النقد الأدبي والتاريخ الأدبي
(١) الجمحي وابن قتيبة
إذا كان النقد قد أخذ يستخدم علومَ اللغة المختلفة لتوضيح أحكامه وتعليلها، وذلك عندما تكوَّنَت تلك العلوم؛ فهو بدَوره قد اتخذ أساسًا من أسُس التاريخ الأدبي، بل كان أساسَه الجوهري، في أول كتابٍ أُلِّف في تاريخ الأدب العربي؛ وهو «طبقات الشعراء» لابن سلَّامٍ الجمحي (م ٢٣٢ﻫ)؛ وذلك لما هو واضحٌ في منهجِ تبويبِه للأدب مِن اتخاذ أحكام النقد فيصلًا في النهاية.
- (١) الزمان: فجعل منهم مجموعتَين: جاهليِّين وإسلاميين. وهذا تقسيمٌ لم يكن منه مَفر؛ لأن الأمر لا يقف عند مجرد سَير الزمان، بل يَعْدوه إلى مَضمونه، وقد جاء الإسلامُ فأحدثَ في حياة العرب ثورةً روحية ومادية، كانت لها آثارُها البعيدة في كل مَظاهر نشاطهم. وإذن فاتخاذُ الزمن أساسًا للتقسيم أمرٌ لم يكن منه بُد، بل إن في ألفاظ ابن سلَّام نفسِه ما يدلُّ على أنه لم يَقصد إلى هذا التقسيم ولم يُفكر فيه، بل أمْلَته طبائعُ الأشياء، وإنما كان تفكيره منصرفًا إلى توزيع شعراء العهدَين في طبقاتٍ تبعًا لجودة شِعرهم وكثرته، «ففصَّلنا الشعراءَ من أهل الجاهلية والإسلام والمخضرمين، فنَزَّلناهم مَنازلَهم، واحتجَجْنا لكلِّ شاعر بما وجدنا له من حُجة وما قال فيه العلماء، وقد اختلف الرواةُ فيهم؛ فنظر قومٌ من أهل الشعر والنَّفَاذ في كلام العرب والعلم بالعربية، إذا اختلف الرواةُ وقالوا بآرائهم، وقالت العشائرُ بأهوائها، فلا يُقنِعُ الناسَ في ذلك إلا الروايةُ عمَّن تقدم.» وإذن فقد كان هناك نقدٌ سابق لمحاولة تاريخ الأدب وتبويبه وتفصيله، وقد اتُّخِذ هذا النقدُ فَيصلًا، وبخاصةٍ عندما «قالت العشائر بأهوائها.»١
- (٢) المكان: وذلك لأن ابن سلَّام عندما وزَّع الشعراءَ بين الجاهلية والإسلام، وقسَّم هؤلاء وأولئك إلى طبَقات، نظرَ فوجد أن هناك شعراءَ لم يُصبحوا شعراء للعرب كافة، بل ظلوا متَّصلين كلٌّ بقريته، وهم ما يُمكن أن نُسميهم «بالشعراء الإقليميين»، فجمعهم في باب شعراء القرى: مكة والمدينة والطائف واليمامة والبحرين، هذه الظاهرة من مُخلَّفات الروح الجاهلية؛ روح الإقليم والقبيلة التي لم يستطع الإسلامُ أن يمحُوَها، فظلَّت مصدرًا للفتن والقلاقل في تاريخ العرب السياسي، وللمفارقات والتلوين في تاريخهم الأدبي. ومع هذا، فابنُ سلَّام يُفاضل بين شعراء كلِّ قرية، فيجعل من حسَّان أشعرَ المدَنيِّين،٢ ومن عبد الله بن الزِّبَعْرَى أبرعَ المكيِّين٣ … إلخ.
- (٣) الفن الأدبي: ضمن الشعراء الإقليميِّين مَن انفرد بفنِّ بذاته، وهم لم يقصدوا إلى ذلك الفن، بل سِيقوا إليه بدوافعَ من حياتهم. وهؤلاء هم أصحاب المراثي:
مُتمَّم بن نُوَيرة، والخَنْساء، وأَعْشى باهِلة، وكعبُ بن سعدٍ الغَنَوي.
وإذن، فابن سلَّام وإن يكن قد أمْلت عليه طبائعُ الأشياء اتخاذَ الزمان والمكان أساسَين لمحاولته وضْعَ تاريخ الشعر العربي، فإن هذين الفصلَين لم يكونا عنده إلا إطارَين كبيرين أدخل فيهما تقسيمَه للشعراء على أساسٍ من النقد الأدبي.
ولو أننا أضَفْنا إلى فكرة الطبقات فكرته عن الفن الأدبي، كما تظهر في إفراده أصحاب المرافق ببابٍ خاص، لوضحَ لدينا بما لا يترك مجالًا للشكِّ أن النقد الأدبي سابقٌ للتاريخ الأدبي عند العرب وأساسٌ له.
وهكذا تنتهي بنا النظرةُ التاريخية إلى التمييز بين النقد الأدبي والتاريخ الأدبي، وهذه حقيقةٌ تُؤيدها الدراسات الأدبية الحديثة كما يؤيدها التاريخ، وهي من مُقتضيات كلِّ منهج صحيح.
(٢) التاريخ الأدبي في الدراسات الحديثة غير النقد الأدبي
وعلى هذا يدرس النقد رثاء المهلهل لأخيه كليب، والخنساء لصخر، وابن الروميِّ لابنه، والمتنبي لأختِ سيف الدولة، كلٌّ منهم منفردًا. ثم يأتي تاريخ الأدب فيؤرخ للمَراثي عند العرب، فيكون عمله تأريخًا لفنٍّ أدبي، ويدرس غزَل جَميل وكُثيِّر، أو غزَل العَرْجي وعُمر بن أبي ربيعة، ويأتي التاريخ الأدبيُّ فيؤرخ للنَّسيب العُذري أو لغزَل اللذة الحِسية، ويكون عمله تأريخًا لتيارٍ فني أخلاقي. وأخيرًا، يدرس النقدُ شِعرَ مُسلم بن الوليد، وشعرَ أبي تمَّام، أو شعر الحُطَيئة وشعر زُهير، ثم يأتي التاريخ الأدبي فيؤرخ لتذوُّق الصِّناعة في الشعر أو تذوق الخيال الحسِّي، ويكون عمله تأريخًا لعصرٍ من عصور الذَّوق المختلفة.
والتاريخ يؤيِّد نفس الحقيقة — فالنقدُ الأدبي سابقٌ عند العرب للتاريخ الأدبي؛ وذلك لما هو واضحٌ في تاريخ كلِّ الأمم القديمة من أن الدراسات التاريخية المنظمة لم تنشأ إلا بعد أن اجتمع لدى كلِّ أمة تراثٌ شعَرَت بالحاجةِ إلى مراجعته، وهذا لم يحدث في الأدب إلا بعد أن تراخى الزمنُ بعهد الإنتاج الحقيقي، فعندئذٍ تكون العقول قد اتَّسع إدراكُها، ونمَت لديها قوةُ التفكير النظري الذي يستطيع أن يصل إلى الكليات. وهذه العهود من الملاحَظ أنها كانت في الغالب عهودَ انحلالٍ في الأدب، وفقرٍ في أصالته. وهذا واضحٌ في تاريخ اليونان؛ حيث لم تبدأ دراساتُ التاريخ الأدبي إلا في عصر الإسكندرية، وعند اللاتين؛ حيث لا نرى تلك الدراساتِ إلا ابتداءً من عصر الإمبراطورية بعد انقضاء حكم أغسطس. وكذلك عند العرب؛ فهي لم تظهر إلا في العصر العباسي؛ حيث غلَبَت الصَّنعة على الطبع، والتقليدُ على الأصالة، وهذا صحيحٌ عن الشعوب القديمة.
أما الشعوب الحديثة فأمرها أمرٌ آخر؛ لتمشيَ كلُّ ملَكات البشر فيها جنبًا إلى جنبٍ خلقًا ونقدًا وتاريخًا.
ولكن إذا صحَّ ذلك عن التاريخ الأدبي، فهل يصح أيضًا عن النقد الأدبي؟
ذلك ما لا يراه نظرٌ ولا يؤيده تاريخ، فما دمنا قد عرَّفنا الأدبَ بأنه: كلُّ ما يُثير فينا بفضل خصائص صياغته أنواعًا خاصةً من الانفعال؛ فمن الضروريِّ أن تكون هناك استجابات، وأن يَصدُر عنها النقد، والذي لم يزلَّ فيه أن استجابات العرب لم تكن فاترة، وفي أخلاقهم عُنف البداوة، كما أن في شعرهم ما يُحرك ضُروبًا من الانفعال الشخصي والقَبَلي، وهذا ما كان؛ فقد وُجد النقد الأدبي عند العرب مُلازمًا للشعر.
وكان نقدهم كما نتوقع نقدًا ذوقيًّا في نشأته. ونحن هنا لا نرى داعيًا لأن نجمع لمحاتهم الخاطفةَ في هذا السبيل؛ فكتب الأدب غاصَّةٌ بها، وبخاصة «الأغاني»، كما أن المرحوم الأستاذ طه إبراهيم قد جمَع ورتَّب طائفةً صالحة منها في الفصول الأولى من كتابه عن تاريخ «النقد عند العرب»، وإنما نريد أن نبحث: هل من الممكن أن نُسمِّيَ هذا نقدًا دون أن يكون في ذلك إفسادٌ لحقائق التاريخ أو إخلالٌ بأصول البحث؟
ليس مِن شكٍّ في أننا لا نستطيع أن ندرك طعم شراب أو طعام ما لم نتذوَّقْه بأنفسنا، ولا يمكن أن يُغنِيَنا عن هذا التذوق الشخصيِّ أيُّ تحليلٍ كيماوي أو تقريرِ خُبراء، كذلك الأمر في كافة الفنون؛ فأي وصف لِلَوحةٍ زيتية أو تمثالٍ من الرخام لا يمكن أن يُغني عن الرؤية المباشرة، وكذلك الأمر في الأدب؛ فذَوْقنا الخاصُّ هو أساس كلِّ فهم له، بحيث يبدو النقدُ الذَّوقي أمرًا مشروعًا، وهو بعدُ حقيقةٌ واقعة حتى عند العلماء من النقاد المحدَثين.
وإذن، فالنقد الذَّوقي نقدٌ مشروع وحقيقة واقعة.
ولكننا نتساءل عن توفُّرِ الشروط اللازمة في الذوق ليُصبح أداةً صالحة للنقد، ثم نبحث: هل توفَّرَت تلك الشروطُ لدى العرب عندئذٍ أم لا؟
والواقع أنه قد وُجد عند الجاهليِّين والأُمويِّين نقدٌ ذَوقي يقوم على إحساس فني صادق، ولقد تركَّزَت بعض أحكامهم في جُملٍ سارت على كافة الألسن؛ كقولهم: «أشعر الناس امرُؤ القيس إذا ركب، وزُهير إذا رَغِب، والنابغة إذا رَهِب، والأعشى إذا طرب.» وأمثال ذلك ممَّا نعرفه جميعًا.
- (١) عدم وجود منهج: وهذا أمرٌ طبيعي في حالة البداوة التي كانت تُسيطر على العرب، والرجلُ الفِطري يستطيع بإحساسه أن يخلق أجملَ الشعر؛ يَصوغه من مشاعره ومُعطيات حواسِّه، وهو ليس في حاجةٍ إلى عقل مكون ناضج يرى جوانبَ الأشياء كلها، ولا يحكم إلا عن استقصاء. ومن الثابت أن الشعر لا يحتاج إلى معرفةٍ كبيرة بالحياة ونظرٍ فيها، بل ربما كان الجهلُ أكثرَ مواتاةً له، وكثيرًا ما يكون أجودُه أشدَّه سذاجة.
والنقد المنهجيُّ لا يكون إلا لرجلٍ نما تفكيرُه فاستطاع أن يُخضِع ذوقَه لنظر العقل، وهذا ما لم يكن عند قدماء العرب وما لا يمكن أن يكون؛ ومن ثَمَّ جاء نقدُهم جزئيًّا مُسرفًا في التعميم، يُحسُّ أحدهم بجمال بيتٍ من الشعر، وتنفعل به نفسُه فلا يرى غيره، ولا يذكر سِواهُ كَدَأبِه في كل أمور حياته؛ إذ تجتمع نفسه في الحاضر الماثلِ أمامه. وفي هذا ما يُفسِّر ما نجده في كتب الأدب من أحكام مسرفة كقولهم: «هذا أجودُ ما قالت العرب.» و«هذا الرجلُ أشعرُ العرب.» وما إلى ذلك.
- (٢) عدم التعليل المفصل: وهذا أيضًا شرطٌ لم يكن من الممكن أن يتوفَّر لعرب البداوة؛ فالتعليل أمرٌ عقلي لا يستطيعه إلا تفكيرٌ مكون، وكل تعليل لا بدَّ من استناده إلى مبادئَ عامة، والعرب لم يكونوا قد وضَعوا بعدُ شيئًا من مبادئ العلوم اللغوية المختلفة التي لم تُدوَّن إلا في العصر العباسي. ومن الواضح أن الاتجاه إلى التعليل خليقٌ بذاته أن يَسوق — حتى في النقد الذوقي — إلى التمييز والتقدير والمراجعة والتحديد؛ ليصبح إحساسُنا أداةً مشروعة للمعرفة.
إذن، فقد ظل النقد في هذه المرحلة إحساسًا خالصًا، ولم يستطع أن يُصبح معرفةً تصح لدى الغير بفضلِ ما تستند إليه من تعليل.
وهذان العيبان واضحانِ في الكثير من الأحكام التقليدية المرويَّة في كتب الأدب؛ فهي لا تستندُ إلى تحليلٍ للنصوص أو إلى نظرٍ شامل فيما قال هذا الشاعرُ أو ذاك. وأما عن ناقدٍ متخصص كابن سلام؛ فالأمر يحتاج إلى تفصيل.
(٣) ابنُ سلَّامٍ الجُمَحي
لقد فطن ابنُ سلَّام إلى كثيرٍ من الشروط التي يجب أن تتوافر في الناقد وفي النقد.
(٣-١) الدُّرْبة والممارَسة
(٣-٢) تحقيق النصوص
(٣-٣) تفسير الظواهر الأدبية
وتتضح نفس الروح العِلمية في محاولته تفسيرَ بعض الظواهر الأدبية؛ كقوله في صددِ الحديث عن شُعراء القرى؛ تعليلًا لقلة الشعر في الطائف ومكةَ وعمان، وكثرته بالمدينة: «وبالطائف شعراءُ وليس بالكثير، وإنما كان يكثر الشعرُ بالحروب التي تكون بين الأحياء؛ نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يُغيرون ويُغار عليهم. والذي قلَّل شعر قريش أنه لم يكن بينهم ثائرةٌ ولم يُحاربوا، وذلك قلَّل شِعر عمان.» أو قولِه تفسيرًا للِين شعر عديِّ بن زيدٍ ووضْعِ الشعر عليه: «كان يَسكن الحِيرة ومراكز الريف؛ فلانَ لِسانه، وسَهُل منطقه، فحُمل عليه شيءٌ كثير، وتخليصُه شديد.»
(٣-٤) أسس المفاضلة
والواقع أنه إذا كان ابن سلَّام مُصيبًا في نظرته إلى انتحال الشعر، فإنه أقلُّ إصابةً فيما عدا ذلك؛ فتفسيره لِنُدرة شعر بعض القُرى مردود؛ لأن الشعر ليس كلُّه في الحرب ولا هو قاصرٌ عليها، بل إن فيه مُصادَرةً على المطلوب، فليس بصحيحٍ أن الشعر كان نادرًا في مكة مثلًا خصوصًا بعد الإسلام، وإنما أسقط ابنُ سلام من حسابه — لسببٍ لا نعرفه — الكثيرَ من الغزَليِّين، وعلى رأسهم عمرُ بن أبي ربيعة الذي لم يذكره أصلًا، ولِينُ شِعر عديِّ بن زيد لا يكفي لتعليلِه قولُه: «إنه سكَن الحيرة ومراكز الريف.» وإلَّا حِرْنا في تعليل: «نحت الفرَزْدق من صخر.» و«اغتراف جَرير من بحر.» وأما عن تفضيله الكثرةَ على الجودة، وتعدُّد الأغراض الشعرية على التوفُّر على الفن الذي تحزَّبْنا إليه مُلابسات حياتنا؛ ففي ظنِّنا أنه من الواضح أن الكمَّ ليس مقياسًا صحيحًا لقِيَم الشعراء، وإلى هذا فطن ابنُ قتيبة، كما سنرى.
ثم إننا نلاحظ أنه يُورد ما يختاره للشعراء المختلفين أو يورد مَطالعه، ولكنه لا يُحلله ولا ينقده، ولا يُظهر ما فيه من جمالٍ أو قُبح. وإن حكَم على بعض القصائد أو بعض الشعراء فأحكامُه في الغالب هي الأحكام التقليدية التي كانت الألسُن تتداولُها عن السابقين «حسَّان بن ثابت يقول: أشعرُ الناسِ حيًّا هُذَيل. والفرزدقُ يقول في النابغة الجَعْدي: مَثله مثلُ صاحب الخُلْقان؛ ترى عنده ثوبَ عَصب وثوبَ خَزٍّ وإلى جانبه سَمَل كِساء. وأبو عَمْرِو بنُ العلاء يقول في خِدَاش بن زُهير بن رَبيعة: هو أشعرُ في قَريحة الشعر من لَبِيد، وأبى الناسُ إلا تَقْدِمةَ لَبيد.» وهو إنْ أورد حُكمًا لنفسه؛ كقوله عن أصحابِ المراثي: «والمقدَّمُ عندنا مُتمَّم بن نُويرة.» أو: «ومن الناس مَن يُفضل قيسَ بن الحطيم على حسَّان، ولا أقول ذلك.» لم يُسبب أحكامَه بتحليلٍ لنصٍّ أو ذِكرٍ لِصفات مميزة. وإن أوردَ خصائصَ جاءت عامةً غامضة غيرَ دقيقة؛ كقوله عن أبي ذُؤَيبٍ الهُذَلي: «إنه شاعرٌ فحل، لا غَميزة فيه ولا وهن.» وعن عُبيد بين الحَسْحاس إنه «حُلو الشعر، رقيقُ حَواشي الكلام.» وعن البعيث إنه «فاخر الكلام، حرُّ اللفظ.» وأمثالِ ذلك مما لا تحديدَ فيه ولا تفصيل.
وإذن، فابنُ سلَّام لم يتقدَّمْ بالنقد الفنيِّ إلى الأمام شيئًا كبيرًا، وإن كان قد صدَر في تحقيقه للنصوص عن مذهبٍ صحيح، وحاوَل أن يُدخِل في تاريخ الأدب العربيِّ اتجاهًا نحو التفسير، ومحاولةً للتبويب تقوم على أحكامٍ فنية؛ ولهذا نستطيع أن نظلَّ عند مُلاحظتَينا السابقتَين من عدم صدور النقد — كفنٍّ لدراسة النصوص وتمييزِ الأساليب — عن منهجٍ مستقيم ورُوح عِلمية في تعليل الأحكام، وذلك حتى أواخرِ القرن الثالث، وإنما أصبح النقدُ نقدًا منهجيًّا في القرن الرابع فقط، عند الآمِديِّ وعبد العزيز الجُرجاني، كما سنرى.
(٤) ابن قتيبة
وظهورُ ابنِ قُتيبة (٢١٣–٢٧٦ﻫ) في هذا القرن لا يُغيِّر شيئًا من هذه الحقيقة.
فهو يقول في مقدمةِ كتابه «الشعر والشعراء»: «وهذا كتابٌ ألَّفتُه في الشعراء، أخبرتُ فيه عن الشعراء وأزمانهم، وأقدارهم وأحوالهم، في شِعرهم وقبائلهم .. وأخبَرتُ فيه عن أقسام الشعر وطبَقاته، وعن الوجوه التي يُختار الشعر عليها ويُستحسَن لها.»
وهذا كلامٌ قد يفيد أن المؤلف قد جمَع بين التاريخ والنقد، ولكن الواقع بخلافِ ذلك؛ فابنُ قتيبة لم يتناول النصوصَ ولا الشعر بنقدٍ فني تطبيقي، وإنما اكتفى بأنْ عرَضَ في مقدمته (من ٢–٣٦) لبعض المسائل العامة يحاول أن يضَع لها مبادئ، ثم أخذ في سردِ سِيَر الشعراء وبعضِ أشعارهم على غيرِ منهجٍ واضح، ولا مبدأٍ في التأليف.
ولقد رأينا فيما سبق أن ابن سلَّام قد صدَر في تأريخِه للأدب العربي عن مبادئ، وأنه قد أضاف إلى فِكرتَي الزمان والمكان مقاييسَ فنيةً كان يؤمن بها هو، أو البيئة التي تحوطه، واتخذها أساسًا لتوزيع الشعراء في طبقات، والمفاضَلةِ بين شعراءِ كل طبقة، فهل صدر ابنُ قتيبة عن شيء من ذلك؟
الواقع أن ابن قتيبة كان رجلًا مستقلَّ الرأي غيرَ خاضعٍ لتقاليد العرب الأدبية، ولا مؤمنٍ بأحكامهم، ولا مطمئنٍّ إلى المعتقَدات الأدبية التي كانت منتشرةً في عصره، ولكنه لسوء الحظ لم يَعْدُ تقريرَ هذه النزعة والخروج على المألوف دون أن يُحِلَّ محلَّه غيرَه.
فهو لا يأخذ بفِكرة الطبقات كما أخذ ابن سلَّام — وهذا واضحٌ منذ الصفحات الأولى من كتابه — فهو إذا كان قد بدأ بامرِئ القيس، فإنه قد ثلَّث بكعبِ بن زُهير، ولم يقل أحدٌ إن كعبًا من الطبقة الأولى، ولا قدَّمَه أحدٌ على النابغة والأعشى اللذَين يُورِدُهما بعد ذلك بكثير.
وهذه النظرة المجرَّدة إن صحَّت أمام العقل، فهي لا تصحُّ أمام الواقع كما يُبصِّرنا به تاريخُ الأدب العربي، وإنما كانت تصحُّ لو أن الشعر العربي استطاع أن يُفلت من تأثير الشعر القديم، ولو أنَّ نزعة ابنِ هانئ ومدرسته استطاعت أن تغلب فتنجوَ بالشعر عن التقليد؛ لَظلَّ حيًّا إنسانيًّا بعيدًا عن الصنعة والتجويد الفني، يقتصر عليهما جيدُه، ويسقط الباقي في التصنُّع المعيب الفاسد، فأمَّا وقد انتصَر مذهبُ القدماء، فمن الواضح لكل ذي بصرٍ بالشعر أن قديمَ الشعر العربي — أعني الشعر الجاهلي والأموي — خيرٌ من الشعر العباسي وما تلاه إلى يومنا هذا.
ولقد يكون في طبيعة الشعر ذاتِه ما يُفسر هذه الحقيقةَ التي لا تقتصر على الشعر العربي، بل تَصدُق على أشعار الأمم كافَّة؛ فمِن الثابت لدى معظم النقاد أن خيرَ أشعار الشعوب هو ما قالته أيامَ بَداوتها الأولى، حتى لَيُخيَّل إلينا أن الشعر الجيد لا تستطيعه إلا النفوسُ الوحشية الغُفْل القوية، وإذا استطاعه أحَدٌ من المتحضِّرين فهو في الغالب رجلٌ أقرب إلى الفطرة منه إلى المدَنيَّة العقلية المعقَّدة. ولقد يكون في عُنف الرجل البدائي وقِصَر مُدرَكاته على مُعطَيات الحس وصوره ما يُفسر تلك الظاهرة.
وفي تاريخ الأدب العربي كما قلنا ما يَزيد من رُجحان كِفة قديم الشعر على حديثه، وهو صدور القديم عن طبعٍ وحياة، وصدورُ أغلبِ الحديث عن تقليدٍ وفن. ومن العجيب أن ابن قُتيبة لم يفطن إلى هذه الحقيقة ولم يُلاحظها في شِعر مُعاصريه أو سابقيه بقليل؛ كشِعر مُسلمٍ وأبي تمَّام ومَن نحا نحوَهما. ويبلغ العجبُ غايتَه عندما نراه يحظر على المحْدَثين أن يَخرجوا على مذاهب القدماء؛ إذ يقول: «وليس لمتأخِّر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدِّمين؛ فيقف على منزلٍ عامرٍ أو يبكي عند مشيد البُنيان؛ لأن المتقدمين وقَفوا على المنزل الداثِر والرَّسْم العافي، أو يرحل على حِمار أو بغل أو يصفهما؛ لأن المتقدِّمين رحَلوا على الناقة والبعير، أو يَرِد المياهَ العِذاب الجواريَ لأن المتقدمين ورَدُوا على الأواجنِ الطَّوامي، أو يقطع إلى الممدوح مَنابتَ النرجس والآسِ والورد؛ لأن المتقدمين جرَوْا على قطعِ مَنابت الشِّيح والحَنْوةِ والعَرَارة.» فإننا وإن كنا نُسلِّم معه بأن البكاء على الأطلال، واستيفاءَ الصحب، وذِكر مشقَّات السفر موضوعاتٌ شعرية بطبيعتها، وبخاصةٍ إذا اتصلَت بحياة القائلين لها، كما نسلِّم بأنه من السخف أن يُحاول المحْدَثون تجديدَ ديباجة شعرِهم ومداخل قصائدهم باستبدال المنزل العامر بالدِّمَن، والبكاء عند الرَّسم الدارس بالبكاء على مشيد البُنيان … إلخ.
وإنما الذي كنا نستطيع أن نفهمه من ابن قتيبة هو أن يُجارِيَ نظرةَ العقل السليم إلى النهاية، فيَدْعوَ الشعراء إلى الصدور عن طبعِهم ومُلابسات حياتهم، ما دام يرى «أن الله لم يَقصُر العلم والشعرَ والبلاغة على زمنٍ دون زمن، ولا خصَّ به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مُشتركًا مقسومًا بين عباده في كلِّ دهر، وجعل كلَّ قديم حديثًا في عصره.»
ولو أنه قال كما قال أبو نُوَاس:
كان هذا أكثرَ تَمشِّيًا مع نظرته وأخلقَ بأن يؤدِّيَ بالمُحدَثين إلى قولِ شعرٍ يصحُّ أن يُقارَن بالشعر القديم؛ لصدوره عن الحياة، كما كان يَصدُر ذلك الشعر.
لكان هذا أكثرَ تمشِّيًا مع نظرته وأخلقَ بأن يؤدي بالمحْدَثين إلى قول حقيقةِ الشعر، وفَهْم طبيعته هو الذي قاده إلى تلك النظرة التي تبدو عادلةً عِلمية، ولكنها لا تستندُ إلى نظرةٍ متجانسة في طبيعة الشعر، وما يجب أن ينحو في العصر الجديد من منحًى يُقرِّبه من الحياة.
وفي الحق، إن ابن قتيبة بعيدٌ عن اتجاه ابن سلَّام الأدبي، وإنما هو فقيهٌ في الدين وعالم باللغة، ألَّف كتابًا عن الشعراء، وكان قصده كما يقول: «للمشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جُلُّ أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاجُ بأشعارهم في الغريب وفي النحو وفي كتاب الله.»
ولكنه إذ كان لم يأخذ بفكرةِ الطبقات لثورته «العقلية» على المقلِّدين، وعدم اطمئنانه إلى أحكامِ سابقيه، فهل أخذ بمبدأٍ آخر؟
الواقع أن ابن قتيبة لم يَصدُر في كتابه عن منهجٍ في التأليف كما سبق أنْ قرَّرنا، بل إن كل مؤرخي الأدب العربي من القدماء لم يَصدُروا عن منهج، بحيث نستطيع أن نُقرر أنه إذ كان النقدُ قد انتهى به الأمرُ إلى النضوج والأخذِ بمذاهبَ صحيحةٍ في التأليف والمناقشة والعرض؛ فإن تاريخ الأدب ظلَّ متخلفًا، شأنُه شأنُ التاريخ العامِّ كما دوَّنه مؤرخو العرب، فهو أقربُ إلى المادة الأولية ومصادر التاريخ منه إلى التاريخ بالمعنى الذي نفهمه اليوم.
تاريخُ ابنِ قُتيبة قصصٌ ونوادرُ وأخبارٌ وحكايات، وأما محاولة جمع الشعراء في مدارسَ وفقًا لمذاهبهم الفنية، وأما محاولة دراسة فنون الأدب كوحدات، وأما محاولة تتبُّع التيارات المختلفة؛ فهذه الأشياء لم تخطر له على بال.
وابن قتيبة ليس الوحيدَ في ذلك؛ فنحن حتى اليومِ لا نزال في انتظارِ وضعِ تاريخ للأدب العربيِّ على هذا النحو العِلمي. وفي كتب مؤرِّخي الأدب من العرب إشاراتٌ عابرة، ولكنها عظيمةُ القيمة لمن يريد أن يستغلَّها، فثَمة مدرسةُ زُهير والحُطيئة، ومدرسة مُسلم وأبي تمَّام، ومدرسة عُمر بن أبي ربيعة والعَرْجي، ومدرسة جَميل وكُثيِّر، وثَمة مدرسة البديع في العصر العباسي، وجماعة من بقي في عَمود الشعر … إلخ، ثم هناك فنون الشعر المختلفة من غزَلٍ ورثاء ومديح وما إليها، وهناك تياراتُ العبَث الخُلقي عند بشَّارٍ وأبي نُوَاس، وتياراتُ الزهد والتقشُّف عند أبي العَتاهية ومَن نحا نحوَه. وهناك الشعر الفنيُّ كشِعر ابن الرُّومي ومدرستِه، وشعر الفكرة كشِعر أبي العلاء، ولكن كل هذا لا يمكن أن يُنظَم ويوضَّح إلا بعد أن تتوافر لدينا الدراساتُ الخاصة عن كل واحدٍ من هؤلاء الشعراء بمفرده؛ فعندئذٍ تتَّضح الحقائق المشتركة، ويُصبح التاريخ العامُّ للأدب العربي ممكنًا.
ومع هذا فما يجوز أن نطمَع في دراساتٍ تُشبه دراساتِ نُقَّاد الغرب لآدابهم؛ فثَمة فوارقُ كبيرة بين أدبِنا وآدابهم. أصلُ كلِّ تلك الفوارق هو غلَبةُ التقليد على شعرنا؛ ابتداءً من العصر العباسي وطُغيان المديح عليه تكسُّبًا به، فهذه الظاهرة المشئومة قد ذهبَت أحيانًا كثيرةً بأصالة الشاعر، وقطعَت العلاقةَ بين شِعره وحياته، بحيث يصعب أن نجدَ نفوس الشعراء في دَواوينهم، وإن وجَدْنا بعضًا من خَصائصهم الفنية أو بعضًا من أعداء بيئتهم.
وإذن، فليس لنا أن نطلب إلى ابنِ قُتيبة أن يفعل في تاريخ الأدب العربي ما لم نفعله حتى اليوم، وما نزال نجدُ صعوبةً في عمله، ومُجازفة يُخشى أن تُفسد الحقائقَ إذا أخذنا بمناهجَ ولَّدَتها دراسةُ آدابٍ مغايرة بطبيعتها التاريخية لأدبنا، وخصوصًا إذا ذكَرْنا أن فكرة الدعوة إلى مَدارس بعينها والاقتتال في سبيلها لم تكَدْ تظهر في الأدب العربي حتى كانت دولتُه قد دالت وأخذَت في الانحلال. ومِن المعلوم أنه لا الأدبُ الجاهلي ولا الأدب الأمويُّ قد شهدا معاركَ فنِّية كتلك التي نشأَت حول البديع وعمود الشعر بين أنصار أبي تمَّام وأنصار البُحتري في القرن الرابع، وإنما كانوا يقتتلون في تفضيلِ شاعرٍ على آخَر لأسبابٍ كثيرًا ما كانت غريبةً عن الأدب والفن. وأين هذا من الخصومات الفنية التي قامت حول مذاهبِ الأدب المختلفة بأوروبا فمهَّدَت لها وأوضحَت من مبادئها؟!
ولهذا قد نستطيع أن نلتمسَ لابن قُتيبة بعضَ العذر، وإن كنا نراه دون ابن سلَّام في ذَوقه ومنهج تأليفه.
والآن نتساءل: إذا كان ابنُ قتيبة لم يُظهِر أصالةً خاصة في التاريخ الأدبي، فهل كان له شيءٌ من الفضل في السَّير بالنقد الأدبي إلى الأمام خطوةً تُدْنيه مما صار إليه عند رجلٍ كالآمدي من نضوج؟
(٤-١) الروح العلمية والذَّوق الأدبي
والواقع أن ابن قُتيبة عنده ناحيتان: ناحية الرُّوح العِلمية التي صدَر عنها، وهذه روحٌ صائبة في دعوتها إلى تحكيم النظر الشخصي، والاستقلال بالرأي، وتقدير الأشياء في ذاتِها، على نحوِ ما رأينا هذا الناقدَ يتحدَّث عن الشعر القديم والمحْدَث، ويرفض أن يُفضل القديم لقِدَمه، ويُرذِّل الحديث لِحَداثته، ثم ناحية الذوق الأدبي ونقد الشعر، وهذه أضعفُ نواحيه.
والغريب أننا نرى ابنَ قتيبة حتى في اتجاهه النقديِّ أكثرَ توفيقًا في النزعة منه في النقد ذاتِه، وفي المذهب الفني أكثرَ منه في الذَّوق الذي يعمله في النصوص. ولعل هذا لِغلبة تفكيره على حسِّه الأدبي، فهو موجِّهًا خيرٌ منه ناقدًا.
وأوضحُ ما تكون نزعتُه الصائبة في سخريته من مذهبِ الفلاسفة في النقد، ومحاولتِهم زجَّ المنطقِ الشكلي في فَهم اللغة وتذوُّقِها والكتابة فيها، وحرصه على أن يظلَّ النظرُ في مسائل اللغة والأدب خاضعًا للتقاليد العربية الصحيحة، ولممارسة النصوص الموروثة، وهو في هذا مُحافظ يريد أن ينجوَ بسلامة الذَّوق الأدبي، ونَفاذه من الجمود والسطحية اللذَين كان يخشى أن ينتهيَ المنطق بإنزالهما بالسَّليقة العربية. ومن البيِّن أنه لا تَناقض بين هذا الاتجاه وبين ما سبق أن قرَّرناه عنه من نزوع إلى طرحِ الأحكام القيمية التقليدية، ودعوته إلى الأخذ بالرأي الفردي، والصدور عن النظر الخاص، فهو يريد أن تظلَّ التربية الأدبية قائمةً على دراسة النصوص القديمة الجيدة، دينيةً كانت أو غيرَ دينية، حتى إذا تكوَّن الذوق الشخصيُّ بطول الممارسة حكَّمْناه فيما نقرأ وصدَرْنا عنه.
يقول ابنُ قتيبة في مقدمة كتابه «أدب الكاتب»: «ولو أن هذا المعجَب بنفسه، الزَّاري على الإسلام برأيِه، نظر من وجهة النظر؛ لَأحياه الله بنور الهدى وثلجِ اليقين، ولكنه طال عليه أن ينظر في عِلم الكتاب، وفي أخبار الرسول ﷺ وصَحابته، وفي علوم العرَب ولُغاتها وآدابها، فنَصَب لذلك وعاداه، وانحرَف عنه إلى علمٍ قد سلَّمه له ولأمثاله المسلِّمون، وقلَّ فيه المناظِرون له، ترجمةٌ تَروق بلا معنًى، واسمٌ يَهول بلا جسم، فإذا سَمع الغُمْرُ والحدَثُ الغِرُّ قولَه: الكون والفساد، وسمع الكِيان والأسماء المفرَدة، والكيفيَّة والكمية، والزمان والدليل، والأخبار المؤلَّفة، راعَه ما سمع، وظنَّ أن تحت هذه الألقابِ كلَّ فائدةٍ وكلَّ لطيفة، فإذا طالعَها لم يَحْلَ منها بطائل، إنما هو الجوهر يقوم بنفسه، والعَرَض لا يقوم بنفسِه، ورأس الخطِّ النقطة، والنقطة لا تُقسم، والكلام أربعة: أمرٌ وخبر واستخبارٌ ورغبة؛ ثلاثةٌ لا يدخلها الصدقُ والكذب، وهي: الأمر والاستخبار والرغبة، وواحدٌ يدخله الصدقُ والكذب؛ وهو الخبر. والآنُ حدُّ الزمانَين، مع هذَيان كثير. والخبر ينقسم إلى تسعةِ آلافٍ وكذا كذا مائة من الوجوه، فإذا أراد المتكلمُ أن يَستعمل بعض تلك الوجوهِ في كلامه كانت وبالًا على لفظه، وقيدًا للِسانه، وعَيًّا في المحافل، وغفلةً عند المتناظرين.»
وقد أثبت تاريخُ الأدب العربي وعلوم اللغة العربية صِدقَ رأي ابن قُتيبة؛ فإن النظر الفلسفي الشكليَّ الجافَّ كما انتهى إلى قُدامة (٢٧٥–٣٣٧ﻫ)، وإن لم يستطع — لحُسن الحظ — أن يعمَّ في القرن الرابع، لم يلبث أن أخذ يُسيطر ببُعد العرب شيئًا فشيئًا من مَنابع أدبهم القويَّة، وغلَبة الصَّنعة الشكلية، وتقهقُر الذَّوق العربي الخالص. وكانت بَوادر سيطرته عند أبي هلالٍ العسكري (المتوفَّى سنة ٣٩٥ﻫ)، وسار الزمنُ فإذا به يُجفِّف منابع الذوق، وينتهي بالبلاغة إلى التحرُّر والعُقم عند الخفاجيِّ والسكَّاكيِّ والخطيب القَزْوينيِّ ومَن إليهم.
وكان هذا التأثير المدمِّر في البلاغة فقط؛ أما النقد بمعناه الدقيق فقد ظلَّ عربيًّا خالصًا، لا في القرن الرابع عند الآمِدي وعلي بن عبد العزيز الجُرجانيِّ فحَسْب، بل وفي القرن الخامس عند رجلٍ كأبي العَلاء المعَري، الذي ضمَّنَ «رسالة الغُفران» الكثيرَ من النقدِ العربيِّ الذوقِ، السَّليمِ المَنْهجِ.
وليس مِن شكٍّ في أن ابن قُتيبة كان ذا فضلٍ في مقاومة التيَّار الجديد، وحمايةِ الدراسات الأدبية من طغيانه، وسوف نرى أن نَزْعته هي نزعةُ الآمديِّ وعلي بن عبد العزيز الجرجاني: ذَوْق عربي، واستقلالٌ في الرأي، وتنحيةٌ للفلسفة عن مجال الأدب، إلا أن يكون ذلك في طرُق العرض، وتنظيم المناقشة، واتخاذ منهج في التأليف، وإن كان رَجلٌ كالآمدي يَجنَحُ إلى التقيد بالقديم، وإخضاع المحدَث لما أَلِف ذلك القديمَ من قِيَم ومَناحٍ، حتى لَنراه يقول غيرَ مرة: «إن اللغة لا يُقاس عليها.» و«وإنَّ هذا ليس مِن مذاهب الأوَّلين.» وإن قول أبي تمَّام: «لا أنت أنتَ ولا الزمانُ زمان» غيرُ مقبول؛ لأن السابقين لم يقولوا: «لا أنتَ أنت»، وإنما هو توليدُ المحْدَثين، وأمثال ذلك مما سنراه بالتفصيل.
وإنما يهمُّنا الآن أن نُسجل موقفَ ابن قُتيبة من هذين التيارَين اللذين كانا يتقاذَفان الدراسات الأدبية واللُّغوية في ذلك الحين، وأن نُقِرَّ له بفضل الوقوف دون طُغيان المنطق على الأدب طُغيانَه على الكلام عند المعتزلة وغيرهم.
ولكننا لا نكاد نترك نزعةَ ابن قُتيبة الصائبة لِننظر في ذلك الذَّوق الأدبي والحُكم المستقل، اللذَين أراد أن يَصدُر عنهما حتى نُلاحظ أنهما — لسوء الحظ — لم يتَوفَّرا لديه.
وأول ما نَلفِتُ إليه النظرَ هو أن ابن قُتيبة لم يَنقُد النصوصَ نقدًا موضوعيًّا تحليليًّا كما فعَل الآمديُّ مثلًا في «مُوازَنته» بين البُحتريِّ وأبي تمام، وإنما أورَد في كتابه «الشعر والشعراء» أخبارًا وقصصًا عن الشعراء المختلفين، ثم بعضًا من أشعارهم دون مناقشةٍ ولا حُكم، إلا أن يكون حُكمًا تقليديًّا يرويه عن الغير ولا فضلَ له فيه، وإنما عرَض لنقد الشعر في مقدمته؛ حيث نجد بعضَ المسائل الأدبية العامة وبعض المقاييس في الحُكم على الشعر.
والعيب الواضح في نظَرات ابن قُتيبة يرجع إلى منهجه العقلي؛ فهو تقريريُّ النزعة في كل شيء، وهو أحَدُّ تفكيرًا منه إحساسًا أدبيًّا، وهو لا ينظر إلى الظواهر نظرةً تاريخية، بل نظرة منطقيَّة تتناول الأشياءَ كما تُعرَض في آخرِ مراحلها.
يقول: «سمعتُ أهل الأدب يذكرون أن مقصد القَصيد إنما ابتدأ فيها بذِكر الديار والدِّمَن والآثار، فبكى وشَكا وخاطب الرَّبْع واستوقفَ الرفيق؛ ليجعل ذلك سببًا لذِكر أهلها الظاعنين عنها؛ إذ كان نازلةَ العمد في الحلول والظَّعن على خلافِ ما عليه نازلةُ المدَر؛ لانتقالهم عن ماءٍ إلى ماء، وانتجاعِهم الكلَأ، وتتبُّعهم مساقطَ الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك بالنَّسيب، فشكا شِدة الوَجْد وألمَ الفراق وفَرْطَ الصَّبابة والشوق؛ لِيُميل نحوَه القلوب، ويصرفَ إليه الوجوه، وليستدعيَ إصغاءَ الأسماع؛ لأن التشبيب قريبٌ من النفوس لائطٌ بالقلوب؛ لِما جعل الله في تركيب العباد من مَحبة الغزَل، وإلْفِ النساء، فليس يَكاد أحدٌ يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب، وضاربًا فيه بسهمٍ، حلالٍ أو حرام، فإذا استوثَق من الإصغاء إليه والاستماع له؛ عقَّب بإيجاب الحقوق، فرحَل في شعره وشكا النصَب والسهر وسُرَى الليل، وحرَّ الهجيرة، وإنضاءَ الراحلةِ والبعير، فلما علم أنه أوجبَ على صاحبه حقَّ الرجاء وذِمامة التأميل، وقرَّر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعَثه على المكافأة، وهزَّه للسماح، وفضَّله على الأشباه، وصغَّر في قدره الجزيل.»
واتجاهُ ابنِ قتيبة التقريريُّ أشدُّ وضوحًا في تقاسيمه للشعر.
- (١)
أوَّلُهما: أن اللفظ في خدمة المعنى، وأن المعنى الواحدَ يمكن أن يُعبَّر عنه بألفاظٍ مختلفة يحلو بعضُها ويَقصُر الآخر.
- (٢)
وثانيهما: أنه لا بدَّ لكل بيتٍ من الشعر من معنًى.
وفي هذين المبدأَين من القصور ما سوف يُفسر لنا ضعف ذَوق ابن قُتيبة القائمِ عليهما؛ ومن ثَم فهما جديران بالمناقشة.
- (١)
الأسلوب العقلي: الذي نستخدمه في العلم والتاريخ والفلسفة وأدبِ الفكرة؛ إنْ صحَّ أن يُسمى هذا أدبًا. وعلى هذا الأسلوب تَصدُق وجهة نظرِ ابن قتيبة؛ إذ اللفظ عندئذٍ لا يُقصَد منه إلى غير العبارة عن المعنى، بل نحن نذهب إلى أبعدَ من ذلك فنقول: إن المعنى الواحد لا يمكن أن يُعبَّر عنه إلا بلفظٍ واحد؛ فاللغات لا تَعرف — ولا يجبُ أن تعرفَ — الترادُف، وأمرُ الألفاظ كأمر الجُمَل؛ فالكاتب الحقُّ هو الذي لا يطمئنُّ حتى يقعَ على الجملة الدقيقة التي تحمل ما في نفسه حَملًا أمينًا كاملًا، بحيث تُصبح عبارتُه كجسمٍ حيٍّ لا يمكن أن يُنتقَص منه أو يُزاد عليه شيء. والتحدُّث عندئذٍ عن العلاقة بين اللفظ والمعنى كالتحدُّث عن شفرتَي مِقص، والتساؤل عن جودةِ أحدهما كالتساؤل عن أيُّ الشفرتَين أقطَع، وإنما لك أن تحكم على المعنى المُعبَّرِ عنه، فتقبَلَه كرأيٍ مُصيب أو ترفُضَه كرأي باطل.
- (٢)
الأسلوب الفني: وهذا أسلوبُ الأدب الجيِّد بمعناه الضيِّق، بل هو الأدب ذاتُه إذا سلَّمنا بأن الأدب هو «العبارة الفنية عن موقفٍ إنساني عبارةً موحِيَة.» واللفظ عندئذٍ لا يُستخدم للعبارة عن المعنى، بل يُقصَد لِذاته؛ إذ هو في نفسه خَلْقٌ فنِّي، فمن اليسير مثلًا أن نقول: «إن وقت الظهيرة قد حان.» فنؤدِّيَ المعنى الذي نريد أن ننقلَه إلى السامع، ومع ذلك يقول الأعشى: «إذا انتَعَل المَطيَّ ظِلالها.» للعبارة عن نفس المعنى، فنُحِسَّ لساعتنا أن عبارته فنيةٌ قصد منها إلى خلقِ صورة رائعة لا إلى أداء فكرة. وكذلك نستطيع أن نقول «وسارت الإبلُ في الصحراء» عائدةً من الحج، كما يقول ابنُ قتيبة، وكما يريد أن يُفهَم من قول الشاعر: «وسالَت بأعناقِ المطيِّ الأباطحُ»، ولكنَّ عبارة الشاعر عبارةٌ فنية قُصِد منها إلى نشر ذلك المنظر الجميل أمامَ أبصارنا؛ منظر الإبل قافِلةً من مكة، مُتَراصَّةً متتابعة في مَفاوز الصحراء وكأنَّ أعناقها أمواجُ سيل يتدفَّق، وكذلك يستطيع أن يقول: «إن العرب أنهَكوا الفرسَ»، وأما الأعشى فيقول: «إنهم ترَكوهم وقد حسوا من أنفاسهم جزعًا». ولقد تصفُ الصحراء بأنها جرداءُ تَملُّ عابِريها، أما الشاعر فيقول: «وغبراءَ يَقْتات الأحاديثَ رَكْبُها.» وفي هذه الأمثلة الأربعة أربعةُ أفعال: «انتعَل» و«سال» و«حَسا» و«اقتات» هي أمارةُ الفنِّ في العبارة.
إلى شيءٍ من ذلك لم يَفطِن ابنُ قتيبة، فجاء ينقد الشعرَ في ألفاظه ومعانيه بما يبدو ذَوقًا، وهو في حقيقته رأيٌ سابق مقرَّر عن خدمة اللفظ للمعنى، وإمكانِ العبارة عن المعنى الواحد بألفاظٍ مختلفة يحلو بعضُها ويَقصُر البعض، كما يقول، دون فَهمٍ منه ولا تفصيلٍ لأنواع الأساليب وطرق العبارة؛ مما أفسد أحكامَه.
وكما يرجع ذَوقه إلى رأيٍ في العلاقة بين اللفظ والمعنى، فهو كذلك يستند إلى إحدى المسلَّمات الأخرى، وهي ضرورةُ حمل البيت لمعنًى من المعاني.
- (١)
فكرة.
- (٢)
معنًى أخلاقي.
فأما الفكرة فبدليلِ أنه ينتقد الأبياتَ الآتية لخُلوِّها، فيما يقول، من كلِّ معنًى مفيد:
أما تطلُّبُه لِمعنًى أخلاقي، فواضحٌ من إعجابه بمِثل قولِ أبي ذُؤَيب:
وهذه نظرة الفقيه ابنِ قتيبة، وهي بدَورها نظرةٌ ضيِّقة؛ إذ من الواضح أن مادةَ الشعر ليست المعانيَ الأخلاقية، كما أنها ليست الأفكارَ، وأنَّ مِن أجوَدِه ما يمكن أن يكون مجردَ تصوير فني، كما أنَّ منه ما لا يَعْدو مجردَ الرمز لحالةٍ نفسية رمزًا بالِغَ الأثر قويَّ الإيحاء؛ لأنه عميقُ الصدق على سَذاجته. ولعل مِن خير الأمثلة على ذلك قولَ ذي الرُّمَّة، الشاعرِ الدقيقِ الحسِّ، وقد حطَّ رحالَه بمنزل الحبيبة وتفقَّدها فلم يجدها:
فأي معنًى يريد ابنُ قتيبة من مِثل هذه الصورة الجميلة الصادقة؛ صورة شاعر أصابه الحزنُ بالذهول فجلس إلى الأرض منهكًا يائسًا يخطُّ ويمحو الخطُّ بأصابعَ شَرَد عنها اللُّب، فأخذَت تعبث بالرمال، وفي الغِربان الواقعة بالدار ما يملأ الجوَّ أسًى ولوعة؟ وهل أصدَقُ من هذا وصفًا؟ وهل أقوى منه على إيحاء؟ ثم مَن يُدرينا لعلَّ جمالَه في خُلوِّه من كل فكرة، ولعلَّ صِدقه في تناهي بساطته!
وهكذا يظهر لنا ما في نظرة ابن قتيبة من ضيقٍ عندما يتطلب «معنًى» في كل بيتٍ من الشعر، كما ظهر لنا فسادُ رأيه في العلاقة بين اللفظ والمعنى.
وليس هذا بغريبٍ من رجل يريد أن يجمع ما يقعُ الاحتجاج به في النحو في كتاب الله عزَّ وجل، وحديثِ رسول الله، غافلًا عن قيمة الشعر الذاتية أو منزلتِها المنزلة الثانية.
ونحن بعدُ لا نُطالبه بأن يفطنَ إلى ما نراه نحن اليومَ في حقيقة الأدب، وإن كانت هذه الآراءُ لا تعدو إيضاحَ ما يُحسُّ به الأديبُ دون أن يستطيع تحليله، ولكننا نرى أنه لم يكن يملكُ حِسًّا أدبيًّا صادقًا، وأنه كان يُفكر أكثرَ مما يتذوَّق، وأن نقدَه التقريريَّ لا غَناء فيه.
ومن الشعراء المتكلِّفُ والمطبوع؛ فالمتكلفُ هو الذي قوَّم شِعرَه بالثِّقَاف، ونقَّحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظرَ بعد النظر؛ كزُهَير والحُطَيئة، وكان الأصمعيُّ يقول: زُهيرٌ والحُطيئة وأشباهُهما عَبيد الشعراء؛ لأنهم نقَّحوه ولم يذهبوا فيه مذهبَ المطبوعين. وكان الحُطيئة يقول: خيرُ الشعر الحوليُّ المنقَّح المحكَّك. وكان زُهير يُسمِّي كُبرى قصائده «الحوليَّات»، وقال سُوَيد بنُ كُراع:
وقال عَديُّ بن الرِّقاع:
«وللشعر دَواعٍ تحثُّ البطيء وتبعث المتكلِّف؛ منها الطَّمع، ومنها الشرف، ومنها الشراب، ومنها الطرَب، ومنها الغضب. وقيل للحُطَيئة: أيُّ الناس أشعَر؟ فأخرج لِسانًا دقيقًا كأنه لسانُ حية فقال: هذا إذا طَمِع. وقال أحمدُ بن يوسف الكاتبُ لأبي يعقوب الخزيمي: مدائحك لمحمد بن منصورِ بن زيادٍ — يعني كاتبَ البرامكة — أشعَرُ من مراثيك فيه وأجود! فقال: كنا يومَئذٍ نعمل على الرخاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينَهما بَوْنٌ بعيد. وهذه عندي قصةُ الكُمَيت في مدحِه بني أمية وآلَ أبي طالب؛ فإنه كان يتشيَّع وينحرفُ عن بني أمية بالرأي والهوى، وشعره في بني أمية أجودُ منه في الطالبيِّين، ولا أرى علةَ ذلك إلا قوةَ أسباب الطمع، وإيثارَ النفس لعاجلِ الدنيا على آجِل الآخرة. وقيل لكُثيِّر: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عَسُر عليك قولُ الشعر؟ قال: أطوف في الرِّباع المُخْلية والرياضِ المُعشِبة؛ فيسهل عليَّ أرصَنُه، ويُسرِعُ إليَّ أحسنُه. ويقال أيضًا: إنه لم يستدعِ شاردَ الشعر مثلُ الماء الجاري، والشَّرَف العالي، والمكان الخَضِر.»
وقال الأحوص:
وإذا شعَفَته الأيفاعُ مَرتْه واستَدرَّته. وقال عبد الملك بن مروان لأرطأةَ بنِ سهيَّة: هل تقول الآن شعرًا؟ فقال: كيف أقول وأنا ما أشربُ ولا أطربُ ولا أغضب؟! وإنما يكون الشعر بواحدةٍ من هذه. وقيل للشَّنْفَرَى حين أُسِر: أنشِد، فقال: الإنشادُ على حين المَسرَّة، ثم قال:
«وللشعر تاراتٌ يبعد فيها قريبُه، ويُستصعَب ريِّضُه، ولا يُعرَف لذلك سبب، إلا أن يكون مِن عارض يعترض على الغريزة من سوءِ غِذاء أو خاطرِ غَمٍّ، وكان الفرزدقُ يقول: أنا أشعرُ تميم، وربما أتت عليَّ ساعةٌ ونَزْعُ ضَرسٍ أسهلُ عليَّ من قولِ بيت. وللشعر أوقاتٌ يُسرِع فيها أتيُّه، ويَسمحُ أبيُّه، منها أوَّل الليل قبل تَغشِّي الكَرَى، ومنها الخَلْوة في المحبس والمسير، ولهذه العللِ تختلف أشعارُ الشاعر.»
وفي هذا النص خلطٌ بين الأشياء وعدمُ تمييز أدبي بين التقاليد التي انتهَت إلى ابن قُتيبة، والتي أراد أن يستخدمَها في وضع تقسيمٍ عام للشعر، فلم يُحسن الاستخدام، وعيبُه دائمًا هو الأخذ بالمنطقِ السميك؛ حيث كان الواجبُ أن يأخذ بالحسِّ الأدبي؛ ليُقيم المفارقات ويَفصِل بين الأحكام.
- (١)
أنَّ مِن الشعر المتكلَّفَ ومنه المطبوع.
- (٢)
أنَّ هناك دواعيَ تحثُّ البطيء وتدفع المتكلِّف، كما أن هناك تاراتٍ يَبعد فيها قريبُه ويُستصعب ريِّضُه.
فأمَّا أن الشعر إذا توفَّرَت دَواعيه أو مُلابساته جاء مطبوعًا فقولٌ يبدو ظاهرَ الصحة، وإن لم يكن ثَمة تلازُمٌ حتميٌّ بين الأمْرَين. وهذا على فُرِض أن ابن قتيبة قد فهم معنى التكلُّف والطبع في الشعر، وهو لم يفعل.
ولإيضاحِ ما في النص من خلطٍ؛ يجب أن ننظر في حقيقة الخلقِ الأدبي ومراحلِه وضُروبه. والثابت أن الشراب والطرَب والغضب والطمع وكافَّة المشاعر والانفعالات لا تخلق شعرًا ساعةَ احتدامها؛ فالانفعال القويُّ يعقد اللسان، ويشلُّ التفكير، ويَشغَلُنا عمَّا عداه؛ فالشاعر لا يقول الشعر إلا بعد أن يصحوَ من الشراب، ويهدأَ بعد الغضب؛ إذ تصفو عندئذٍ قريحتُه، ويستطيع الخلق، وقد استقرَّت انفعالاتُه رواسبَ عقلية محتفظةً بحرارة الشعور كامنة — وإذن فهو لا يقول إلا عن رَويَّة. والشعر بعدُ صياغةٌ يكون فيها المتكلَّفُ والمطبوع. وإذا صحَّ ما قدَّمناه يكون لدى الشاعر دائمًا — ومهما كانت دوافعُه؛ من حرية النفس واطمئنانِ التفكير — ما يستطيع معه أن يتكلَّف إذا كان فاسدًا أو سيِّئ المذهب.
هذا، والدوافعُ إلى الشعر لا تكفي لنَقُولَه؛ إذ لا بدَّ من طَبْع مُوَاتٍ، بل إنه لا يكفي توفُّرُ الطبع. وكلُّ خَلْقٍ عملٌ إرادي؛ فالطبع الشعري لا يتفجَّر شعرًا بذاته، وليس هو الشعر، ويا بُعدَ ما بين الطائر الذي يُغرد والشاعرِ الذي يَخلق! ونصل بالشعر إلى شَرْطِه الأخير الذي لا يقلُّ عمَّا سبق أهمية، فنقول: إن الإرادة نفسَها لا تكفي، ونحن لا نستطيع كلَّ ما نريد ولو توفَّرَت في نفوسنا سبُلُه، بل لا بدَّ من الجهد؛ فالشعر — كما قلنا — صياغةٌ لفظية، وليس أشقَّ من إخضاع الإحساس أو الفكرةِ للَّفظ، وفي هذا يقول ديهامل، الشاعرُ الكاتب، عن تجرِبةٍ طويلة: «كم من مرةٍ أستمع إلى رجالٍ أو نساء يتحدَّثون وسطَ الجموع في عرَبة قطارٍ أو أثناء وجبةِ طعام، فتُحدِّثني نفسي كلَّ مرة: ها قد وقعتُ على صفةٍ نفسية، أو تسقُّطِ علاقة، أو لمحتُ دافعًا خفيًّا. ولكني عاجزٌ عن أن أصوغ ما اكتشفتُ ألفاظًا، ربما أستطيع فيما بعدُ أن أُصوِّر ما أحسستُ به، أمَّا الآن فلا. وأنا أعلم أني إن لم أُصِب التوفيقَ فسيأتي مِن بعدي غيري يُفيد مِن تَجارِبنا، وتُساعده عبقريتُه فينجح في العبارة عمَّا لمَحْناه نحن.» وهذا لا بدَّ صحيحٌ حتى في الشعر العربي، رغم ما نعرفه عنه من صدوره عن لغةٍ شعرية تقليدية مستقرَّة؛ فهو ككُلِّ شعرٍ إحساساتٌ وصور وخواطرُ تُصاغ ألفاظًا، ولو لم يكن في هذه الصياغة إلا صعوبةُ الاختيار لَكفى لتأييدِ ما نقول من أن الشعر صناعةٌ ككلِّ الصناعات، ولا بدَّ في كل صناعةٍ من مِرانٍ وجهد.
وإذن فالشعر طبعٌ ودافع وإرادة وصناعة وجهد، وهذه هي المراحل التي لم يَفطن لها ابنُ قتيبة.
- (١)
بين التكلُّف وبين تقويم الشعر وتثقيفِه بطول التفتيش وإعادةِ النظر بعد النظر، كما كان يفعل زُهيرٌ والحُطَيئة.
- (٢)
بين الطبع والارتجال، حتى لَكأنه يظنُّ أن الشعر المطبوع هو الشعر المرتجَل. وفي الأمثلة التي يُورِدُها ما يدلُّ على ذلك.
وفَيصل التكلُّف هو أن يُفكر صاحبُه مرتَين: مرةً للفكرة ومرةً لتحويرها والتلطُّف بها حتى تَسكُن للبديع. وفي هذه الحالة يَغلِبُ أن تكون مادةُ الشعر نفسِه متكلَّفةً كاذبة، بل وطبعُ الشاعر فاسدًا؛ إذ نُحس بزَيف الإحساس، وعدمِ أصالة الخاطر، وقَسْر الصورة، فيأتي الشعر أجوفَ متنافرَ النغمات، يقفُ عند الأذن وقد نفَضه الإحساس وردَّه الذَّوق كالبَهْرج المرذول. وهذه صفةٌ كثيرًا ما نجدها عند أبي تمام، وأما زُهير والحُطيئة فلا، وإنما هو التجويد والتثقيف والصَّقْل، حَسِبَها ابنُ قتيبة تكلفًا.
ويعود فقيهُنا فيُحاول أن يَعرف المتكلَّفَ من الشعر فيقول: «والمتكلَّف من الشعر وإن كان جيدًا مُحكَمًا فليس به خَفاءٌ على ذَوي العلم؛ لِتَبيُّنهم فيه ما نزَل بصاحبِه من طول التفكير، وشدة العناء، ورَشْح الجبين، وكثرة الضرورات، وحذفِ ما بالمعاني حاجةٌ إليه، وزيادةِ ما بالمعاني غِنًى عنه؛ كقول الفرزدق في عُمَر بنِ هُبيرة لبعض الخلفاء:
يريد أوَلَّيتَها خفيفَ اليد، يعني في الخيانة، فاضطرَّته القافيةُ إلى ذِكر القميص، وكقول الآخر:
وكقول الفرزدق:
بقي البيتان:
وهذا سُخْف لا علاقة له بالشعر مطبوعِه أو مُتكلَّفِه.
وبيت الفرزدق:
به خطأٌ نحوي لم يزلَّ فيه برفعِه «مُجلَّف»؛ حيث وجَب النصب، ولكن الخطأ غير التكلُّف والطبع. والدليل على ذلك أن هذا البيت قويٌّ جميل مطبوع برغمِ الإقواء.
ويقول بعد ذلك: «التكلُّف في الشعر أيضًا بأن نرى البيتَ فيه مقرونًا بغير جارِه، ومضمومًا إلى غيرِ لِفْقِه؛ ولذلك قال عمرُ بنُ لجَأَ لبعضِ الشعراء: أنا أشعرُ منك، قال: ولِمَ ذلك؟ قال: لأني أقول البيتَ وأخاه، ولأنك تقول البيتَ وابنَ عمِّه. وقال عبد الله بنُ سالم لِرُؤبة: مُتْ يا أبا الجحاف إذا شئت، فقال رُؤبة: وكيف ذلك؟ قال: رأيتُ اليوم ابنَك عُقبة يُنشد شعرًا له أعجبَني، قال رؤبة: نعم، ولكن ليس لِشعره «قِران». يريد أن لا يُقارن البيتَ بشبهِه. وبعضُ أصحابنا يقول: «قُرآن» بالضم، ولا أرى الصحيحَ إلا الكسر وترْكَ الهمزة على ما بيَّنت.»
وإنه وإن يكن الأرجحُ — في بداهة القول — أن ابن قتيبة قد أخرَج لفظة رؤبة مخرجًا متصنعًا فيه، وأن بعض أصحابه قد أصابوا شاكلةَ الصواب عندما قالوا: «قرآن» بمعنى الشُّيوع والذيوع والتناقل والسَّير بين الناس، لا «قِران» التي يتَعسَّفُها ابنُ قتيبة تأييدًا لتعريفه، فإننا رغم ذلك نُسلِّم بأنه هنا أيضًا قد وُفِّق بعقله إلى صياغةِ مبدأٍ سليم؛ وهو انتفاءُ وَحدة النسيج وسلامة المعدن في القصيدة المتكلَّفة، ولكنه لحُسن الحظ لم يُحاول تطبيقَ هذا المبدأ ولا أورَد له أمثلة، ولو أنه فعل لَتخبَّط — فيما نُرجِّح — على عادته التي ألِفْناها.
«والمطبوع من الشعراء مَن سمَحَ بالشعر واقتدَر على القوافي، وأراك في صدرِ بيته عَجُزَه، وفي فاتحتِه قافيتَه، وتبيَّنتَ على شعره رونقَ الطبع، ووشْيَ الغريزة، وإذا امتُحِن لم يتلعثم ولم يتزحَّر.
وقال الرياشي: حدَّثني أبو العالية عن ابن عُمر أن المخزوميَّ قال: أتيتُ مع أبي واليًا على المدينة من قُريش وعنده ابنُ مُطير، وإذا مطر جود، فقال له الوالي: صِفْه. فقال: دعني أُشرِف وأنظُر، فأشرَف ونظَر، ثم نزل وقال:
وهذا الشعر مع إسراعه فيه — كما ترى — كثيرُ الوَشْي، لطيفُ المعاني.
وكان الشمَّاخ في سفر مع أصحابٍ له، فنزل يَحْدو بالقوم فقال:
ثم قطَع هذا الرَّويَّ وتعذَّر عليه، فترَكه وسمَح بغيره على أثَرِه فقال:
قال أبو عُبيدة: اجتمع ثلاثةٌ من بني سعدٍ يُراجزون بني جَعْدة، فقيل لشيخٍ من بني سعد: ما عندك؟ قال: أرجزُ بهم يومًا إلى الليل ولا أفثج، وقيل لآخَر: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يومًا إلى الليل ولا أنكش، وقيل للثالث: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يومًا إلى الليل ولا أنكف، فلما سمعَت بنو جَعْدة كلامَهم انصرفوا ولم يُراجزوهم.»
- (١)
صفة الشعر المطبوع.
- (٢)
خلطٌ بين الطبع والارتجال.
- (٣)
ذَهاب بعض الشعراء بضروبٍ خاصة من الشعر وَفقًا لطبائعهم.
أما عن «صفة الشعر المطبوع»، فالظاهر أن ابن قُتيبة أصاب التعريفَ كعادته، ثم أخطأ التطبيقَ والاختيار؛ ففي قوله: «المطبوع من الشعراء مَن سمَح بالشعر واقتدَر على القوافي، وأراك في صَدر بيته عجُزَه، وفي فاتحتِه قافيتَه، وتبيَّنْتَ على شعره رونق الطبع ووشْيَ الغريزة»؛ تحديدٌ لصفاتٍ صادقة تلحق بما سبَق أنْ كرَّره عن وحدةِ النسج في القصيدة، ومشابهة الأبيات بعضِها لبعضٍ في مَعدِن الفن الذي تُصاغ منه، وخيرُ ذلك قولُه: «وأراك في صدرِ بيته عجُزَه وفي فاتحتِه قافيتَه.» إذ دلَّ على أمارةٍ حقيقية في الشعر المطبوع؛ حيث لا تأتي المعاني مقهورة، بل يأخذ بعضُها بحُجَزِ بعض، وكذلك الألفاظ والصور يقوم بينها من التداعي الطبيعيِّ ما نُحس معه أن عَجُز البيت قد أتى بعد صدره على نحوٍ يُخيِّل إلينا أننا كنا نتوقَّعُه.
إلى هنا أصاب الناقد، ولكنه لا يلبث أن يُضيف: «والمطبوع من الشعراء إذا امتُحِن لم يتلعثَم ولم يتَزحَّر.» أي إن الشاعر المطبوع هو القادرُ على الارتجال دون تلعثمٍ ولا بهر. ويضرب ابنُ قتيبة لذلك الأمثلةَ بشِعر ابن مُطير في المطر، ثم برجَزِ الشمَّاخ، ويحكم على شعرِ ابن مطير بأنه «مع إسراع قائلِه فيه كثيرُ الوشي لطيفُ المعاني.» أي إن فيه صفاتِ الشعر المطبوع.
الرجَز مجالُ الارتجال، والرُّجَّاز قومٌ توفَّروا على وزنٍ بعينه حتى أَلِفُوه، بل وتوارَثوه ابنًا عن أبٍ، فأصبَح الارتجالُ فيه ممكنًا. وهو بعدُ بحرٌ قصيرٌ سهلُ البناء والمأخَذ، ولا كذلك القصيد المتعدِّد البحور، المتعدد الأغراض.
وأما الشعر، فمِن غريب الأمر أن يَرى ابنُ قتيبة أن الارتجال فيه دليلُ الطبع، وأنَّ شعرًا كالذي أوردَه لابن مُطير شعرٌ مطبوع، مع أنه لم يَصدُر عن دافعٍ من تلك التي عدَّدها الناقدُ نفسُه فيما سبق. والأصحُّ أن يوصَف بالطبع مَن يَصدُر عن نزوعٍ أو إرادةٍ ذاتيَّين، لا مَن يُطلَب إليه قولُ الشعر فيقول على الهاجس؛ فهنا يكون التكلُّف، وهنا يخلو ما يُقال من «رونق الطبع ووَشْي الغريزة»، بل يَخْلو من كلِّ صياغة حقيقية ما يُغني عنها في الشعر شيء.
ولننظُرْ في أبياتِ ابن مطير لِنرى صحةَ هذا الحكم.
انظر إلى قوله:
فأيُّ شعر أقبحُ من هذا! وفيه مِن ثِقل الأصوات ونُبوِّها عن السمع ما يكفي للدلالة عليه أن نلتفتَ إلى: «جوف ضرته .. جوف .. جوفه .. جوفاء» بما فيها من جيماتٍ مرذولة غليظة متكرِّرة! وقد زادت مُجاورة الضاد للجيم الأولى من سَماجتها، ثم انظر إلى سخافة المعنى وتَعقُّد العبارة عنه؛ فهو يريد أن يقول إن «جوف السماء كجوفِ ضرَّةِ المطر الواسعة الجوفاء التي في جوفه»، فلم يستطع بغير هذا التعقيد الواضح الذي هو التكلفُ بعينه. والصورةُ بعدُ قبيحةٌ لا معنى لها؛ «فالضرَّة التي في جوف المطر» مرذولةٌ ضعيفة، فالسماء ليست ناقة، وضرة الناقة بعيدةٌ عن أن توحيَ بغزارة المطر مهما كان سِبَحلةً واسعة.
وما فيه من تكلُّف وضعف، فالبريقُ حريقٌ اجتمع له ريحٌ وبترول وخشب جلف … إلخ، ومع ذلك لا يُعطي هذا الحريقُ — رغم كل ما اجتمع له — شيئًا من صورة البرق الخاطف الذي رآه امرُؤ القيس، الشاعر المطبوع حقًّا، يُومض كيدَين تبدُوان ثم تختفيان وسط السحاب، أو كمصابيحِ راهبٍ يُميل صاحبُه ذُبالتَه المفتَّلة:
وأيُّ ابتذالٍ في رؤية البرق ضاحكًا والمطرِ دموعًا لم تُجْرِها الأَقْذاء في قوله:
فهذه المطابَقات السهلة بين مُستضحِك ومُستعبِر، واللوامع والمدامع؛ هي التكلُّف الهيِّن القريبُ المنال، هي أَمارات الشعر الضعيف لا الشعر المطبوع، وما نظن الارتجالَ بقادرٍ في معظم الأحيان إلا على مثلِ هذه السخافات، ثم:
ونحن لا ندري بأيِّ ذوق يستسيغ ابنُ قتيبة هذا الاستقصاءَ السخيف في الشعر، وهذه الصورَ المرذولة المتلاحقة! ولنتصوَّر السحابَ وقد ثقلت كُليَتاه فجَرَت أنهارًا في أصلابه، وانبعجَت أحشاؤه، فخرَّ السحابُ بحرًا كله، ومن فوق بحور السحاب سماء. أيُّ سخفٍ أبلغُ من هذا، وأي قبح؟!
ووَلَد المطرُ سيولًا مع أنه ليس للمطر «أَسْلاء» ولا «بيتُ رَحِم»، وحمَلَت السحبُ الغرُّ الدوالح الغزيرة المياهِ اللقاحَ وكلُّها عذراء، فيا عجبًا! عذراءُ تحمل اللقاح! ونزل المطر.
أليس هذا الشعرُ أشبهَ بأشعار الفقهاء المتكلِّفين الذين لا ذوق لهم ولا حسَّ ولا دراية بالشعر، وإنما هو كدُّ الذهن فيما لا شعر فيه، والتكلُّفُ في توليدِ معانٍ وصور قبيحة نابية؟! ومع ذلك يقول ابنُ قتيبة إنه كلام «كثير الوَشْي لطيف المعاني.» ويرى في ارتجاله دليلَ الطبع في الشعر.
وهكذا يتضح لنا الحكمُ العام على ابن قتيبة.
فهو رجلٌ تفكيره خيرٌ من ذَوقه، ونزعتُه خيرٌ من عمله. دعا إلى تحكيم الرأي الشخصي فأصاب، وعرَّف الشعر المتكلَّف في أحد المواضع بأنه «ما خلا نسجُه من الوحدة» فأصاب، وعرَّف المطبوعَ بأنه «ما يُنبئ صدرُه عن عجُزِه» فأصاب، وحاول أن يُقسِّم الشعر تبعًا لجودة ألفاظه ومعانيه فتخبَّط في الحكم والذوق، وقسَّمه إلى مطبوعٍ ومتكلَّف فخلَط بين الارتجال والطبع، وبين التثقيف والتكلُّف، وحاول أن يُورِدَ عن غيرِه بعض المقاييس، فلم يتَبصَّر ولم يُعمِل حسَّه ولا عقَله ليضعَها وضعها الحقيقي.
ومع ذلك يبقى له فضلُ وقوفه في سبيلِ طغيان منطق اليونان على أدب العرب، وفضلُ التخلُّص من التعصب للقديم لقِدَمه أو الحديثِ لحداثته، وذلك رغم أنه لم يستطع أن يُقيم محلَّ ما رفَضه أسسًا صحيحة، أو نظريةً متماسكة.
وابن قتيبة بعد كل هذا ليس ناقدًا، وإنما الناقد هو الرجلُ الذي يتناول النصوص؛ يدرسها ويُميز بين أساليبها، كما فعل الآمدي، الذي أصبح النقدُ بفضله نقدًا منهجيًّا ولم يَعُد مجردَ خواطر كما كان من قبلُ، ولا أحكامًا تُستقَى من جزئيةٍ ثم تُعمَّم. ولسوف نراه يتناول البحتُريَّ وأبا تمام فيُفصل القولَ فيهما، ويستقصي كلَّ أخطائهما وسرقاتهما، ومحاسنهما وعيوبهما، ثم يُوازن بينهما في المعاني التي طرَقاها، والأغراض التي اتجها إليها، قاصرًا أحكامه على ما أمامه؛ فطَورًا يُفضِّل هذا وطورًا يُفضِّل ذاك، معللًا آراءه، مورِدًا حججه.
وبعدُ، فقد ظهر النقد عند العرب نقدًا ذوقيًّا، ولكنه كان جزئيًّا؛ نَقْد خواطرَ دون تعليل، ثم سار الزمن سيرتَه فاتَّسعَت الأذهان، ونمَت روحُ العلم والحرص على التعليل بفضلِ فلسفة اليونان وأقوال المتكلِّمين. ووُضِعَت العلوم المختلفة، فاستطاع النقدُ أن يُصبح كما قلنا نقدًا منهجيًّا، يتناول النصوصَ باستقصاءٍ ودراسة وإمعان، وتحليلٍ وتعليل، وإنْ ظل الذَّوق عربيًّا، وكان الفضل في ذلك لنقَّاد القرن الرابع. وأما مَن سبَقهم كابنِ سلَّام وابن قُتيبة، فقد كانوا مؤرِّخي أدبٍ أكثرَ منهم نقَّادًا، وهم إنْ عرَضوا لبعض المسائل الأدبية والمقاييس العامة، لم يكن في نظرتِهم استقصاءٌ ولا دراسةٌ للنصوص. والنقد كما قلنا ليس تلك التعميماتِ التي لا طائلَ تحتها، وإنما هو تحليلُ النصوصِ والتمييزُ بين الأساليب. والذي يمكن أن يُصبح علمًا هو منهجُ التحليل والدراسة والتمييز، لا النقد ذاتُه. نحاول أن نضَع له نظرياتٍ عامةً عن اللفظ والمعنى، والطبعِ والتكلُّف وأمثالِ ذلك، كما سنرى عندما نَعرِض لهذا الاتجاه.
لم يظهر إذن النقدُ الموضعي المنهجي قبل القرن الرابع، وفي دراسة هذا النقد نريد الآن أن نأخذ.