صفات الفعل الإلهي
(١) تقسيم الفعل الإلهي
طبيعة الإنسان تميل به إلى تصور الأشياء على مثاله، فتخيل إليه فعل الله على شاكلة فعلنا، صادرًا عن قوة زائدة على الذات، موزعًا إلى أفعال متمايزة؛ ذلك أن الجسم ليس مجرد آلة منفعلة طيعة، وإنما له خصائصه ومقتضياتها، فله قوة بجانب قوة النفس، يسوقها بها إلى تغليب الحس والخيال على العقل، سواءٌ في المعرفة وفي العمل. فيجب الاحتراز في الأفعال والمعارف كيلا ننقل إلى أحد المضمارين، المحسوس والمعقول، إلى المضمار الآخر، وبخاصة في العلم الألوهي، حيث الموضوع عالٍ كل العلو، دقيق غاية الدقة. وسنحاول السير خطوة خطوة، من بديهية إلى بديهية، حتى نصل إلى الحق الميسور لنا في هذه المسائل الجليلة الخطيرة.
إن أقل تأمل في ذات الله وفي مقتضياتها، يقودنا إلى أن البساطة تستتبع ضرورة ألا يكون في الله سوى فعل واحد، يشتمل على جميع الأفعال، ويتضمن جميع المفعولات. وترجع الأفعال الإلهية في اعتبارنا إلى العلم والإرادة، تلحقهما القدرة والحرية، ويلحق القدرة الخلق والعناية: كلها يتبع بعضها بعضًا، وكلها فعل واحد، ومفعولاتها هي المتنوعة، فبالطبع لا بد من النظر فيها على الترتيب المتقدم، ومن محاولة التوفيق بين الكثرة فيها وبين الوحدة الواجبة للعلة الأولى.
(٢) العلم الإلهي
بيد أن البساطة تستتبع نتيجة معارضة للنتيجة السابقة، أدنى كلفة، وأخصر بيانًا، هي التعطيل وإنكار الصفات والأفعال، فنعفي أنفسنا من تحليلها ومحاولة ردها إلى الوحدة، وهذا ما نرى له مثالًا في صفة العلم، فقد نزَّه أرسطو الله عن العلم بالموجودات ظنًّا منه أن هذا العلم يضيف إلى الله كثرة من المعلومات، والماهية الإلهية تأبى كل كثرة أشد الإباء، وإبقاءً على البساطة بدقيق معناها، وصونًا لعلوه واستقلاله، فلا يقبل معلومات من خارج، خصوصًا وأن الماهيات الخارجية أدنى من ماهيته، وزاد أفلوطين أن الله لا يعلم حتى ذاته؛ لأن هذا العلم يدخل عليه ازدواج العالم والمعلوم، وشأن الازدواج شأن الكثرة الخارجية بالتمام.
لكن أرسطو نفسه قال في موضوع آخر: إن سلب العلم عن الله يجعله بمثابة النائم، ومن ثمة أقل الموجودات حكمة وكرامة. كذلك قال: إن أساس العلم الروحانية؛ لأنها تقبل صورة المعلوم كما هي، والله روحاني، فهو عقل، ولما كان مطلق الوجود، فهو العقل بالذات. فمن حيث علم الله بذاته، لا يجوز عليه كثرة ولا ازدواج؛ وذلك لأن المخلوق يعلم بقوة زائدة على ذاته، كالحس أو العقل، فهو يعلم المعلومات واحدًا واحدًا كلما خرج من القوة إلى الفعل، والله يعلم ذاته بذاته أولًا ودائمًا لتجرده كل التجرد عن المادة العائقة للعلم لعدم تجردها، وبسبب تجرد الذات الإلهية هي معلومة أولًا ودائمًا، فيتلقى العالم والمعلوم، وهذا معنى كلمة أرسطو المشهورة: «إنَّ الله عقل العقل.» والعلم بالذات لا يسبب ازدواجًا؛ إذ إنه رجوع العارف على المعروف؛ والمعروف هنا هو الذات الإلهية نفسها التي هي في الغاية من التجرد والبساطة.
والرد على سلب العلم بالكثرة عن الله، شبيه بالرد السابق: فإن الموجودات محاكيات للذات الإلهية، والعلم بالذات علم بها في نفس الوقت وفي وحدة الذات. والذين يسلبون عن الله العلم بالموجودات يظنون أن هذا العلم هو بالنسبة إلى الله كعلمنا بالنسبة إلينا. وقد قلنا الآن: إن الله لا يعلم بقوة زائدة على ذاته، تخرج إلى الفعل ونعد أفعالها، وإنما هو يعلم ذاته، ويعلم في ذاته بكل ما سواه بحسب وجود ما سواه فيها، أي في وحدة وبساطة.
يضاف إلى ما تقدم أن علم الله بالأشياء علم العلة لمعلولاتها، لا معرفة أشياء مغايرة للعارف وجودًا وماهية؛ لذا نعجب لوقوف ابن سينا عند صعوبة لا محل لها إلا في نظام للمعرفة سارٍ على المخلوق لا على الخالق: هذه الصعوبة في أن معرفة الماديات هي معرفة حسية، وأن ليس لله حواس ظاهرة ولا مخيلة يعلمها بها. وقد أبَنَّا أن الله يعلم الأشياء باعتباره علتها، أي علة وجودها بماهيتها وأعراضها، على حين أنَّ علمنا بها علم بموضوعات مغايرة لنا معروضة علينا من خارج. ونعجب لأفلوطين كيف يجرد الله من كل علم، مع أن الله خالق الأشياء، ولا بد أن يكون لها وجود سابق في علمه، وإلا كان صدورها عنه صدورًا آليًّا بحتًا؛ وفوق ذلك أن الله خالق لكائنات عاقلة، فكيف يكون لها علم ولا يكون لله خالقها علم؟
مر بنا أن ابن سينا ينفي عن الله العلم بالجزئيات، بحجة أن الله روح صرف، لا يدرك المحسوس بما هو جزئي محسوس، بل بما هو كلي معقول، ولا يدرك المتغير مع تغيره، بل مع تجرد ماهيته وثباتها، ونريد أن نلخص الردود على هذه النظرية لأهميتها، فنقول: إن الله يعلم الجزئيات كما تعلم العلة معلولاتها، والمعلولات هنا هي الموجودات بماهيتها وأعراضها، فيجب أن يتناولها العلم الإلهي بكليتها، وأن تتناولها القدرة الإلهية بكليتها، فتخرج إلى الوجود مشخصة لا مجردة، ولعلنا قد أوضحنا مسألة العلم الإلهي من جميع نواحيها، وفيما سيأتي من القول عن الإرادة الإلهية والخلق مزيد بيان.
(٣) الإرادة الإلهية
إنما يضاف إلى الله الحرية متضمنة الإرادة والقدرة، بالرغم مما يبدو من صعوبات، فما إن يقال: «الحرية الإلهية» حتى يخيل إلى الأكثرين أنها على شاكلة الحرية الإنسانية تتضمن مشورة وتغيرًا، فينفيها منهم العارفون بالتعارض بين التغير والمشورة من جهة، وبين بساطة الذات الإلهية من جهة أخرى. لكن يجب أولًا الإقرار لله بالحرية؛ لأنها لازمة لزومًا منطقيًّا عن الإرادة، والإرادة لازمة مثل هذا اللزوم عن العقل؛ ولأنها في ذاتها كمال، والله كامل حائز لجميع الكمالات. ويجب ثانيًا رفع ذلك التعارض وتطهير معنى الحرية الإلهية مما يلحقه به من نقص التشبيه بالحرية الإنسانية. وهذا هو المنهج السليم. إن التعارض ظاهري ناشئ من ذلك التشبيه. ففي الإنسان الإرادة قوة من قوى النفس، يضاف إليها الفعل الحر كما يضاف العَرَض إلى الجوهر. أما الله فلا تخالطه قوة، لكنه فعل محض، فإذا تصورنا الفعل الحر مبرأً من كل نقص وكل قوة، صار حينئذ والفعل الإرادي الضروري واحدًا، وفي هذا التوحيد لا يقال إن الحرية انعدمت، ولكنها على العكس توجد خالصة من حيث إنها السيادة المطلقة للفعل المحض بالنسبة إلى المخلوقات.
أجل، إن الله فعل محض، فلا يمكن أن يكون فعله إلا واحدًا وضروريًّا. غير أن هذا الفعل الواحد الضروري يتناول ممكنات كثيرة، يحققها دون أن يكون فيها وجه ضرورة بالنسبة إلى الموجود المطلق، فمن اللازم إرجاع إيجاد الممكن إلى الحرية. فإن الفعل الحر في الله هو باعتبار نسبته إلى موضوع ممكن، غير متكافئ مع الله، وغير مضطر له، وهذه شروط الفعل الحر. إن العالم بأجمعه ممكن، فهو إذن حادث، والحدوث هو من جهته لا من جهة علته؛ إذ ليس له ضرورة في ذاته؛ لذا يصدر صدورًا لا ضروريًّا، هذا ولسنا ندعي أننا قد نورنا المسألة كل التنوير، ولكنا نعتقد أن الأمر يجب أن يكون هكذا، ولا يمكن أن يكون بخلاف.
أمام منكري الحرية الإلهية فلاسفة أشهرهم دنس سكوت وديكارت يقرون بها، بل يذهبون إلى حد الاعتقاد بأن الله قد كوَّن معاني الممكنات أو ماهيات الأشياء من تلقاء إرادته، دون أن يوجد فيها أية ضرورة تجبره على مراعاة طبائع عناصرها وهيئات تأليفها. كان في مقدور الله أن يخلق الأشياء على غير ما هي عليه الآن، فلا تكون زوايا المثلث مساوية لقائمتين، بل تكون أكثر أو أقل؛ ولا يكون جبل بلا واد، ولا واد بلا جبل. وأمعنوا في هذا الرأي حتى قالوا: إن القانون الخلقي ما هو قانون إلا بموجب الأمر الإلهي، وإنه كان لله أن يفرض قواعد خلقية غير القواعد المفروضة، وكانت تكون عادلة؛ كان لله أن يأمرنا بالكذب، وينهانا عن الصدق، وينهانا عن عبادته ومحبته، وما كان على ذلك اعتراض.
نلاحظ على هذا الرأي ملاحظتين اثنتين: إحداهما أنه يسوق إلى الشك المطلق سوقًا من حيث هو يكذب العقل فيما يراه العقل حقًّا، بالبداهة أو بالبرهان، ويفترض تعادل النقائض. والملاحظة الثانية أن القوانين، سواءٌ الطبيعية والخلقية، تعتمد على طبائع الأشياء، وأدنى تعديل فيها ينزل بها اضطرابًا جسيمًا، إن لم نقل انعدامًا تامًّا، كيف تصير زوايا المثلث غير مساوية لقائمتين، وبين هذه المساواة وطبيعة المثلث علاقة ضرورية؟ وكيف يكون جبل بلا وادٍ وليس يكون الجبل إلا بالنسبة إلى وادٍ، وليس يكون وادٍ إلا بالنسبة إلى جبل؟ وكيف يمكن أن ينهانا الله عن عبادته ومحبته فننتهي ونحن مدينون لله بكل شيء. إن بين القوانين من جهة، وبين الإنسان والأشياء من جهة أخرى، علاقات ضرورية لا يراد غيرها إلا ويراد ما يخالف طبيعة الإنسان وطبائع الأشياء، وليس هذا مما يجوز صدوره عن الحكمة الإلهية.
هنا تجيء مسألة علاقة إرادة الإنسان بإرادة الله، تلك المسألة التي حيَّرت العقول وشككتها في الإرادتين. قلنا: إن العلم الإلهي بالموجودات ليس مستفادًا من الموجودات أنفسها، وإلا كان منفعلًا بها، والله فعل محض. فالنتيجة المحتومة أن الله هو الذي يعين أفعال الموجودات، ويعلمها في هذا التعيين. وبعد بيان هذه القضية نبين أن ليس فيها عبث بالحرية الإنسانية. كثيرون يظنون أن الحرية تقتضي أن يصدر فعل الإرادة عنها أصلًا، وهذا غير صحيح، فإن الله المحرك الأول الذي يحرك كل قوة إلى فعلها، وليس هذا التحريك قسرًا؛ لأن المقسور هو الذي يتحرك بعكس ميله، والله يحرك الإرادة بأن يؤتيها ميلها فتتحرك من تلقاء نفسها؛ لذلك لا يرتفع الثواب أو العقاب، وإنما كان يلزم الارتفاع لو كانت الإرادة تتحرك من الله ولا تتحرك أصلًا من تلقاء نفسها.
لننظر إلى الأمر من أعلى. إن الله يفعل في كل فاعل؛ لأن الفعل وجود والله علة كل وجود، ولسنا نعني به سلب الفعل عن الخليقة، هذا مستحيل لسببين: لو كانت الأشياء غير فاعلة لكان عجزها راجعًا إلى عجز الخالق عن منحها القدرة على الفعل؛ ولما كان لوجودها فائدة، إذ إن كل شيء فهو موجود لأجل فعله. فالله يفعل في الأشياء بحيث يكون للأشياء أيضًا فعل خاص، وإنما يمتنع صدور فعل واحد عن فاعلين متى كانا متحدي الرتبة، لكن ليس يمتنع صدور فعل واحد عن فاعل أول وفاعل ثانٍ، والله يعامل كل مخلوق بحسب الطبيعة التي فطره عليها، والمخلوقات الناطقة حاصلة بالطبع على حرية الاختيار، فليس يجبرها الله، وإنما تأثيرها عليها إمالتها باطنًا على مطلق الخير أو الخير الكلي الذي تميل إليه ضرورة، ثم إمالتها إلى الخير الجزئي فتختاره بذاتها. فليس هناك جبر وإكراه، بل فقط إمالة وميل ذاتي عن طواعية. وبذا يبطل الاعتقاد بأن سابق إرادة الله وعلمه بأفعالنا هو علة الهلاك أو النجاة: فليس يعقل أن يريد الله الهلاك لأحد، وإنما المعقول أن الموجود خير؛ لأن الله أراد له الخير، وأنه مهما يكن لدى الإنسان مما يوجهه إلى النجاة فإنه راجع إلى الانتخاب الإلهي، حتى الاستعداد له فإنه هو أيضًا لا يتم إلا بمدد من الله، وهذا كلام لازم عن فكرة العلة الأولى. فالحرية الإنسانية والقدرة الإلهية حقيقتان متبرهنتان، وحين تتبرهن حقيقتان بالحجج التي تناسبهما، فيجب الاستمساك بهما جميعًا، حتى ولو لم ندرك النسبة التي تربط بينهما.
(٤) الخلق
(٥) العناية
وتشتمل العناية على حفظ الموجود في وجوده الممنوح له بالخلق؛ إذ لو كانت المخلوقات تبقى موجودة بدون مدد من الله لكانت مستغنية عنه، أي لصار وجودها واجبًا لها، ومحال أن ينقلب الوجود الممكن وجودًا واجبًا، ولكنه يظل ممكنًا محتاجًا للتثبيت في الوجود، وقد عرَّف ديكارت الحفظ بأنه «خلق مستمر»، ولا بأس بهذا التعريف على ألا يفهم منه أن الله يدع المخلوق يعود إلى اللاوجود في كل آن ويخرجه منه في كل آن، فإن هذا الفهم قد يؤذن بسلب العلية عن المخلوقات؛ بل بسلب ذاتيتها وإنيتها بحيث تستأنف في كل آن وجودًا جديدًا، ويكون لها في كل آن شخصية جديدة تمحو الماضي وعواقبه. الواجب أن نعتقد أن الحفظ والخلق فعل واحد بعينه، وأن لا فرق بين حفظ الله للموجودات في الوجود الذي منحها إياه مرة، وبين منحها إياه دائمًا.