة، أي: بعلة متمايزة منها كالمحبة والكراهية والنفس العالمية، خلافًا للآليين الذين يعتبرون الحركة عرضًا ظاهريًّا لا يقتضي منهم علة معروفة، ولا يمس ذات الأجسام، بل يمر من جسم إلى جسم، إلى غير نهاية.
ومن وجهة المادة تبدَّى لليبنتز أن الجوهر الفرد أو الذرة كما تصورها ديموقريطس وسائر تابعيه، لا يمكن وحدة بمعنى الكلمة، أي: جوهرًا حقًّا، فإن كل جسم، مهما افترضناه صغيرًا، فهو ممتد، وكل امتداد فهو منقسم إلى غير نهاية، أي إنه مجموع جواهر، وإذن فالمادة كثرة بحتة، ولو لم يسعفنا التحليل الفعلي في استنفاد أجزائها، والأجسام «وحدات قوية»، وليس من وحدة حقة إلا وحدة الموجود اللا مادي، البسيط غير المنقسم، فما يبدو لنا جسمًا طبيعيًّا هو في الحقيقة وحدة لا مادية، وما يبدو مكانًا أو مسافة هو في الحقيقة مجرد تصور.
وواضح أن هذا المذهب الجاحد للامتداد والحركة لا يصلح تفسيرًا للطبيعة الممتدة، المتحركة، وإنما هو قاضٍ على العلم الطبيعي كما قضى عليه بارمنيدس بقوله: إن العالم واحد ساكن؛ وتابعوه من العلماء المعاصرين المؤلفون الأجسام من «مراكز طاقة» كما يقولون، ينضمون للآليين، ويزيدون عليهم خطأً جسيمًا هو اعتبار الطبيعة بما فيها وهمًا من الأوهام كما يوحي بذلك المذهب التصوري. إنهم يؤلفون المادة من الطاقة التي لا امتداد لها، ومتى كانت الطاقة واحدة بالنوع، أصبحت كالحركة عند الآليين، ولم تصلح لتفسير تنوع الأجسام وخصائصها وأفعالها. وفيما يلي اعتراضات خاصة فوق هذا الاعتراض العام، وإتمام لتنفيذ المذهب الآلي.
(٦) كمية الأجسام الطبيعية أو تفنيد المذهب الدينامي
لكل جسم مقدار أو كمية. والكمية هي العرض المادي للجوهر الجسمي بأجزاء ممتدة ومتقارنة. وهي العرض الأول في الجسم: لا الأول زمانًا، فإن الجسم ممتد طبعًا، بل الأول رتبة، إذ بوساطته يحمل الجوهر باقي الأعراض. هي عرض، وليست جوهر الجسم كما يعتقد الآليون، فإن لكل جسم ماهية تختلف عن كميته، ولا يمكن أن يكون تفاوت مقدار المادة العلة الوحيدة الكافية لتنوع الأجسام تنوعًا بالماهية. أجل إن في الجماد اقتضاءً لكمية معينة من المادة لتقوِّم الذرة والجزيء والبلور، كما أسلفنا، ولكن هذا شرط فقط لقوام الجوهر وفعله وظهور خصائصه. ويبدو ذلك بشكل أوضح في الكائنات الحية، حيث تختلف الكمية دون مساس بالماهية. الجسم الرياضي يحدث بمحض الامتداد، ويعرَّف بالأبعاد الثلاثة؛ أما الجسم الطبيعي فهو مبدأ فعل وانفعال، وما الكمية فيه سوى شرط لازم للتقوم والفعل. والآليون يخلطون بين هذين النوعين، أي إنهم يفكرون بالمخيِّلة لا بالعقل، ويأخذون الجسم الرياضي مثالًا لمطلق الجسم تفاديًا للقول بالماهية في الجسم الطبيعي. ولِمَ لا ننهج هنا منهج ديكارت نفسه في تمييزه بين النفس والجسد، فنقول: ما دمنا نتصور بوضوح الأبعاد دون الجوهر، فإن الشيئين متمايزان؟
عن الكمية يلزم المكان، وله شأن كبير في الفلسفة القديمة وشأن أكبر في الفلسفة الحديثة، كما ذكرنا في كتاب «العقل والوجود». المكان خاص ومشترك: المكان الخاص هو الحيز الذي يشغله الجسم بمقداره؛ والمكان المشترك هو الحيز الذي تشغله جملة أجسام، وحيثما توجد أجسام يوجد مكان، وحيثما لا توجد أجسام لا يوجد مكان. ولكن الآليين المفكرين بالمخيلة كما قلنا، يطاوعونها في تخيلها المكان شيئًا عينيًّا ممتدًّا إلى ما لا نهاية، كما تخيل ديموقريطس وأبيقور، وديكارت وجساندي، ونيوتن وكلارك، والحقيقة أن ليس للمكان من وجود إلا بوجود جسم، فنتصور الخير المشغول بالجسم كأنه شيء عيني. ولسنا نريد أن نقول: إن المكان محض تصور، ما ارتأى ليبنتز وكنط وأتباعهما من التصوريين، من حيث إن الأجسام الشاغلة له هي موجودات عينية حاصلة بالطبع على كمية.
فلا يبقى إلا أن نستنتج مما تقدم أن المكان موجود ذهني له أساس في الواقع، أي في طبيعة الأشياء؛ مثل الإنسانية والحيوانية وما إليهما. نقول: إنه موجود ذهني، فإننا لا نجد مطلقًا أبعادًا ثلاثة هي مطلق محل لقبول الأجسام متمايزة منها وقابلة لمفارقتها، ونقول: إن له أساسًا في طبيعة الأساس، فإن الأبعاد الثلاثة المتصورة محلًّا كليًّا عامًّا هي محاكاة للأبعاد الثلاثة في الأجسام التي نراها منطوية بعضها على بعض ومحلًّا بعضها لبعض.
وليست الأجسام مركبة من ذرات منفصلة متجاورة فقط كما يتصور الآليون، ولكنها متصلة، ولا يمنع اتصالها ما فيها من مسام، فإن الذرات (أو الخلايا في الأحياء) إن لم تكن متصلة اتصالًا مطلقًا، أي من جميع جهاتها، فإنها متصلة اتصالًا نسبيًّا، أي من بعض الجهات، فلا تفسد وحدة الموجود. الوجدان يشهد شهادة واضحة لا تقبل الشك أن أعضاءنا متحدة بعضها ببعض، وأنها تكوِّن جسمًا واحدًا غير منقسم؛ فإن كل إحساس، في كل نقطة من جسمنا، محس معلوم للفور دون واسطة أو استدلال. ويشهد العقل أن أجزاء الكائن الحي تحيا كلها بالحياة الشخصية، وأن في الكائن الحي مبدءًا واحدًا حالًّا فيه، ولو كانت الأجزاء والأعضاء منفصلة لاستحالت الحياة الشخصية. والأمر واحد في الجماد ووحدته وفعله وانفعاله.
ووجه الاستحالة أن إنكار الاتصال يستلزم التسليم بأن كل فعل فهو يتم «عن بعد»، سواءٌ في كل جسم جسم، أي في الخلاء الفاصل بين الأجزاء، وبين الأجسام بعضها والبعض في الخارج. ولكن لا فعل عن بعد، أو «لا حركة في الخلاء» كما يقول الإسلاميون، فإن الذي يسلم بها مضطر للتسليم بأن المخلوق يفعل حيث لا وجود له، أو أن يزعم أنه موجود عن بعد، وكلا هاتين القضيتين متناقضة معارضة للعقل، إذ من غير الممكن فصل الفعل عن فاعله، ولا الفصل بين الفاعل وحيزه. ويتوهم البعض أن الفعل عن بعد إصدار أعرض من الفاعل إلى المنفعل في الخلاء، وليس للأعراض وجود مستقل حتى تسير هكذا، وليس الخلاء شيئًا حتى يحمل العرض أو الجوهر.
يقال: إن الجسم أو الامتداد منقسم إلى غير نهاية، وهذه عبارة متداولة لا يُغني تداولها عن شرحها. إن الجسم ينقسم إلى ما لا نهاية من الوجهة الرياضية وفي العقل فقط، أي من جهة ما هو جسم ممتد، فإن القسمة الامتداد تعطي دائمًا آحادًا ذات امتداد، لما ذكرناه من استحالة تكوُّن المركب من بسائط ووجوب قبوله للقسمة دائمًا. أما من الوجهة الواقعية، أي من حيث هو موجود متشخص فلا ينقسم إلى غير نهاية، فإن الجسم المتشخص حاصل على صورة متحدة بالمادة، فإذا قسمنا مادته غير ماهيته، وأفضينا به إلى التلاشي بصفته هذه الماهية المعينة.
فإذا ما اتجهنا صوب المذهب الدينامي المنكر لموضوعيته الامتداد، سألنا: من أين جاءنا هذا الوهم وليس فينا ولا في الأشياء امتداد؟ قلنا ونكرر القول: ليس الممتد مركبًا من غير الممتد، ومهما أضفنا البسيط إلى البسيط فلن نؤلف مادة، كما أن إضافة الأصفار إلى الأصفار لا تؤلف واحدًا، وأن النقط البسيطة — إذا تماست — لا تؤلف مركبًا، بل تحتل كلها نقطة واحدة. وحين يقول الرياضيون، أو أشباه الرياضيين، إن الخط مركب من نقط غير ممتدة، فكذلك الأجسام مركبة من مونادات، نجيب أن هذا التعبير ينقصه شيء كثير من الدقة، فليس للنقطة وجود واقعي، وليس الخط إذن مركبًا من نقط؛ وإنما الرياضيون يفترضون خطًّا حادثًا عن نقطة متحركة، ولا يحدث خط متصل إلا لوجود مكان متصل تتصل فيه الحركة فيحصل اتصال الخط. فالامتداد أو الاتصال سابق بالطبع على الحركة، وإلا لم تستطع النقطة أن تتحرك. يقول ليبنتز إن الامتداد تصور بحت ينشأ في الذهن من إدراك مونادات عدة متقارنة في الوجود، فهو «نسبة» بينها. وجوابنا عين الجواب السالف: أعني أن هذه النسبة تفترض المكان ولا توجِده، وكذلك نقول للديناميين الذين يعللون حدوث فكرة المكان بحركات جذب ودفع، أعني أنه لو لم يكن المكان موجودًا استحالت هذه الحركات.
الكمية والمكان إذن شرط الحركة، فمنكرهما منكر لها ضرورة. غير أن الديناميين لا يلتزمون بهذه الضرورة، بل يتحدثون عن الحركة بأنها الظاهرة الكبرى في الطبيعة، وأن بها تعلل سائر الظواهر، كما يتحدث الآليون، خشية أن يمتنع عليهم العلم الطبيعي، وما أقوى سحر العلم الطبيعي في العصر الحديث! وهذا افتئات صريح على المنطق، يدل على بطلان مبدئهم الذي يفضي بهم إلى هذا التناقض الظاهر. والآليون من جهتهم لا يكتفون بإثبات الحركة، بل يدفعون بمذهبهم فيها إلى أقصى حد، وذلك بما يسمونه مبدأ القصور الذاتي القائل: «إن كل جسم فهو مستمر في حاله من سكون أو حركة مستقيمة راتبة إلا أن يتأثر بجسم آخر.» ويرتبون على هذا المبدأ نتيجة خطيرة هي: إذا افترضنا جسمًا يقذف في الخلاء فإنه يستمر في حركته إلى ما لا نهاية. ويرتبون على هذه النتيجة نتيجة أخرى أعظم خطورة، وهي: أن العالم لما حركه الله مضى في الحركة دون حاجة إلى الله، فإن من شأن القصور الذاتي أن يجعل الحركة آلية، ويغني عن المحرك بعد أن كان محتاجًا إليه فقط للانتقال من حال السكون إلى حال الحركة.
ولنا على هذه النظرية ردان؛ أحدهما خاص بالأجسام الطبيعية، والآخر خاص بالله، فنقول أولًا: إن هذا المبدأ لم يستخلص من الواقع، فليس في تجربتنا خلاء صرف ننظر فيه إلى الحركة إن كانت غير متناهية، بل ما نشاهده بالفعل هو أن حركة الأجسام تسكن في جونا بسبب مقاومة الهواء. ومن جهة ثانية أن قوة التحريك محدودة — من غير شك — بقوة المحرك وبكفاية المتحرك لقبولها؛ وإذن فقوة التحريك نافذة لا محالة، ومتى نفدت سكتت حركة المتحرك لانعدام فعل المحرك. ونقول ثانيًا: إن الجسم الطبيعي محدود الكفاية، فلا يمكن أن يقال: إن العالم يقبل من الله حركة غير متناهية تغنيه عن الله؛ بل المعقول أنه يقبل تحريكًا متناهيًا، فتكون حاجته إلى المحرك، ليس فقط لتوليد الحركة، بل أيضًا إلى تجديدها واستمرارها؛ ومن غير المعقول أن يتحرك الجسم إلى ما لا نهاية بقوة متناهية.
والبحث في الحركة يؤدي إلى البحث في الزمان، فإن الزمان «عدد الحركة» أو أن الحركة قابلة للعد بحسب تعاقبها. وكثير من الفلاسفة — فضلًا عن الجمهور — تخيلوا الزمان لا متناهيًا كليًّا ضروريًّا: فاليونان منهم كافة — إذ كانوا يجهلون أو ينكرون فكرة الخلق — اعتقدوا أن المادة أزلية أبدية، فنتج لهم أن الزمان أزلي أبدي، أي: لا أول له ولا آخر؛ بعضهم قالوا بذلك انقيادًا للمخيلة، وبعضهم ادعى ثبوته عقلًا، مثل أرسطو الذي أجلَّ الله عن التنزل إلى العلم بالمادة والتأثير فيها؛ ومنهم ديكارت بعقليته الرياضية، ثم سبينوزا بمذهبه في وحدة الوجود، ثم نيوتن وكلارك، وقد بلغ الأمر بهؤلاء الثلاثة إلى جعل الزمان والمكان صفتين من الصفات الإلهية.
والحقيقة أن الزمان متناهٍ لتناهي مدة العالم وحركته، فإن العالم حالما يوجد وحالما تبدأ حركته، ينفصل عن عدم الوجود السابق بآن واحد هو آنُ وجودِه، ثم يأخذ في التحرك، فيبدأ الزمان، ولا أهمية بعد ذلك للفحص عما إذا كانت الحركة تستمر أو تنتهي ما دامت النهاية قد بانت في الأول. والحقيقة من جهة ثانية أن فكرة الزمان مكونة باشتراك العقل والتجربة: فأول إدراك للزمان هو إدراك «الزمان الذاتي»، أي الشعور بالديمومة واتصال الوجود في شخصنا، وفيما حولنا من الناس والأشياء. اتصال الوجود مدة تتعاقب فيها أفعالنا، وتبين في عاداتنا البدنية والمعنوية، وفي آفاتنا البدنية الناتجة عن الوراثة والمرض والإفراط، وفي ذكرياتنا التي تساعدنا على فهم التجربة الحاضرة واستكمالها. ومن المستحيل قياس هذه المدة قياسًا مباشرًا واقعًا على الحالات التي تملؤها؛ وذلك لأن شعورنا بها متقطع متفاوت، فقد لا نشعر بكثير منها، وقد لا نشعر بها على حد سواء، فمنها ما يهمنا ويستغرق انتباهنا فيطغى على غيره، وتبدو مدته قصيرة؛ ومنها ما يهمنا قليلًا أو كثيرًا، فيتفاوت شعورنا بمدته.
وأصغر جزء في الزمان الذاتي هو «الآن النفسي» أو مدة الظاهرة التي نوليها انتباهنا؛ ويدوم هذا الحاضر حتى تعرض ظاهرة تستغرق الانتباه فيذهب، أي يصير ماضيًا. والحاضر الواقعي يمكن أن يدوم من أربعة أخماس الثانية إلى اثنتي عشرة ثانية. وهو مدرك كأنه كلي لاستيعاب الانتباه أمورًا عدة، ولو أنه يتضمن تعاقبًا، فإن من الثواني ما يتقدم فيلحق بالماضي، ومنها ما يتأخر فينتظر في المستقبل. وبين الماضي والمستقبل ثانية حاضرة تصل هذا بذاك كنقطة غير متجزئة؛ وهي أيضًا زمان لسَيَلَانها وعدم ثباتها. وإذن فنحن نشعر بالزمان بوساطة التعاقب، ولكنه تعاقب غير منتظم.
فلجأ الإنسان إلى قياس غير مباشر باستخدام بعض الحركات الراتبة إما في جسدنا كالجوع والعطش والنوم والتعب والنبض والتنفس والمشي، وإما في الخارج كحركة الشمس والقمر والمزولة والساعة؛ وهذا النوع الثاني أدق بكثير، وبخاصة حركة الشمس، أو ما يسمى كذلك؛ إذ المقصود هنا حركة الأرض حول الشمس كما هو معلوم، فإن فصول السنة متوقفة عليها، وأيام السنة عائدة في مواعيدها من هذه الفصول؛ فحصل الإنسان بها على زمان عام لنظامنا الفلكي، ولكنه زمان نسبي؛ إذ إن نظامنا الفلكي جزء صغير من الفلك أجمع يكاد لا يذكر، وأهل العصر القديم والعصر الوسيط هم الذين كانوا يحسبونه جملة العالم، ويظنون أن المتحرك الأول هو الفلك المحيط في نظامنا البادي للعيان. وقد أبطل العلم الحديث هذا التصور باستكشافه أنظمة فلكية كثيرة، فوسع آفاقنا به، ولكنه لم يتوصل بعد إلى الإلمام بأطراف الكون وتعيين مركزه، حتى نعتبر حركة هذا المركز حركة أولى إطلاقًا، ونتخذ منها معيارًا تتقدر به سائر الحركات. فنحن لم نحصل بعد على «الزمان المطلق». ولو حصلنا عليه لما كان مطلقًا إلا بمعنى أنه زمان العالم الواقعي، وفي مقدورنا أن نتصور عالمًا أكبر أو عالمًا أصغر تختلف فيهما النقطة المركزية.
(٧) كيفيات الأجسام الطبيعية
- القسم الأول: بالنسبة إلى الشخص، ويشمل العادات؛ أو الاستعدادات والملكات، كالعلم والفضيلة والرذيلة والفن، وكل عادة أو صناعة مكتسبة، طيبة أو رديئة. فالموسيقيُّ مثلًا يوجد في عقله العلم بفنه وفي أصابع يديه عادة خادمة لذلك العلم. وانقسام العادة إلى استعداد وملكة سببه أن الاكتساب يولِّد أولًا — في النفس وفي البدن — استعدادًا قلق القرار سريع الزوال، وإذا استمر صار ملكة راسخة عسيرة الزوال. وليس يعني ثبات الملكة دوامها حتمًا، بل يعني تأصلها وصعوبة تحولها. وهما للإنسان خاصة لما يقتضيه الاكتساب من عقل يتصور غاية ويرتب الوسائل إليها ومن إرادة تصممم وتثابر، والإنسان وحده حاصل على هاتين القوتين. ثم هما للحيوان الأعم في دائرته الضيقة، وللنبات في دائرة أضيق بكثير، بدافع الظروف الطبيعية وتدخل الإنسان يروض الحيوان ويربي النبات، ولا ملكة ولا استعداد للجماد، فإنهما يفترضان عدم التعيين حتى يتعينا بالفعل، والمادة الصرف معينة غير مطاوعة لحال جديدة. فلا استعداد ولا ملكة لغير الأحياء. والذين يأبون الاعتقاد «بالقوة»؛ لأنهم لا يحسبونها، كيف يفسرون بقاء الاستعداد والملكة طوال بقائهما وتزايدهما وتناقصهما إذا لم يكونا في النفس بالقوة، والتجربة تشهد وجودهما في النفس شهادة بينة كل بيان.
- القسم الثاني: بالنسبة إلى الفعل، ويشمل القوة والعجز، أو الكفاية وعدم الكفاية. والمراد بالقوة هنا المبدأ القريب للفعل أو للممانعة إطلاقًا، لا القوة المقابلة للفعل التي أشرنا إليها الآن؛ ولفظ «إطلاقًا» يميز القوة المقابلة للعجز من الاستعداد والملكة، فإنهما هما أيضًا مبدأ فعل وممانعة، ولكنهما مبدأ فعل طيب أو رديء بينما القوة مبدأ الفعل إطلاقًا. القوة مبدأ قوى الفعل أو للممانعة، مثل قوة الإبصار في الشاب السليم الجسم؛ والعجز أو اللاقوة مبدأ ضعيف للفعل أو للممانعة، مثل قوة الإبصار في الشيخ الهرم. فليست اللاقوة عدم القوة، وليس العدم كيفية، ولكنها نقصان غير كافٍ للفعل أو للممانعة.
- القسم الثالث: بالنسبة إلى الانفعال، ويشمل الإحساسات الظاهرية الحادثة عن تأثير الأشياء في الحواس، والإحساسات الباطنية الحادثة عن تأثير في النفس، مثل حُمرة الخجل وصفرة الوجل. ومنها المفاجئة العابرة وتسمى انفعالات، والراسخة وتسمى انفعاليات، كالحمرة الناتجة عن مزاج الجسم. ويقال الآن: «كيفيات محسوسة» للموضوعات المدركة بالحواس الظاهرة، وهي على خمسة أنواع بحسب الحواس الخمس كما هو معلوم.
- القسم الرابع: بالنسبة إلى الهيئة والشكل، أي إلى ترتيب أجزاء الكمية في الشيء. ويفرقون بين الهيئة والشكل بقولهم: إن الهيئة تطلق على الطبيعيات، مثل: هيئة الإنسان وهيئة الأسد، وإن الشكل يطلق على المصنوعات. الهيئة صادرة عن الجوهر، كما نشاهد في المتبلورات وفي الأحياء؛ والشكل مفروض من الإنسان على المادة، أو من الطبيعة في تغيرها المستمر، وعلم الفراسة مؤسس على صدور الهيئة من الجوهر، بينما الشكل ترتيب خارجي فقط. فهذا القسم الرابع يشمل الهيئات والأشكال على اختلافها، فإنها تُبدي الأشياء في ترتيبات معينة.
وبعد فإن للآليين رأيًا في الكيفيات المحسوسة لازمًا من رأيهم في المادة، نذكره الآن ونرد عليه، ولو أنا عرضنا له في كتاب «العقل والوجود» إلا أنا نثبت هنا جميع وجوه التهافت في مذهبهم، فنرسم له صورة وافية تكشف عما يعتوِره من بطلان، وخلاصة ذلك الرأي قول إمامهم ديموقريطس: إنه لما كانت المادة مجرد امتداد، كان الشكل والمقدار والحركة والسكون الكيفيات الوحيدة التي تصح إضافتها للأجسام؛ بينما الضوء واللون والصوت والطعم والرائحة والحرارة انفعالات تثيرها في حواسنا حركات الأجسام تبعًا لتكوين المؤثر وخصائص الحركة وتكوين الشخص في تغيره من حال إلى حال. والطائفة الأولى من الكيفيات ملازمة للأجسام، ومن ثمة موضوعية وقد دعيت بالكيفيات الأولية؛ بينما الطائفة الثانية ذاتية للشخص المنفعل، عديمة الشبه لما يلوح في أذهاننا، وقد دعيت بالكيفيات الثانوية.
ولما بزغ عصر النهضة الحديثة، وأراد العلماء الفلاسفة — وفي طليعتهم جليليو وديكارت — تحويل العلم الطبيعي إلى علم رياضي، اصطنعوا هذا الرأي لإمكان تطبيق الرياضيات على المادة الصرف، واستحالة تطبيقها على الانفعالات النفسانية، وأرجعوا ما يسمى تغيرات كيفية إلى تغيرات كمية، أي حركات تقاس مباشرة فيقاس بها سائر الانفعالات بصفة غير مباشرة، بل يحدث بعضها عن بعض ما دامت تتفق كلها في الحركة: فكمية معينة من الحركة الميكانيكية يحدث عنها دائمًا كمية معينة من الحرارة. وهكذا في مختلف الحالات.
- فأولًا: ومن جهة المعرفة الإنسانية: تبدو الكيفيات الثانوية كأنها في الأشياء كالكيفيات الأولية سواءً بسواء، فإذا لم تكن فيها كان شعورنا باليقين باطلًا، ووجب الشك في كل يقين. ثم إن لنا حواس عدة، ولكل حاسة جهاز خاص لإدراك موضوع خاص، فكيف نفسر تغاير الأجهزة والموضوعات على هذا النحو؟ فإن قيل — كما قال فعلًا ديكارت ومالبرانش وبرجسون وغيرهم — إنها للفائدة العملية وتدبير الحياة طبقًا للعلاقة بين جسمنا وما يحيط بنا من أجسام، أجبنا: إذا كانت الفائدة لا تتحقق إلا هكذا، أليس هذا دليلًا على أن الكيفيات في أنفسها مختلفة، وأن الإدراك يقع عليها كما هي؟
- ثانيًا: ومن جهة الكيفيات: لو كانت حركات ليس غير، لاختلفت بالدرجة فقط، فأحسسناها بدرجات متفاوتة، ولم نحس ألوانًا وطعومًا وروائح عدة مختلفة. فما السبب في هذه الفوارق بينها، مع العلم بأن التغاير بالدرجة، أي بالكم لا يحدث تغايرًا بالذات، كما لاحظنا غير مرة. وما السبب في اطراد الحركات وآثارها، وليست تقتضي المادة بذاتها نسقًا معينة أو نسبة متداولة؟
- ثالثًا: ومن جهة المضاهاة بين الطائقتين من الكيفيات: إن الثانوية منها تدرك تبعًا للأولية، فبالضوء واللون وباللمس والسمع ندرك أشكال الأشياء ومقاديرها: فكيف تكون هذه ذاتية وتكون تلك موضوعية؟ ثم كيف تكون الصلابة موضوعية ويكون باقي المحسوسات الأولية ذاتيًّا، وهي جميعًا محسوسة على السواء؟ فإما أن نقبل موضوعية الصلابة ونضم إليها غيرها من المحسوسات الثانوية، وإما أن نرفض موضوعية الصلابة، ونضم إليها في الرفض غيرها من المحسوسات الأولية.
أجل إن الكيفية مصحوبة بحركة؛ أما الزعم بأنها محض حركة، فليس يمكن إثباته. الحركة أداة لنقل الكيفية — وقديمًا نبَّه أرسطو على لزومها للتغير الكيميائي المدعو استحالة — وللزيادة والنقصان في الأحياء، وهي عرض لا ينتقل بعينه، ولا يتحول إلى آخر، فإن الحركة حركة جسم، والحرارة حرارة جسم. والرأي الصواب أن لكل كيفية أثرًا محركًا نوعيًّا، أي خاصًّا بها تابعًا لنوعها، كما يظهر في الحركات المؤثرة في الحواس الخمس والمحدثة الكيفيات فيها، وهذا الأثر المحرك النوعي يتنقل كيفية في المنفعل، ويجاوب عليه المنفعل بكيفية من نفس النوع. فالحرارة لا تنتقل، ولكنها تحدث حرارة في منطقة معينة؛ والحركة لا تنتقل، ولكنها تولد في الجسم المنفعل بها قوة على التحرك، ولكن الآليين لا يفهمون توليد الحركة وانتقال «معنى الكيفية» دون الكيفية نفسها، ويريدون دائمًا الاعتماد على المخيلة بدلًا من العقل.
إلى هنا فرغنا من أعمِّ مسألة في الفلسفة الطبيعية، وهي مسألة تكوين الأجسام على العموم والعلاقة بينها وبين لواحقها. وقد رأينا أن المذهب فيها ثلاثة، ولا يمكن أن تكون سوى ثلاثة: المذهب الآلي الذي يرد الطبيعة وما فيها إلى المادة البحتة والحركة؛ والمذهب الدينامي المنكر للمادة والحركة والمستعيض عنهما بالقوة وتصور الإنسان؛ والمذهب الهيولومور في الجامع بين المادة والحركة والقوة، كلٌّ بمقدار وتمييز دقيق لما يرتبط بها. والنتائج الكبرى لنظرية الهيولي والصورة هي تفسير الشواهد العامية والعلمية على ما يقتضي العلم الصحيح، ومعقولة الطبيعيات بما فيها من صور شبيهة بالمثل الأفلاطونية، وصون المعرفة عن التصويرية والشك اللتين يؤدي إليهما إنكار المادة من جهة وإنكار القوة من جهة أخرى. وفي البقية من هذا الكتاب شواهد عديدة قوية على صوابه.