تاريخ الأشخاص والأمكنة
السموأل وولداه عاديا وشريح
فعرف لهم السموأل حقهم وأنزل هندًا في قبة أدم. وأنزل القوم في مجلس له براح، ثم إن امرأ القيس طلب إليه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بالشام ليوصله إلى قيصر، واستودعه المرأة والأدرع والمال وأقام معه يزيد ابن عمه. وكان من أمر امرئ القيس مع قيصر ما سيجيء ذكره.
ثم جاء أعداء امرئ القيس وطلبوا من السموأل الوديعة فأبى، وتحصن بحصنه، فأخذوا ابنًا له ونادوه: «إما أن تسلم الأدرع وإما قتلنا ولدك.» فأبى أن يسلم الأدرع، فضربوا وسط الغلام بالسيف وأبوه يراه. وكانت وفاة السموأل تقريبًا سنة ٦٢ قبل الهجرة.
- عاديا: لم يذكر المؤرخون اسم ابن السموأل الذي ضحاه أبوه في سبيل الوديعة، وقد سميناه عاديا على اسم جده.
-
شريح: أحد أولاد السموأل، وفيه قال الأعشى قصيدته:
شريح لا تتركنَّي بعدما علقتحبالك اليوم بعد القد أظفاري
امرؤ القيس وهند ويزيد
هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار، وكان ميلاده في نجد نحو سنة ٥٢٠ للمسيح. ولما ترعرع أخذ يقول الشعر، وقيل إن المهلهل خاله لقنه هذا الفن فبرز فيه إلى أن تقدم على سائر شعراء وقته بالإجمال.
قال الكلبي: حدثني أبي عن ابن الكاهن الأسدي أن حجرًا كان طرد امرأ القيس وآلى أن لا يقيم معه؛ أنفة من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنَف من ذلك، فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذهم من طي وكلب وبكر بن وائل. فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد فتصيد ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه. ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير فينتقل عنه إلى غيره. وفي أثناء ذلك قال معلقته الشهيرة: قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل … إلخ.
ثم لم يزل امرؤ القيس مع صعاليك العرب حتى أتاه خبر مقتل أبيه وهو بدمون من أرض اليمن، وقيل: من الشام. أتاه به رجل من بني عجل يُقال له: عامر الأعور، فوجده مع نديم لهُ يشرب ويلاعبه بالنرد. فقال له: قُتل حجر. فلم يتلفت إليه وأمسك نديمه، فقال له امرؤ القيس: اضرب. فضرب حتى إذا فرغ قال: ما كنتُ لأفسد عليك دستك. ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله فأخبره فقال:
ثم شرب سبعًا، فلما صحا آلى أن لا يأكل لحمًا، ولا يشرب خمرًا، ولا يدَّهن بدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه من جناية حتى يدرك بثأره فيقتل من بني أسد مائة، ويجزَّ نواصي مائة. وشعره في هذا المعنى كثير.
ثم أخذ يعد العدد ويجهز الأسلحة لمحاربة بني أسد، فقاتلهم حتى كثرت الجرحى والقتلى، وملَّ رجالُه وانصرفوا عنه.
وألحَّ المنذر في طلب امرئ القيس ووجَّه الجيوش في طلبه، ففرَّ من وجهه ونزل في أماكن مختلفة مما يطول ذكره. إلى أن جاء السموأل وكان معه من أمره ما تقدم.
ثم مات فدُفن إلى جنب المرأة وكانت وفاته نحو ٥٦٥م.
وقد ورد ذكر امرئ القيس في تواريخ الروم، فذكروا أنه قبلَ وروده على قيصر يوستينيانس أرسل إليه وفدًا ومعه ابنه معاوية يطلب منه النجدة على بني أسد وعلى المنذر ملك العراق، فكتب قيصر إلى النجاشي يأمره بأن يجند الجنود ويسير إلى اليمن ويعيد الملك لصاحبه، ثم إن امرأ القيس لم يلبث أن سار بنفسه إلى قسطنطينية. وذكر نونوز المؤرخ أن يوستينيانس قلدهُ إمرة فلسطين. وذُكِر في كتاب قديم مخطوط أن ملك قسطنطينية لما بلغه وفاة امرئ القيس أمر بأن يُنحت له تمثال وينصب على ضريحه ففعلوا، وكان التمثال هناك إلى أيام المأمون، وقد شاهده هذا الخليفة لما دخل بلاد الروم ليغزو الصائفة.
وامرؤ القيس من فحول شعراء الجاهلية، سبق الشعراء إلى أشياء ابتدعها واستحسنتها العرب. قال نبي المسلمين عنه: «ذلك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، يجيء يوم القيامة وبيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار.» ويروى أن كلًّا من لبيد وحسان قال: ليت هذه المقالة فيَّ وأنا المدهدي فيها.
وفضله عليٌّ الإمام بأن قال: رأيت امرأ القيس أحسن الشعراء نادرة وأسبقهم بادرة، وأنه لم يقل لرهبة ولا لرغبة.
ويقال: إن أمير شعر أمير الشعراء قوله من قصيدة:
- يزيد: هو يزيد بن الحارث بن معاوية، وهو ابن عم امرئ القيس، نجا معه ورافقه في أسفاره ونزل معه على السموأل. ولما سار امرؤ القيس إلى قيصر أقامه مع ابنته في الأبلق كما تقدم.
- هند: هي ابنة امرئ القيس استودعها السموأل مع أدرعه وماله. وقد ورد ذكرها كثيرًا في شعر أبيها مما يطول إيراده.
الطماح
هو رجل من بني أسد، وكان امرؤ القيس قد قتل له أخًا، فاندس الطماح وأقام في بلاد الروم مستخفيًا وجاء قيصر، وروى الكلبي أنه قال لقيصر: إن امرأ القيس غويٌّ فاجر، وإنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وهو قائل في ذلك أشعارًا يشهرها بها في العرب فيفضحها ويفضحك. فبعث قيصر حينئذٍ إلى امرئ القيس بحلة وشي مسمومة منسوجة بالذهب، وكان ما كان كما تقدم في الكلام، وفي ذلك يقول امرؤ القيس من قصيدة:
الربيع
هو الربيع بن ضبع الفزاري، شاعر من فزارة، وبنو فزارة حلفاء بني أسد، وكان ممن يأتي السموأل فيحمله ويعطيه، وكان الربيع من الخطباء الجاهليين، وقد أدرك زمن الإسلام؛ لأنه كان من المعمرين، ويقال (؟): إنه بقي إلى أيام بني أمية، وهو القائل:
ولما نزل عليه امرؤ القيس قال له: «يا ابن حجر، إني أراك في خلل من قومك، وأنا أنفس بمثلك من أهل الشرف، وقد كدت بالأمس تؤكل في دار طي. وأهل البادية أهل بَرٍّ لا أهل حصون تمنعهم … أفلا أدلك على بلدٍ تلجأ إليه! فقد جئت قيصر وجئت النعمان فلم أرَ لضعيف نازل ولا لمجتدٍ مثله ولا مثل صاحبه.» قال: مَن هو وأين منزله؟ قال: السموأل بتيماء. وسوف أضرب لك مثله وهو يمنع ضعفك حتى ترى ذات غيبك. وهو في حصن حصين وحسَب كبير. وذهب به إلى السموأل، وكان من أمره معه ما كان. وقيل: إن من قال هذا القول لامرئ القيس هو عمرو بن جابر الفزاري، وعمرو هذا سار به إلى الربيع.
•••
هذا مجمل ما وقف المؤلف عليه في كتب العرب بعد أن ظلَّ مدة ينفض الغبار عن مطويات الماضي، وقضى ساعات لذيذة في مناجاة هذه الأرواح الشريفة.
ويرى القارئ مما تقدم أن هذا الموضوع من خير المواضيع الروائية التي يجدر بالكتبة أن يبرزوها إلى معاصريهم على المراسح؛ فإن فيه الحقيقة التي تُولد التشويق. والحوادث التي تُحرِّك العواطف، والعظمة التي توحي بالشعر وبليغ المعاني، فلا ينقصه إلا مَن يفيه حقه من التأليف. ولسنا لِندعي بلوغ هذه الأمنية لحداثتنا في هذا الفن على حداثته عندنا.
وليس ما يمنع الكاتب عن مثل هذا الاستنباط؛ فإن شرط الروايات الأول — وهمية كانت أو تاريخية — هو أن تكون تلك الروايات صورة الطبيعة والإنسانية، فنشاهد فيها مرآة صافية تنعكس عليها عواطف هذه ومحركات تلك. فليراعِ المؤلف هذه القاعدة، وليضع في صدور أشخاصه قلوبًا تنبض كقلوبنا وليختلق حينذاك ما شاء.
هذا ما قصدناه في روايتنا، وإذا كنا قصرنا مرارًا عن تبيانه فلسنا ممن يدعون العصمة أو يجهلون وعورة هذا المسلك.