الافتتاحية
لست أقدم تعاليم جديدة للبشرية؛ فالحقيقة واللاعنف قديمان قدم التاريخ.
تتسم كلمات غاندي تلك، المنقوشة على أحد جدران مؤسسة الساتياجراها التي أسسها في أحمد آباد، بالدقة والتواضع الجَم. ولا شك أن مبدأي الحقيقة واللاعنف اللذين وهب حياته لهما ليسا بمستحدثين، فلطالما أكدت عليهما جميع التعاليم الأخلاقية والدينية العظيمة، إلا أنه كان يمتلك شيئًا جديدًا تمامًا ليعلمه للبشرية عن هذين المبدأين، ألا وهو كيفية تطبيقهما على نطاق واسع لممارسة مقاومة سلمية وفعالة أطلق عليها اسم «الساتياجراها».
اختار غاندي «قصة تجاربي مع الحقيقة» عنوانًا فرعيًا لكتابه. فقد ذكر أنه نظرًا لأن حياته تتألف من تلك التجارب فقط، فسيكون سردها بمنزلة كتابة سيرته الذاتية. وكما يفعل العالم، خاض غاندي تجاربه بواسطة تعمد إدخال أفكار وأساليب معيشة، وتحديات وقيود جديدة على حياته أو حياة الآخرين، ثم دراسة نتائجها وأخذها في الاعتبار من أجل أي دراسة مستقبلية. ويشير غاندي إلى تلك التجارب على مدار الكتاب، مثل تجاربه الغذائية ووسائل التعامل مع المرض والممارسات الروحانية ونماذج الحياة الجماعية والتحزب السياسي. وسرعان ما تخلى عن بعضها، وأجرى تعديلات على البعض الآخر، في حين تبنى أخرى لأمد طويل.
علاوة على ذلك، ساعدت تجارب غاندي في اختبار شخصيته ذاتها وتوجيهها إلى اتجاهات رأى صحتها. وكثيرًا ما ترد الكلمتان: «تجربة» و«اختبار» في وصفه لتلك التجارب. فيعرض كيف يمكن لجوانب حياته الأكثر دقة وطبيعية وأحيانًا خصوصية أن توفر له فرصة لاختبار ذاته. ولا يلمح غاندي إلى ما يمنع القراء من النظر إلى حياتهم كحياة تقبل هي الأخرى الاختيار والتجريب، الأمر الذي يمكنهم من المشاركة في تغيير شخصي واجتماعي مذهل على حد سواء.
تتناول بعض تجارب غاندي الأولى تغيرًا شخصيًّا بحتًا، كما حدث في محاولته اتباع نظام غذائي يشتمل على اللحم لينبذه في النهاية. أو في سعيه، مراهقًا، وراء أساليب عملية لدرء الشر بالخير، وتضمنت أيضًا تجاربه مع زوجته كاستوربا التي تزوجها عن عمر يناهز الثالثة عشر. يسترجع غاندي في سيرته الذاتية بألمٍ الدفعَ به إلى الزواج في ذلك السن المبكر، وإلى العاطفة والغيرة المتحكمة والرغبة في السيطرة على زوجته في السنوات الأولى لزواجهما. ويصف بالتفصيل جهوده الرامية للعزوف عن ممارسة الجنس وتحول علاقتهما إلى علاقة تعتمد اعتمادًا أكبر على المشاركة والرفقة.
إن تجارب غاندي الشهيرة في المجال الجماعي والتربوي والسياسي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمساعيه للتغير على المستوى الشخصي. وبغض النظر عن الاختلاف بين تجاربه في تلك المجالات المتعددة، يرى غاندي أنه لا يمكن الفصل بينها لأنها جميعًا في الأصل تجارب أخلاقية. وأنها اندمجت جميعًا تحت مظلة نمط من أنماط البحث والتجريب أكثر شمولًا: وهو البحث المستمر، وفقًا لنشأته وخبراته، في المبادئ التي يمكن أن يتبناها أو ينبذها على المستوى الأخلاقي — مثل المعاملة الظالمة للمنبوذين في الهند. وفي الوقت ذاته، كان دائمًا ما يفكر في المبادئ التي يمكن أن يتقبلها من تعاليم الديانات الأخرى، مثل المسيحية والإسلام، والمبادئ التي يجب عليه التخلي عنها. وكانت كتابة «السيرة الذاتية»، أخيرًا، في حد ذاتها تجربة تضمنت جميع التجارب الأخرى الخالدة في الذاكرة وأعادت تدبرها.
عند النظر إلى حياة غاندي وأهميتها لنا، ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين وبعد مرور ما يقرب من خمسة عقود على وفاته؛ نجد أنه ينبغي علينا أن نتبنى نفس الاتجاه إلى التجريب، واختبار أي التجارب يمكن أن تتجاوز الفحص الدقيق من عدمه، وأيها يمكن أن تخضع للتعديل لتتناسب مع الظروف المستحدثة. فيمكننا أن ننتقي من آرائه كما انتقى هو من آراء الآخرين. فعلى سبيل المثال، علينا أن نؤكد، أسوة به، على مبدأي الحقيقة واللاعنف المتلازمين إذا ما أخذنا منهجه في فض النزاعات والتغير الاجتماعي على محمل الجد. وذلك لا يعني أن علينا أن نتفق معه بيقين تام فيما يتعلق بآرائه الذاتية، والتي تتصف في بعض الأحيان بالمغالاة، حول الغذاء أو الحياة الجنسية أو العادات الصحية. وليس لزامًا علينا أن نلتزم بالحقائق الاقتصادية التي توصل إليها، والتي تم تبسيطها وصياغتها على نحو رديء حتى في عهده. ويحق لنا ألا نأخذ بمعارضته لجميع وسائل تنظيم الأسرة وإن قبل منها العزوف عن ممارسة الجنس، وذلك ما كان هو نفسه سيفعله إذا ما عاش ليشاهد النمو السكاني غير المسبوق الذي تشهده الهند والعالم بأسره.
حتى وإن رغبنا في نبذ بعض آراء غاندي أو تعديلها، تبقى سيرته الذاتية قيمةً لما أسهمتْ به من تقديم سبيل جديد للمقاومة الجماعية للظلم. علاوة على ذلك، يمكننا الاستفادة من ثلاثةٍ من المبادئ العامة الأخرى التي تركها لنا، والتي ستؤدي دورًا مهمًّا في العقود القادمة لا يقل أهمية عن الدور الذي أدته في عهده. وربما كان غاندي سيقول لنا إن تلك المبادئ هي الأخرى «قديمة قدم التاريخ» مثل مبدأي الحقيقة واللاعنف اللذين سعى إلى تعزيزهما، إلا أنه يتناول تلك المبادئ في سيرته الذاتية على نحو قوي أخاذ.
إن أول تلك المبادئ يتمثل ببساطة في إيمانه القوي بأن البشر جميعًا يمكنهم تخطيط حياتهم وتوجيهها وفقا للغايات الأسمى، بغض النظر عن مدى شعورهم بالضآلة أو الضعف. لقد عاش غاندي منذ طفولته مقتنعًا بأن قراراته المتعلقة بأسلوب حياته ذاتُ أهمية، وأنه يمتلك القدرة على جعلها تتوافق مع ما يراه صوابًا.
أما المبدأ الثاني فيعنينا الآن أكثر من أي وقت مضى؛ نظرًا لما نشهده من وحشية تُرتكب ضد المدنيين باسم العرقية والدين — كما حدث في يوغسلافيا السابقة وفي العديد من دول العالم، ولا سيما الهند، مسقط رأس غاندي. إن غاندي يقدم نموذجًا لشخص متعمق في ميراثه الثقافي والديني، ولا يزال معارضًا تمامًا لجميع صور التعصب الاجتماعي والعرقي والديني. وقد أصر على أن وسائل الشر لا تفسد الغايات التي تهدف إلى تحقيقها وتحط من قيمتها فحسب، بل تحط من قدر الأشخاص الذين يلجئون إليها. إن التغلب على الرغبة الملحة في اللجوء لمثل تلك الوسائل يبلغ ذروة الصعوبة عندما يروم الإنسان إصلاح ما أفسده الظلم. ويرجع سبب «انتشار سم الكراهية في العالم» إلى ندرة الالتزام بالقاعدة السلوكية «ابغض الخطيئة وليس مقترفها» (الجزء الرابع — الفصل التاسع).