فصل فيما اخترناه من رسائل أبي العلاء المعري
إنَّ لأبي العلاء رسائلَ كثيرةً في الأدب كأحسن ما كتَب الكاتبون، وقد نحا فيها منحى
الشِّعر من الإكثار من التشبيهات والمعاني المُختَرعة وغيرها من المحسنات، وربما أطال
القول
في بعضها حتى تكون الرسالة الواحدة كتابًا مُستقلًّا، وقد أشار إلى ذلك في آخر رسالة
مطوَّلة له كتبها جوابًا عن رسالة مُختصَرة جاءته من بعض الوزراء فقال: «ولا يُنكِر الإطالة
عليَّ؛ فإن الخالص من النُّضار العين طالما اشتُري بأضعافه في الزِّنة من اللُّجين.»
وقد
اخترتُ بعض هذه الرسائل وألحقته بجملة المختار من كلامه لِما تضمَّنه من البلاغة الفائقة
والأغراض البعيدة وشرحتُه شرحًا شاملًا يُبيِّن مقاصده ويوضح معانيه، وهذا أوان الشروع
في
ذكره فأقول:
رسالة المنيح
١ كتبها إلى أبي القاسم الحسين بن عليٍّ المغربي:
٢
إن كان للآداب — أطال الله بقاء سيدنا — نسيمٌ
يَتضوَّع، وللذكاء نارٌ تُشرق وتلمع، فقد فَغَمَنا على بُعْد الدار أرجُ أدبه، ومحا الليلَ
عنا ذكاؤه بتلهُّبه، وخوَّل الأسماع شنوفًا غير ذاهبةٍ، وأطلع في سُويداوات القلوب كواكب
ليسَت بغاربةٍ؛ وذلك أنَّا معشر أهل هذه البلدة وُهِبَ لنا شرفٌ عظيمٌ، وأُلقيَ إلينا
كتابٌ
كريمٌ، صدر عن حضرة السيد الحَبر، ومالك أعنَّة النظم والنثر. قراءته نُسكٌ، وختامه بل
سائره مِسكٌ،
وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ
الْمُتَنَافِسُونَ.
٣ أُجِلَّ عن التقبيل فظلاله المقبَّلة، ونُزِّه أن يُبتذل فنُسَخُه المُبتَذَلة،
وإنه عندنا لكتابٌ عزيزٌ، ولولا الإلاحة على ما ضُمِّن من المَلاحة، والخشية على دُجى
مداده
من التوزُّع، ونهار معانيه من التشتُّت والتقطع، لعكفَت عليه الأفواه باللَّثم، والمَوارن
بالانتشاء والشم، حتى تَصير سطوره لمًى في الشفاه، وخيلانًا على مَواضع السجود من
الجِباه.
٤
ولولا ما حظَره الدين من القمار، وعابه من رأيٍ الجهَلةُ الأغمار، وأن شريعة الإسلام،
اعترَضت دون إجالة الأزلام، لضَربنا عليه بالسبعة الفائزة، والثَّلاثة التي ليسَت لحظٍّ
بالحائزة، ومَعاذ الأحلام أن يطمئن خلَدُ المُنافس الشحيح، إلى أحكام النافِس والمنيح،
وإنما كانت أولياء سيدنا جعَل الله لشانئه كوكب الرجم، وحاديَ النجم، تَيسِرُ على إقامة
الصحيفة في المنازل للأُنس المَطلوب، لا على مقادير السَّحا من ذلك الطرس المكتوب، وأحسبُهم
يُوقِعون عليها السهمة الواقعة على كفالة البتول، والحاكمة في السَّفر بين صواحب
الرسول.
٥ فيا شرفه من صكٍّ بالفخر، يُبجحُ به على النظراء حيري الدهر، موشَّحًا بكل
شذرةٍ أعذب من سُلاف العنقود، وأحسن من الدينار المنقود، فجاء كلَوائح البروق، أو يُوحَ
عند
الشروق.
٦ ولم يَزل لوليِّه إلى جنابه جنب الفانية، إلى عيش الغانية، وأنضاء الإعلال، إلى
إفضاء الإبلال، ولو أن شَوقه إلى حضرته الجليلة تمثَّل، فمَثَل وتجسَّم، حتى يُتوسَّم،
لملأ
ذات الطول والعرض، وشغل ما بين السماء والأرض، ولم يَكتفِ حتى يُكلِّف الخَطوة، أن تسع
صهوة، والراحة أن تكون مثل الساحة.
٧ وبلغ وليَّه السلامُ الذي لو مرَّ بسَلِمَةٍ واريةٍ لأغدقَت، أو سلمةٍ عاريةٍ
لأورَقَت. فحمل فؤادي من الطرب على رَوق اليَعفُور، بل فوق جناح العصفور، فكأنَّما رفَعني
الفلك، أو ناجاني الملَك، جذلًا بما لو جاز تبدُّل الغريزة، وتحوُّل النحيزة، لنَقلَني
من
آلي العامة، إلى عالي السامة، نقل الكيمياء، ما خالط من المزأبق الجائز، إلى جملة النضار
الممايز.
٨
وكدتُ لولا اشتمال المَخاوف على هذه المحلَّة، واشتغال الضمائر بقبس الغُلة، أحسب سلامه
السلام الذي ذكَره البارئ جل اسمه في قوله:
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ
آمِنِينَ. أفَبلدتُنا جنانٌ، أم وضَحَ لأهلها الغفران، أم نُشِروا بعدما
قُبِروا، أم جُزوا الغرفة بما صبروا، فهم يُلقَّون فيها تحيةً وسلامًا، وإن نالوا بمنِّه
أوصاف الأتقياء الأبرار، فقد نزلت بهم خَلةٌ من خلال الأشقياء الكُفار؛ وذلك أنهم بأُسد
البلاغة افتُرسوا، وبأسبابها عُقِدت ألسنتهم عن الجواب فخَرسوا، فكأنما قيل لهم هذا يوم
لا
يَنطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون.
٩ وإنما غرقوا في لجِّ التَّبانة فصمتوا، وسمعوا صواعق الإبانة فخفَتُوا، فقَلَم
كاتبُهم عود الناكت، وجواب بليغهم حيرة الساكت، على أنَّهم قد راموا تصريف الخطاب فصُرفوا،
وعرفوا مكان فضله فاعترفوا، وتراءوه من مَبارك العُروج، فلمَحوه في مآرك البروج،
واستنهضَتْهم الهمم إلى مداناته فعجزوا، ووعدوا هواجسهم التبلد فأنجَزُوا، ولن توجد آثار
النوق، في أوكار الأنوق،
١٠ فهم يتأمَّلون وميضَه الآلق، ويحمدون الإله الخالق، على ما منحه سيدهم من
الاقتدار، بدقيق الأفكار، على إعادة اليم كالغدير المسمى بالغدر، وإلحاق السهى بالقمر
ليلة
البدر.
١١
ولم يزل الماشي العازم، أسرع من راكب الرازم، فكيف بمَن امتطى عزمه كَتِدَ الريح،
وحكم له
سعده بالسعي النجيح، وخصَّه بارئه تقدَّست أسماؤه بطبعٍ راض، صعاب الأغراض، حتى ذللها،
وأبس
بوحوش اللغات فأهَّلها، فصار حَزن كلام العرب إذا نطق به سهلًا، وركيكُه إن أيَّده بصنعتِه
قويًّا جزلًا. فمثله مثل جارسة الكحلاء، تسمَح بالمسائب الملاء، تُطعم الغرب، وتجود بالضرب،
وتجني مُر الأنوار، فيعود شهدًا عند الاشتيار، وكالهواء في مذهبٍ لا أعتقده، وقولٍ سواي
من
يُسدِّده يجتذب أجزاء البخار، فيسقي من تحته عذب الأمطار.
١٢ ومن لنا بأن اللفظ المَشوف، يُمثَّل عليه التمثيل على الحروف، فتُكلَّف ألبابنا
اقتضاب العسير، وركوب ما ليس بيَسير، فعساها تُبلُّ بفقرةٍ زاهرةٍ، أو تظفَر باستخراج
لؤلؤةٍ فاخرةٍ.
على أنه من العناء سؤال البَرِم، ورياضة الهَرِم، وهيهات بعُدت محالِّ الغفر الطالع،
عن
مزالِّ الغُفْر الظالع، وأعجز البارق يدَ السارق، وجلَّت الشُّموس، عن سُكنى الرُّموس،
ولو
اجتهد الخُزَزُ مدى عمره ما أشبه ضغيبُه زئيرَ الأسد، ولن يصير سوطُ باطلٍ في القوة
كالمسد،
١٣ ولوددتُ لو رُزِقَ لامُه، ما رُزِقَ كلامُه، لينال خلود الزمان، وتُعطيه
الحوادث أوكد أمان. فإنه أولى الناس، بإضاءة النبراس؛ إذ كان في زكاء الهمَّة مغرسه،
وبأجذال الحكمة مُذ نشأ تمرُّسه، حتى علا منها سراة المنبر، وركب طالبه أُصول
السخبر،
١٤
وقد كان فيمن مضى قومٌ جعلوا الرسائل كالوسائل، وتزيَّنوا بالسجع، تزيُّن المُحُول
بالرجع، ما رقوا في درجته، ولا وضعوا قدمًا على مَحجَّتِه، لكنهم تعايَنوا فما تبايَنوا،
وتناضلوا فلم يَتفاضَلوا، ولو طمعوا في الوصول إلى مثل هذه الفصول، لاختارُوا الرَّتب
على
الرُّتب، ورضوا اعتسافَ السبيل وارتعاء الوبيل، ليُدركوا بطلبهم ما أَدرَكه عن غيرٍ جِد،
واغتَرَفه من بديهِه العِد، وكلهم لو شاهدَه لرضي بأن يُدعى السُّكَّيتُ في حلبةٍ سيِّدُنا
فيها سابق الرهان، وتمنَّى أن يكون زُجًّا في قناةٍ هو منها مَوضِع السِّنان.
١٥
ولمَّا ورَدت مع عبده موسى تلك الغرائب المؤنسة،
والقلائد المُنفِسة، كانت بمنزلة الآيات التِّسع التي ألقاها الرحمن على ابن عمران. أبطلت
كيد السحار، وعصَفت بهَشيم الأشعار، وورَد في ألواحه عصوان الميمية، والواوية، فوجد في
وطنِه أشباحَ أوزانٍ تُتخيَّل، وأنقاء أذهانٍ تَتهيَّل،
فَأَلْقَى
مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ.
١٦ ما خبَّر عبدُه حتى اختَبَر، ولا عبَّر إلا بعدما اعتَبر. شاهِدُنا فيما سمعناه
المعنى الحَصير، في الوزن القصير، كصُورة كسرى في كأس المشروب، وتِمثال قيصر في الإبريز
المضروب، لم يُزْرِ به ضيق الدار، وقِصر الجدار. إن تغزَّل فحنين العود، أو تجزَّل فهَدير
الرعود،
١٧ وإنَّ كان أدام الله شرف الدنيا به استصغَر من ذلك ما استَكبرناه، واستنزَر من
أدبه الذي استَغمرناه. فالسربُ الوحشي يَعجب من وقوف الأجدل على شرفات المجدَّل، وهو
غير
حافلٍ بما أتى، ولا مُعتقدٍ أنه استعلى.
١٨ وإن كان في وانية آدابنا بقيَّة إرقالٍ، ولآنية أفهامنا خفية صقالٍ، فسوف
تَنتفِع، وهو أدام الله عزَّه ذريعة الانتفاع، وتُضيء بما أهدى إليها من الشُّعاع، إضاءة
الصفر، بما قابل من النيِّرات الزُّهر.، وقد يُرى خيال الجوزاء على رِفعتها، في أضاة
المرآة
مع ضعتها، ويورق العود، ببركة السعود، وتَفيض الردهة، عن نوء الجبهة.
١٩ ولو تفوَّه بمقالٍ جامدٍ، وهمَّ باختيالٍ هامدٍ، لنشرت المعرَّة صحفَ الافتخار،
وسحبَت ذيل العظمة والاستكبار؛ عُجبًا أن فكره يَلحظُها لحظَ السَّاهي السامد، لا يلفظ
بذكرها لفظ الحامد العامد،
٢٠ وإنما هو في الرحيل عنها كجسمٍ ذي روحٍ، نُقِلَ من الغرقئ إلى اللوح، وهى بعده
كقَسيمة الوسيمة ذهَب عطرها، وبقيَ نشرها.
٢١ وإنما شرُفت على سواها، وطالت عن البلاد دون ما والاها؛ لإقامته بها في تلك
الأيام، وإنامته عن أهلها نواظرَ أزام، فعُرِفت عند ذلك به، ونالت خيرَها من حسبه، كما
تنال
كل دارٍ يحلها، وإنما المنازل التي يَنزلها كالشهب الشآمية واليمانية، المُوفية على العشرين
بثمانية، نزل بها الزبرقان فاشتُهرت، ونسَبت العرب إليها كل سحابةٍ أمطَرَت، وكم في أديم
الخضراء من أشباحٍ مضيئةٍ زهراء اجتنبها في السير فخَملت، ولم يُنسَب إليها قَطرُ سحابةٍ
همَلَت.
٢٢
ورأيُ عبدِه أنَّ ضربة اللازم، على المتأدِّب الحازم، اتخاذُ آثاره — عاش حاسدُه
بالخُلق
الشَّكِس والجد المُنعكِس — مشاهد للأدب محضورة، ومحافل بالمُذاكرة معمورة، كما يتَّخذ
تقيُّ الخلف، مواطئ زكيِّ السلف، مواقف يَتخيَّرها لطهارتها، ومساجدَ يَتديَّرها لأثارتها،
وإنما فُضِّلَ الطور بالكليم، والمقام بابرهيم، ولقد سمَونا بمجاورته قبل محاورته، سموَّ
اليثربي، بجوارِ النبي.
٢٣
ولعلَّ المعرَّة قد نظرت أصح النظر، وفكَّرت فيما لا يُنتقض من الفِكَر، فعلمَت أنه
عِقدٌ
لا يصلح لمُقلِّدها، وسوارٌ يَرتفع لجلالته عن يدها، وتاجٌ لا يُطيق حمله مَفرقها، وجَونةٌ
يشرق بذُرورها مشرقها، وهو — أدام الله تأييده — مثل ما نُقِلَ من المَحار، إلى مفرق
الملِك
الجبار، ومغانيه الأولى كالشجرة بعد اجتناء الثمرة، والصدفة بغير جوهرة، والكِنانة الخالية
من السِّهام، والعَنانة الجالية في الجَهام. ولم يخفَ علينا أن الغيث من الدجون، في مثل
السجون، وأن موضع الزهرة، أعلى العبهرة، وأن القمر، لم يُخلق للسمَر، وليس للمُستعير
أن
يحسب العارية هبة، ولا يظنَّ ردَّها إلى المُعير مثلبة، لكن شرفٌ للصعلوك، العاريةُ مِن
الملوك،
٢٤ وقد أفادت هذه البقعة الصيت البعيد، وانقادَت لها أزِمَّة الجد السعيد. ليالي
أَمِنَتها المكارم عليه، واستودعَتْها البراعة حِدَّة أصغرَيه، فظَعَن وأرَجُه مقيمٌ،
وارتحل وللثناء تخييمٌ.، فهي كشهرَي ربيعٍ سُمِّيا مع الشهور، في أوائل الدهور، ثم انتقَلا
من الجِدة، إلى الشدة؛ وكان معهما جُماديان فصارَتا بعد الجمد، إلى الومد، وأبَتِ الألقاب،
التغيُّرَ بممرِّ الأحقاب، فنفَدت الرسوم، وخلدت الوسوم.
٢٥ ولولا جفاء التُّربة والأحجار، عن التخلُّق بأخلاق الجار، لأصبَحت ساحتُها
للتأدُّب مختارةً، والفَصاحة من عند أهلها مُمتارةً. فقد قيل إن أصل الطِّيب عند عبَدة
الأبداد، أن آدم
ﷺ هبط في تلك البلاد، ولكن أبى الجُلمود، قَبول الطبع المحمود،
وعُذِرت الكابية في الهمود، والإنس باجتِذاب الخليقة أخلق، وحواسُّهم بطِلاب الفضيلة
أولى
وأليق.
٢٦ فلولا تنبَّهوا، وقد نُبِّهوا، وأشبهوا المرئي إذ تشبَّهوا، وما همَّ ابن داية،
بصيد الجَداية، فكيف يَلتقط القار بالمنقار، ويَستُر القِرواح بالجَناح، أم كيف يُمدُّ
الطراف من النسع، ويُقدُّ النجاد من الشِّسع. هذا ما لا يكون، ولا تَسبق إليه الظنون،
والظلم البيِّن، والخطب الذي ليس بهيِّن، تكليف القطب النابت، مُداناة القطب الثابت،
وإلزام
نسر الحافِر، مرام النسر الطائر.
٢٧
وإذا غلا المرجل، من عدْو الأرجَل، وخلا الفقير بالوقير، فإنما ذاك اتفاقٌ، لا إحقاقٌ،
وغايةٌ ليس وراءها نهايةٌ. وقد ضمَّ المَسانَّ ومهارة ميدان القياس، وشَمَلَ الخشاش
وجوارَحه جوُّ المراس، فسُبقَ الغذوي، واقتُنص القمري، وإن قيلَ فلانٌ أديبٌ، وفلانٌ
أريبٌ،
فإن وِفاق الأسماء، لا يَمنع الفراق عند الرِّماء. العَرادَة سميَّة الجرادة، والذباب
سَمي
طرف القرضاب، وقد تُدعى الثمامة جليلةً، وبعض الهامة قبيلةً.
٢٨ وليس كل مُثوِّبٍ مبشِّرًا، ولا كل مُتثائبٍ مؤشِّرًا، أعرض شأوٌ لا يُتعلَّق
بنصَبه، وعنَّ أمدٌ لا يُتعَب في طلبه، وإنما يُحكم بثمر الجبَّار، لمن أصلحه في وقت
الإبار، ويَصيد ظليمَ المقَّاء، مَن زهد في ظَليم السِّقاء. نام واللهِ اللاغب، وأدلج
الراغب:
تسألني أُمُّ وُهَيْبٍ جملا
يمشي رويدًا ويكون الأوَّلا
فأصبحتُ من ليلى الغَداة كناظرٍ
مع الصبحِ في أعقاب نجمٍ مُغرِّب
وليس حُسن الظاهر للمتظاهر، ولا البهار بالباهر،
ومن الزُّور ادِّعاء المشاء للنَّزور، وإن جُنَّت الرياض في الأنواض، واعتم العقيق بالشقيق،
فإن الأبا رِق، لم تُبسَط بالنمارق، والقريَّ لم يُفرش
بالعبقري.
٢٩ ونحن على شحط المعانِ، واعتراض السهوب دوننا والرعان، لا نعدم من قِبَله تثقيف
المائل، والإرشاد إلى المنار الماثل، بكِتاب حكمةٍ يُوفده، وعهد بصيرةٍ يعهده، والمشتري
والزهرة وإن نأيا، يُبلِّغان المَحابَّ مَن توَلَّيا، في زعم المنجمين، وبعض الفلاسفة
المُتقدِّمين. نعوذ بالله من هذه المقالة، ونَستكفيه الإيغال في طرق الجهالة، ولكن المثل
مضروبٌ، والخلق مدبَّرٌ مربوبٌ.
٣٠ وإن ضرب أرواق التئية بمصر، واستخفَّ من الأشغال السنية كل إصر، فمزالفنا بإذن
الله مما يرعاه، ومزارعنا أحدُ ما يَكلؤه ويتولاه. فالسيار الفرد عندهم يشتمل بولايته
على
الأقطار المُتنائية، وينتظم بها أقاليم ضد المتساوية.
٣١ وكلُّ خالص السام، وقديمِ سُمَى الحسام، وأخي حشاشةٍ من اللب يَستنجدها،
وفراشةٍ من التمييز يسترفدها، مُذ رأى ريق سامِه، واجتلى بالتدبُّر رونقُ حسامه، كالسرطان
في انقطاع الصوت النابس، وزحل في المزاج القارس. فعِيُّهم أطول من رداء العروس، ووَعيُهم
أبكأ من در الخروس. فليتهم كذوات الأَصوات المُتنصِّفة، والناطقين بأَسَلٍ مُنحرِفة.
فإن
العُجمة لأسهل من البُكمة، والحُبسة أقل ضررًا من الخرسة، وتمنِّي الفائت، كمُحاوَلة
إحياء
المائت، ومَن يجعل الربوة روبةً، والسبت عَروبةً، وضائعٌ أداءُ الفروض قبل دخول الأوقات،
والإحرام بعد مُجاوَزة الميقات،
٣٢ وإن كان ما اختُلسَ منهم لا قيمة له في النقيمة، ولا إشارة إليه مِن أهل
الشارة، فارتياح اللاقطة بساقطة النقد، كارتياح الماشطة بواسطة العِقد، ولا يُزيِّن لأُمِّ
السمجة، مِقَتَها حُسنُ البهجة، ولكن تحنو عليها طول الحياة، وتحزَن لفقدها عند
الممات.
٣٣ وجَورٌ نَحرُ الأَفيل، إذا لم يَستقلَّ بعبء الفيل، وهدم سخيفات الدور، إذا
فرعتها منيفات القصور، وكسر المِرماة، لقِصَرها عن القناة، ودفنُ الناب، إذا لم تَلحَق
بالشَّوابِّ. ولولا ذلك لوجَب ترك النَّغم، إلا ما كان كلا ونعم، يُخبَر به عن الإرادة،
ويُمنَع قليلُه من الزيادة، ولحَرُم إجلالًا لِما قال سجع الكلمتَين، وتقفية البيتين.،
وقد
كانت المُتحمِّسة في جاهليتها، وسدنة الأوثان على أوليتها، لا تتَّخذ بيتًا مربعًا، إجلالًا
للكعبة وتورُّعًا.
٣٤ وهل طالب ذلك سواه إلا كمُفني الشبيبة في نسج السبيبة، ومُضيع الشرخ في التماس
البَرَم والمَرخ، والسحم لا يقطع الوحم، والنَّشم لا يُحسب من الرشم، وكلُّهم غيره يُنفق
من
رأس مالٍ نزر، ولا يُحكم على مدِّه بالجَزر. لكن ينفد الثغب، بالنغب، ويَفنى الشمع، بخفيات
اللمع.
٣٥ وهم في هذا الصقع، كأسنان المسارح، ونواجذ القمر القوارح، تنكَّبُهم الفوائد
تنكُّبَ السَّهم العائر، والركب الجائر:
بناحيةٍ أما العدوُّ فنازلٌ
مطيفٌ بها في مثل دائرة المُهرِ
يحُول فيها الجريض، دون القريض، والحذار دون أداء
الاعتذار. فقد أدمى الخف، وطءَ القف، وذهب الخارب، بذي الغارب، وإنما هو رفقٌ ثم اقتسارٌ،
وليس بعد السلب إلا الإسار. فهم يَتوقُون كفة الحابل، ويتوقَّعون رشق النابل. على أن
القارب، أخو الشارب، والهُبَع، طريد الرُّبَع. ما أقرب طسمًا من جديس، وأدنى البازل من
السديس!
٣٦ لا يزالون يُمارسون جابة، تنفي النجابة، نفْيَ الدَّبَر، للوبر، والسَّبُع،
لابن الضَّبع، ويَبين الزلل، فيهم من خوف الثَّلل، كما بان القَلَح، مِن وراء الفَلَح،
فقليل العلم منهم يُستطرَف، ويُستغرَب ولا يكاد يُعرف، كالشنوف، على الأنوف، والحِقاب،
في
وسط العُقاب، والودع، في عنق الصدع، والفور، بين أهل الكفور. لأنَّ سالمهم هامة اليوم
أو
غد، وإن لم يكن ما خاف فكأن قد.
٣٧ ولو رحلوا قبل أن يُوحَلوا، وتوكلوا على الله في المسير قبل أن يوكلوا، لنفع
الفِرار الفُرَّار، واستراح الفَقَار إلى وَضعِ الأوقار، وكم مُصابرة الذرع، لابس الدرع،
والبِر، الهر، وإن كان دون كسب العتاد، ممارسة خرط القتاد، فقَتَدُ المالع، أوطأ من العتد
ذي القالع، والمرقد، جافٍ على ابن أنقَد.
٣٨ وإنما يَشدو بالترنُّم شاديهم، ويَغدو في أُولى الدعوى غاديهم، بين أُناسٍ يقظة
أحدهم أقصر من لحظته، وسِنته أطول من سَنتِه، وحِليَة الدواة، لديه أحلى الأدوات، وحُسن
اليراعة، أحسن البراعة. فإذا جاء بعضهم بسمارٍ، ومارى بتفضيله مُمارٍ، فقد سجَد السَّفساف،
لإساف، وأُهدي الهنم، للصَّنَم، والسُّرفة تَتَّخذ لمنفعتها الغُرفة، وربما عنتِ القرارة،
بالعرارة، وجُعِلَ الخمار على وجه الحمار، وليس الضريع، بالمَرعى المَريع. على أن التفكير،
قبل التكبير، والخِطبة، ثم الخُطبة. فأما بحضرة سيدنا — بقيَ ووُقي حتى يَلِبَ الهَجر،
إلى
ضياء الفجر، وُلوب صلاة العصر، من القَصر — فما يسعهم غير الاستماع، والتسليم بعد
الإجماع.
٣٩ فإن ذُكِرَ له أدام الله تأييده أن حافر القليب، أنبط المَحض من الحليب، وأن
الرَّسَل، حُلِب العَسَل، وأن نجلًا من راحٍ، ظهر في هَجلٍ براحٍ. فعارِضَته أعلم
بالمعارضة، وأُربَة أُرْبَته أقدر على المناقضة، حسب التربة نطفةٌ، تَشفي الكربة، والناقة،
علبةٌ عند الإفاقة، والجُمجمة النِّيابة عن السحابة المُثجِمة.
٤٠ وذِكرُه عبدَه بما يُشبه مِنَنَه صنيعةٌ يضيق عنها باع الشكر، وأُبعَث وهي مني
على ذُكْر. غرسَت السرور في سريرتي، وعلَّمت النفاسة نفسي، وخلَّدت الغِبطة في خلَدي،
إلى
أن أُمسي خبيَّ الرامس، ونجي هند الأحامس. هضَبَ حسِّي بعدما نضب، وبَغَش نسيسي، وقد
نسَّ
فانتعش، وعرتني الأريَحيَّة، المُشتقة من الرياح العريَّة، فملأت الصدر، وأمَرَتني
بمُجاوَزة القدر. لأن الجنوب، تُهيِّج نقع الجبوب، والشمال، تُحرِّك ساكن الرِّمال. حتى
عاتبت الضمير، والتفتُّ إلى السر الخمير، فقلت السِّمة، في القسمة، أزيَن من الأشر، للبشر،
وطالَما عصف النسيم فقصَف، ولن أكون كالغبار ثار من الملاطس، فزار المَعاطس. أسكرانٌ
أنا،
أم هكران؟ إن كنت انتشيتُ فالثَّمَل يُقوِّي الأمل، أو أغفيتُ فالوَسَن، يُري الحُلم
الحسن.
٤١ هذا مع إحاطة اليقين أنَّ الغذمة، لا تُشدُّ منها الوذمة، وأن البرق، لا
يَستحِقُّ كسوة السرق، وأن البديع، لا يُملأ من رِسل الصَّديع، تزيد المَرارة، بسقيا
المُرارة، وريُّ المَقر، لا يَخلع عليه لون الشَّقِر، ومَن أنا حتى يَصفني بالنقال، ويزن
بي
الثقال. البرير، يُسوِّد فم الفرير، وأنى بالنئور للنوار، وصوار الطِّيب للصوار. هل أدبي
في
أدبه إلا كالقَطرة، في المطرة، والنَّحلة، عند النَّخلة، وإنما صاحب الدرهمين غنيٌّ عند
صاحب الدرهم، والأفطس أشم في تخيُّل الأكشم. فأما شدَّاد بن عاد، وعاقر الجياد، فالبَدِيُّ
توهُّمهما الثراء، اليديَّ عند جالب العَضَد، وبائع الخَضَد.
٤٢ فضاق ذرعي في جزاء ما تطوَّل به ضيق ذرع النملة، باتخاذ الشملة، والحَمنانة،
بثقب الجمانة. فليتَه أدام الله عزَّه اطَّلع من عبده على كنين الاعتقاد، وجنين السواد،
فيعلم أنَّ الروع، وجوانح الضلوع، مُفعمة له بالإعظام، مُترَعة بمحبَّته إتراع الجام،
لا
لأنَّه جعَل حصاتي كثبير، وخلَط عثيري بالعبير، ولا لأن سيدنا الرئيس الأجلَّ والده،
أدام
الله سلطانه سبق، من الإفضال بما ربق، وقدَّم منه ما كان نشره السدم ولكن لما أُوتي أقاليد
الحوار، ونطق بفرود حضار، وعلمت أنه في صاغية الأدب، كتُبَّعٍ في طاغية العرب. لهجَتْ
بحبِّه لهج السوقة، بحب المليك الرُّوقة؛ إذا أخذ بالفضل، وحكم بالقضاء الفصل.
٤٣ ونصحتُ له نصح الهدهد لسليمان، وشيَّعتُ ما أذكُر من نُبله بالأيمان. أصف وكلَّ
وصفي صحيحٌ، وأَحلف وحلفي تسبيحٌ، حتى استجهَلني الذي لا يعلم، وتكلَّم في تضليلي من
تكلَّم؛ لأني ما اقتنعتُ بتفضيله على الأحداث، دون سكان الأجداث، ولا غلَّبته على الغابر،
دون الكابر، ولكن وجَّبت الشخير، ورجَّبت الطرف الأخير، وليس النَّصر، بقِدم العصر، ولا
التجويد، بذهاب أبد الأبيد، الرويُّ بعد التوجيه، وأخدَر أقدم من الوجيه، وإن كانت
السِّيَر، بغَير غِيَر، والخبر، فاقدًا للحَبَر، فالحبَّة بعد الحبة، والضياء تالي
الكُهْبَة.
٤٤
وما جحَد أحدٌ ضُحاه، ولا وَحى مخلوقٌ مثل ما وحاه، ولكن للمُهَج بالفارط لهجٌ، والإحادة
عن العادة، تخلط المور بالتأمور، وتُباشر ظلام اللُّوب، بظلام القلوب، وقد أنكر من أعظم
العزى واللات، ما جاء به محمدٌ
ﷺ من الآيات. فلم أفتأ واللهُ شهيدٌ أصبغ الأفق
بالشفق، وأدبغ الأديم بالسديم، حتى أُصبح اليافع النافع،
والهمَّ المدرهم، ومن بينهما من وارفٍ في السن، وكهلٍ مقسئن، أحد رجلين: إما عالِمٌ،
فهو من
الجَهل سالمٌ، وإما بليد، اهتدى بالتقليد.
٤٥ وهو أدام الله قدرته الفرعُ الذي نبع من أصلٍ زاكٍ، فسمَق إلى السماك، وحفظ
التُّوم، قبل أن يلفظ بالمكتوم، ولم يَزل ضبُّ الآفِن، لعب الصافِن، وإهواء الرادس، لإرواء
القادس، حتى الْتأمت اللامة من الزَّرَد، وتألَّفت الغمامة من القَرَد.
٤٦
ولقد هممتُ باستِرفاد حضرته البهية من بدائعه ما يَفضُل المال، ويكون الجمال، فعداني
عن
ذلك إعظامي له واستحقاري نفسي، وارعوَت بي الهَيبة إلى إرمامي وكفِّي، وأبى الله أن يكون
التفضُّل إلا مِن قِبَله، فوعد التشريف بما سنَح من المنثور والمنظوم، فلِلقلوب إلى وعده
هيام الظامية، إلى النطفة الطامية، ولا تزال تَقتضيناه اقتضاء المُدنفِ العافيَة، والبيتِ
القافية، ومَن للعَفر بالذَّفر، والقَفْر بإلمام السفْر.
٤٧ وأقدمت على خدمة حضرته بالمكاتبة لأُنهي إليها ما أنا عليه لا تكثُّرًا برَصفِ
المنطق عنده، وهل أبلغ أن أُدعى في تأليف القول عبده، وقد تُقبل صلاة الأمي، ويُسمَع
دعاء
الأعجمي، ونَقدُه — أدام الله تأبيده — يَكبُر عن تصفُّح أمري، وتجاوُزُه يَستر زللي
وعثري.
لأن المُدية، لا تصل إلى ضبِّ الكُدية، إلا بعد التبريح، بذوات التسريح، والإتيان على
مال
الفتيان، والله أَستجير من كلمةٍ، كطَوق العكرمة، يُحسَب لها كالزينة، وكأنه من حِداد
الحَزينة، فقَد حلَّيتُها بعبقُر، وخليتها تُرعِد من القُر، من دونها يظهر الضِّفدع،
تحت
الشِّبدع، ويُحكم بالجلسام، على الأجسام، والعناية، بجارم الجناية، تَمنع الرَّواجب،
من
البتِّ بالحُكم الواجب.
٤٨ وأُتبع قولي لِما مضى، وأُشيعه إذا انقضى، بأن أقول إن كنتُ أوطأتُ نفسي في
تفضيلِه عشوةً، أو بَغيتُ على إظهار الحق رشوةً، فمُنيتُ بالحاصب، والعذاب الواصب. ليل
الخرص، أنعم من ليل المتخرِّص، ونهار الكاذب، أبأس من نهار العاذِب، وغِناي في تقريظه
عن
المين، ومُساواة القين، غناء الوصيف، عن لُبْس النَّصيف، والغلام، عن الاختضاب
بالعُلام.
٤٩ وأنا على إسهابي كخابط الظلماء، وباسط اليد الجذماء، ولو جئتُ من الزَّرَق
بكُرٍّ، ما كافأت على الفريدة من الدر، وليس سرب القطا وإن كثُر، بمُقاوم البازي ولو
لطُف
وصغُر، ومن الغباوة مُباهاة الشمس بسراج، ومواهاة عطالة بالزجاج، وإن أدبي ليَنظر إلى
أدبه
نظر جرباء العنوق، إلى جرباء العيوق، وأين الماء، من السماء، وموقع السيل، من مطلَع سُهَيل،
والنعائم الشاردة، من النَّعائم الصادرة والواردة، وتالله أُساجِل بثمدي بحره، ولن يَهلك
امرءٌ عرف قدره، والسلام.
٥٠
نسخة رسالته المعروفة برسالة الإغريض إلى أبي القاسم
المغربي لما أنفذ إليه مختصر إصلاح المنطق الذي ألَّفه، وفيها وصفُ المُختصَر، والثناء
بفضله، والتنبيه على كثرة فوائده:
بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكِ أيتها الحكمة المَغربية، والألفاظ العربية.
أيُّ
هواءٍ رقَّاك، وأي غيثٍ سَقاك، برقُه كالإحريض، وودقُه مثل الإغريض، حللتِ الرَّبوة،
وجللتِ
عن الهَبوة؛ أقول لك ما قال أخو نُميرٍ، لفتاة بني عميرٍ:
زكا لك صالحٌ وخلاك ذمٌّ
وصبَّحك الأيامِنُ والسُّعودُ
لأنا آسَفُ على قربك من الغراب الحجازي، على حُسن الزي، لما أقفر، وركبَ السفَر، فقدِمَ
جبال الروم في نوٍّ، أنزل البِرس من الجو، فالتفتَ إلى عطفه، وقد شَمِط فأسي، وترك النعيب
أو نسي، وهبط إلى الأرض فمشى في قيد، وتمثَّل ببيت دريدٍ:
صَبا ما صبا حتى علا الشَّيبُ رأسه
فلمَّا علاه قال للباطل ابعدِ
وأراد الإياب، في ذلك الجلباب، فكره الشمات، فكمدَ
حتى مات؛ ورُبَّ وليٍّ أغرق في الإكرام، فوقع في الإبرام، إبرام السأم، لا إبرام
السَّلم.
٥١ فحرس الله سيدنا حتى تُدغم الطاء في الهاء، فتلكَ حراسةٌ بغير انتهاءٍ؛ وذلك أن
هذَين ضدان، وعلى التضاد مُتباعدانٍ، رخوٌ وشديدٌ، وهاوٍ وذو تصعيد، وهما في الجَهر والهمس،
بمنزلة غدٍ وأمس؛
٥٢ وجعل الله رُتبته التي كالفاعل والمبتدأ، نظير الفعل في أنها لا تَنخفِض أبدًا.
فقد جعلني إن حضرتُ عُرِفَ شاني، وإن غبت لم يُجهل مكاني، كَيا في النداء، والمَحذوف
من
الابتداء؛ إذا قلتُ: زيدُ أَقبِل، والإبلُ الإبل، بعدما كنتُ كهاء الوقف إن أُلقِيتُ
فبواجبٍ، وإن ذُكِرت فغير لازبٍ.
٥٣ إني وإن غدوتُ في زمنٍ كثير الدَّد، كهاء العَدد، لزمَتِ المُذكَّر، فأتَت
بالمنكر، مع إلفٍ يراني في الأصل، كألف الواصل، يَذكرني بغير الثناء، ويطرحني عند
الاستغناء، وحال كالهمزة تُبدل العين، وتُجعل بينَ بين، وتكون تارةً حرف لينٍ، وتارةً
مثل
الصامت الرصين، فهي لا تَثبُت على طريقةٍ، ولا تُدرك لها صورةٌ في الحقيقة، ونوائب ألحقت
الكبير بالصغير، كأنها ترخيم التَّصغير، ردَّت المُستحلِس إلى حُليس، وقابوسًا إلى قُبيس.
لأمُد صوتي بتلك الآلاء، مد الكوفي صوتَه في هؤلاء، وأُخفِّف عن حضرة سيدنا الرئيس الحبر،
تَخفيف المدني ما قدر عليه من النبر. إن كاتبت فلستُ مُلتمسَ جوابٍ، وإن أسهبتُ في الشكر
فلستُ طالب ثوابٍ، حسبي ما لديَّ من أياديه، وما غمر من فضل السيد الأكبر أبيه،
٥٤ أدام الله لهما القُدرة ما دام الضرب الأول من الطويل صحيحًا، والمُنسرِح
خفيفًا سريحًا؛ وقبَض الله يمين عدوهما عن كل معنٍ، قبض العَروض من أول وزن، وجمع له
المهانة إلى التقييد، كما جُمِعا في ثاني المديد، وقُلِمَ قَلْم الفسيط، وخُبِلَ كسباعي
البسيط، وعصب الله الشر بهامة شانئهما وهو مخزوٌّ، عصب الوافر الثالث وهو مجزوٌّ، بل
أضمرته
الأرض إضمار ثالث الكامل، وعداه أمل الآمل،
٥٥ وسَلِم سيدانا أعزَّ الله نصرهما ومَن أحباه وقرَّباه سلامة متوسِّط المجموعات،
فإنه آمِنٌ من المروعات؛ فقد افتَننتُ في نِعَمهما الرائعة، كافتنان الدائرة الرابعة؛
وذلك
أنها أُمُّ ستةٍ موجودين، وثلثةٍ مَفقودين، وأنا أعد نفسي مراسلة حضرة سيدنا الجليلة
عِدة
ثريا الليل، وثريا سُهيل، هذه القمر، وتلك عمر، وأُعظِمه في كل وقتٍ، إعظامًا في مقةٍ
وبعض
الإعظام في مقتٍ؛ فقد نصَب للآداب قبةً صار الشأم فيها كشامة المَعيب، والعراق كعراق
الشعيب؛ أحسب ظلالها من البردَين، وأغنَت العالم عن الهِندَين، هند الطيب، وهند النَّسيب،
ربة الخمار، وأرباب قِمار، أخدان التَّجْر، وخدينة الهَجر.
٥٦ ما حاملة طوقٍ من الليل، وبُرْدٍ من المُرتبع مكفوف الذَّيل، أوفتِ الأشاء،
فقالت للكَئيب ما شاء؛ تُسمعه غير مفهوم، لا بالرَّمل ولا بالمزموم؛ كأن سجيعها قريضٌ،
ومراسلها الغريض؛ فقد ماد لشَجوِها العود، وفقيدها لا يعود؛ تندب هديلًا فات، وأُتيح
له بعض
الآفات، بأشوَق إلى هديلها مِن عَبدِهِ إلى مناسمة أنبائه، ولا أوجد على إلفها منه على
زيارة فنائه، وليس الأشواق، لذوات الأطواق، ولا عند الساجِعة، عَبرةٌ مُتراجِعةٌ، إنما
رأت
الشرطَين، قبل البُطين، والرشاء، بعد العِشاء، فحكَت صوت الماء في الخرير، وأتت براءٍ
دائمة
التَّكرير، فقال جاهلٌ فقدتُ حميمًا، وثكلتُ ولدًا قديمًا، وهيهات يا باكيةً أصبحتِ
فصدَحتِ، وأمسيتِ فتناسَيتِ، لا همام لا همام، ما رأيتُ أعجبَ من هاتف الحمام: سَلِمَ
فناح،
وصمَت وهو مكسور الجناح؛ إنما الشوق لمن يدَّكر في كل حينٍ، ولا يُذهله مُضيُّ
السنين.
٥٧ وسيدنا أطال الله بقاءه، القائل النظم في الذكاء، مثل الزهر، وفي البقاء، مثل
الجَوهر، تحسب بادرته التاج. ارتفع عن الحَجاج، وغابَرَتْه الحِجل، في الرِّجْل؛ يجمع
بين
اللفظ القليل، والمعنى الجليل، جمع الأُفعون في لعابه بين القلَّة، وفقد البلة؛ خشُن
فحسُن،
ولان فما هان؛ لين الشَّكير، يدلُّ على عتق المحضير، وحرشُ الدينار، آية كرم النِّجار.
فصنوف الأشعار بعده كألف السَّلم، يُلفظ بها في الكلام، ولا تَثبُت لها هيئةٌ بعد اللام،
خلص من سبك النقد خلوص الذهب، من اللهب، واللجين، من يد القين، كأنه لآلٍ، في أعناق حوالٍ،
وسواه لطٌّ في عنق ثَطٍّ، ما خانَته قوة الخاطر الأمين، ولا عِيبَ بسنادٍ ولا تضمينٍ،
وأين
النثرة، من العثرة، والفرقد، من الغرقد! والساعي في أثره فارس عصا بصيرٍ، لا فارس عصا
قصيرٍ.
٥٨ وأنا ثابتٌ على هذه الطوية ثبات حركة البناء، مقيمٌ تلك الشهادة بغير استِثناء،
غنيٌّ عن الأيمان فلا عدم، مُقسمٌ على ما قلتُ فلا حنث ولا ندم، وإنما تُخبأ الدرة،
للحَسناء الحرة، ويُجاد باليمين، في العِلق الثمين. ما أنفسه خاطرًا امترى الفضة، من
القضة،
والوصاة، من مثل الحصاة، وربما نزَعت الأشباه، ولم يُشبِهِ المرء أباه؛ ولا غرو لذلك:
الخضرة أم اللهيب، والخمرة بنت الغربيب، وكذلك سيدنا ولَّد من سحر المُتقدِّمين، حكمة
للحنفاء المُتديِّنين؛
٥٩ وكم له من قافيةٍ تَبني السود، وتَثني الحَسود، كالميت، من شُرب العاتقة
الكُميت: نشوره قريبٌ، وحسابه تثريبٌ. أين مُشبِهوا الناقة بالفدن، والصحصَح برداء الرَّدن،
وجَب الرحيل، عن الرَّبع المُحيل. نشأ بعدهم واصفٌ، غُودروا له كالمَناصف، إذا سمع الخافِض
صفتَه للسَّهب الفسيح، والرَّهب الطَّليح، ودَّ أن حشيَّته بين الأحناء، وخَلوقَه عَصيم
الهِناء، وحَلَم بالقُود، في الرُّقود، وصاغ بُرَى ذواتِ الأرسان، من بُرَى البِيض الحِسان،
شنفًا لدر النحور، وعيون الحور، وشغفًا بدرٍّ بكيٍّ، وعينٍ مثل الرَّكي، وإعراضًا عن
بدورٍ،
سكَن في الخدور، إلى حُول، كأهلة المُحْول؛ فهنَّ أشباه القِسِي، ونَعام السِّي.
٦٠ وإن أخذ في نَعتِ الخيل فيا خيبة من شبَّه الأَوابد بالتقييد، وشبَّه الحافر
بقعب الوليد، نعتًا غبطَ به الهَجين المنسوب، والبازي اليعسوب؛ إذ رُزِقَ من الخير، ما
ليس
لكثيرٍ من سباع الطير؛ وذلك أنه على الصِّغَر، سَمِي بعض الغُرر؛ وقد مضى حرسٌ، وخَفَت
جرسٌ؛ وللقالع، أبغضُ طالع، والأزرق، يُجنِّبك عنه الفَرَق. فالآن سلمَتِ الجبهة من المَعض،
وشمل بعضَها بركاتُ بعض، فأيقن النَّطيح، أن ربه لا يُطيح، والمهقوع، نجاء راكبه من الوقوع،
فلن يُحرَب، قائد المُغْرَب، ولن يُرجل، سائس الأَرجُل، والعاب، وإن لحق الكِعاب، ناكبٌ،
عن
ناقلات المراكب، وقالت خيفانة امرئ القيس: الدباءة، لراعي المَباءة، والأُثفية، للقِدر
الكفيَّة، نقمًا على جاعل عُذرها كقرون العروس، وجبهتها كمُحذَّف التروس، وأنى للكندي،
قوافٍ كهجمة السعدي:
إذا اصطكَّت بضيقٍ حجرتاها
تلاقى العسجدية واللطيم
فالقسيب في تضاعيف النسيب، والشباب في ذلك التشبيب؛ ليس رويُّه بمقلوب، ولكنه من إرواء
القلوب.، وقد جمع أليل ماء الصِّبا، وصليل ظماء الظبا؛ فالمصراع كمرآة الغريبة، حكت الزينة
والريبة، وأرت الحسناء سناها، والسمجة ما عناها.
٦١ فأما الراح فلو ذكرها لشفَّت من الهرم،
وانتفت من الكرْم إلى الكرَم، ولم ترضَ دنان العُقار، بلباس القار، ونسج العناكب، على
المناكب، ولكن تُكسى من وشيٍ ثيابًا، ويُجعل طلاؤها زريابًا، ولقد سمعتُه ذكر خيمةً يغبط
المِسك جارها من الشيام، ويود سعد الأخبية أنه سعد الخيام.
٦٢ ووقفتُ على مختصر إصلاح المنطق الذي كاد بسمات الأبواب، يُغني عن سائر الكِتاب،
فعجبتُ كل العجب من تقييد الأجمال، بطلاء الأحمال؛ ونقل قَلْت البحر، إلى قَلْت النَّحر،
وإجراء الفرات، في مثل الأخرات؛ شرفًا له تصنيفًا شفى الريب، وكَفى من ابن قُريب، ودلَّ
على
جوامع اللغة بالإيماء، كما دلَّ المُضمَر على ما طال من الأسماء. أقول في الإخبار: أمرتُ
أبا عبد الجبار؛ فإذا أضمرته، عُرِفَ متى قُلت: أمرته؛ وأبلَّ من المرض والتمريض، بما
أسقط
من شهود القريض؛ كأنهم في تلك الحال، شهدوا بالمُحال، عند قاضٍ، عرف أمانتهم بالانتقاض،
على
حقٍّ عَلِمه بالعيان، فاستغنى فيه عن كل بيان،
٦٣ وقد تأمَّلتُ شواهد إصلاح المنطق فوجدتُها عشرة أنواعٍ في عدة إخوة الصدِّيق،
لما تظاهَروا على غير حقيقٍ، وتزيد على العشرة بواحدٍ، كأخٍ ليوسف لم يكن بالشاهد، والشعر
الأول وإن كان سبب الأثَرة، وصحيفة المَأثَرَة، فإنه كَذوب القالة، نموم الإطالة، وإنَّ
قِفَا نبكِ على حُسنها، وقِدم سنِّها، لتُقرُّ بما يُبطِل شهادة العدل الرِّضى، فكيف
بالبَغي الأُنثى؟! قاتلها الله عجوزًا لو كانت بشَريةً، كانت من أغوى البرية،
٦٤ وقد تمادى بأبي يوسف رحمه الله الاجتهاد، في إقامة الأشهاد، حتى أنشد رجز الضب،
وإن معدًّا من ذلك لجدُّ مُغضبٍ؛ أعَلَى فَصاحته يُستعان بالقَرض، ويُستشهد بأحناش الأرض.
ما رُؤبة عنده في نفير، فما قولك في ضبٍّ دامي الأَظافير؟
٦٥ ومن نظَر في كتاب يَعقوب وجده كالمهمل إلا باب فَعْلٍ وفَعَلٍ، فإنه مؤلفٌ على
عشرين حرفًا: ستةٍ مُذلقةٍ، وثلثةٍ مطبقةٍ، وأربعةٍ من الحروف الشديدة، وواحدٍ من المزيدة،
ونفيثين: الثاء والذال، وآخر متعالٍ، والأختين العين والحاء، والشين مضافةً إلى حيز الراء.
فرحم الله أبا يوسف لو عاش لفاظ كمدًا، أو احفاظَ حسدًا؛ سبَق ابن السِّكِّيت ثم صار
السُّكَيت، وسمَق ثم حار وتدًا للبَيت. كان الكتاب تبرًا في تراب معدن، بين الحت وبين
المتَّدِن؛ فاستخرجه سيدنا واستَوشاه، وصقَله فكرُه ووشَّاه، فغَبطه النيِّرات على الترقيش،
والآلِ النَّقيش؛ فهو محبوبٌ ليس بهَيْن، على أنه ذو وجهَين؛ ما نمَّ قطُّ ولا همَّ،
ولا
نطَق ولا أرمَّ، فقد ناب في كلام العرب الصميم، منالَ مرآة المنجم في علم التنجيم؛ شخصُها
ضئيلٌ ملمومٌ، وفيها القمران والنجوم.
٦٦ وأقول بعدُ في إعادة اللفظ: إنَّ حكم التأليف في ذكر الكلمة مرَّتين، كالجمع في
النكاح بين أختَين: الأولى حِلٌّ يُرام، والثانية بَسْلٌ حرام. كيف يكون في الهودَج
لَميسان، وفي السَّبة خميسان! يا أُمَّ الفتيات حسبُكِ من الهنود، ويا أبا الفِتيان
شرعُك
من السعود؛ عليك أنت بزينب ودعدٍ، وسَمِّ أيها الرجل بسوى سعدٍ؛ ما قلَّ أثيرٌ، والأسماء
كثيرٌ. مَثلُ يعقوب مَثلُ خَوْدٍ كثيرة الحُليِّ ضاعفته على التراق، وعطَّلت الخصر
والساق.
٦٧ كان يوم قدوم تلك النُّسخة يوم ضريبٍ حشر الوحش مع الإنس، وأضاف الجنس إلى غير
الجنس؛ ولم يحكم على الظِّباء بالسِّباء، ولا رمى الآجال بالأوجال؛ ولكن الأضداد تَجتمع،
فتَستمِع؛ وتنصرف بلذاتٍ، من غير أذاةٍ، وإن عبده موسى لقيني نِقابًا، فقال: هلَّم كتابًا؛
يكون لك شرفًا، وبموالاتك في حضرة سيدنا أطال الله بقاءه معترفًا. فتلوت عليه هاتين
الآيتين:
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا
تَضْحَى، وأحسبُه رأى
نور السُّؤدد فقال لمُخلَّفيه ما قال موسى عليه السلام لأهله:
إِنِّي
آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ
هُدًى، فليت شِعري: ما يَطلُب؟ أقبَسَ ذهبٍ، أم قبَسَ لهبٍ؟ بل يُتشرَّف
بالأخلاق الباهرة، ويُتبرَّك بالأحساب الطاهرة:
باتت حواطب ليلى يَقتبِسنَ لها
جزلَ الجِذى غير خَوَّارٍ ولا دَعِرِ
وقد آب من سفرته الأولى ومعه جذوةٌ من نار، إن لُمِست فنارُ إبراهيم، أو أُونِست
فنارُ
الكليم؛
٦٨ واجتنى بهارًا حيَّت به المَرازبة كسرى، وحُمِلَ في فكاك الأسرى، وأدرك نوحًا
مع القوم، وبقيَ غضًّا إلى اليوم؛ وما انتجَع موسى إلا الروض العميم، ولا اتَّبع إلا
أصدقَ
مُقيم.
٦٩ وورد عبده الزهيري من حضرته المُطهَّرة كأنه زهرة بقيعٍ، أو وردة ربيعٍ، كثيرة
الورق، طيِّبة العَرَق؛ وليس هو في نعمته كالرِّيم، في ظلال الصَّريم، والجاب، في السَّحاب
المنجاب؛ لأنَّ الظَّلام يُسفِر، والغمام يَنسفِر؛ ولكنه مثل النون في اللجة، والأعفَر
تحت
جربةٍ،
٧٠ وقد كنتُ عرَّفتُ سيدنا فيما سلف أنَّ الأدب كعهودٍ في أثر عهودٍ، أروت النجاد،
فما ظنُّك بالوهود؟ وأني نزلت من ذلك الغَيث ببلدٍ طسمٍ، كأثر الوسم؛ منعه القراع، من
الإمراع. يا بؤس، بني سَدوس، العدو حازبٌ، والكلأ عازبٌ؛ يا خصبَ بني عبد المَدان؛ ضأنٌ
في
الحُرْبُث وضأنٌ في السِّعدان. فلما رأيتُ ذلك أتعبْتُ الأظَل، فلم أجد إلا الحنظَل،
فليس
في اللبيد، إلا الهَبيد؛ جنيتُه من شجرةٍ اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرارٍ. لبن الإبل
عن المُرار مرٌّ، وعن الأراك طيبٌ حُرٌّ. هذا مَثَلي في الأدب،
٧١ فأما في النشب، فلم تزَل لي بحمد الله تعالى وبقاء سيدنا بُلْغَتان: بُلغة
صبرٍ، وبُلغة وفرٍ، أنا منهما بين الليلة المَرعية، واللقوح الربعية، هذه عامٌ، وتلك
مالٌ
وطعامٌ، والقليل، سُلَّمٌ إلى الجليل، كالمصلِّي يُريغ الضوء، بإسباغ الوضوء، والتَّكفير،
بإدامة التعفير، وقاصد بيت الله يَغسل الحوب، بطول الشحوب، وأنا في مُكاتَبة حضرة سيدنا
الجليلة، والميل عن حضرة سيِّدنا الأجلِّ والده — أعز الله سلطانه — كسبإ بن يَعرُب،
لما
ابتهل في التقرُّب، إلى خالق النور، ومُصرِّف الأمور، نظَر فلم يرَ أشرق من الشمس يدًا،
فسجَد لها تعبُّدًا.
٧٢ وغير ملومٍ سيدنا لو أعرض عن شقائق النعمان الربعية، ومدائحه اليربوعية؛ مللًا
من أهل البلد المُضاف إلى هذا الاسم؛ فغير مُعتذِرٍ، مَن أبغضَ لأجلهم بني المُنذِر،
وهم
إلى حضرته السَّنية رجلان: سائلٌ، وقائلٌ؛ أما السائل فألَح، وأما القائل فغير
مُستملَح،
٧٣ وقد سترتُ نفسي عنها ستر الخَميص، بالقميص؛ وأخي الهتر، بسجوف السِّتر، فظهر لي
فضلُه الذي مثله مثل الصبح إذا لمع تصرُّف الحيوان في شئونه فخرج من بيته اليربوع، وبرز
الملِك من أجل الربوع، وقد يُولع الهجرس، بأن يُجرس، في البلد الجرد، قدام أسدٍ وَرد،
وإني
خُبِّرت أن تلك الرسالة الأولى عُرِضت بالوطن الكريم، فأوجب ذلك رحيلَ أختها، متعرضةً
لمثل
بختها؛ وكيف لا تنقع، وفي اليم تقع، وهي بمقصد سيدنا فاخرةٌ، ولو نُهِيت الأولى لانتهَت
الآخرة.
٧٤
وكتب إلى بعض أولياء السلطان يشفع في صديقٍ له كان عاملًا يُعرف بالحُسَين بن عنبسة
بن
عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
كتابي أطال الله بقاء سيدي الأستاذ مالكًا
خزائم الأُمور، واطئًا أعناق الدهور، عن حالٍ تُشكَر، ونِعمةٍ لا تُنكَر، أنا معهما
بالتقصير عن واجباته مُقرٌّ، ولشرف أخلاقه مُظهرٌ ومُسِرٌّ، والحمد لله رب
العالمين، وصلاته على صَفوته المُنتخَبين.
٧٥ وأحلف بالقسم العازم، والنَّذر اللازم، ما ذات طَوق لا تَنزعه، وبُرْدٍ
من الربيع ليسَت تَخلعه، جاد الوسمي لها فأرنَّت، وبكَت شجوَها لا تغنَّت؛ عاليةً
ذؤابة فننٍ غضٍّ، فهي لا في السماء ولا في الأرض، تُكرِّر القيل، وتَنطِق الخفيف
والثَّقيل، بأشوق إلى هَديلها منِّي إلى مُشاهدته، ولا آسَف على خليلها من قلبي على
فائت خِدمته،
٧٦ وإن عققتُ نفسي بترك المكاتبة، عقوق الضبِّ ولدَه، والسارق يدَه،
فإنَّما ذلك لهمٍّ واغلٍ، وخَطْبٍ شاغلٍ، وتوخيًا للتخفيف، وتنكُّبًا عن التكليف،
وإني لَأصبو إلى لقائه صبابة العود إلى وطنه، وذي الشجَن إلى شجنه، وأحنُّ في خلال
ذلك إلى مناجاته، حنين الشوارف إلى السقاب، والهوائف إلى وُرود النقاب.
٧٧ إذ كان ضيفُه لا يَبيت مبيت القفر، وغير جاره مُرادسًا خلب الجفر،
وأنتشي أخباره الطيبة انتشاء الزهر، وأستافها كل عشيٍّ وسفرٍ، ولي بها وجد الصادية،
بماء الغادية، لا يَزال يُبهِجني بها باكرٌ مع الشارق، وآئبٌ إياب الطارِق، جعَلها
الله أبدًا ضاحكة البشير، سارَّةً للصديق والعشير.
٧٨ وإني لأشتهر بمودته اشتهار الأبلق العَقوق، وأستدلُّ بمعرفته استدلال
شائم البروق، ولو كتمتُها نمَّ بها الخلد نميمة الزُّجاج بالراح، والنخلة بنفسها في
البراح، وكيف يَستَتِر من قاد البازل، ويَستسر من طوى المنازل، والنظرة من ذي علق
كافيةٌ، والنَّهلة بعد طلقٍ شافية،
٧٩ وقد علمتُ أن الثاوي بساحته لا تَسنح له الظباء، ولا يُهتك عليه
الخباء، ولا يُصادفه وِرْد نطاة، ولا الشافعة لدائرة اللطاة؛ لكن يَنام لأمنه نوم
الجارية، عن سوم السارية، ويطَّرح الهموم فكرة اطِّراح الآبق إبالته، والمُخفِق
حبالته، وأن نُزيل غيره كالأشقر إن تقدَّم نُحِرَ، وإن تأخَّر عُقِرَ.
٨٠ وكان سيدي أبو فلان لا يَفتأ لهجًا بما أولاه سيدي الأستاذ أدام الله
عزَّه، وإنه بعنايته سَلِمَ، بعدما كُلِمَ، واستُنقذ، بعدما وُقِذَ؛ ولولا ذلك
لعُدَّ جناة الرائد، وحصاة الذائد، ولسُقي بكدرٍ، وتُرِكَ على مثل ليلة الصَّدَر.
فأنجاه الله جلَّ اسمه على يدَيه من صَفَر الإناء، ومعرِّ الفناء، فأضاف الله له
الأجر الآجِل، إلى الشكر العاجل. فقد منَعه أن يُجذ جذَّ الصِّليانة، ويُقترف
اقتراف الصربة، ويسقط سقوط ناب المُخلف، ويلتمع التماع شُفافة السُّعن البديع؛ وتلك
عُرًى انعقدت، وأسباب توكَّدت. لما كانت عناية سيدي أيَّده الله منه على طرف
الثُّمة، ودون القمَّة، فآنِسه بين سمع البيد وبصَرِها، ومَراشِح العين لجآذِرِها،
شرابٌ بأنقاع، مُوقدٌ نارُه باليفاع:
تؤنسه دائرةٌ لا تَفزَع
عند اللقاء وخطيبٌ مِصْقَع
سواءٌ عليه أيَّ حينٍ أتيتَه
أساعة بؤسي تُتقى أم بأسعَدِ
٨١
وفي كل ثلاثٍ تَرِد كُتُبه محيطةً من شكر مِنَنِه بالأَوقار، متَّصلةً بذلك ذات
المرار، وهل جرى على غريب شاكلةٍ، أو سار في دارس محجَّةٍ، إنما اتَّبع طريقًا
لأُسرته، كقرا الثعبان وباري الصَّنَاع:
وهل يُنبت الخطيَّ إلا وشيجُه
وتُغرس إلا في منابتِها النَّخلُ
وغير ملومٍ من عشق الثناء لأنه أحسن حبيبٍ
مَزُورٍ، وأبقى مُنفِسٍ مذخورٍ، وأوفاك مُثنٍ ما أسديت، وجزاك معترفٌ الذي أوليت.،
وقد بث أهل أبي فلان الدعاء في كل ريعٍ، ورجوه رجاء الربيع:
لِزُغبٍ كأولاد القَطا راثَ خلفُها
على عاجِزات النَّهضِ حُمْرٍ حَواصِلُه
٨٢
فأنا أطال الله بقاء سيدي وهذا الرجل فَرْعا سَمُرَةٍ، وقَضيبا أراكةٍ، وطائرا
وكرٍ، وأليفا وادٍ، تَنصُرنا الغمامة الواحدة، وتُضيء لنا اللمعة الفاردة. بل نَزيد
على هذا التمثيل، فنكون بنانَي يدٍ، وريشتَي جناحٍ، وشعبَتي غصنٍ إذا أماله
النَّسيم مِلت، وإن اعتدلَ له اعتدلت؛ فلساني يَنطِق عن ضميره نُطقَ المزمار عن فم
القاصبة، والأوتار عن أنامل الضاربة.، وقد كنتُ عجزت عن أداء حق سيِّدي عجز روق
الفناة، دون إدراك القناة، وضمين الوَجذ المورود، عن تغمير نعمٍ مطرودٍ. فما تُراني
الآن أقول على أي صِرْعيَّ أقع، وفي أي وجهٍ أبقَع. حيَّاك من خلا فُوه لا أُحدِّث
عريبًا، ولا أسئل مُجيبًا. حسْب اللسان تَقريظ المُنعم، والجنان مِقة المُتفضِّل
المُكرم.
٨٣ ولستُ أدع امتراء كرمِه وإن كفى، ولا اختفاء دُرِّ مناقبِه وإن طفا،
وإتمام الصنيعة إتْباع الفَرَس لجامها، والناقة زمامها، وإسعاد أبي فلان باللفظة
وراء اللفظة، والمشورة تلي المشورة، حتى يُقدم على أطفاله، فهم لغيبته مبتئسون،
وبشئونه كلَّ وقت يتساءلون، سؤال المجدب بالكلإ، والمُستوحِش من الوحدة عن الملإ،
ويَرقُبون طلوعه عليهم، ترقُّب مخلفات السِّرب، موافاة الأمهات بالشَّرب، وبقاؤه
الحاجة العظمى، والنِّعمة ليس مثلها نُعْمَى، وإن كانت له شهلاء شرَّفني بذكرها
ونقع غُلتي بالخدمة فيها مُتطوِّلًا إن شاء الله.
٨٤
وكتب إلى أبي طاهرٍ المشرَّف بن سبيكة وهو ببغداد يَذكُر له أمر شرح السيرافي وما
جرى فيه
من التعب:
بسم الله الرحمن الرحيم. لله الحمد، ما أُحصي خطاءٌ وعمدٌ، وصلى الله على محمدٍ
ما التأم شعب، وعلا كعبًا كعب.
٨٥ شوقي إلى سيدي الشيخ، شوقَ البلاد المُمحلة، إلى السَّحابة
المسحلة؛
٨٦ وانتفاعي بقُربه، انتفاع الأرض الأريضة، بالأمواه الغريضة، وتشوُّفي
لأخباره، تشوُّف راعي أنعامٍ، أجدب في عامٍ بعد عامٍ، لبارقٍ يَمانٍ، هوله مُرتقبٌ
مُمانٍ،
٨٧ وأسفي لفقده أسفٌ وَحشيَّة، رادت بالعشية، فخالَفها السِّرْحان، إلى
طَلًا رادَ فحان، فهي تطوف حول أميلٍ، وترى صَبرها ليس بجميلٍ،
٨٨ وتذكُّري لأوقاته تذكُّر الفطيم ثديَّ الوالدة، والمُقسم بالمِلْح لبني
خالدة، وانتظاري لقُدومه انتظار تاجر مكة وفد الأعاجم، وربِّ الماشية ظهور النبت
الناجم،
٨٩ وفزعي إلى نجدتِه، فزع الغَرِق إلى سيفٍ دانٍ، والفَرِق إلى سيفٍ ليس
بددانٍ، واعتذاري من التَّثقيل عليه اعتذار الورقاء من الغَدر، وأبي جهل من حضور
بدرٍ،
٩٠ وثقتي بمكارمه ثقة راكب الماء بالعامة، والحرِث بالنعامة، وشكري على
أياديه حبيسٌ ليس بمحتبسٍ، بل يَتجدد مع النفس.
٩١ وفي هذا اليوم، وهو يوم كذا وصَل كتابه فسُررت به سرور الظمآن ورد
نميرًا، والساهر صادف سميرًا؛ وكأن ما ضُمِّنه من سلامته، بُشرى لها تخفُّ الأحلام
خفَّة القائل ولا يلام: يا بُشراي هذا غلام، والله يمُنُّ باجتماع، ليس بعده من
إزماع.
٩٢ وفهمت ما ذكره من أمر النُّسخة المُحصَّلة، وهو أدام الله عزه الكريم
المُتكرِّم، وأنا المُثقَل المُبرَم. جرى في التفضل على الرسم، وألححت إلحاح الوسم،
فأما الشرح إن سمح به القدر، وإلا فهو هدر، وقد كنتُ قلتُ في بعض كُتبي إلى سيدي إن
كانت الخطوط مختلفةً، والأبواب مؤتلفةً، فلا بأس يُغني عن لُبْس السرق، ثوبٌ جُمِعَ
من شتى خِرَقٍ، ما عدا خطِّ عليِّ بن عيسى؛ فإنه رجلٌ اتكل على ما في صدره، فتهاون
بإحكام سَطرِه، وإنما رجوت ببركته أن يتفق أُناسٌ كما قال الله تعالى:
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا
فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، فأما أنا فلا أقول أبدًا عسى أن يَنفعنا أو
نتخذه ولدًا.
٩٣ وأما ما ذكره من فساد الناس فأَحلِفُ ما حَلِمَ الأديم، وإن ذلك لداءٌ
قديمٌ، النَّمِرَة بنتُ النَّمِرة، والقتادة أختُ السَّمُرة، وهو أدام الله تأييده
من المَلامة، في أحصَنِ لامة، فلا يَبعثُه تعذُّر الحاجة، على اللجاجة. أهو الكتاب
المكنون، الذي لا يمسُّه إلا المطهرون! إنما هو أبا طيل إياةٍ، وتعلُّلٌ في أيام
الحياة،
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ
الْغُرُورِ.
٩٤ فأما سيدي الشيخ أبو عمر ثابتٌ فإن اسمه وافَق آيةً، بلَغت بفألها
النهاية، وهي قوله جلَّ اسمه:
كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا
ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، وأنا والجماعة نُهدي إلى سيدي
الشيخ وإلى جميع أصدقائه سلامًا تأرَّج الكُتب بحملِه، وتُروَّض المُجدبة من سيله،
وحسبي الله.
وكتب إلى صديق له سأله أن يَنقُصه في ترتيب المكاتبة:
كتابي أطال الله بقاء الرئيس الفاضل بلا استثناء، والمُشتمِل بحُلة الثناء، من
المستقر المأنوس، بحُسن ذكره، المأهول بحملة شكره، عن قلبٍ يعوم في ولائه عوم
الحجاة في الغدير، والقطرة في حوض الصبير، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلواته على
خيرته المُنتخَبين، وشوقي إلى حضرته السعيدة كرحيقٍ إذا عَتُق جاد، وراوي أثرٍ كلما
قدُم ساد؛ شوقٌ لا تُحسنه باكية هديلٍ، ولا ناميةٌ إلى جديلٍ.
٩٥ وكان كتابه لما ورَد كطائر بشارةٍ وقع، وماء سرارةٍ فوجئ فنقَع،
والإطناب في صفة ما عُرِفت حقيقته خُلُقٌ مُجتنَبٌ، وترك البيان لِما ظهر أجدر
وأوجب، وفضضته عن عتائر اللطيمة، ومقاطر الأطيمة، وعظُمت نعمة الله جلَّ اسمه عليَّ
لِما ذكره من أن السلامة عليه جلبابٌ، والنعمة له منزلٌ وجنابٌ. لأني جعلتُه أدام
الله عزَّه الجُنة الواقية، والعُدة الباقية، وإذا تضوَّع لمكارمه أرجٌ، واتصل من
أغصان مناقبه حرجٌ. أظهرتُ المَرح، وأضمَرتُ القرَح، كالأَمة تَفخر بحدجِ ربَّتها،
والمُعزِّبة بنَعَم أهل بيتها،
٩٦ وقد علمتُ أن تأخير الجواب، إنما كان لإلحاق حسِّ الشر بأُسِّه، وردِّ
غائلة الغلط على نفسه، لأني كتبتُ بعدما حَلِمَ الأديم، وبليَ الرديم، وأبطأ
الغروب، أملؤها من شفاء المكروب، والعِشار الهِجان، أثقل ما زجَره الفتيان، وقد
أيقنتُ أن رِسْل نصيحته ليس بسمارٍ، وأن صواب رأيه عن غير ائتمارٍ، ولم أَكتُب في
أمر أبي فلانٍ إلا مُتشكِّرًا، ثم ثنَّيت باسترفاد المعونة مذكِّرًا. إذ كان أدام
الله عزَّه لا يُشير لسائله إلى الأفد البعيد، ولا يَضرِب لراجيه رءوس
المواعيد:
أرخِ يدَيك واسترخْ
إن الزناد مِن مرخ
فأما تَدارُكه ما جرى من الوهم، فإذا أُعطِيَت القوس باريها، والخيل فوارسها،
والقناة مُصرِّفها، دحضت قدم الباطل بثَبات الحق، وزالت حنادس المين بإشراق شموس
الصدق، وما استنَد أبو فلان إلا إلى هضب مُتالعٍ، واعتصَم بغرز جوادٍ غير ظالعٍ، ما
هزَّ نابيًا، ولا أرسل إلى الغاية كابيًا، ولولا عنايته لاعتمد على اليرمع بكفَّيه،
واتَّبع اليلمع بناظرَيه، ولقي أُمَّ الرُّبَيق على أُرَيْقٍ.
٩٧ ولو لم يُتعَب سيدي أنامله بالمكاتبة، وقلمه في الإجابة، لكانت دلائل
صنائعه ناطقةً، ومَخايل إحسانه مخبرةً صادقةً. يُريك بشرٌ، ما أحار مشفرٌ، كفى
بضيائها هاديًا، وبنشرها مناديًا، وأما تجميله أمر الجماعة بحَضرة الرئيس أبي فلانٍ
فنعمةٌ ولِيَت نِعمًا، وكرمٌ أردف كرمًا؛ وتلك حضرة يَألَفُها الخير إلف الإبل
السَّعدان، والمَحَار العَدان، والجماعة أولياء فضلها، وغراس أهلها.
٩٨ وأما الفصل في ترتيب الخطاب، فلا غروَ لمَن نزل إلى درجاتٍ، أن أَرتفِع
إليه درجةً، ولمن سلَك نحوي المشبَّهات، أن أسلك نحوه المحجَّة؛ وذاك فعل مُدِلٍّ،
وجُهد مقلٍّ. فأنا حينئذٍ كمن قام ليتلقَّى الغمام، شوقًا إلى عذب ماء، قطَع إليه
ما بين الأرض والسَّماء. وقد والله العظيم أردتُ سؤاله في الرجوع إلى مَرتبته في
المُكاتبة، وإجرائي على مقداري في المناجاة والمُحاوَرة، فخشيتُ أن يَسبق إليَّ
ظنٌّ أنَا منه بريٌّ، وبسواه جديرٌ حريٌّ، وكان التأخُّر عن ذلك زلةً، والترك
لتنجُّزه غفلةً؛ لأنه كلفني إقلاق ثبيرٍ، ولحاق البدر المنير، فما بال العلاوة بين
الفودَين، والبنانة بعد اليدَين. لا مَعتبة إنْ جازيت ببكي الفطر، عن زكي القطر؛ هو
بدأني بما لا أَستحِق، فأجبتُ بما أَوذَمَه عليَّ الرِّق، ولم أكن كعاقر الرَّمل،
أُمطَر فلا أُروِّض، وكحَفير الميت أُعوَّض ولا أُعوِّض. لا أقلَّ من كوني مثل
وذيلة الغريبة، وزلفة المُضِرِّ الأريبة، يَطَّلع فيها ذو الوجه الجميل، فتَجتهِد
له في التمثيل، ولابتدائه على مكافأتي شف الطلعة البهيَّة، على صورتها في المرآة
الجلية. فإذا راعَ في لفظه إلى اليفاع وعدَل في الكلام فاعتدل، آضَ وليُّه فلزم
الانخفاض، وفاء فأخذ اللفاء.
٩٩ وسيدي أبو فلان فرقدُ حندسي، وكوكب ربيعي، وروضة أملي، ولما كان هو
وسيدي قمرَين في طُفاوةٍ، وشمسَين في هالةٍ، وبُشْرَيين في كلمةٍ، اقتصرت على
الكتاب إلى أحدهما دون الآخر، وأنا أُهدي إلى حضرتهما ثناءً مِسكيًّا، وسلامًا
زكيًّا، يبقيان ما رسا العلم، وأورق السَّلم، إن شاء الله.
(انتهى الكتاب)
هوامش