الخصومة حول المتنبي
(١) دواعي الخصومة حول الشعراء
ليس من شكٍّ في أن الخصومات التي نشأَت حول الشعراء قبل المتنبي لم تخلُ من عناصرَ شخصية، وإن كنا — فيما سبق — قد نحَّينا تلك العناصرَ عن التأثير في نقدِ شعرهم؛ فأبو نُوَاس قد تحامَل عليه خلقٌ كثير لشعوبيَّته وفسادِ خلقه، كما تحامَلوا على أبي تمام لحسَدِهم له وإخماله لذِكرهم. وفي أخبار أبي تمام للصولي فصل (ص٢٣٤–٢٤٣) ذكَر فيه هجاءَ الشعراء لأبي تمام. والناظر في هجائهم يرى آثارَ الحسد واضحة، ومِن بينها ما لا يدعُ مجالًا للشك في أن بعض أسباب الخصومة كان التنافُسَ على صِلات الممدوحين. وإليك مثالًا لذلك: «عزَم أبو تمام على الانحدار إلى البصرة والأهواز لمدح مَن بهما، فبلغ ذلك عبد الصمد ابن المُعذَّل، فكتب إليه:
فلما قرأ الشعرَ قال: «قد شغَل هذا ما يليه، فلا أرَبَ لنا فيه، وأضربَ عن عزمه» (ص٢٤١-٢٤٢).
وفي جملة أبي تمام «قد شَغَل هذا ما يليه» ما يدلُّ على أن الأمر كان قد وصل إلى ما يمكن أن نُسمِّيَه «مناطق النفوذ» يقتسمُها الشعراء؛ فهو يرى أن شعر عبد الصمد من الجودة والقوة بحيث يستطيع أن يَشغل به ما يليه من أمراءٍ وسادة، وأن مُنافسته على صِلاتهم ليست مُمكنة.
والذي لم يزل فيه أن المنافسات كانت من العنف بحيث إن الموت نفسَه لم يستطع دائمًا أن يخمد نارها. وهذا مَخْلد بن بكَّار الموصليُّ لا يكتفي بهجوِ أبي تمامٍ حيًّا، بل يَرثيه عند موته بهجاءٍ مُقذع فاحش (ص٢٤٠).
وقد كان الشعراء أنفسُهم يَغارون على شعرهم، ويَدفعون عنه، ويختصمون في سبيله. وها هي أبياتٌ لأبي تمام يهجو فيها شاعرًا سرَق شعره:
فهو يرى أن هذا الشاعر المجهول قد بزَّ بَني بَحْدل وتَغلِبَ ومَن إليهم في الجُرأة عندما أغار على أشعاره «النَّضرة كوجوهِ الكواعب»، واستحلَّها لنفسه، وهو يفزع لهذه السرقة ويستشعر منها الهولَ في سخريةٍ جميلة نافذة.
والملاحَظ أن تلك الخصومات لا تدوم مع تراخي الزمن إلا إذا كان لأصحابها مَناحٍ خاصةٌ، وأبقى الخصوماتِ في تاريخ الشعر العربي قد قامت حول ثلاثةٍ من الشعراء يُمثلون اتجاهاتٍ قوية؛ إما لأنهم قد أتَوا بمذاهبَ جديدة، أو تُشبه الجديدة، أو لأنهم قد صدَروا عن طبعٍ أصيل؛ فأبو نُواس وأبو تمَّام قد أحدَث كلٌّ منهما في الشعر العربي حدثًا: جدَّد أبو نواس من روح الشعر ومِن بناء القصائد أحيانًا، وخرَج أو حاوَل الخروجَ على تقاليد العرب الفنِّية والخُلقية، فأثار ضجَّةً نسبية، واتخذ أبو تمام من البديع مذهبًا أصبَح رأسًا له، وإن ظلَّ «يرقص في السلاسل القديمة»، كما يقول ناقدٌ غربي، أو «يطرز على ثيابٍ خَلِقة»، كما قال الآمدي. وجاء المتنبي فسار في أول حياته على نهج أبي تمَّام، وأخذ بمذهبه، وتتلمَذ له، كما لاحظ الجرجانيُّ نفسُه في الوساطة (ص٥٥)، حتى إذا استوت ملَكَتُه الشعرية صدَر عنها، فإذا به يأتي بنَغماتٍ جديدة، فيها من القوة والقدرة على التصوير والإيحاء ما يجعله شاعرًا أصيلًا، وكان له حتى اليوم في الأدب العربي أبلغُ الأثر.
(٢) الخصومة حول المتنبي ليست حولَ مذهب
والخصومة حول المتنبي تختلف عن الخصومة حول أبي تمام بحُكم ما قرَّرناه من اختلافِ مكانةِ كلٍّ منهما في تاريخ الشعر العربي، فأبو تمام صاحبُ مذهب رأى فيه الكثيرون — بحقٍّ — إفسادًا للشعر، وخروجًا به إلى الصَّنعة التي تُميت الروح؛ ولهذا كان القتالُ حول طبيعة هذا المذهب، فانقسم النقَّاد — كما رأينا — إلى أنصار القديم وأنصار الحديث، وانتهى البحثُ إلى ربطِ كلِّ فريقٍ أصولَ الرأي عنده بتقاليد العرَب. وتمخَّضَت المعركةُ عن نتيجةٍ لم يزل فيها؛ هي أن أبا تمام لم يأتِ بجديد، وإنما أسرف فيما ورَد عن القدماء من بديعٍ أتاهم عفوًا، فعَمد إليه هو وأسرف فيه حتى أحال وتعسَّف.
والخصومة حول المتنبي لم تكن خصومةً حول مذهبٍ شعري، وإنما كانت خصومةً حول شاعرٍ أصيل. وهي ليست في شيء استمرارًا للخصومة حول أبي تمام. ودليلنا النقليُّ على ذلك هو ما نجده في أقوال صاحب الوساطة؛ إذ يقول (ص١٣): «وما زلتُ أرى أهلَ الأدب — منذ ألحقَتْني الرغبةُ بجُملتهم، ووصَلَت العنايةُ بيني وبينهم، في أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبِّي — فئتَين: مِن مُطْنبٍ في تقريظِه منقطعٍ إليه بجُملته، مُنحطٍّ في هواه بلسانه وقلبه، ويتلقَّى مَناقبه إذا ذُكِرَت بالتعظيم، ويُشبِع محاسنَه إذا حُكِيَت بالتفخيم، ويعجب ويُعيد ويُكرر، ويميل على مَن عابه بالزراية والتقصير، ويتناول مَن ينقصه بالاستحقار والتجهيل، فإذا عثر على بيتٍ مختلِّ النظام، أو نبَّه على لفظٍ ناقص عن التمام، التزَم من نُصرة خطئه وتحسين زَلَلِـه ما يُزيله عن موقف المعتذر، ويتجاوز به مقامَ المنتصر.
وعائبٍ يرومُ إزالتَه عن رُتبته فلم يُسلِّمْ له فضلَه، ويحاولُ أن يحطَّه عن منزلةٍ بوَّأه إيَّاها أدبُه، فهو يجتهد في إخفاء فضائله وإظهار مَعايبه، وتتبُّع سقطاته، وإذاعةِ غفلاته. وكِلا الفريقَين إما ظالمٌ له أو للأدب فيه.» ونحن إذا حاولنا أن نتبيَّن في موقف هؤلاء الخصوم مبدأً عامًّا لم نجده؛ وذلك لأن المعاصرين للمتنبي نفسِه لم يُلحقوه بالقدماء ولا بالمحْدَثين؛ ومن ثَم قلنا: إننا لا نستطيع أن نَرجع بهذه الخصومة إلى المعركة التي دارت حول مذهب البديع. وهذا واضحٌ من قول الجرجاني (ص٤٩): «إن خَصْمَ هذا الرجل فريقان: أحدهما يعمُّ بالنقص كلَّ مُحدَث، ولا يرى الشعرَ إلا القديمَ الجاهليَّ وما سُلك به ذلك المنهج وأُجري على تلك الطريقة، ويزعم أن ساقة الشعراء رُؤْبة وابن هَرِمة وابن ميَّادة والحكَم الخضري، فإذا ما انتهى إلى مَن بعدهم كبشَّارٍ وأبي نُواس وطبَقتِهم، سمَّى شعرهم مِلحًا وطُرفًا، واستحسَن منه البيتَ استحسانَ البادرة، وأجراه مجرَى الفُكاهة، فإذا نزلْتَ به إلى أبي تمامٍ وأضرابه نفَض يدَه، وأقسم واجتهد أن القوم لم يَقرِضوا بيتًا قط، ولم يقفوا من الشعر إلا بالبعد. ومَن هذا رأيُه ومذهبه، وهذه دَعْواه ونحلتُه، فقد أعطاك ما أردتَ من وجهٍ وإن مانِعَك سِواه، وسمح لك بما التمستَ وإن التوى عليك في غيره؛ لأن الذي انتصبتَ له وشَغَلتَ عنايتك به إلحاقُ أبي الطيب بهذه الطبقة، وإضافتُه إلى هذه الجملة، وقد بذَل ذلك وقرَّبَ مطلبَه عليك. فإن كانت تلك الجماعةُ منسلخةً من الشعر، موسومةً بالنقص، مستحقَّةً للنفي؛ فصاحبُك أوَّلُهم، وإن تكن قد علقتَ منه بسبب، وحظيتَ منه بطائل، وكان لها فيه قدَم، ومنه حظٌّ وموقع؛ فهو كأحدهم. وليس الحكم بين القدماء والمولَّدين من التوسُّط بين المحدَث والمحدَث بسبيل، كما لا نسَب بينه وبين تفضيلِ قديمٍ على قديم. وإنما يستعيب لك هذه المخاطبةَ مَن وافقك على فضل أبي تمام وحزبه، وسلم محل مسلم ومن بعده، فتجعل هؤلاء شهودَك وحُججَك، وتُقيم شعرهم حَكمًا بينه وبينك، فإنك لا تدَّعي لأبي الطيب طريقةَ بشارٍ وأبي نُواس، ولا منهاج أشجعَ والخزيمي، ولو ادَّعيتَه إنما كنتَ تخادع نفسك أو تُباهت عقلك.
وإنما أنت أحدُ رجلين: إما أن تدَّعيَ له الصنعة المحضة فتُلحِقَه بأبي تمام وتجعلَه من حزبه، أو تدَّعيَ له فيه شِركًا، وفي الطبع حظًّا، فإن مِلْتَ به نحو الصنعة فَضْلَ مَيْلٍ صيَّرتَه في جَنْبة مسلم، وإن وفرتَ قسطه من الطبع عدَلتَ به قليلًا نحو البُحتري. وأنا أرى لك إذا كنتَ متوخِّيًا للعدل، مؤثرًا للإنصاف، أن تُقسِّم شعره فتجعلَه في الصدر الأول تابعًا لأبي تمام، وفيما بعده واسطةً بينه وبين مسلم.» ومعنى هذا هو أن أنصار القديم كانوا لا يزالون نَشِطين، وهذه طائفةٌ كانت تُفضل القدماء لقِدَمهم وتردُّ المحْدَثين لحداثتهم جملة واحدة. وأما أنصار الحديث فهؤلاء هم الذين كانوا يقبلون شعر المولَّدين والمحدَثين. ومع ذلك، فإن هذه الطائفة لم تتعصَّب للمتنبي كما تعصبَت لأبي تمام؛ وذلك لأن شعر المتنبي لم يصدر كلُّه عن مذهبِ أصحاب البديع، وإنما كان كذلك — فيما يرى الجُرجاني — في صدر حياته. وأما بعدَ ذلك فإن النقاد لم يستطيعوا أن ينسبوه إلى مذهبٍ بعينه؛ فمال به البعضُ إلى صَنْعة مُسلم وأبي تمام، وعدَلَ به آخَرون إلى طبع البحتري، ورأى الجرجانيُّ أنه وسطٌ بين المذهبَين.
والواقع أن المتنبِّيَ لم يَصدُر إلا عن طبعِه هو؛ فشعرُه ليس شعرًا مصنوعًا، وهو قد خلا إلا في القليل من تكلُّفِ أبي تمام ومُسلم، بل ومن سهولة البحتري التي هي الأخرى وليدةُ فنٍّ شعري بعينه. كما سنرى شعرَ المتنبي أصداءً لحياته ونغماتِ نفسه … شعرٌ أصيل قد حطَّم المذاهبَ واستقلَّ دونها جميعًا.
وثَمة أقوالٌ لصاحب الوساطة تدلُّ على أن أصحاب الحديث أنفسَهم كانوا يَغمِطون المتنبيَ حقَّه؛ فهو يقول (ص٥٢): «ومخالِفُك المعاند الذي صمَدتَ لمحاكمته، وابتدأتَ بمُنازعته ومُحاجَّته، مَن استحسن رأيك في إنصافِ شاعر، ثم ألزمَك الحيفَ على غيره، وساعدَك على تقديم رجل ثم كلَّفك تأخيرَ مثلِه، فهو يُسابقك إلى مدح أبي تمام والبحتري، ويُسوغ لك تقريظَ ابنِ المعتزِّ وابن الرُّومي، حتى إذا ذكرتَ أبا الطيب ببعض فضائله، وأسميتَه في عِداد مَن يَقصُر عن رُتبه، امتعض امتعاضَ الموتور، ونفر نِفار المضيم، فغضَّ طرْفَه، وثَنَى عِطْفَه، وصعَّر خدَّه، وأخَذَته العزةُ بالإثم.»
وأمثالُ مَن يشير إليهم الجرجانيُّ في هذه الفقرة هم الناقدون عن هوًى في نفوسِهم؛ فهُم ليسوا من المتعصبين للشعر القديم، وهم يقبلون الشعرَ الحديث ويتعصَّبون له، ومع ذلك يَجْرحون المتنبيَ وينفرون منه.
(٣) الخصومة حول شخص المتنبي ودواعيها
والواقع أن الخصومة قد نشأت حول هذا الشاعر منذ اتصاله بسيف الدولة، وذُيوع صيته، وإخماله ذِكرَ الشعراءِ الآخَرين. ولقد وصف الأستاذ بلاشير الحركةَ التي قامت حول المتنبي في بلاد الحَمْدانيِّين، فقال في كتابه عن المتنبي (١٤١ وما بعدها): «وأخذت تتكوَّن حول المتنبي شيئًا فشيئًا حَلْقةٌ من المعجَبين به، ووجد الشاعرُ في تكوينها رِضًا لكبريائه، ولربما اطمأنَّ إليها ليتَّخذ منها دِرعًا ضد خُصومه؛ فالشاعر عليُّ بن دينار والزاهدُ والفقيه ابن نُباتة قد درَسوا — كما تشهد المصادر — شِعرَه تحت إشرافِه. كما يلوح أن الخوارزميَّ كاتبَ الرسائل قد تأثر به أيضًا، وإليه يرجعُ ما في قصائد الشاعر ابنِ نُباتة السعديِّ من تشاؤم وبعض خصائص في الأسلوب. ولم يكن الأدباء فقط هم الذين أُعجِبوا به؛ فإن ابنَ جني النَّحْويَّ الذي جاء إلى حلب في سنة ٣٤١ﻫ قد أخذ — في شيءٍ من التحفُّظ أولَ الأمر — في مناقشة الشاعر مناقشاتٍ عديدةً في فقه اللغة وفي النحو. ولم يكن الجيلُ الناهض هو كلَّ من التفَّ حول المتنبِّي، بل انضمَّ إليهم رجالٌ ناضجون، كالبَبْغاء، مشَوا في أعقاب مُغني سيف الدولة. وأبلغُ من ذلك في الدلالة أن نرى مُنافسي المتنبي أنفسهم يتأثَّرون به. وإنه لمن السهل أن نجد في أشعار النامي والرفاء أبياتًا أوحى بها إليهم شعرُ المتنبي خَصْمِهم.»
وما أجملَه بلاشير في هذه الفِقرة يحتاج إلى تفصيل؛ لأنه في الواقع مبدأُ دراسة شعر المتنبي ونقده. والذي يبدو هو أن خصوم المتنبي كانوا قد سَبقوا إلى جمعِ قُواهم ضد الشاعر، وذلك قبل أن يلتفَّ حوله أتباعُه، بل وقبل أن يكون له أتباع، وإلى هذا أيضًا قد فَطِن بلاشير فقال (ص١٤٢): «كثيرٌ من الأدباء والشعراء ودارسي الأدب ورجال البلاط لم يستطيعوا أن ينظروا في غيرِ حقدٍ إلى ما كان يتمتَّع به المتنبي من حَظْوةٍ عند سيف الدولة، ومن اعتزازٍ عند المعجَبين به، وكان في أخلاق أبي الطيب بنوع خاصٍّ ما لم يستطيعوا قَبولَه. وقد زاده كِبرًا ما لاقى من نجاح. ومنذ وصوله عند سيف الدولة، وحتى قبل أن يكون أتباعُه حلقةً أدبية، اجتمع خُصومه في عُصبة تكوَّنَت ممَّن كانت تصرفاتُ الشاعر تُثيرهم، وممَّن كانوا يخشَونه على ما لهم من امتيازات. وكان أبو فِراس ابنُ عمِّ سيف الدولة روحَ تلك العُصبة. وكُرهُ هذا الرجل للمتنبي يرجع إلى كراهيةٍ مفطورة؛ كراهيةِ الأرستقراطي الكبير لرجلٍ من الدَّهماء، كراهيةِ إنسانٍ حسَّاس لآخَر يتمنطقُ في بُرود. وحول أبي فِراس اجتمع أبو العشائر الذي لم يغتفر للمتنبي عدمَ اهتمامه به بعد أن أسدى إليه فضله، ومعهما رجالُ البلاط؛ مثل القاضي أبي حُصين، والأميرَين أبي محمدٍ وأبي أحمد بن ورقاء، وابن خالَوَيه النَّحْوي الذي لم ينسَ للمتنبي قطُّ احتقارَه لغير العرب، وانتصارَه عليه في المناقشات اللُّغوية. ولم تلبث أن اتَّحدَت كراهيةُ كلِّ هؤلاء الرجال ضد المتنبي، وساعد على ذلك عدةُ علاقات: جاءت أُولاها عن طريق النساء؛ إذ تزوج أبو العشائر بأختِ سيف الدولة، ثم الغرور؛ فقد كان هؤلاء الرجال يتبادلون أبياتًا من الشعر، فيها ما يُرضي كبرياءَ كلٍّ منهم، وكذلك المنفعة؛ فقد كان ابن خالويه مُربِّيًا لأبناء الأمير، وكان مَدينًا لهم بكل ما يملك. وأخيرًا الألفة التي تنشأ بين أناسٍ يشربون ويولِمون ويَمرحون معًا.»
(٤) الخصومة حول شخصه تنتهي إلى تجريح شعره
ونحن لا يُهمُّنا أن نستقصيَ ما كان لهذه الخصومات من أثرٍ في حياة الشاعر قدْرَ ما نحرص على إيضاحِ أثرها في شعره. والذي لم يزل فيه أن خصوم المتنبي عندما لم يجدوا سبيلًا إلى إيغار صدرِ سيف الدولة ضدَّه بوِشاياتهم، لم يرَوا بُدًّا من تجريح شعره ذاته، ذلك الشعر الذي حمل سيفَ الدولة على أن يحميَ صاحبه، وقد رأى فيه أخلدَ سِجلٍّ لمجده.
يُحدِّثنا صاحبُ «الصبح المُنْبي» يوسف البديعي المتوفَّى سنة ١٠٧٣ﻫ — نقلًا عن مصادرَ مفقودةٍ اليوم — عن كثيرٍ من هؤلاء الشعراء والأدباء، ويورد أحداثًا كانت لهم مع المتنبي عظيمةَ الدلالة في نشأة النقد الذي أخَذ به شعره، فيقول عن السريِّ الرفَّاء (ص٤٠): «لما قال المتنبي في إحدى سَيفيَّاته:
قال السَّريُّ: هذا والله معنًى ما قدَر عليه المتقدمون.»
يُضيف المؤلف: «وممَّا يُقال: إنه حُمَّ في الحال جَسدًا، وتحامل إلى منزله ومات بعد ثلاثة أيام.» ولكن البديعيَّ يرفض هذه الدعوى قائلًا: ولا صحةَ لهذا؛ لأن السريَّ قد استعمل هذا المعنى بقوله:
ويقول عن النامي (٤٠): «وحكى صاحبُ المفاوضة قال: كان سيف الدولة يميل إلى العباس النامي الشاعر ميلًا شديدًا، إلى أن جاءه المتنبِّي فمال عليه إليه، فلما كان ذات يوم خلا بسيف الدولة وعاتبه، وقال للأمير: لِمَ تُفضل عليَّ ابن عبدان السقَّا؟ فأمسك سيف الدولة عن جوابه، فألحَّ عليه وطالبه بالجواب، فقال: لأنك لا تُحسن أن تقول كقوله:
فنهض من بين يدَيه مُغضَبًا واعتقد ألا يَمدحه أبدًا. وأبو العباس هذا هو القائل: «كان قد بقي في الشِّعر زاوية، دخلَها المتنبي، وكنتُ أشتهي أن أكون سبَقتُه إلى معنَيَين قالهما ما سُبق إليهما؛ أما أحدهما فقوله:
والآخَرُ قولُه:
في هذين الخبرَين ما يشهد بأن خصوم المتنبِّي كانوا يأخذون أنفُسَهم بنقدِ شعره، وتمييز جيدِه من رديئه، كما أنهم لم يُفلِتوا من تأثيره، بَلْهَ مُحاكاتَه وسرقةَ معانيه. ولقد عقد صاحبُ اليتيمة فصلًا لسرقات الشعراء من المتنبي، سواءٌ منهم أتباعُه وخصومه. وإليك أمثلةً تنطق بذلك؛ قال أبو الطيب:
أخذه أبو الفرَج الببغاء؛ أحدُ أصدقاء المتنبي والمعجَبين به، فلطَّفه وقال:
وقال أبو الطيب:
أخذه السريُّ فقال:
وقال أبو الطيِّب:
أخذه السريُّ فقال:
وقال أبو الطيب:
أخذه السري فقال:
ولم يقف تأثيرُ المتنبي عند الشعراء، بل تَعدَّاه إلى الكُتَّاب؛ ممَّا يدلُّ على أن الجميع كانوا يتدارسون شِعره ويتدبَّرون معانيَه. ومن ذلك فصلٌ لأبي بكرٍ الخوارزميِّ يقول فيه: «وكيف أمدح الأمير بخلقٍ ضنَّ به الهواء، وامتلأتْ به الأرضُ والسماء، وأبصره الأعمى بلا عين، وسَمِعه الأصمُّ بلا آذان؟!» وهو مِن قول أبي الطيب:
ولأبي بكرٍ الخوارزميِّ من رسالةٍ أخرى: «ولقد تساوَت الألسنُ حتى حُسِد الأبكم، وأُفسِد الشعرُ حتى أحمد الصَّمَم.» وهو من قولِ أبي الطيب:
وإذا أضَفْنا إلى ذلك ما أخذه الخوارزميُّ في شعره عن المتنبي ممَّا أورده صاحبُ اليتيمة في الباب الذي أشَرْنا إليه سابقًا، أدركنا مبلغَ تأثير المتنبي في مُعاصريه.
(٥) مجالس سيف الدولة والنقد الأدبي
ولقد كانت مجالسُ سيف الدولة ندواتٍ أدبيةً يتناقش فيها الأدباء، ويتناولون الشعراءَ بالنقد، ويختصمون من أجلهم؛ «قال ابن بابك: حضر المتنبي مجلسَ أبي أحمد بن نصرٍ البازيار؛ وزير سيف الدولة، وهناك أبو عبد الله بن خالويه النَّحْوي، فتمارَيا في أشجعَ السلميِّ وأبي نُواس البصري، فقال ابن خالويه: أشجَعُ أشعرُ؛ إذ قال في هارون الرشيد رحمه الله تعالى:
مجالسُ كهذه لم يكن بدٌّ من أن يُتناول فيها شعر المتنبي نفسه بالنقد، وأحيانًا بالتجريح، من خُصومه. وهم يُحدِّثوننا أن أبا فِراس قال لسيف الدولة: «إن هذا المتشدِّقَ كثيرُ الإدلال عليك، وأنت تُعطيه كلَّ سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، ويمكن أن تُفرق مائتي دينارٍ على عِشرين شاعرًا يأتون بما هو خيرٌ من شعره. فتأثَّر سيف الدولة من هذا الكلام وعمل فيه. وكان المتنبي غائبًا وبلَغَته القصة، فدخل على سيف الدولة وأنشده قصيدتَه:
حتى إذا انتهى أطرقَ سيفُ الدولة ولم ينظر إليه، فخرج المتنبي من عنده متغيرًا، وحضَر أبو فِراسٍ وجماعةٌ من الشعراء فبالَغوا في الوقيعة بحقِّ المتنبي، وانقطع أبو الطيِّب بعد ذلك فنظم القصيدةَ التي أولها:
فلما وصَل في إنشاده إلى قوله:
قال أبو فِراس:
مسَختَ قولَ دِعْبل وادَّعيتَه، وهو:
فقال المتنبي:
فعلم أبو فِراس أنه يَعنيه فقال: ومن أنت يا دَعِيَّ كِنْدةَ حتى تأخذ أعراضَ الأمير في مجلسه؟ فاستمرَّ المتنبِّي في إنشاده ولم يردَّ عليه، إلى أن قال:
فزاد ذلك أبا فِراسٍ غيظًا وقال: قد سرقتَ هذا من عَمرِو بن عُروةَ بن العبدِ في قولِه:
ولما وصل إلى قوله:
قال أبو فِراس: وماذا أبقيتَ للأمير إذا وصفتَ نفسك بالشجاعة والفصاحة والرياسة والسماحة؟ تمدح نفسك بما سرَقتَه من كلامِ غيرك وتأخذ جوائزَ الأمير؟! أمَا سرقتَ هذا من قول الهيثم بن الأسود النَّجفي الكوفي المعروفِ بابن عُريان العُثماني:
فقال المتنبي:
قال أبو فراس: وهذا سَرِقتُه من قولِ مَعملٍ العِجلي:
وغضب سيفُ الدولة من كثرةِ مُناقشته في هذه القصيدة وكثرةِ دَعاويه فيها، فضرَبه بالدَّواة التي بين يدَيه، فقال المتنبي في الحال:
فقال أبو فراس: أخذتَ هذا من قولِ بشَّار:
فلم يَلتفت سيفُ الدولة إلى ما قاله أبو فِراس، وأعجبه بيتُ المتنبي، ورضيَ عنه في الحال، وأدناه إليه، وقبَّل رأسَه، وأجازه بألفِ دينار، ثم أردفه بألفٍ أخرى.»
وهذه القصة تبدو لنا موضوعة؛ لِما فيها من ترتيبٍ لمناسبة الأبيات والتمهيدِ بها لتلك الأحداث التي لا نكاد نُصدِّقها؛ كرميِ سيفِ الدولة المتنبِّيَ بالدواة التي كانت بين يدَيه. فهذه واقعةٌ لا نعلم كيف نُوفِّق بينها وبين ما يَرْوونه من أن المتنبيَ قد أخذَته العزةُ عندما انتصَر على ابنِ خالويه في مناقشةٍ لُغوية، فأخرج من كمِّه مِفتاحًا حديدًا لِيَلكُم به المتنبِّي، فقال له: «ويحك! إنك أعجميٌّ وأصلُك خوزي، فما لك والعربيَّة؟!» فضرب وجهَ المتنبي بذلك المفتاح فأسال دمَه على وجهه وثيابه، فغضب المتنبي إذ لم ينتصر له سيفُ الدولة لا قولًا ولا فعلًا، فكان ذلك أحدَ أسبابِ فِراقه له.» (الصبح، ص٤٥).
فإذا صحَّ أن المتنبِّيَ قد غضب لأنَّ الأمير لم ينتصف له من ابن خالويه، فكيف به لو صدَق ما ورَد في الحكاية السابقة من ضربِ الأمير نفسِه له بالدَّواة؟ وهل يُعقَل أن يستمرَّ بعد ذلك في الإنشاد؟ ثم إن اتهامه الشاعرَ بأنه دَعيُّ كِنْدة أمرٌ مشكوك فيه؛ وذلك لأن المتنبيَ لم يدَّعِ قطُّ ولا ادَّعى له أحدٌ من معاصريه بأنه من كِنْدة، وإنما هذه نسبةٌ قال بها المتأخرون؛ إذ خلَطوا بين قبيلةِ كِندة ومحلَّة كِندة؛ أحدِ أحياء الكوفة. وبهذا الحيِّ وُلد المتنبي، كما يقول أبو القاسم عبدُ الله بن عبد الرحمن الأصفهانيُّ في مقدمةِ كتابه «إيضاح المشكِل من شعر المتنبِّي»، التي نقَلها صاحبُ خِزانة الأدب؛ قال: «إن مولد المتنبِّي كان بالكوفة في مَحِلَّةٍ تعرَف بكِنْدة، بها ثلاثةُ آلافِ بيتٍ من بينِ روَّاءٍ ونَسَّاج.»
هذه الحكاية إذن موضوعة، ولكنها مع ذلك تحتفظ بدلالتها العامَّة التي تُعزز كلَّ ما سبق أنْ رأيناه من أماراتِ نشاط النقد ببلاط سيف الدولة، ونقد شعر المتنبي بوجهٍ خاص.
ولقد كان الأمير نفسُه رجلًا مثقفًا بصيرًا بالشعر؛ يَقوله وينقدُه، والظاهر أنه لم يكتفِ بالثقافة العربية التقليدية، بل ضمَّ إليها الثقافة الأجنبية التي كانت قد نُقِلَت إلى اللغة العربية. والرواة يُحدِّثوننا بأن الفيلسوف أبا نصرٍ الفارابيَّ قد لجأ إليه وعاش في كنَفِه. والذي يُهمنا الآن هو تذوُّقُه للشعر ونقدُه له. وقد قال الواحديُّ (ص٥٥) عند شرحه للبيتين:
«وسمعتُ الشيخ أبا مَعْمر المفضَّلَ بن إسماعيل يقول: سمعتُ القاضيَ أبا الحسنِ عليَّ بن عبد العزيز يقول: لما أنشد المتنبي سيفَ الدولة قولَه: «وقفتُ وما في الموت» والبيتَ الذي بعده، أنكر عليه سيفُ الدولة تطبيقَ عَجُزَي البيتَين على صدرَيهما، وقال له: كان ينبغي أن تقول:
قال: وأنت في هذا مثلُ امرِئ القيس في قولِه:
قال: ووجهُ الكلام في البيتين — على ما قاله العلماءُ بالشعر — أن يكون عَجُز البيت الأول مع الثاني، وعجزُ الثاني مع الأول؛ ليستقيمَ الكلام، فيكونَ ركوبُ الخيل مع الأمرِ للخيل بالكَرِّ، ويكونَ سِباءُ الخمر مع تبطُّنِ الكاعب.
فقال أبو الطيب: أدام اللهُ عزَّ مولانا سيفِ الدولة «إنْ صحَّ أن الذي استدرَك على امرِئ القيس هذا أعلمُ منه بالشعر؛ فقد أخطأ امرُؤ القيس وأخطأتُ أنا، ومولانا يعرف أن الثوب لا يعرفه البزَّاز معرفةَ الحائك؛ لأن البَزاز يعرفُ جُملتَه، والحائك يعرف جُملتَه وتفصيلَه؛ لأنه أخرَجه من الغَزْليَّةِ إلى الثَّوبية. وإنما قرَن امرُؤ القيس لذةَ النساء بلذةِ الركوب للصيد، وقرَن السماحةَ في شراء الخمر للأضياف بالشجاعةِ في مُنازَلة الأعداء. وأنا لما ذكَرتُ الموتَ في أول البيت أتبَعتُه بذِكْري السُّرَى لِتُجانِسَه. ولما كان وجهُ المنهزِم لا يخلو من أن يكونَ عَبوسًا، وعينُه من أن تكون باكية، قلتُ: ووجهُك وضَّاحٌ وثَغرُك باسم؛ لأجمعَ بين الأضداد في المعنى؛ فأُعجِب سيفُ الدولة بقوله، ووصَلَه بخمسين دينارًا من دنانير الصِّلات، وفيها خَمسُمائة دينار».» ويُضيف الواحدي رأيَه هو، فيقول: «ولا تطبيقَ بين الصدر والعجُز أحسنَ من بيت المتنبي؛ لأن قوله: «كأنك في جَفْن الردى وهْو نائم» معنى قولِه: «وقفتُ وما في الموت شكٌّ لواقف»، فلا مَعْدِلَ لهذا العجُزِ عن هذا الصدر؛ لأن النائم إذا أطبَق جَفْنَه أحاط بما تحتَه وكأنَّ الموت قد أظلَّه من كل مكان، كما يحدق الجفن بما يتضمَّنُه مع جميع جِهاته، وجعله نائمًا لسلامته من الهلاك؛ لأنه لم يُبصره وغفل عنه بالنوم فسَلِم ولم يَهلِك.
هذا هو النهاية في التشبيه؛ لأنه يقول: المكانُ الذي تُكْلَمُ فيه الأبطالُ فتَكْلحُ وتَعبَس، ثمَّ وجهُك وضَّاح لاحتقارِك الأمرَ العظيم … وهذا كما قال مُسلم:
ونَخلُص من كلِّ ما سبق بأنَّ حلَبَ كانت أولَ وسطٍ أدبي انتُقِد فيه شعرُ المتنبي؛ فالأميرُ ناقد واللُّغويون نُقَّاد، والشعراء يُنافسون المتنبيَ فيَجْرحون شخصَه ويَنقُدون شعرَه، وإن لم يُفلِتوا من التأثُّر به، بل والأخذِ عنه. وللشاعر بعد كلِّ ذلك أنصارُه وتلاميذُه، يشرح لهم شعره، ويَرويهم قصائدَه.
(٦) البيئة الأدبية في الفُسْطاط
وغادر المتنبي حلبَ إلى الفُسطاط، فاستبدل بيئةً مثقَّفة بمِثلها. ولقد أجمل الأستاذ بلاشير في كتابه عن المتنبي وصْفَ الحالة العِلمية والأدبية في الفسطاط في فقراتٍ قليلة، نورِدُها قبل أن ننظر في حركة النقد التي أحاطت بالشاعر وشِعره في مصر؛ قال: «لقد كانت الفسطاط في عصرِ كافور صورةً مصغَّرة لحلب أو بغداد، وكان الولَعُ برعاية الآداب سائدًا فيها، وإن كان ثمة اختلافٌ بين حلب وعاصمةِ الإخشيديِّين؛ ففي الفُسطاط لم توجد حلقةٌ واحدة وعدةُ ندوات صغيرةٍ منثورةٌ حولها، بل وُجِدت عدةُ حلقات كبيرة يختلف إليها الأدباءُ والشعراء والعلماء في نفس الوقت. نعَم، إن أهمَّها كانت حَلْقة كافور؛ ذلك الخَصِي الذي كان يبدو جوَادًا أريحيًّا إن لم يكن مستنيرًا. ولقد كان على أيَّة حال رجلًا فخمًا، ولكن إلى جواره كُنَّا نجد ندواتِ كبار الضباط وكبار رجال الدولة. ولقد كان الإقبالُ على ندوةِ ابن حِنْزَابة كبيرًا، فكنتَ تجد بها الشعراء والعلماء، وبخاصةٍ علماء الحديث؛ إذ إن هذا السيد كان يتمتَّع بثقافةٍ واسعة في هذا العلم الذي ألَّف فيه كتبًا. وكانت ندوةُ صالح بن رشيد، أحدِ رجال الدولة، ذاتَ صَبغةٍ أدبيةٍ أكثرَ وضوحًا، وكان صاحبُها يتعهَّد علاقاته مع معظم أدباء الفُسطاط وشُعرائها، وكذلك كانت ندوة حاكم دمشق القديم علي بن صالح الرزباري الذي سبق للمتنبِّي أنْ مدَحَه.
وفي هذه البيئة كما في حلب أرسَلَت الثقافةُ الإسلامية فروعها المختلفة في قوة.
فدراسةُ التاريخ قد ازدهَرَت من قبلُ في عصر الطُّولونيِّين، كما أن النزعة المحليَّة دفَعَت إلى تخصيص كتبٍ لتاريخ مصر. وكان أجوادُ الإخشيديِّين يَحْمون العلماءَ أمثال الكِنْدي الذي ألَّف في التاريخ عدةَ مُصنَّفات.
وكذلك الدراسات اللُّغوية والنَّحوية، فإنها منذ أنْ حرَّكَها ابنُ النحَّاس (أبو جعفر ابن النحَّاس) لم تفقد حُظْوتَها. ولقد شجَّعَها كافور ببسطِ حمايته على أحد رجال مدرسة البصرة إبراهيم النجيرمي … ولقد وُجِد في نفس الزمن بالفسطاط علماء اللغة النُّحاة؛ عبد الله بن أبي الجوع، وعليُّ بن أحمد المهلَّبي تلميذُ إبراهيمَ النجيرمي، ثم ابن الجبيِّ البصري، وهو رجلٌ كَلْبي المزاج، ما فتئ يرعد ويُبْرق ضدَّ انحطاط عصره وبذَخ الكبراء. ولقد بلَغَت شهرةُ هذا الرجل العِلميةُ حدًّا سمَّوه معه سيبويهِ مصر.
وكان الأدبُ الخالص، وبخاصةٍ الشعر، في ذروة الشرَف في الأوساط الإخشيدية. ولقد كان كلُّ إنسان إلى حدٍّ ما شاعرًا، حتى العلماء الذين سبَق أن أورَدْنا أسماءهم لم يُفلتوا من هذه القاعدة، بل إن كُتَّاب الدواوين أنفُسَهم ونُسَّاخه كانوا يَنْظِمون في هوَسٍ، وكان حُماتُهم كابن حِنْزابة وصالحِ بن رِشْدين يضربون لهم في ذلك المثل، ولكن هذا الإنتاج المسرِف قد نُسي نسيانًا تامًّا، ولم يصل إلينا منه إلا فِقراتٌ صغيرة موزَّعة في مجموعات الشعر، ومع ذلك فثَمة أسماءٌ تَبرُز وسطَ هذه الرَّداءة العامة، نذكر منهم الموقفي الذي نرى أشعارَه في الوصف والمُجون تُغاير ببساطتها وتلوينها طنطنةَ العصر، وتُذكرنا بأبي نُواس، ومنهم الشاعر المدَّاح الأنصاري. وأخيرًا العقيلي الذي نعرف جانبًا كبيرًا دقيقًا من شعره، وهو يتكوَّن — فيما يبدو — من أغاني غرام ومجونٍ ووصف، وفي نغمات هذا الشاعر ما يجعل منه شخصيةً جذَّابة في ذلك العهد من تاريخ مصر.
ومع ذلك، فيجبُ أن نعترف بأن هؤلاء الشعراء — حتى الموهوبين منهم — إذا كانوا يُمثِّلون استمرارَ تقاليد الشعر الغرامي وشعر المجون في القرن الثالث أو الرابع، فإنهم لم يأتوا بأيِّ مبدأٍ جديد، ولم يُظهِروا أيَّ ميل أو محاولةٍ لأن يأتوا بجديد. وهم بعدَ ذلك — وهذا كان عيبًا خطيرًا في ذلك الزمن — لم يكونوا مادحين ذَوِي نفَسٍ مُنطلِق؛ ومن ثَم استطاع المتنبي بمجرد وصوله إلى الفسطاط أن يَظهر كرجلٍ فريد … هبةً من القدَر.
وعلى هذا النحو استطاع المتنبي أن يُمْليَ نفسَه في غيرِ مَشقَّة، فقد لَزِم خُصومُه أمثالُ الشاعر المدَّاح الأنصاري والوزيرِ ابن حِنزابة جانبَ التحفُّظ، أو جهَروا بالاعتراف بمواهبِه أمام الجماهير وإن دَسُّوا له في الخَفاء، كذلك ابنُ الجبي النَّحْوي فإنه — رغم هجائه الجارح الذي لم يُفلِت منه أحدٌ حتى ولا كافور نفسُه — قد ناقش شِعرَ المتنبي في غيرِ عنف. وفي الحق، إن ردَّ الفعل ضدَّ المتنبي لم يَظهر في مصر إلا بعد أن تكوَّنَت مدرسةٌ شعرية تحت رعاية الفاطميِّين.
لقد كان جمهورُ الكُتَّاب والأدباء من أنصاره، فاستطاع أن يلعبَ دورَه كرئيس لمدرسةٍ على نحوٍ أكثرَ سيطرةً منه في حلب، فدرَس النَّحْويُّون على أحمدَ بنِ المهلبي، وعبدِ الله بن أبي الجوع، وكاتم السرِّ الجواد صالح بن رِشْدين ديوانه تحتَ إرشاده. وهكذا تكوَّنَت في مصر حلقةٌ ثانية لدراسة شِعر المتنبي، وبلَغَت شهرةُ الشاعر من العظَمة أنْ رأينا مُسافرين يمرُّون بالفسطاط فيقفون بتلك المدينة لِيرَوه ويستمعوا إليه يشرحُ أشعارَه؛ فالأندلسيُّ عبدُ الواحد بن عيال، وهو عائدٌ من الحج بمكَّة، والمغربيُّ ابن الأشاج كانا من المستمِعين إليه. ولقد حمَلا معهما ديوانَه إلى إسبانيا. وأخيرًا نرى جماعةً كبيرة من المعجَبين به ومن الأصدقاء يُخلصون له، ويَمُدُّون إليه يدَ المساعدة وقتَ الخطر بأن يُساعدوه على الخروج من مصر» (ص١٩٥ وما بعدها).
(٧) ما أثاره شعرُه من نقدٍ في مصر
هذا مُجمَل الحالة الأدبية في الفسطاط عندما سار إليها المتنبِّي، وهذه هي المكانة التي تمتَّع بها بين شعراء مصر وأدبائها في ذلك الحين، ولكِنَّا نُحاول أن نصل إلى ما أثار شعرُه من نقدٍ فلا نجد إلا القليلَ موزَّعًا في بطون الكتب، كما لم نجد ممَّا أثاره من نقدٍ بحلب إلا إشاراتٍ أو مناقشات جُزئية؛ فصاحبُ الصبح يُنبئنا عن نادرةٍ وقَعَت بين المتنبي وسيبويه السابقِ الذِّكر فيقول: «حدَّث محمدُ بن الحسن الخُوارَزميُّ قال: مرَرتُ بحمدِ بن موسى الملقَّبِ بسيبويهِ وهو يقول: مدَح الناسُ المتنبيَ على قوله:
ولو قال: «مُداراتِه أو مُداجَاته بُدٌّ؛ لكان أحسَنَ وأجوَد».» قال: «واجتاز المتنبِّي به وقال: أيها الشيخ، أحبُّ أن أراك، فقال له: رعاك الله وحيَّاك، فقال له: بلَغَني أنك أنكرتَ عليَّ قولي: عدوًّا له ما من صَداقتِه بدُّ، فما كان الصوابُ عندك؟ فقال له: إن الصداقة مُشتقةٌ من الصِّدق في المودَّة، ولا يُسمى الصديق صديقًا وهو كاذبٌ في مودته؛ فالصداقة إذن ضدُّ العداوة، ولا موقعَ لها في هذا الموضع، ولو قلتَ ما من مُداراته لأصَبْت. هذا رجلٌ منا — يريد نفسَه — قال:
فقال المتنبي: أمَا مع هذا غيرُه؟ قال: نعم:
فتبسَّم المتنبي وسيبويه يَصيحُ عليه: أُبكِمَ الرجلُ وجلائلِ الله» (الصبح المُنْبي، ص٦٣).
وهذا قد يَلوح لنا — كما يقول الأستاذ بلاشير — خاليًا من العنف، إذا ذكَرْنا أن سيبويه هذا كان يُسمَّى الموسوَس، وأنه كان — فيما يقول صاحبُ اليتيمة — مصابًا بِلُوثةٍ، وقال يومًا للمِصريِّين: «يا أهلَ مصر، أصحابُنا البغداديُّون أحزمُ منكم؛ لا يقولون باتخاذ الولَد حتى يتَّخذوا له العِقْد والعدَد، فهم أبدًا يعزبون، ولا يقولون باتخاذ العقار خوفًا أن يملكَهم شرُّ الجار، فهم أبدًا يَكنِزون، ولا يقولون بإظهار الغِنى في موضعٍ عُرِفوا فيه بالفقر، فهم أبدًا يُسافرون.» ووقف يومًا بالجامع وقد أخذَت الحِلَقُ مأخذها فقال: «يا أهل مصر، حيطانُ المقابر أنفعُ منكم؛ يُستنَد إليها ويُستدرَى بها من الريح، ويُستظَلُّ بها من الشمس، والبهائمُ خيرٌ منكم؛ تُمتطَى ظهورُها، وتؤكَل لحومُها، وتُحْتذَى جلودُها.» وكان ابنُ حِنزابة الوزير ربما رفَع أنفه تِيهًا، فقال له سيبويه وقد رآه فعَل ذلك: «أشمَّ الوزيرُ رائحةً كريهة فيُشمر أنفه؟» فأطْرقَ واستعجل النهوض، فخرج سيبويه، فقال له رجلٌ: «من أين أقبلتَ؟» قال: «من عند هذا الزاهي بنفسِه، المُدِلِّ بعرسِه، المستطيلِ على أبناء جنسه.»
ورجل كلبيُّ الطبع على هذا النحو يَدهَشُنا أن نراه يستعملُ الرِّفق في نقده للمتنبِّي الذي لم يَصطنِعْ معه الجِد.
(٨) المتنبي وابن حِنزابة
وأبلغُ منه في نقد الشاعر، وأنفذُ وأشدُّ كيدًا، كان ابن حِنزابة جعفرُ بن الفضل بن جعفر بن موسى بن الحسن بن الفُرات؛ وزير كافور. والظاهر أن المتنبيَ عندما وصل إلى مصر كان يعتزمُ أن يختصَّه هو بمدائحه دون كافورٍ الخَصي؛ ولهذا تردَّد في أول الأمر. ولقد نقَل ابنُ خلِّكان عن التبريزيِّ أن أولَ قصيدة قالها الشاعرُ في مصر كانت موجَّهةً إلى ابن حِنزابة، ولكن الشاعر لم يُنشِدها، بل احتفظ بها في أوراقه حتى عاد إلى العراق، وسار من العراق إلى ابن العَميد بأرض فارس فغيَّر قليلًا من القصيدة، وكانت هي أولى قصائده في ابن العميد. ولم يغتفر ابنُ حنزابة للشاعر إهمالَه له. ويقول صاحبُ الصبح: «قال التوحيدي: كنتُ بمصر وبها أبو الطيِّب، ووقفتُ من أمره أنه على شَفا الهلاك، ودعَتْني نفسي لحبِّ أهل الأدب إلى أن أحمله على الخروج من مصر، فخشيتُ على نفسي أن يَشيع ذلك عني. وكان مُستعدًّا للهرَب، وإنما فات أظافير الموت ومخالب المنية من قرب. وهو جنى ذلك على نفسه؛ لأنه ترك مدْحَ ابنِ حنزابة، وهو وزير كافور والمقرَّب منه، وهو مع ذلك من بيتٍ شريف أهل وزارةٍ ورئاسة، ومن العلم والأدب بموضعٍ جليل، وهو بابُ الملك، فأتى من غيرِ باب، وأنشده القصيدةَ التالية، وأولُها ما يُتطيَّر منه:
ووراءه مَن نبَّه على عيوبه كقولِه من قصيدته التي أولها:
إلى أن قال:
ومنها:
فكان يقولُ ابنُ حِنزابة: إنه هَزِئَ بكافور في هذه الأبيات، ويُسهِّل على الناس في أمر لونه ويُحسِّنه لهم. قال التوحيدي: كان المتنبِّي يعلم أن ذِكْر السواد على مَسْمَع كافور أمرٌ من الموت، فإذا ذكر لون السواد بعد ذلك فقد أساء إلى نفسِه، وعرَّضها للقتل والحِرمان. وكان من إحسان الصَّنعة وإجمالِ الطلب ألَّا يَذكر لونَه وله عنه مَنْدوحة، ولكن الرجل كان سيِّئَ الرأي، وسُوءُ رأيه أخرجَه من حضرة سيف الدولة وعرَّضَه لعداوة الناس. وقد ذكَر سواد كافور في عدةِ مواضع، وكان اللائق ألَّا يذكرَه إلا كقولِه:
وهذا في أسمى طبقاتِ الإحسان؛ لكونه كَنَى عن سوادِه بإنسانِ عينِ الزمان» (الصبح، ص٦٢، ٦٥).
وهذا نقدٌ لا ينمُّ عن خبثِ ابن حنزابة ورغبةٍ في الكيد للمتنبي فحَسْب، بل يشهد بذَوقٍ صادقٍ وحسٍّ مرهَف، والذي يبدو لنا هو أن ابن حنزابة والتوحيديَّ قد وُفِّقا في فَهْم ما كان في شعر أبي الطيب من خروجٍ على اللياقة. ونحن وإن كنَّا قد تعوَّدْنا ذلك من المتنبي في غيرِ موضع، وفي أكثرَ من موقفٍ له مع مَمْدوحيه، إلا أننا لا ندري بعدُ، أصَدَر الشاعر في هذا اللون من المدح عن غفلةٍ أم عن سخريةٍ خبيثة، وهم يُحدِّثوننا عن أبي الفتح بن جنِّي أنه قال: «لما قرأتُ على أبي الطيب قولَه في كافور:
قلتُ له: «لم تَزِد على أن جعَلتَه أبا زنة (كُنْية القرد)، فضحك أبو الطيِّب؛ فإنه بالذمِّ أشبهُ منه بالمدح».»
والناظر في شرح ابن جني لديوان المتنبِّي — ولدينا من هذا الشرح نسخةٌ في المكتبة الملَكيَّة — يجدُ أن هذا الشارح، الذي قرأ على المتنبي الديوانَ وناقشه في مَعانيه وأخذ عنه شروحَه، قد جنَح دائمًا إلى تخريج مدحِ المتنبي في كافور مخرجَ الهجاء المستتِر المقلوب. وهذه مسألةٌ نُرجئ الفصلَ فيها إلى الحديث عن ابن جنِّي. والواقع أن المتنبيَ لم يُجِدِ المدح إلا في سيف الدولة، حيث جاء المدحُ صدًى لنفسه ونَجْوى فؤادِه، امتزجَت به روحه فجاء شعرًا صادقًا جميلًا.
ولقد سُئل المتنبي نفسُه عن السبب في ذلك، فقال: «قد تجوَّزتُ في قولي، وأعفيتُ طبعي، واغتنمتُ الراحة منذ فارقتُ آل حَمْدان» (الصبح، ص٥٢). وهذا أصدقُ تفسيرٍ لتلك الظاهرة.
(٩) المتنبي وابنُ وكيع
ومن ثَم كان من الممكن لخصوم المتنبي في مِصر وفي العراق وفارس — لو أنهم أُوتوا القدرة — أن يَجرحوا شعرَه تجريحًا قويًّا، ومع ذلك فإننا إذا التمَسْنا نقدًا لشعر الشاعر في مصر غير الإشارات السابقة؛ لم نكَدْ نعثرُ إلا على كتابَين لم يتناولا إلا أسهلَ أنواع النقد وأقربَها إلى التجريح الميسور؛ أعني مسألةَ السرقات. كتَبَ أوَّلَهما الشاعرُ ابن وكيع (تُوفي سنة ٣٩٣ﻫ) باسم: «المنصِف للسارق والمسروق من المتنبي». ومِن هذا الكتاب لدينا نسخةٌ خَطِّية ببرلين، فيما يقول الأستاذ بلاشير، كما أن العُكْبَري قد أورَد عدة أمثلةٍ لما ذكر من سرقات.
وابنُ وكيع هذا هو أبو محمدِ بن الحسن بن وكيع التنيسي، يقول صاحبُ اليتيمة في ترجمته: «شاعرٌ بارع، وعالمٌ جامع، قد برَع في إبَّانِه على أهلِ زمانه، فلم يتقدَّمْه أحدٌ في أوانه، وله كلُّ بديعةٍ تَسحَر الأوهام، وتستعيدُ الأفهام.»
ومن ثَم كان من الطبيعيِّ أن يحسد المتنبيَ ويحمل عليه، مُحاولًا تجريحَه بكل سبيل. وفي ذلك يقول ابنُ رشيق (الجزء الثاني، ص٢٢٥): «وأما ابنُ وكيع فقد قدَّم في صدر كتابه عن أبي الطيِّب مقدمةً لا يصحُّ لأحدٍ معها شعرٌ إلا الصدر الأول، إنْ سلَّم ذلك لهم! وسمَّاه كتاب المنصِف؛ مثل ما سُمِّيَ اللَّديغُ سليمًا، وما أبعدَ الإنصافَ منه!»
وأورد صاحب الصبح (١٥٨): «قال عليُّ بن منصور الحلبيُّ المعروفُ بابن القارح: كان محمدُ بن وكيع متأدبًا ظريفًا ويقول الشعر، وعمل كتابًا في سرقات المتنبِّي وحاف عليه كثيرًا. وسألني يومًا أن أخرجَ معه واستصحبَ مُغنِّيًا، وأمَره ألا يُغنيَ غيرَ شعرِه، فقال:
فقلتُ له: أتَثقُل عليك المؤاخَذة؟ قال: لا، فقلت: إن أبياتَك مسروقة؛ الأولُ من قول بعضِهم:
والثاني من قولِ رُؤْبة:
فقال: والله ما سمعتُ بهذا، فقلت: إذا كان الأمر على هذا، فاعذر المتنبِّيَ على مثله، ولا تُبادر إلى الحطِّ عليه ولا المؤاخذةِ له، والمعاني يستدعي بعضُها بعضًا.»
وإذن فالنقَّادُ القدماء مُجمِعون على أنَّ ابن وكيع قد تحامَل على المتنبي، ولكنَّنا لا نعلم بعدُ أكتَبَ هذا الشاعرُ كتابه والمتنبي حيٌّ أم كتَبَه بعد وفاته، وإن كان الراجح أنه قد كتبه بعد موته؛ وذلك لأننا وإن كنَّا لا نعلم تاريخَ ميلاد ابنِ وكيع إلا أننا نعرف أنه تُوفِّي سنة ٣٩٣ﻫ؛ أي: بعد وفاة المتنبِّي بما يقرب من أربعين عامًا.
ولو أن مخطوط ابن وكيع كان بين أيدينا، لاستطعنا أن ننظرَ فيه عن قُرب، ونُفصِّل مواضعَ إصابتِه أو تَحامُلِه؛ وذلك لأنه — بلا ريبٍ — قد استطاع أن يقع على ما يُشبه السرقةَ في شعر المتنبِّي؛ كقوله مثلًا:
فهو يرى أنه منقولٌ من قول ابن الرومي:
إذن من الواضح أنه رغم اختلافِ غرَض الشاعرَين — المتنبي يمدح وابنُ الروميِّ يهجو — فإن النشر مِن دفن الخمول شيءٌ ما أظن أننا نستطيع أن نقولَ فيه ما قال المتنبي (خِزانة الأدب، ج١، ص٣٨٥، ص٣٨٩): «الشعر جادة، وربما وقَع الحافرُ على الحافر.» ومع ذلك، فالذي نُرجِّحه هو أنَّ ابن وكيع قد أسرف فرأى السرقةَ حيث لا سرقة؛ وذلك نحوُ اتِّهامه المتنبِّيَ بأنه قد أخذ قولَه:
من قول عبدِ الله بن طاهر:
فمعنى بيتِ المتنبي أننا نرتبطُ الخيول الكريمةَ العِتاق، ومع هذا لا تُنجينا ولا تعصمنا من طلبِ الدهر وخَببِ لياليه في آثارنا، ومعنى بيتِ عبد الله بن طاهر أننا ما نزال نُحارب الدهرَ ويُحاربنا حتى يتركَنا بين جَريح ومطعون. فإذا كان هناك اتفاقٌ نهائي في تنكيل الأيام بنا، فالبَوْن شاسعٌ بين طرق الأداء: المتنبِّي يرى اللياليَ مُخِبَّةً نحوَنا وجياد الخيل واقفة لا تستطيع أن تنجوَ بنا منها، وابنُ طاهر يُصور معركةً بين البشر والأيام، فما أبعدَ صورةَ هذا عن صورةِ ذاك!
وثَمَّة غيرَ كتابِ ابن وكيع، كتابُ العميدي المسمَّى «الإبانة عن سَرِقات المتنبي لفظًا ومعنًى»، ولكن هذا المؤلِّف قد تُوفِّي سنة ٤٣٣، فليس هناك أدنى احتمالٍ في أن يكون قد كتب كتابَه والمتنبي حي. ونحن الآن في صدد الحديث عن الخصومة حولَ المتنبي حيًّا؛ ولذلك نترك الحديثَ عنه هنا.
(١٠) تأثيرُه في تلاميذه بمِصر
ولو أننا ترَكْنا خصومَ المتنبِّي لِننظرَ في تأثيره في تلاميذه والمعجَبين به، لم نستطِعْ — لسوءِ الحظ — أن نعثرَ على مثلِ ما عثَرنا عليه من تأثيره في شعراءِ وأدباء حلب، ومع هذا فثَمة إشاراتٌ نجدها في شروحِ ديوانه تدلُّ على أن شعراء مِصر كانوا يُناقشون الشاعرَ وشِعرَه، ويتَدارسونه معه. من ذلك ما نجدُه في العُكْبَري (ج١، ص٣٧٧) عند شرحِه للبيت:
إذ يقول: «قال أبو الفتح (ابن جني): قال لي المتنبِّي: لما قلتُ هذه القصيدةَ وقلت تَفاوح، أخذ الشعراءُ هذه اللفظة وتداوَلوها بينهم.» ولكن أمثال هذا الشاهد التاريخيِّ قليلة.
(١١) البيئات الأدبية وأثرُها في فنِّه
ونَخلُص من كلِّ ما سبق إلى أن المتنبِّيَ قد وجَد في مِصر بيئةً أدبية عِلمية بصيرةً بالشعر ونقدِه، فساقَه ذلك إلى أن يُحافظ على مستوى شِعرِه الفنِّي. والواقعُ أنه إذا صحَّ أن مدْحَه لكافور أغلَبُه متكلَّفٌ سقيم، فإنه — رغم ذلك — قد قال في مصرَ أروعَ ما قال من شِعر، وقد انتهى إلى تلك البلاد وفي نفسِه من الأيام جُروح، فعاوَدَ البصرَ في حياته، وثقب الحزن خلال نَغماتِه، فجاء شِعرًا إنسانيًّا يهزُّ النفوس. وإنك لتقرأ قصائدَه في كافور فتجدُ أن مدْحَه للأمير لا يكاد يَعْدو الأبياتَ، وما بقي يدورُ إما حول نفسِه، وإما حول مُقامه بحلب وحنينِه إلى سيفِ الدولة وأيامِه الكريمة. وقد تخلَّلَت كلَّ ذلك فلسفةٌ حزينة متشائمة لم يقصد إليها، وإنما أمْلَتها مُلابساتُ حياته، فأتت في موضعِها من قصائده مُلوَّنةً بإحساسه، وإنك لَتقرَؤُها في سياق الحديث فلا تُنكر منها ما تُنكره عندما تُروى إليك مُجرَّدةً من مُلابَساتها. إن فلسفتَه فلسفةُ حياة، لا فلسفةُ عقلٍ مجرَّد.
ذلك عن مَعانيه، وأما صياغة شعره وصَنعتُه الفنية فممَّا لم يزلَّ فيه أن الوسط الأدبيَّ بمصر قد حمَله على تجويدها كما حمله وسَطُ حلَب؛ يقول العُكْبَريُّ: «سألتُ شيخي أبا الحرم مكِّيَّ بنَ ريَّان الماكسَ عند قراءتي عليه الديوانَ سنة ٥٩٩ﻫ: ما بالُ شعر المتنبِّي في كافورٍ أجودُ من شعره في عَضُد الدولة وأبي الفضل بنِ العميد؟ فقال: كان المتنبِّي يعمل الشعرَ للناس لا للممدوح، وكان أبو الفضل بنُ العميد وعضدُ الدولة في بلادٍ خالية من الفُضَلاء والشعراء، فكان يعمل الشعرَ لأجلهم، وكذلك كان عند سيف الدولة بنِ حَمْدان جماعةٌ من الفُضلاء والأدباء، وكان يعمل الشعرَ لأجلهم ولا يُبالي بالممدوح. والدليل على هذا ما قال أبو الفتح عنه في قوله «تَفاوَح»؛ لأنه لما قالها أنكرَها عليه قومٌ حتى حقَّقوها، فدلَّ أنه كان يعمل الشِّعرَ الجيد لمن يكون بالمكان الأول من الفُضلاء» (العكبري، ج١١، ص٢٧٧).
ونحن وإن كنَّا لا نُسلِّم بعمومِ هذه الأحكام، ونعتقد أن المتنبِّيَ لم يُجِد مدْحَ أحدٍ غيرِ سيفِ الدولة، وإنما أجاد في كافوريَّاته غِناءَه نجوى نفسِه، أو حنينَه إلى سيفِ الدولة، وأنه في عَضُديَّاته لم يُوفَّق إلا في قصيدته التي يصفُ فيها شعبَ بوان، ثم في أرجوزته الطردية، وأنَّ نجاحه في تلك الموضوعات لم يكن لوجود الفضلاء أو عدمِ وجودهم، بل لاتِّصالها بنفسِه وصدورِها عن طبعِه؛ أقول: إننا رغم كلِّ ذلك نُسلِّم بأن البيئة الأدبية في مصر وفي حلَب لم تخلُ بلا ريبٍ من تأثيرٍ على صياغة المتنبي لشعره، ولدينا في الوساطة أدلةٌ على أن المتنبِّيَ كان يُصلِح من شعره إذا نُوقش فيه ووضحَ له خطؤه. ومن ذلك أنه عندما قال:
أنكَروا تشديدَ النون من لَدُنَّه، وإنما هو لَدُنْ، وأما التشديد فغيرُ معروف في لغة العرب، ويقول الجُرجاني: وقد كان أبو الطيب خُوطبَ في ذلك فجعل مكان «لدنَّه» «بِبابِه» (الوساطة، ص٣٤١، ط صبيح). وكذلك في قوله:
يقول الجرجانيُّ أيضًا في صفحة ٣٥٢: «قالوا القُنوع خطأ، وإنما هي القَناعة، وأما القنوع فالمسألة.» يقال: قنع يقنع وقُنوعًا إذا سأل، والفاعل فيهما قانِع. قال المحتجُّ (أي نصيرُ المتنبي) الرواية المسموعة هي: ولا القناعة بالإقلال مِن شِيَمي. ويُضيف المؤلف: ولقد سمعتُ رُواة الشاميِّين يذكرون أنه أنشدَهم قديمًا «القنوع» ثم غيَّر الإنشادَ ورجَع إلى القناعة.
وهذان الشاهدان واضحان في الدلالة على ما أفاد الشاعرُ من تلك البيئة العِلمية، وبخاصةٍ في الشام؛ حيث اجتمَع بحلَب شعراءُ وأدباءُ وعلماء، لم يزلَّ أنهم كانوا أعظمَ خطرًا ممَّن وُجِد بمصر.
ومع ذلك، فإذا كان الشاعر لم يعثر بالفسطاط بأمثالِ أبي فِراس أو ابن خالَوَيه، فإنه لم يفقد كثيرًا، بل ربما كان في ذلك ما هوَّن عليه الإقامةَ بمِصر أربعَ سنوات، مع أنه لم يأتِ إليها إلا على مضَض، ومع أن شبح الخيبة لم يزل يتهيَّأ أمام ناظره، حتى استوى حقيقةً مُرَّة بالغَت في تشاؤمه وضيقه بالحياة.
(١٢) الخصومة حول المتنبِّي في بغداد
(١٢-١) شهرة المتنبي
وصل المتنبي وهو في مصر إلى درجةٍ من الشهرة طبَّقَت الآفاق، وصار شعرُه يُدوِّي في أنحاء العالم، وكأنَّ الريح تنقله بكلِّ فج. وفي «التميمة» عن ابن جنِّي قال: «وحدَّثني المتنبي قال: حدثني فلانٌ الهاشميُّ من أهل حَرَّان بمِصر قال: أُحدِّثُك بطريفة؛ كتبتُ إلى امرأتي وهي بحرَّان كتابًا تمثَّلتُ فيه بيتك:
فأجابتني عن الكتاب وقالت: ما أنت واللهِ كما ذكرتَ في هذا، بل أنت كما قال الشاعرُ في هذه القصيدة:
وإذا ذكَرنا أن هذه الأبيات من إحدى كافوريَّاته، وأنه قد قالها سنة ٣٤٨ﻫ، وذكَرنا أنها وصَلَت إلى حران قبل خروج الشاعر من مصر؛ أدرَكْنا مبلغَ المجد الذي كان المتنبي قد وصل إليه في ذلك الحين.
وفي «الصبح» (ص٩٠) حكايةٌ أخرى لا تقلُّ دلالةً عن السابقة، وإن تكن حقيقتُها التاريخية كحقيقةِ سابقتها موضعَ نظر: «نقل بعضُ أئمة الأدب أن رجلًا من مدينة السلام كان يكره أبا الطيب المتنبِّي، فآلَى على نفسه ألَّا يَسكن مدينةً يُذكر بها أبو الطيب ويُنشَد كلامُه، فهاجر من مدينة السلام، وكان كلما وصل بلدًا سمع بها ذِكرَه يرحل عنها، حتى وصل إلى أقصى بلاد التُّرك، فسأل أهلَها عنه فلم يعرفوه فتوطَّنَها، فلما كان يوم الجمعة ذهَب إلى صلاتها بالجامع فسمع الخطيب يُنشد بعد ذكر أسماء الله الحسنى:
فعاد إلى دار السلام.»
ورجلٌ هذا شأنُه في ذُيوع الصيت وانتشارِ الشعر، لم يكن بُدٌّ من أن يكثر خُصومُه وحسَّاده، وبخاصة إذا ذكرنا ما كان في طبعِه من كِبر وزَهْو وترفُّع، بل واحتقارٍ لغيره من الشعراء؛ ومن ثمَّ لم يكن غريبًا أن نرى أنه لم يكَد يترك مصر ويعود إلى العراق سنة ٣٥٠ﻫ حتى وجد الخصومَ والمنافسين في أهبةٍ لملاقاته، وساعدَ هو على تأجيج الخصومة بترفُّعه عن مدحِ رجالٍ ذَوي خطر؛ كالوزير المهلبي والصاحبِ بن عبَّاد، ثم بهجائه ضبةَ هجاءً مقذعًا فاحشًا اغتِيل بسببه، فيما يقولون.
بل لقد أكل الحسَدُ له قلوبَ رجال شهد لهم مُعاصروهم بالفضل، كما تمتَّعوا بسُلطانٍ واسع يبسطونه على الكتَّاب والشعراء؛ كأتباعٍ لهم، وأبواقٍ لمجدهم. وهذا في الحقِّ شعورٌ غريب لا نستطيع فَهمَه إلا إذا افترضنا أن المتنبيَ كان قد وصل في ذلك الحين إلى نوعٍ من النفوذ يَبُزُّ نفوذَ الوزراء أنفسهم، «قال الرَّبعيُّ: قال لي بعضُ أصحاب ابن العميد، قال: دخلتُ عليه يومًا قبل دخول المتنبي فوجدتُه واجمًا — وكانت قد ماتت أختُه على قريب — فظننتُه واجدًا من أجلِها، فقلت: لا يحزن الله الوزير، فما الخبر؟ قال: إنه ليَغيظني هذا المتنبي واجتهادي في أن أُخمِد ذِكْرَه، وقد ورَد عليَّ نيِّفٌ وسِتون كتابًا في التعزية، ما منها إلا وقد استُصدِر بقوله:
فكيف السبيلُ إلى إخماد ذكره؟ فقلت: القدَرُ لا يُغالَب، والرجلُ ذو حظٍّ من إشاعة الذكر واشتهار الاسم؛ فالأولى أن لا تَشغل فِكرك بهذا الأمر» (الصبح، ص٨٢-٨٣). ولئن صحَّت هذه الحكايةُ لَدلَّت على أن الشاعر كان قد أصبح يُنظَر إليه كقوةٍ من قُوى الطبيعة، وقضاءٍ من أقْضِية القدَر. وهذه حالةٌ قد تُلقي في قلوب خُصومه اليأسَ فيُسلموا بتفوُّقه فيُريحوا ويستريحوا، ولكنه يأسٌ لا يخلو من استعدادٍ للوثوب إذا لاح في الخَصم موضعُ ضعف.
والذي لا ريب فيه أن الخصومة حول المتنبي في بغداد كانت أقوى منها في أي مكان آخر. وهذا أمرٌ نستطيع فهمه؛ ففي حلب كان تأييدُ سيف الدولة له يَحميه من هجمات مُنافسيه، وفي مصر كانت أغلبية رجال الأدب معه، وأما في العراق فقد كانت النفوس موغَرةً ضدَّه؛ الخليفة ومعزُّ الدولة ووزيره المهلَّبي؛ لأنه مدَح خَصمهم اللدود سيفَ الدولة وخلَّد ذِكره دونهم، ورجال العلم والأدب؛ لحسدهم له، ولاحتقاره لأمرهم.
(١٢-٢) المتنبي والمهلَّبي
ولقد حاول الشاعرُ فيما يظهر أن يجد له من رجال الحُكم سندًا، فزار المهلبيَّ فيما تقول المصادرُ مرتين، وكان يودُّ أنْ لو مدَحه ليتَّخذه وسيلةً للوصول إلى معزِّ الدولة، كما مدح من قبلُ أبا العشائر ليتخذَه سبيلًا إلى سيف الدولة، ومن بعدُ ابنَ العميد ليجعلَه سُلَّمًا إلى عَضُد الدولة، ولكنه لم يفعل في مجالس المهلبيِّ وحياته من سخفٍ واستهتارٍ وتبذُّل. وهذه رواية أبي القاسم؛ إما لأنه أراد أن يَقصُر مدحه على الملوك، كما يقول صاحبُ اليتيمة، أو لما رآه عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني صاحبُ «الإيضاح».
ومهما يكن من أسباب عدم مدح المتنبِّي للمهلَّبي، فالذي يَعنينا من تلك الحقيقة التاريخية هو أثرُها في الخصومة التي نشَأَت حول الشاعر وحرَّكَت نقْدَ البغداديِّين لشعره.
وفي ذلك يقولُ صاحب اليتيمة: «ولما استقرَّ بدار السلام وترفَّع عن مدح الوزير المهلبيِّ ذاهبًا بنفسه عن مدحِ غير الملوك، شقَّ ذلك على المهلبيِّ فأغرى به شعراءَ العراق حتى نالوا من عِرْضه، وتبارَوْا في هجائه، فلم يُجِبهم ولم يُفكر فيهم، فقيل له في ذلك فقال: إني فرَغتُ من إجابتهم بقولي لمن هو أرفعُ طبقةً في الشعر منهم:
وقولي:
وقولي:
وقال أبو القاسم الأصفهاني في «إيضاحه»: «ولما حصَل المتنبي ببغداد نزل ربَض حُميد، فركب إلى المهلَّبي فأذن له فدخل وجلس إلى جنبه، وصاعد خليفته دونَه، وأبو الفرَج الأصفهاني، صاحبُ كتاب الأغاني، فأنشدوا هذا البيت:
وقال المتنبِّي: هو جُرَابًا. وهذه أمكنةٌ قتَلتُها عِلمًا، وإنما الخطأ وقَع من النقَلة، فأنكره أبو الفرَج وتفرَّق المجلس عند هذه الجملة، ثم عاودَه في اليوم الثاني وانتظر المهلبيُّ إنشاده فلم يفعل، وإنما صدَّه ما سمعه من تماديه في السخف، واستهتاره بالهَزْل، واستيلاءِ أهل الخلاعة والسخافة عليه. كان المتنبي مُرَّ النفْس، صعبَ الشَّكيمة، حادًّا مُجِدًّا، فخرج. فلما كان اليوم الثالث أغرَوْا به ابن الحَجَّاج حتى عَلق لجامُ دابته في صينية الكَرْخ، وقد تكابسَ الناسُ عليه من الجوانب، وابتدأ يُنشد:
فصبَر عليه المتنبي ساكنًا ساكتًا إلى أن أنجزها، ثم حلَّ عِنان دابته، وانصرف المتنبي إلى منزله.»
(١٢-٣) المتنبي وابن لَنْكَك
ولما بلغ الحسنَ بنَ لَنْكك بالبصرة ما جرى على المتنبي من وقيعةِ شعراء العراق فيه واستخفافهم به؛ كقولِهم فيه:
وكان ابنُ لَنْكك حاسدًا له، طاعنًا عليه، هاجيًا إياه، زاعمًا أن أباه كان يَسقي الماءَ بالكوفة، فشَمِتَ به وقال:
ومن قوله:
وقوله فيه:
وهذا هجاءٌ يشهد بعُنف الخصومة التي قامت بين المتنبي ومَن كان بالعراق من حكَّامٍ وشعراء، خصومة لم يكن بدٌّ من أن تؤدِّيَ إلى تجريح الشاعر في أعزِّ ما يملك؛ وهو شِعره. ونحن وإن كنَّا لا نجدُ في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهانيِّ ذِكرًا للمتنبي — مع أن أبا الفرج كما رأينا قد جالسَ المتنبِّيَ وخاصمَه؛ ممَّا قد يُفسر بأن أبا الفرج كان قد انتهى في ذلك الوقت من تأليف كتابه، أو أنه قد عَمد إلى الصمت عن ذِكر هذا الشاعر حتى لا يُساهم في نشر ذكره — أقول: إذا كنا لم نجد في هذا الكتاب شيئًا عن المتنبي؛ فقد حفظَت لنا المصادرُ نبأَ مناظرةٍ كانت بين الشاعر وبين رجلٍ لا يقلُّ عنه غرورًا واعتزازًا بالنفس؛ هو أبو عليٍّ الحاتمي، الذي يقول عنه ياقوت (ج١٨، ص١٥٤، الرفاعي): «إنه كان مُبغَّضًا إلى أهل العلم فهجاه ابنُ الحجاج وغيرُه بأهاجٍ مُرَّة.»
(١٢-٤) المتنبي والحاتمي
والآن يمكن أن نتساءل: هل هذه المناظرة كانت مقدمةً لكتاب الحاتمي «الموضحة في مساوئ المتنبي»؟ والأستاذ بلاشير يُشير في كتابه عن المتنبي (ص٢٦٨، هامش ٥) إلى مخطوط الأسكوريال بعُنوان: «الموضحة في ذكر سَرِقات المتنبي والساقِط من شعره»، وليس في المخطوط على ما يظهر شيءٌ غير مقدِّمة الكتاب، وفيها يُحدد الحاتميُّ موقفه من المتنبي عندما كتَب تلك الرسالة، وهو موقفُ عَدَاء، بحيث يمكن أن نُرجِّح أن المناظرة التي لدينا نصُّها (في ياقوت ص١٥٩ وما بعدها من الجزء الرابع، وفي الصبح المنبي ص٧١ وما بعدها) كانت جزءًا من تلك «الموضحة».
والآن نقف عند هذا النصِّ قليلًا لنرى ما فيه.
يمكن تقسيم هذه المناظرة قسمَين: في القسم الأول يقصُّ أبو عليٍّ الحاتميُّ كيف أنه «عندما جاء المتنبي مدينةَ السلام كان الْتحَف برِداء الكِبْر والعظَمة، يُخيَّل إليه أن العلم مقصورٌ عليه، وأن الشعر لا يَغترِفُ عَذْبَه غيرُه، ولا يرى أحدًا إلا ويرى لنفسه مَزيَّةً عليه، حتى ثقُلَت وطأتُه على أهل الأدب بمدينة السلام، وطأطأ كثيرٌ منهم رأسَه، وخَفَض جَناحَه، واطمأنَّ على التسليم جأشُه. وتخيَّل أبو محمدٍ المهلبيُّ أنْ لا يتمكَّن أحدٌ من مُساجَلتِه، ولا يقوم لمجادلته والتعلُّق بشيءٍ من مَطاعنه. وساء مُعزَّ الدولة أن يرِدَ على حضرته رجلٌ صدَر عن حضرة عدوِّه، ولم يكن بمملكته أحدٌ يُماثله فيما هو فيه، ولا يُساويه في منزلته، يُبدي لهم عَوارَه، ويهتك أستارَه، ويمزِّق جلابيبَ مَساويه.» ورأى أبو عليٍّ أنه هو ذلك الرجل الذي يستطيع أن يجرحَ المتنبيَ، وأن يحطَّ من قدره، فسار إلى الشاعر سيرَ الظافر حتى انتهى إليه، وهو بمنزل عليِّ بن حمزة البصري في ربَضِ حُميد، أحدِ أحياء بغداد؛ حيث كان المتنبي نازلًا، وحيث كان تلاميذه والمعجَبون به يُنشدونه شِعرَه، ويُفسِّره لهم. وهنا يبدأ القسم الثاني من نصِّ المناظرة كما انتهت إلينا، وفيه نرى كيف ناظر الحاتميُّ أبا الطيب وعابه.
بدأ الحاتميُّ بقوله: خبِّرني عن قولك:
أهكذا تُمدَح الملوك؟
وعن قولك:
أهكذا تؤبَّنُ أخَواتُ الملوك؟ والله لو كان هذا في أدنى عبيدِها لكان قبيحًا! وأخبرني عن قولك:
أهكذا تَنْسب بالمحبوبين؟
وعن قولك في هجاء ابنِ كيغلغ:
الكلام الرَّذْل الذي ينفر عنه كلُّ طبع ويَمجُّه كلُّ سمع.
وعن قولك:
أفتعلم مرئيًّا يتناولُه النظر لا يقع عليه اسمُ شيء؟ وما أراك نظرتَ إلا إلى قولِ جَرير:
فأحلتَ المعنى عن جهته، وعبَّرتَ عنه بغير عبارته.
وعن قولك:
فاستعرتَ الظلَعَ لظنونِك وهي استعارةٌ قبيحة، وتعجبتَ في غيرِ مُتعجَّب؛ لأن مَن أعجز وصفُه لم يستنكر قصورَ الظنون وتحيُّرَها في معاليه، وإنما نقلتَه وأفسدتَه عن قول أبي تمام:
وعن قولك تمدحُ كافورًا:
مدحٌ أم ذم؟ قال: مدح، فقلت: إنك جعلتَه بخيلًا لا يوصلك إلى خيره من جهته، وشبَّهت نفسَك في وصولك إلى ما وصلتَ إليه منه بشُربك من ماءٍ يعجز الطيرَ وِردُه لبُعده وتَرامي موضعِه.
وأخبِرْني أيضًا عن قولك في صفةِ كلبٍ وظَبْي:
فأيُّ شيءٍ أعجبَك من هذا الوصف؟ أعذوبةُ عبارته أم لُطفُ معناه؟ أمَا قرأتَ رجَزَ هانئٍ وطرْدَ ابنِ المعتز؟ أما كان هناك من المعاني التي ابتدَعها هذان الشاعران، وغُرَر المعاني التي اقتضباها؛ ما تتشاغلُ به عن بَنات صدرك هذه؟ وإلا اقتصرتَ على ما في أرجوزتك هذه من الكلام السليم، ولم تَسفُل إلى هذه الألفاظ القلقة والأوصاف المختلفة.
ولقد كنا نتوقَّع أن نرى المتنبيَ يُناقش نقد الحاتمي هذا فيردُّه، ولقد كان من السهل أن يفعل ذلك في بعض المواضع.
فالبيت الأول: «فإن كان بعضُ الناس … إلخ» لا محلَّ لتجريحه؛ على أن يُفهَم منه أنَّ مَن عدا سيف الدولة من أمراء ليسوا إلا بوقاتٍ وطبولًا، وهذا مدحٌ فيه ما يَفخر به الملوك؛ إذ المقابلةُ بين السيف من جهةٍ والبوقات النابحة والطبول الخاوية من جهةٍ أخرى فيها ما يَسْمو «بالسيف»، ويُظهِر فَهاهةَ مَن دونه.
وأما قوله في رثاء أخت سيف الدولة: «ولا مَن في جنازتها … إلخ» بمعنى أنَّ أخت الأمير ليست من السُّوقة التي يسير في جنازتها التجارُ إلى أن تُوارَى التراب، فينفضون غبارَ نِعالهم ويعودون أدراجَهم، فقولٌ مُبتذَل لا نُبل فيه، بل ولا تخصيص، كما أنه لا يعدو تقريرَ أمرٍ معروف؛ فإن أحدًا لم يقل إن بنت الحَمْدانيِّين كانت من السوقة، كما لم يزعم شاعرٌ أن مُشيِّعي بنات الأشراف لا ينفضون نعالهم ثم يعودون كما يفعل السوقة سواءً بسواء. ولعل المتنبيَ قد أحسن صنعًا بلزوم الصمت هنا.
أما البيت الثالث: «خَفِ الله واستُر ذا الجمالَ …» فإنه مرويٌّ في الديوان بلفظة «ذابت» بدلًا من «حاضت»، وهذا اللفظ هو فيما يبدو موضعُ نقد الحاتمي، فكيف نُفسر هذا الاستبدال؟ أكان في الأصل حاضت فلما انتقدَه الحاتميُّ غيَّره المتنبي بذابت، أم كان في الأصل ذابت ولكن الحاتميَّ هو الذي استبدله بحاضت لِيَجرَح الشاعرَ في المناظَرة أو أمام الخَلْق، إن كانت هذه الحكايةُ قد رتَّبها الحاتميُّ بعد الانصراف من حضرة الشاعر؟ ذلك ما لا نستطيع أن نجزمَ فيه برأي. ولقد سبق أنْ رأينا المتنبيَ يُنتقَد فيَستبدل «لَدُنَّه» «ببابه»، «والقنوع» «بالقناعة»، ولكن الحاتمي رجلٌ يمكن أن يُظنَّ به هذا التحيُّف وقد وصلَت إلينا المناظرة بلسانه هو، وليس لدينا ما نستطيع أن نُناقش به صحةَ نصِّها.
والبيتان: «وإذا أشار مُحدِّثًا ثم …»، «وضاقت الأرض حتى …» من أجملِ ما كتَبَ المتنبي، فيما نرى؛ فأولهما هجاءٌ موفَّق يُثير الضحك، ويصوِّر المهجوَّ في صورةٍ دالَّة؛ صورة القِرد الذي يُقهقه والعجوزِ التي تلطم. وما نظنه يقلُّ جودةً عن خيرِ ما ورَد عن القدماء من هجاء. والبيت الثاني بيتٌ قوي صادق معبِّر، وهل بلغ في تصوير الرعب الذي أخذ بقلب الهارب من أن يرى «غير شيء رجلًا»، وغير شيء هي — فيما يظهر — اللفظةُ التي نفَّرَت الحاتمي. وهذا غريبٌ من رجل يعرف أرسطو معرفةً حمَلَتْه على أن يستخرجَ من أقوال الحكيم كل ما ظن أن الشاعر قد أخذه عنه. ولكنها الرغبة في المغالطة والتجريح هي التي دفَعَته إلى أن يستنكرَ تسمية الشبح بغير شيء. ولو صحَّ نقد الحاتمي لَوجب أن يحذف اللفظ «شبح» من اللغة؛ فهو شيءٌ يُرى وهو غيرُ شيء.
وأما نقدُه للبيت: «أليس عجيبًا أنَّ وصْفَك مُعجز …» فنقدٌ صحيح مقبول. وفي الحق إنَّ ظلع الظنون استعارةٌ قبيحة، وتعجبٌ من غير متعجَّب، وبيت أبي تمام أفضلُ بلا ريبٍ من بيت المتنبي؛ إذ إن وصف الريح بالظلع وإن لم يكن رائعًا فهو مُستساغ.
ثم إن اتهامه بسرقةِ أحد بيتَيه من جَرير والآخَر من أبي تمام اتهامٌ سهل كَثُر استخدامُه في الخصومات الأدبية في ذلك الحين. وتلك مسألةٌ نتركها لما بعدُ.
وأما عن قوله في كافور: «فإنْ نلتُ ما أمَّلتُ منك فربما …» فنقد الحاتميِّ له يُثير مشكلةً خطيرة في تفسير كافوريات المتنبي، وإن في جواب المتنبي للحاتمي، عندما سأله عن مَقصدِه من هذا البيت أمَدحٌ أم ذم، بأنه قد قصد إلى المدح؛ أقول: إن في هذا الجواب ما يَدْعونا إلى الدهشة؛ لأن المتنبيَ في ذلك الحين كان — فيما يظهر — قد أخذ يوحي إلى ابن جني وغيرِه من تلاميذه المعجَبين به، الذين كانوا يجتمعون حوله في بيت البصري، بتأويلِ مدحِه في كافور بالهجاء أو التعريض أو بالسخرية الخفيَّة. وهذا البيت بنوعٍ خاص من السهل أن يقبل تخريجًا كهذا، وهو حينئذٍ يشهد ببراعة المتنبي في أن يسخرَ من كافور مع إيهامه أنه يمدحه. وهذا دليلُ قدرةٍ لا ضعفٍ من الناحية الفنية الخالصة.
ومع ذلك، فمن الممكن أن نفترض ما تقضي به ظواهرُ الأمور ومألوفُ الشعراء من أنه قصَد به إلى المدح، وعندئذٍ كنا نتوقَّع أن يردَّ المتنبي على الحاتمي بمثلِ ما قاله الواحديُّ في شرحه لهذا البيت: «وإنما ضرب هذا المثَلَ لأمله فيه؛ لبُعد الطريق إليه» أي إن المتنبيَ قد تكلفَ المشاق في سيره من حلب إلى مصر حتى وصل إلى ما أمَّل من لقاء كافور، والقرب من نَواله. وفي هذا ما قد تعجز عنه الطير. ومن يُدرينا لعلَّ الشاعر عندما جاشت نفسُه بهذا البيت كان مُقدِّرًا ما في سَيره من حلب إلى خَصْم أمير حلب من مجازفة، كما كان مدركًا لِمبلَغ الصعوبة التي لم يكن بدٌّ من أن يُلاقيَها في كسبِ داهية ككافور كان يَحْذر المتنبي، ويعلم أنه لا يؤمَنُ جانبُ رجلٍ طموح مثله. وهم يَرْوون أنه عندما سمع قوله:
أجابه: «لستُ أجسر على توليتِك صيدا؛ لأنك على ما أنت عليه تُحدِّث نفسك بما تحدث، فإن ولَّيتُك صيدا فمَن يُطيقك؟»
كان المتنبي إذن يستطيع أن يردَّ على الحاتمي بأيِّ وجهٍ أراد؛ فإمَّا المدحُ وإيضاح ما في البيت من معنى المدح، وإما الذمُّ المستترُ خلف المدح الظاهر، ولكن المدهش هو صمتُ الشاعر، الذي لم يجد سبيلًا للردِّ على الحاتمي إلا بإيراد أبياتٍ أخرى يعتزُّ بها، وكأنه يسوقها شفاعةً لما انتقَد خَصمُه. وفي هذا معنى التسليم؛ ممَّا يُرجح تحريفَ الحاتميِّ لحقيقة ما حدث.
وأعجبُ من ذلك أن ننظر في الأبيات التي ساقها المتنبي فلا نراها من خيرِ ما قال. وهذا سببٌ آخرُ يسوقنا إلى الشكِّ في صدق الحاتمي، اللهم إلا أن نُفسر هذا الاختيارَ بذَوق المتنبي نفسِه، وعُمق تأثره بأبي تمام في التماس المعاني البعيدة التي تقرب من الإحالة، وتبلغ في الإسراف حدًّا يكاد ينقلها عمَّا قصد منها؛ فالمدح المبالَغُ فيه لا يُمكن أن يُفلت من مجاورة الذم أو الانقلاب إليه على نحوِ ما هو واضحٌ في الكثير من شعره في كافور.
والأبيات التي يختارها المتنبي كنماذجَ لِشعره الجيد قويةٌ، ولكنها مُسرفة.
ردَّ الشاعر بقوله: أين أنت من قولي:
وأين أنت من قولي في صفة جيش:
وأين أنت من قولي:
وأين أنت من قولي:
وفيها أصفُ كتيبة:
وأين أنت من قولي:
أما يُلْهيك إحساني في هذا عن إساءتي في تلك؟
وهنا لم ينتقد الحاتميُّ تلك الأبياتَ كما لم يردَّ المتنبي على انتقاده للأبيات السابقة، بل أخذ يُنكر على الشاعر ابتكارَه لهذه المعاني، ويتَّهمه بالتهمة المعروفة؛ تهمة السرقة: «ما أعرف لك إحسانًا في جميع ما ذكرتَه، إنما أنت سارقٌ متبع وآخذٌ مقصِّر، وفيما تقدم من هذه المعاني التي ابتكرَها أصحابُها مندوحةٌ عن التشاغُل بقولك. فأما قولك: «كأنَّ الهام في الهيجا عيون …» (البيت) فهو منقولٌ من بيتِ منصورٍ النُّميري:
وأما قولك: «فيلق …» (البيت) فنقلتَه نقلًا لم تُحسِن فيه من قول الناجم:
والناجم إنما نظَمه من قولِ أرسططاليس: وقد تكلَّمتُ بكلامٍ لو مدَحتُ به الدهرَ لما دارت عليَّ صُروفه. وأما قولك: «لو تعقل الشجرُ التي قابلتَها …» (البيت)، فهذا معنًى مُتداوَل قد تساجلَتْه الشعراء وأكثرَت فيه، فمن ذلك قولُ الفرزدق:
ثم تكرَّر في أفواه الشعراء، إلى أن قال أبو تمام:
وأخذه البحتريُّ فقال:
وأما قولك: «وما اعتمد اللهُ تقويضَها»، فقد نظرتَ فيه إلى قول رجلٍ مدَح بعضَ الأمراء بالموصل؛ فقد كان عزم على السير فاندقَّ لواؤه فقال:
وأما قولك: «وملمومةٌ زَرَدٌ ثَوبُها» فمِن قول أبي نُواس:
وأما قولك: «الناسُ ما لم يرَوْك أشباهُ»، فمِن قول عليِّ بن نصر بن بسَّام في عبد الله بن سليمان يَرثيه:
فقوله: «قد استوى الناسُ ومات الكمال» هو قولُك «الناس ما لم يرَوْك أشباه».
ثم قلتُ له: وأما قولك: «والدهر لفظٌ وأنت معناهُ» فمنقولٌ من قول الأخطل — إن كان البيتُ له — في عبد الملك بن مَرْوان:
وقد قال جريرٌ حين قال له الفرزدق:
وقال جَرير:
ثم يأخذ الحاتميُّ في شيء يُشبه الامتحان، فيسأل الشاعرَ عن مأخذِ بيت جرير السابقِ فلا يدري المتنبي، وإذا بالحاتمي يُخبره بأنه مأخوذٌ من بيت فلان، وبيت فلانٍ هذا من بيت علَّان. ويأتي اسمُ أبي تمام فإذا المتنبي يَصيح صيحةَ الجاهل أو المتجاهل به: ومَن أبو تمام؟ فيُجيبه الحاتمي: الذي سرَقتَ شعره فأنشدتَه! قال: أقسمتُ غيرَ مُحرِّجٍ في قسَمي إنني لم أقرأ شعرًا قطُّ لأبي تمَّامِكم هذا، فقلت: هذه سَوءة لو سترتَها كان أولى، قال: السَّوءةُ قراءة شعر مِثلِه، أليس هو الذي يقول … وهنا يذكر المتنبي عدةَ أبيات لأبي تمام يراها ضعيفةً سخيفة، وتكون فرصةً للحاتمي يُذكِّر فيها المتنبيَ فيقول: يا هذا، مِن أدلِّ الدليل على أنك قرأتَ شعرَ هذا الرجل تتبُّعُك مَساويَه، فهل في الدلالة على اختلاقك إنكارَه أوضحُ ممَّا ذكرتَه؟ وهل يَصِمُ أبا تمام أو يَسِمُه بميسمِ النَّقيصة ما عدَدتَه من سَقطاته، وتخوَّنتَه من أبياته، وهو الذي يقول في النونيَّة:
فهلَّا اغتفرتَ الأول لهذا البيت الذي لا يستطيع أحدٌ أن يأتيَ بمثله! وأما قوله:
فلهذا البيت خبرٌ لو استقريتَ صحَّتَه لأقصرتَ عمَّا تناولتَه بالطعن فيه … إلخ. وهذا كلامٌ واضحُ الاختلاق؛ فالمتنبي لم يكن من الحمق بحيث يتجاهل أبا تمام ثم يأخذُ في نقدِ أبياته، وإنما الأحمق هو مَن كتبَ هذا الكلام، سواءٌ أكان الحاتميَّ أم غيرَه. والغريب أن هذه التهمة؛ تُهمة المتنبي بالسرقة من أبي تمام مع تجاهُله، قد وصلتنا في أكثرَ من نصٍّ؛ ففي «إيضاح المشكِل» يقول المؤلف: «وكان المتنبي يحفظ ديوانَ الطائيَّين ويستصحبهما في أسفاره ويجحدُهما، فلما قُتل توزَّعَت دفاترُه فوقع ديوانُ البحتري إلى بعض مَن درس عليَّ، وذكر أنه رأى خطَّ المتنبي وتصحيحَه فيه.» ولكن أبا القاسم الأصفهانيَّ كالحاتمي، كِلاهما يتحامل على الشاعر.
ويورد الحاتمي عدةَ أبيات من بائية أبي تمام في فتح عمُّورية، وبائيتَه الأخرى في مدح أبي دُلَف العِجلي، مؤكدًا أن فيها من المعاني الرائعة، والتشبيهات الواقعة، والاستعارات البارعة ما تُغتفر معه الأبياتُ الأخرى. وأخيرًا يأخذ الحاتميُّ في امتحان المتنبي في اللغة، فيسأله عن الفرق بين التقديس والقداس، والقداس والقادس، فيُجيب المتنبي جوابًا لا يُرضي الحاتمي. ويأخذ أبو عليٍّ في إظهار علمه الغزير في شرح معاني هذه الألفاظ الأربعة، وهنا يُسلِّم المتنبي لِخَصمه بالتفوق في اللغة. وهذا غريبٌ من رجلٍ يدل شعرُه وتدلُّ أخباره على أنه كان حجةً في اللغة.
(١٢-٥) الرأي في مناظرة الحاتمي
قال الخالديَّان: «كان أبو الطيب المتنبي كثيرَ الرواية، جيد النقد، ولقد حكى بعضُ مَن كان يحسده أنه كان يضع من الشعراء المحدَثين وبعض البلغاء المفْلِقين، وربما قال: أنشِدوني لأبي تمَّامكم شيئًا حتى أعرفَ منزلته من الشعر، فتذاكَرْنا ليلةً في مجلس سيف الدولة بميافارقين وهو معنا، فأنشد أحدُنا لمولانا أيَّده الله شِعرًا له قد ألمَّ فيه بمعنًى لأبي تمامٍ استحسَنه مولانا أدام الله تأييدَه، فاستجاده واستعاده، فقال أبو الطيب: هذا يُشبه قولَ أبي تمام. وأتى بالبيت المأخوذِ عنه المعنى، فقلنا: قد سُرِرنا لأبي تمام إذ عرَفتَ شِعره، فقال: أوَيجوز للأديب ألا يعرف أبا تمام وهو أستاذُ كلِّ مَن قال الشعر؟ فقلنا: قد قيل: إنك تقول كَيْتَ وكَيت، فأنكَر ذلك، وما زال بعد ذلك إذا التقينا يُنشِدنا بدائعَ أبي تمام، وكان يروي جميعَ شعره، وكان من المكثِرين في نقلِ اللغة والمطَّلِعين في غريبها، ولا يُسأل عن شيء إلا استشهد بكلام العرَب النظْمِ والنثر، حتى قيل: إن الشيخ أبا علي الفارسيَّ قال له يومًا: كم لنا في الجُموع على وزن فِعْلَى؟ فقال في الحال: حِجْلى وظِرْبى، قال الشيخ أبو عليٍّ الفارسي: فطالعتُ كتب اللغة ثلاثَ ليالٍ على أن أجد ثالثًا فلم أجد. وحسبُك مَن يقولُ مثلُ أبي عليٍّ في حقه ذلك» (الصبح، ص٨٠-٨١). وفي هذه الأقوال ما يردُّ مَزاعم الحاتميِّ وأكاذيبَه؛ فالمتنبي لم يكن يجحدُ أبا تمام، وإنما خُصومه هم الذين رمَوْه بهذه التهمة، وهو لم يكن جاهلًا باللغة، وعلمُه بها — إن لم يكن فوق علم الحاتمي — فإنه على الأقل لم يكن دونَه.
وإذا سلَّم المتنبي لأبي علي بالسَّبْق في اللغة — فيما يزعم الراوي — فقد هدَأَت نفسُه واطمأنَّت كبرياؤه، قال: «وكنتُ قد بلَغتُ شفاءَ نفسي، وعلمتُ أن الزيادة على الحدِّ الذي انتهت إليه ضربٌ من الغيِّ لا أراه في مذهبي، ورأيت له حقَّ التقْدِمة في صناعته، فطأطأتُ له كنَفي، واستأنفتُ جميلًا من وصفه، ونهضت فنهض لي مُشيِّعًا إلى الباب حتى ركبت، وأقسمتُ عليه أن يعود إلى مكانه، وتشاغلتُ بقيَّةَ يومي بشغلٍ عنَّ لي تأخَّرتُ معه عن حضرة الوزير المهلبي. وانتهى إليه الخبر، وأتتني رسلُه ليلًا، فأتيته فأخبرتُه بالقصة على الحال، فكان من سروره وابتهاجه بما جرى ما بعثه على مُباكَرة معزِّ الدولة قائلًا له: أعَلِمتَ ما كان من فلانٍ والمتنبي؟ قال: نعم، قد شفا منه صدورَنا.»
ومن تحليل هذه المناظرة ومناقشتها، يتضح تحاملُ الحاتمي فيها على أبي الطيب تملقًا للمُهلبي ومعزِّ الدولة. ومن الواضح أن كاتبَها قد أظهر نفسَه في كل موقفٍ بمظهر المنتصِر، ولكننا لا نستطيع أن نقبل كلَّ أقواله، وإن كنَّا عاجزين على أن نجزم فيها بشيء؛ لأن المتنبيَ لم يروِ لنا هو الآخَرُ ما حدث كما لم يروِه غيرُه.
وأما عن قيمة هذه المناظرة في النقد فمحدودة؛ إذ إن الخَصمَين لم يُناقشا جمالَ الأبيات أو قُبحَها، فإذا عاب الحاتميُّ بعضَ أبيات المتنبي، لم يناقشه الشاعرُ فيما ادعى، بل أسمَعَه أبياتًا جيدةً لتشفعَ لما عابه، وإذا عاد الحاتميُّ فاتهمه بسرقةِ هذه الأبيات الجيدة لم ينفِ عن نفسه تلك السرقةَ مع أنه القائل: «الشعر جادَّةٌ وقد يقع الحافرُ على الحافر» وتنتهي المناظرةُ بتلك الامتحانات السخيفة في السرقات، ورواية الشعر، ومعرفة مفرَدات اللغة.
(١٢-٦) الرسالة الحاتميَّة
ترك الحاتميُّ المتنبيَ وهما أهدأُ خصومةً من ذي قبل، والظاهر أن العلاقة بينهما أخذَت تتحسَّن؛ إذ يقول أبو علي: «وشاهدتُ من فضيلته وصفاء ذهنه وجودة حذقه ما حداني على عمل الحاتمية.» والواقع أن ظاهرَ القول في مقدمة الرسالة الحاتمية يشهد بأن صاحبها غيرُ متحاملٍ على المتنبي؛ فهو يقول: «ووجدنا أبا الطيِّب أحمدَ بن الحسينِ المتنبِّيَ قد أتى في شعره بأغراضٍ فلسفية ومَعانٍ منطقية، فإنْ كان ذلك منه عن فحصٍ ونظر وبحث فقد أغرَق في دَرْس العلوم، وإن يكن ذلك منه على سبيل الاتفاق فقد زاد على الفلاسفة بالإيجاز والبلاغة والألفاظ العربية، وهو على الحالتَين على غايةٍ من الفضل، وسبيلِ نهايةٍ من النُّبل. قد أوردتُ من ذلك ما يُستدلُّ به على فضله في نفسه، وفضل علمه وأدبه، وإغراقه في طلب الحكمة ممَّا أتى في شعره موافقًا لقول أرسططاليس في حِكمتِه.»
(١٢-٧) رأي الأستاذ أحمد أمين
ومشكلةُ أخذ المتنبي عن أرسطو مشكلةٌ شاقَّة، والرأي الغالب عند النقَّاد المحدَثين هو أن أبا الطيب لم يكن فيلسوفًا، وأنه لم يأخذ حِكمتَه عن أحد، وإنما أمْلَتها عليه الحياة. ولعل الأستاذ أحمد أمين قد استطاع أن يُدافع عن هذا الرأي دفاعًا دقيقًا في مقاله: «هل كان المتنبي فيلسوفًا؟» المنشورِ بعدد الهلال الخاصِّ بالمتنبي (أول أغسطس سنة ١٩٣٥، ص١١٣٦ وما بعدها)، وفيه يقول: «يُخطئ من يظنُّ أن لأبي الطيب فلسفةً تشمل العالم، وتحلُّ مشاكلَ الكون؛ فتلك بالفيلسوف أشبَه، وربما قاربَ هذه المنزلةَ أبو العلاء لا أبو الطيِّب؛ فلئن كان أبو العلاء فيلسوفًا يتشاعر، فإن أبا الطيب شاعرٌ يتفلسَف. إنما لأبي الطيب خطَراتٌ في الحياة من هنا ومن هناك، لا تجمعها جامعةٌ إلا نفس أبي الطيب والمحيط الذي يسبح ويتشرَّب منه.
وكذلك يُخطئ من ظنَّ أن أبا الطيب عمد إلى ما أُثر من الحِكَم عن أفلاطون وأرسطو وأبيقور وأمثالهم من فلاسفة اليونان فأخذَها ونظَمَها، ولم يكن له في ذلك إلا أن حوَّل النثرَ شِعرًا، كما رأى ذلك مَن تتبَّعوا سرقات المتنبي وأفرَطوا في اتهامه، فأخذوا يبحثون عن كل حكمةٍ نطَق بها، ويردُّونها إلى قائلها مِن هؤلاء الفلاسفة، فلسنا نرى هذا الرأي؛ فإن كان قد وصل إلى أبي الطيب قليلٌ من حِكَم اليونان ونظَمَها، فإنَّ أكثر حِكَمه منبَعُها نفسُه وتجارِبُه وإلهامه، لا الفلسفةُ اليونانية وحِكَمُها؛ ذلك لأن الحِكَم ليست وقفًا على الفلاسفة ولا على مَن تبحَّروا في العلوم والمعارف، إنما هي قدْرٌ مُشاع بين الناس، يستطيعها العامةُ كما يستطيعها الخاصة. ونحن نرى فيما بيننا أن بعض العامة ومَن لم يأخذوا بحظٍّ من العلم قد يستطيعون من ضرب الأمثال والنطق بالحِكَم الصائبة ما لا يستطيعه الفيلسوف والعالِمُ المتبحِّر. وهذا الذي بين أيدينا من أمثالٍ إنما هو نِتاجُ عامة الشعب أكثرَ ممَّا هو نتاجُ الفلاسفة، وكلنا رأى بعض عجائز النساء ممَّن لم تقرأ في كتابٍ أو تخطَّ بيمينِها حرفًا تنطق بالحكمة تِلْو الحكمة، فيقف أمامها الفيلسوفُ حائرًا دَهِشًا، يعجز عن مثلِها، ويَحارُ في تفسيرها، ومرجع ذلك إلى يَنبوعَين؛ هما: التجرِبة والإلهام. فإذا اجتمَعا في امرِئٍ تفجَّرَت منه الحكمةُ ولو لم يتعلَّمْ ويتفلسَف، فكيف إذا اجتمعا لامرِئ كأبي الطيب مُلِئ قلبه شعورًا، ومُلِئَت حياته تجارِبَ، وكان أميرَ البيان وملكَ الفصاحة. فنحن إذا التمسنا له مثالًا في حِكَمه فلسنا نجدُه في أفلاطون وأرسطو وأبيقور، وإنما نجده في زُهير بن أبي سُلمى وقد نطَق في الجاهلية بالحِكَم الرائعة ممَّا دلَّته عليها تَجارِبُه، وأوحى بها إلهامُه، كما نجده في شِعر أبي العَتاهية وقد ملأ عالمَه حِكمًا وأمثالًا خالدةً على الدهر. وكلُّ ما بين أبي الطيب وهؤلاء الحُكماء من فروقٍ يرجع إلى أشياء المحيط الذي يُحيط بكلِّ شاعر، وقدرةِ نفس الشاعر على تشرُّب محيطه، والقدرة البيانية على أداء مَشاعره. لقد ألمَّ زهيرٌ من الحرب ورأى وَيْلاتِها، فشعَر فيها ونطَق بالحِكَم الرائعة يصفُ شرورها ومصائبها، وفشل أبو العتاهية في الحياة فزَهِد، وملك الزهدُ عليه نفْسَه فملأ به ديوانَه، وكان لأبي الطيب موقفٌ غير هذين فاختلفَت حِكَمُه عنهما وإن نبَعَت من منبعِهما.
ودليلنا على ذلك أن أبا الطيب — فيما نعلم — لم يُثقَّف ثقافةً فلسفية، إنما تثقَّف ثقافةً عربية خالصة. قرأ بعضَ دواوين الشعراء، ولقي كثيرًا من علماء الأدب واللغة كالزجَّاج وابنِ السرَّاج والأخفش وابنِ دُرَيد. وكلُّ هؤلاء لا شأن لهم بالفلسفة ومناحيها.
وما لنا ولهذا؛ فإننا لو رجَعْنا إلى حِكَمِه لَوجدناها منطبقةً تمام الانطباق على مُحيطه ونفسه، وليس فيها أثرٌ من تقليد ولا شَبهٌ من تصنُّع؛ فهو ينظم ما يجول في نفسه، وما دلَّته عليه تجارِبُه، لا ما نُقِل إليه من حِكَمِ غيره إلا في القليل النادر.» ثم يأخذ الناقدُ في استعراض مُلابَسات حياة الشاعر، ويوردُ ما أوحَتْ إليه من شِعر.
والذي يبدو لنا هو أن هذا الجزء التطبيقيَّ من نظرية الأستاذ العامَّة، التي تُعتبر ردًّا قويًّا على رسالة الحاتمي التي نحن بصَددِها، لا غُبار عليه؛ فالعلاقة واضحة بين شعر المتنبي وحياته، ولكننا لا نكاد نتركُ هذا التطبيقَ لنعود إلى النظرية العامة حتى يظهرَ لنا أن نظرة الناقد كانت ضيقةً وسريعة، وأنَّ فيها أشياءَ كثيرةً تقبل المناقشة، ولربما كان من الواجب أن تُرَد.
فالأبيات التي وضَّح الناقدُ موحِيَاتِها في حياة الشاعر ليست في الحقيقة ما يقصد بفلسفة المتنبي، ويستطيع القارئُ أن يُراجعها في مقاله ليرى أنها كلَّها أقربُ إلى شِعر الإحساس منها إلى شِعر الفكرة؛ فهي تنطق إما بآمالِ الشاعر أو بآلامِه، أو بسُخطِه على الحياة وتبرُّمه بالأحياء، ولكنَّ ثَمة أشعارًا أخرى للمتنبي فَطِن القدماءُ إلى أنها أفكارٌ يمكن أن تُفصَل عن حياة الرجل، ولقد فُصِلَت فعلًا وأصبحَت من «الشرد السائرات»، كما يقولون. وهذه هي التي نريد أن نعلم من أين أتَت للمتنبِّي؛ أصَدَرَت هي الأخرى عن طبعٍ غُفْل؟ وهل من الصحيح أن المتنبيَ لم تكن له ثقافةٌ فلسفية؟ وهل من الممكن أن يصلَ إلى كل هذه الآراء في الحياة والناس بنفسه دون ثقافةٍ سابقة في هذا الاتجاه؟ ثم — وهذه أهمُّ مسألة — هَبْه انتزَع من الحياة هذه الآراءَ، فهل كان يستطيع أن يَصوغها تلك الصياغةَ الفلسفية التي صاغها فيها دون ثقافةٍ فلسفية؟
هذه كلُّها مسائلُ نعتقد أن الناقد قد عالجَها في سهولةٍ فرفَضها، كما أسرف الحاتميُّ في إرجاع مائة بيت تقريبًا من أبيات الشاعر إلى حِكَمٍ قالها أرسطو بنصِّها.
والذي نراه هو أن رأي الأستاذ أحمد أمين ورأْيَ أبي عليٍّ الحاتمي كِلَيهما فيه جانبٌ كبير من الصحة، ولكنَّ كِلَيهما مُسرِف.
ولحلِّ هذه المشكلة الهامة؛ يَحسُن أن نُميز بين نوعَين من التفكير الفلسفي؛ فهناك التفكير الأخلاقي، وإن شئتَ فسَمِّه التفكيرَ العِلمي، وهناك التفكير المجرَّد؛ التفكير النظري.
التفكير الأخلاقي يَصدُق عليه ما رآه الأستاذ أحمد أمين؛ إذ من الممكن أن يصدر فيه الشاعرُ عن تَجارِب الحياة، بل ويصدر عامةُ الناس، كما قال الناقد. والأمثلة التي وردَت في هذا المقال تُكوِّن بلا ريب جزءًا من هذا التفكير؛ فهي أفكارٌ أخلاقية كوَّنَتها عاطفةُ الشاعر، وهي آراء في الحياة والأحياء، لها نظائرُها في الشعر العربي، وإن كنا لا نُوافق على أن المتنبيَ قد تأثَّر بزُهير؛ وذلك لأننا راجَعْنا كتب السرقات التي لم يُفرِّط فيها أمثالُ صاحب اليتيمة وصاحب الإبانة من شيء، فوجدنا أنَّ تأثُّر المتنبي بمعاني الجاهليِّين جملةً — وزهيرٌ من بينهم — نادرٌ جدًّا، إن لم يكن منعدمًا. وأما تأثره بأبي العتاهية فواضح، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ جدًّا في الكتب التي أشَرنا إليها.
وإذن فنحن نُسلِّم في هذا الجانب برأي الأستاذ أحمد أمين فيما ذكره من أمثلةٍ وفيما لم يذكره، مع تحفُّظٍ له قيمتُه؛ وهو أن المتنبيَ إذا كان في حِكمته العَملية لم يتأثر بأحدٍ من العرب قدْرَ تأثُّرِه بأبي العتاهية، فإن هذا يُفيد أن طرق صياغته لم تكن عربيةً صريحة، بل دخَلَت فيها لغةُ الفلسفة كما دخلَت في لغة أبي العتاهية. وللتدليل على ذلك نكتفي أن نُورِد أنصافَ الأبيات التي جرَتْ كأمثال، وقد جمَعها صاحبُ اليتيمة، ونقلها عنه صاحبُ الصبح (ص٢٧٠)؛ فمنها: «مصائبُ قومٍ عند قوم فوائدُ، ومَن قصد البحر استقلَّ السواقيَا، وربما صحَّت الأجسام بالعِلَل، وخيرُ جليسٍ في الزمان كتابُ، إن المعارفَ في أهل النهى ذِمَم، وفي الماضي لمن بقيَ اعتبارُ، وتأبى الطِّباعُ على الناقلِ، ومنفعةُ الغوثِ قبلَ العَطَبْ، هيهاتَ تُكتَمُ في الظلام مَشاعلُ، وما خيرُ الحياة بلا سرور، ولا رأيَ في الحبِّ للعاقل، ولكنَّ طبْعَ النفسِ للنفس قائد، وليس تأكل إلا الميتَ الضبُعُ، كلُّ ما يَمنح الشريفُ شريف، والجوع يُرضي الأسودَ بالجِيَف، ومِن فرَحِ النفس ما يَقتل، ويستصحبُ الإنسانُ مَن لا يُلائمه، إن الذليل غريبٌ حيثما كانا، ومن الرديف وقد ركبتُ غضنفرًا، إذا عظم المطلوبُ قلَّ المساعد، ومَن يسدُّ طريقَ العاطلِ الهَطِل، وأدنى الشِّرك في نسَبٍ جِوارُ، وفي عُنق الحسناء يُستحسَن العِقْد، لا تخرج الأقمارُ عن هالاتِها، إن النفوس عِدادُها الآجال، ولكنَّ حَسْم الشرِّ بالشر أحزمُ، أنا الغريقُ فما خوفي من البَلَلِ، أشدُّ من السُّقْم الذي أذهبَ السُّقْما، فإن الرِّفق بالجاني عِتابُ، إن القليلَ من الحبيب كثير، بغيضٌ إليَّ الجاهلُ المتعاقِل، وليس كلُّ ذواتِ المخلب السبُع، وللسيوف كما للناسِ آجال، في طلعةِ الشمس ما يُغنيك عن زُحَلِ، فأوَّلُ قُرَّحِ الخيلِ المهَارُ، والبرُّ أوسعُ والدنيا لِمَن غَلَبا، ليس التكحُّل في العينَين كالكُحل، ويَبين عِتقُ الخيل في أصواتِها.» هذه هي أنصافُ الأبيات التي أصبحت أمثالًا، وثمة الأبياتُ المفردة المتعددة التي جرَت أيضًا مَجرى الأمثال، وهي كثيرةٌ يجدها القارئُ في الصبح (مِن ص٢٧١ وما بعدها)، ومنها الذائع المشهور؛ كقوله:
وقولِه:
وأمثال ذلك مما يُعدُّ بالمئات. والناظرُ في أنصاف الأبيات التي ذكَرنا يجدُ أن من بينها ما هو عربيٌّ خالص؛ كقوله: «فأول قُرَّح الخيلِ المهار» «يُبين عتق الخيل في أصواتها»، ومنها مَعانٍ عُرِفَت عند العرب من قديم؛ كقوله: «ولكنَّ حَسْم الشرِّ بالشرِّ أحزمُ»؛ إذ من المعروف أن العرب في الجاهلية كانت تقول: «القتلُ أنفى للقتل»، وأنَّ القرآن جاء فعبَّر عن نفس المعنى بالآية القوية: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ. وكذلك منها ما يُشبه الحِكَم الشَّعبية، كما لاحظ الأستاذ أحمد أمين؛ كقوله: «وليس تأكلُ إلا الميتَ الضبُعُ»، وقولِه: «إن الذليل غريبٌ حيثما كانا»، و«في عُنق الحسناء يُستحسَن العِقدُ» وأمثالِ ذلك. وكذلك منها ما توحي به حياةُ المتنبِّي وكأنها دروسٌ تَعلَّمها؛ كقوله: «ويستصحب الإنسانُ مَن لا يُلائمُهْ» كمُصاحَبته لكافور، و«إذا عظم المطلوب قلَّ المساعدُ»، وهذه مأساةُ الولاية التي كان يريدها، وهكذا. ولكنْ إلى جوارِ كلِّ هذا أمثالٌ أثرُ العبارة الفلسفية فيها واضح. انظر مثلًا إلى قوله: «وتأبى الطِّباع على الناقلِ». أليس هذا تعبيرًا فلسفيًّا معروفًا؟ أو قوله: «ولكنَّ طبع النفسِ للنفس قائد»، أو: «إنَّ المعارف في أهل النُّهى ذِمَم»، أو: «فإن الرِّفق بالجاني عِتاب». أليست هذه أفكارًا أثرُ الفلسفة فيها واضحٌ في المعنى أو في اللفظ؟
ونحن لا نترك الفلسفة العمَلية إلى الفلسفة النظرية حتى يبدوَ تأثيرُ الفلسفة على نحوٍ لا يُدفَع. ولقد فطن القدماءُ أنفسُهم إلى هذه الحقيقة، فعَدُّوا من عيوبه «الخروج عن رسم الشعراء إلى الفلسفة»؛ كقوله:
فهذا المعنى من معاني الفلاسفة، وما نظن أن المتنبيَ كان يستطيع أن يصل إليه لو أنه لم يكن مثقَّفًا تثقيفًا فلسفيًّا؛ فهو يعتمد على قول الفلاسفة: «إذا زاد الشيءُ عن حدِّه انقلَب إلى ضدِّه»، فالجُود إذا وصَل إلى منتهاه كاد أن ينقلبَ بخلًا كما ينقلب السرورُ بكاءً. ولئن كان هجومُ السرور حتى ينقلب بكاءً معنًى تُمليه تَجارِبُنا، فإن استخدام هذه الحقيقة وتعميمَها حتى تشملَ الكرَم والبخل وأمثالَهما لم يزلَّ رجوعٌ إلى المبدأ الفلسفي العام.
وقوله:
وقوله:
وكقوله:
وقوله:
ومِن البيِّن أن كلَّ هذه الأبيات أشبهُ ما تكون بفلسفةِ أبي العلاء، وهي وأمثالها التي حمَلَت أبا العلاء على الإعجاب بالمتنبِّي وتفضيله على غيره من الشعراء. ومن المعروف أن شاعرَ المعرَّة قد فسَّر شعر أبي الطيب في «اللامع العزيزي»، كما فسَّره في «معجز أحمد». وياقوت يُحدثنا أن أبا العلاء كان يتعصَّب للمتنبي، ويزعم أنه أشعرُ المحْدَثين، ويُفضله على بشار ومن بعده؛ مثل أبي نواس وأبي تمام. وهذا يدلُّ على أن أبا العلاء قد تتلمذ للمتنبي في هذه الناحية الفلسفية تتلمُذًا لم يزلَّ فيه.
(١٢-٨) رأي الدكتور طه حسين
ولقد فطن الدكتور طه حسين في كتابه «مع المتنبي» إلى بُذور الفلسفة العلائية الموجودة في شِعر المتنبي في غيرِ موضعٍ من كتابه (ج٢، ص٢٧٨ و٣٩١ و٣٩٧ و٤٠٧)، ولقد أورد بيتَي المتنبِّي (ص٢٨٦):
ثم قال: «وما أُراني في حاجةٍ إلى أن أنبِّهَك إلى أن هذين البيتَين قد أثَّرا في التشاؤم العلائيِّ وما نشأ عنه من فلسفةٍ تأثيرًا بعيدًا عميقًا. ولكن أيُّ فرقٍ في الأداء؟ فاقرأ هذين البيتين ثم اقرأ داليَّةَ أبي العلاء، وانظر كيف استطاع شاعرُ المعَرَّة أن يستغلَّ هذا المعنى ويُصوِّره في أروع الشعر:
وأخيرًا يُحلل نفسُ الناقد رثاءَ الشاعر لِخَولة فيقول: «ثم ينتهي المتنبِّي بهذه القصيدة إلى فلسفةٍ مُظلمة حزينةٍ، أقلُّ ما يُقال فيها: إنها تُصور شكَّه في خلود النفس، وانحرافه بهذا الشكِّ عن طريق المسلمين. وإحساسه التعبَ في هذا الشك والارتياب، وتفتح بابًا فلسفيًّا آخَر لشِعر أبي العلاء.
وأحبُّ أن نلاحظ أن المتنبيَ يصطنع في هذه الأبيات لغةَ النُّظار وأصحاب الكلام أكثرَ مما يصطنع لغةَ الشعراء، وسيُقلده أبو العلاء في هذا النحوِ من التفكير.
وأحبُّ أن أُلاحظ آخِرَ الأمر أن البيت الذي يختم المتنبي به قصيدتَه صورة رائعة مظلمة لليأس الفلسفيِّ المهلك، الذي يُؤْذِن بالشيخوخة وما يتبعها من العجز والإعياء. وهذا كلُّه حيث يقول:
وهنا يَلْحق الدكتور طه حسين بالقُدماء فيما لاحَظوه من صدور المتنبي عن الفلسفة، كما يدلُّنا في وضوح على مدى تأثير تلك الإلمامات الفلسفية التي أتت في شِعره في فلسفة أبي العلاء المتشائمة.
وكلُّ هذا يقطع — فيما أظنُّ — بأن المتنبيَ كانت له ثقافةٌ فلسفية، وأن هذه الثقافةَ ملموسةٌ في حِكمته النظرية.
ونحبُّ أن نُشير هنا إلى منهجٍ عام نعتقد أنه الفيصلُ في أمثال تلك المسائل العَويصة؛ مسائل تأثُّر الشعراء بثقافاتٍ خاصة، أو بشُعراء، أو كُتَّابٍ بعَينهم. وأقصد بذلك إلى المنهج اللُّغَوي؛ فالذي لم يزلَّ فيه أن لكلِّ ثقافةٍ مُعجمَها، وأن لكل شاعرٍ أصيلٍ في الغالب مُعجمَه، وإذن فدراسةُ معجم الشاعر — أي الألفاظ التي يستخدمُها — هي التي تُعيننا على معرفةِ ألوان ثقافته.
وهذا المنهج ألزَمُ ما يكون عندما نَدرُس رجلًا كالمتنبِّي، كُتب عنه أكثرَ مما كُتب عن أيِّ شاعر عربي آخَر. ومع ذلك، لم يُحدِّثنا أحدٌ عن ثقافته حديثًا كافيًا، بل اقتتل النُّقادُ له أو ضدَّه مُجرِّحين شِعرَه أو مُظهِرين جمالَه، وباحثين في ابتكاراته وسرقاته. وهذه كلُّها دراساتٌ روحُ التقديرِ والحُكمِ أوضحُ فيها من روحِ التفسير والفَهم.
ولو أننا استخدمنا هذا المنهجَ لَوجَدنا مع ذلك بعضَ ملاحظاتٍ للقدماء تُعيننا في هذا السبيل، ونحن بعد ذلك نستطيع أن نُكملها بالنظَر في ديوانه.
فمِن مُلاحظات القدماء ما أورده صاحبُ الصُّبح بين عيوب الشاعر من «امتثال ألفاظ المتصوِّفة، واستعمال كلماتهم المعقَّدة ومَعانيهم في مِثل وصفِ فرَس «سَبُوح لها منها عليها شَواهدُ»، وقولِه:
وقولِه:
وقولِه:
وقولِه:
وقولِه:
وقوله:
وقال الصاحبُ: ولو وقَع قولُه:
في عبارات الجُنَيد والشِّبلي؛ لَتنازَعه المتصوِّفةُ دهرًا بعيدًا.
ومن أشدَّ ما قاله في هذا المعنى:
وبالنظر في ديوانه، نجد أنه كان يستعمل لغةَ الفلسفة، ويورِدُ أسماءَ الفلاسفة والعلماءِ الأجانب؛ كقوله:
(١٢-٩) رأيُ الدكتور عزَّام
ولقد أحصى الدكتور عبد الوهَّاب عزَّام في كتابه ذِكْرى أبي الطيب (ص٣١٢ وما بعدها) عدَّة أبيات يُصدِّر لها بقوله: «وأما معرفته بما عدا اللغةَ والأدب، فظَنُّنا بأمثالِه من رجالِ عصره ونظرُنا في شعره يدلَّان على أنه قد سمع وقرأ فحصَّل كثيرًا من المعارف الشائعة في القرن الرابع.
نجده يمدحُ محمدَ بن زُرَيق الطَّرَسوسيَّ، فيذكر أمثلةً متتالية من القصص الدِّينية:
ويقول:
ويقول في هجاءِ كافور:
يُشير إلى آراء الدهريِّين والمعطِّلة والقائلين بقِدَم العالم.
ويقول في مدح دلير:
يُشير إلى قول المعتزِلة في التوحيد والعدل، وفعل الصالح والأصلح.» ويُضيف الدكتور عزَّام: ولا ريب أنه أكملَ دروسَه في اللغة واستفاد فُنونًا أخرى من مُطالَعة الكتب، وقد روى أنه كان يُطالع الكتبَ كلَّ ليلةٍ قبل أن يَهجَع. وقد مرَّ في الكلام على نشأته أنه كان مُولَعًا بملازمة الورَّاقين يستفيد من دفاترهم. وفي رواية أبي النصر الجبليِّ قيل عن أبي الطيب إنه كان يحمل كتبَه معه في أسفاره ويحرص عليها، وكان قد أحكمَها قراءةً وتصحيحًا. وقد أعرَب هو عن شغَفِه بالقراءة، وأُنْسِه بالكتب في قوله:
ونُضيف إلى أقوال الدكتور عزام أنه من الثابت أن الفارابيَّ قد أوى إلى كنَف أمير حلب وعاش في بلاطه، ولم يزلَّ أن المتنبيَ قد تأثَّر بما نشَر المعلم الثاني (تُوفي سنة ٢٣٩) في تلك البيئة من مبادئ الفلسفة.
وإذن فالأدلَّة مُتضافرةٌ على أن المتنبيَ لم يكن غريبًا عن الثقافة الفلسفية، وأنه لم يقتصر على الأدب واللغة؛ فهو لم يزلَّ قد خالط الكثيرين من المشتغِلين بالفلسفة، ولربما كان الفارابيُّ من بينهم، وهو قد أكثرَ من القراءة، كما أنه قد تأثَّر بأبي العَتاهِيَة، وسوف يؤثِّر في أبي العلاء. ومعنى هذا أنه يدخل في سلسلةِ التفكير الفلسفي في الشعر العربي؛ ومن ثَم — وإن كان كما قال بحقِّ الأستاذ أحمد أمين — «شاعر يتفلسف» بينما المعريُّ «فيلسوف يتشاعر»؛ إلا أنه رغم ذلك لم يكن غريبًا عن الفلسفة. وقد وجدنا في شعره الفلسفي — حتى ما كان منه عَمليًّا ووليدَ التجارِب — آثارًا للصياغة الفلسفية، وفي فلسفته النظرية لمَسْنا تفكيرًا فلسفيًّا لم يزلَّ فيه. كذلك الأمر عندما نُحاول دراسة معجمه.
(١٢-١٠) الرأي في الرسالة الحاتمية
وكلُّ هذا ينتهي بنا إلى نتيجةٍ هي أن الأستاذ أحمد أمين قد ظلَم الرجل عندما نفى عنه الصِّبغة الفلسفية والثقافةَ الفلسفية. وإذا صحَّت هذه النتيجة يكون من واجبنا أن ننظر في الرسالة الحاتمية مع شيءٍ من الحذر، فلا نرفضها كُليةً كما يَدْعونا الأستاذ أحمد أمين، بل نفحصها بيتًا بيتًا لنرى صحةَ دعوى الحاتميِّ من باطلها. ومن البَيِّن أنه من الواجب أن نُميز بين الأفكار العَملية التي يمكن أن تكون قد أتَت إلى الشاعر مباشرة، أو نتيجةً لِتَجارِبِ حياته، وبين الآراء النظرية التي تظهر فيها الروحُ الفلسفية على نحوٍ واضح، كما يجب أن نُميز بين المعاني في ذاتها وبين طرق الصياغة، ذاكِرين ما سبق أن قرَّرناه من أن معجم الشاعر وطرُقَ تعبيره قد تكون — في مسائل الأخذ عن الغير أو التأثُّر بهم — أهدى سبيلٍ إلى الحقيقة.
والرواة يُحدثوننا بعدُ عن مقدرة المتنبِّي الخارقة على الحفظ، حتى لَيرْوُون أنه حفظ في صدر حياته كتابًا من عشَرات الورقات بمجردِ تصفُّحه. ونحن نعلم أن كتب أرسطو كانت إذ ذاك قد تُرجِمَت وانتشرَت بين أيدي الناس، فهل لنا أن نستنتجَ من ذلك أن المتنبيَ قد صدَر في المائة بيت تقريبًا التي عدَّدها الحاتميُّ عن جُمَلٍ علِقَت بذِهن الشاعر أثناء مُطالَعاته، أو على الأقلِّ صدَر في بعضِها على تلك الجمل بالذات؟
في الحق، إننا بمراجعة حُكم أرسطو وأبيات المتنبي نرى ردَّ بعضها؛ إذ يتَّضح أن معنى الحكمة ومعنى البيت أو البيتين مُختلفان، حتى لَتلوح المقاربةُ بينهما تعسُّفيةً، وكذلك الأمر في بعض الأبيات الأخرى التي نرى أن معانيَها قريبة، وصياغتها عربيةٌ عادية، فهي وإن اتفقَت مع جملة أرسطو في المعنى، إلا أن ذلك قد يكون وليدَ المصادَفة البحتة. ولقد «يقع الحافرُ على الحافر»، كما يقول المتنبي نفسُه، والمعاني — بعدُ — مِلكٌ شائعٌ بين البشر، وإنه لَمِن الممكن أن تُوحِيَ ملابساتٌ بعينها إلى شخصين مختلفين بنفس المعنى دون أن يعلم أحدُهما بوجود الآخر.
هذا هو الرأي الذي نُرجِّحه، وإن يكن الجزم في أمر كهذا غيرَ ممكن. ولنضرب لذلك بعضَ الأمثلة نأخذها بترتيبِ ورودها في التحفة البهيَّة ونُناقشها، حتى إذا اتَّضح المنهج تركنا للقارئ مهمةَ الاستمرار في المناقشة إن أراد.
قال أرسطو: «إذا كانت الشهوةُ فوق القدرة كان هلاكُ الجسم دون بلوغِ الشهوة.»
وقال المتنبِّي:
وهنا من الواضح أن المتنبِّيَ لم يكن في حاجةٍ إلى أن يعرف جملة أرسطو ليقولَ بيتَه، كما أن بين المعنيَين فرقًا كبيرًا؛ فأرسطو يُورِد حُكمًا عامًّا، وأما المتنبي فيألم ممَّا يُقاسي من جرَّاء طموحه هو.
وقال أرسطو: «نفوسُ الحيوان أغراضٌ لحوادث الزمان.»
وقال المتنبي:
والمعنى العامُّ هنا قريبٌ مُتداوَل، وهو أننا عُرضةٌ لضربات الزمن. وقد صاغه المتنبي صياغةً فنِّية شعرية في صور؛ فنحن كالعود الذي يركبه الرعاةُ الواحدُ بعد الآخر، ونحن إذا انتصَبْنا على أقدامنا لم يلبَث الزمنُ أن يُصيبَنا، وما نظنُّ أن المتنبيَ قد تَلمَّس معنًى كهذا في قول أرسطو العامِّ المجرد.
وقال أرسطو: «مَن استمرَّت عليه الحوادثُ لم يألم لحلولها.»
فقال المتنبي:
ونحن لا نرى جامعًا بين المعنيَين ولا مُشابهةً في الصياغة؛ فالمتنبي يقول: إن المرء إذا تَعوَّد الشاقَّ من الأمور لم يُخِفْه ما هو أقلُّ منها مَشقةً، بينما أرسطو يُقرر حقيقةً هي أننا إذا اعتَدْنا الألمَ هان حملُه. وهو قولٌ قد لا يكون صحيحًا، وأما المتنبي فكلامُه مُكابَرةٌ ودعوة إلى الاقتحام، وأين هذا من ذلك؟
وقال أرسطو: «رَومُ نقل الطِّباع من رديء الأطماع شديدُ الامتناع.»
فقال المتنبي:
وفي قوله: «وتأبى الطِّباع على الناقل» ما يُرجِّح أنه أخَذه فعلًا عن قولِ أرسطو، والمهمُّ هنا هو التعبير «بنَقْل الطِّباع»، ولو أننا كنا نملك تراجمَ كتُبِ أرسطو إلى العربية لَاستطعنا أن نُحقق هل ورَد هذا اللفظُ فيها أم لا، ولكن — لسوء الحظِّ — هذه التراجم إمَّا مفقودة ككتب الأخلاق (إلى نيقوماخوس وكتاب الأخلاق الكبير)، أو لا تزال مخطوطةً تنتظر مَن ينشرها «كالأرجانون»، الذي لدينا منه بمكتبة الجامعة صورةٌ فوتوغرافية عن المخطوط الوحيد الموجود بالمكتبة الأهليَّة بباريس. ومع هذا، يلوح لنا أن هذا التعبيرَ فلسفي، وأن المتنبيَ قد أخذه فعلًا عن أرسطو. وهذا يُظهر لنا أهميةَ المعجم في هذه المسائل.
وقال أرسطو: «إذا تجرَّدَت اللطائفُ من الشكوك كسَت الصورةَ رونقًا وبهاءً.»
فقال المتنبي:
ومن البيِّن أنه لا علاقة أصلًا بين المعنيَين؛ فالحكيم يتحدَّث عن جمال الصورة عندما تخلو اللطائفُ من الشكوك وتنقى النفس، والشاعر يمدح مَمدوحه بأنه يُزين شِعرَه ويَزيده بهاءً.
وقال أرسطو: «تعاقبُ أيامِ الزمان مُفسدةٌ لأحوال الحيوان.»
فقال المتنبي:
وأين تقريرُ الحكيم لتأثير الزمن المدمِّر من تشاؤم الشاعرِ تشاؤمًا عَلائيًّا؟ هذا يتَبرَّم بالزمان وذاك يُقرِّر ما له من أثر، سواءٌ أشرقَت نظرتُنا إليه أم أظلمَت.
وعلى هذا النحو يستطيع القارئُ أن يستمرَّ في المناقشة ليرى أن المبادئ العامة — التي قرَّرناها فيما سبَق — كفيلةٌ بأن تُفصَل في معظم الحالات التي ستُعرَض فصلًا، إن لم يكن هو الحقيقةَ التاريخية العزيزةَ المثالِ في هذا المجال، فهو فصلٌ معقول يُماشي حقائقَ التفكير.
ونحن بعدُ لا نعلم إلامَ قصَد الحاتميُّ بوضع هذه الرسالة؛ أحقًّا أرادَ أن يُدلِّل على فضل المتنبِّي، أم هو تجريحٌ خفيٌّ يريد به أن يسلبَه فضْلَه في الوقوع على كثيرٍ من آرائه في حِكمة أرسطو؟ وهنا تكون الرسالة الحاتمية من نوع الكتب الكثيرة التي أُلِّفَت في السرقات، ثم إن الأستاذ بلاشير يُرجِّح أن يكون الحاتميُّ قد أراد بهذه الرسالة تعزيزَ تهمة المرُوق عن الدين التي كان خصومُ المتنبي يتَّهمونه بها. وهذا ترجيحٌ لا نرى له وجهًا؛ فأَخْذ المتنبي عن أرسطو — لو صح — لا كُفر فيه، ولقد كان الفيلسوف اليوناني مرجعَ الكثيرين من علماء الدين والمتكلِّمين، يأخذون عنه ولا يتَّهمُهم أحدٌ بالكفر من أجل ذلك.
والذي يبدو لنا هو أن الحاتمي قد كتب رسالته هذه بعد مُناظرته للشاعر بزمن، ولربما يكون كتبها بعد موت المتنبي. ونحن بعدُ لا نرى موجبًا للشكِّ في حُسن نيته التي يُعلن عنها في المقدِّمة التي أورَدْناها.
ثم إن هذه الرسالة — مهما يَكُن قصدُ مؤلفها — قد خدَمَت مجْدَ المتنبي؛ إذ لفَتَت النظر إلى ما في شعره من آراءٍ فلسفية. وهذا ما رأته الأجيالُ المتعاقبة ميزةً خاصة للمتنبي. ومن المعلوم أن العقلية السامية، بوجهٍ عام، تميل إلى الحِكَم المركَّزة. وفي هذا ما يُفسر جانبًا من تأثير المتنبي في الأدب العربي وأدباء العرب منذ حياته إلى اليوم. ونحن ننظر في شروح ديوانه؛ كشرح العُكبَري وشرح الواحدي، فنجد أن المؤلِّفين لا يُغفِلون الإشارةَ إلى ما أخَذ الشاعرُ عن الحكيم أو شبَّه فيه أقوالَ الحكيم.
وإذن الحاتميُّ لم يُسِئ إلى المتنبي، بل ساهم في مجدِه، رغم ما كان بينهما أولَ الأمر من خصومةٍ شديدة نُحِسُّ بها في أخبار المناظرة.
(١٢-١١) ندوة البصري وأثرُها في مصير شعره
ثم إن المتنبيَ إذا كان قد شقي أثناء إقامته ببغداد بعَداوةِ رجال الحكم كمُعزِّ الدولة والوزير المهلَّبي، ومَن كان حول هذين من شعراءَ وأدباء وعلماء؛ فإنه قد التَفَّتْ حوله طائفةٌ أخرى من المعجَبين به كانوا يجتمعون معه في دار البصري الذي تحدَّثنا عنه فيما سبق.
ولقد لخَّص الأستاذ بلاشير أنباءَ تلك الاجتماعات تلخيصًا جامعًا لما نجدُه مبعثرًا في مصادرنا، فقال (ص٢٢٦ وما بعدها): «إذا كانت الأوساط في بغداد قد أساءت استقبالَ المتنبي؛ وذلك لِخطَئه هو إلى حدٍّ بعيد، فإن بعضًا من رجال الطبَقة الوُسطى المثقَّفين قد احتفَلوا به منذ قُدومه إلى المدينة، ولم يلبث منزلُ عليٍّ البصري في ربَض حُميد أنْ أصبح ندوةً أدبية مُزدهِرة. ولما كانت شخصيةُ المتنبي قد جذَبَت الشبَّان قبل كل شيء، فإن خصومه قد رأَوا في ذلك فرصةً ليُذيعوا أن المستمعين إليه كانوا من غير المميزين.
ولقد كنتَ ترى في تلك الندوة أولًا ربَّ الدار علي البصري الذي لم يكن حدٌّ لإعجابه بالشاعر وحماستِه له، ثم ابن جِنِّي النَّحْوي الذي كان قد سبق أن لاقاه بحلب، والذي أصبح اليوم لا يُخفي تقديرَه لمادح الحَمْدانيِّين القديم، وكان يخفُّ إلى هناك أيضًا نفرٌ من الشُّبان؛ كأبي القاسم بن حنك الحِمْصي، وكامل بن أحمد العزائمي، والحسن بن عليٍّ الكوفي العَلوي، وعبد الله بن باكويه الشِّيرازي، ومحمد المحاملي، أحد أبناء أسرةٍ من المحدِّثين والفقهاء الشهيرَين ببغداد، والعلماء: محمد المغربي، وعلي الكومي، وأخيرًا خادمه أبو بكرٍ الشَّعراني. هؤلاء هم المستمِعون المنتظمون، ولكن كثيرًا ما كان يحدث أن ينضمَّ إليهم أدباءُ عارِضون ممن تجذبُهم شهرة المتنبي.
ولقد كان لهذه الاجتماعات من الأهمية الحاسمةِ في مصير شعر المتنبي أكثرُ مما كان لاجتماعاتِ حَلَب والفُسطاط، وعندما كان ينعقد أحدُ هذه الاجتماعات التي كانت كثيرةَ الانعقاد، كان يأخذ أحدُ الحضور في قراءةِ شيء من الديوان، وذلك بلا ريب في مخطوط الشاعر، أو نسخة مأخوذة عن ذلك المخطوط، فإذا عرَضَت صعوبةٌ أو ارتكبَ القارئُ خطأً غيرَ إرادي قدَّم لهم الشاعرُ التفسيرَ اللازم، مضيفًا أحيانًا بعضَ التفاصيل عن الملابسات التي قيل فيها الشعر، أو عن الأثر الذي أحدَثه البيت. وبالجملة فقد كان ذلك تطبيقًا لمنهج التعليم الذي كان يُستخدَم عندئذٍ في كل فروع المعرفة.
ولقد كان إحصاءُ القصائد المعتمَدُ في تلك القراءة الجمعية، هو ذلك الذي عمل في حلب مضافًا إليه ما قاله الشاعرُ بعد ذلك. ويظهر أن الشاعرَ كان يرى أن تلك المجموعةَ هي وحدها الجديرةُ بأن تمرَّ إلى الخلف. ولقد حذف عدة مقطوعات رآها — لأسبابٍ مختلفة — غيرَ جديرة بأن تبقى في المجموعة، ولكنه أحيانًا كان يُلقي شفهيًّا بعضَ أشعار صِباه التي حذَفها من المجموعة النهائية. وتلك كانت مجازفةً خطيرة؛ إذ يسمعها مُعجَبون عاقدو العزمِ على ألَّا يتركوا شيئًا مما قال أستاذهم، فيلتقطونها في ورَع، ويُدخلونها في الديوان حسبَما اتفق.
من هذه الندوة بنوعٍ خاص انتشرَت الدراساتُ حول المتنبي في العالم الإسلامي كلِّه؛ فمنذ ذلك الحين أخذَت شهرةُ الشاعر تمتدُّ شيئًا فشيئًا، حتى لقد كسب تقديرَ بعضٍ من خصومه أنفُسِهم؛ فالحاتميُّ مثلًا قد عَدَل عن كُرهه له، وأخذ يحضر بعضَ تلك الاجتماعات عند عليٍّ البصري، وكذلك ابن البقَّال مادحُ المهلَّبي، يظهر أنه قد أخذ يُقدِّر المتنبيَ تقديرًا صادقًا. وهم يَرْوون أن الصابيَ كاتبَ الإنشاء قد عرَض على الشاعر خمسةَ آلاف درهم مقابل قصيدتَين، ونسمع أنهم كانوا يتحدَّثون عن المتنبي في ندوات الأدب بفارس، وأن كاتب الدولة الصاحبَ بن عبَّاد قد كتب له من الريِّ يسأله أن يحضر إليه. ولقد كان هذا الرجل عاليَ الثقافة وإن يكن مُسرِفًا في الكِبْر والطموح رغم حداثة سنِّه. وأهمل أبو الطيب خِطابَه ولم يُجِبْه أصلًا، وبذلك خلَق لنفسه خَصمًا جديدًا لَدودَ الخُصومة. وحول ذلك الوقت، نرى الوزيرَ البويهي، الشهيرَ بابن العميد، يُعطي ألفَي درهم إلى صعلوكٍ أنشده من قِبَل المتنبي قصيدةَ مدحٍ مُهداةً إلى كافور.»
(١٢-١٢) الصابي وتأثُّره بالمتنبي
هذا ملخَّص الحركة التي قامت حول المتنبِّي في ذلك الحين، وننظر فيما خلَّفَت فنجد أن الصابي لم يحقد على المتنبي لعدم قَبوله ما طلب إليه من مدحه؛ وذلك لأن الشاعر قد اعتذر بعُذرٍ رقيق مقبول؛ إذ قال لرسول الصابي: «وقل له: واللهِ ما رأيتُ بالعراق مَن يستحقُّ المدحَ غيرك، ولا أوجبَ عليَّ في هذه البلاد أحدٌ من الحق ما أوجَبْتَ، وأنا وإن مدَحتُك تَنكَّر لك الوزيرُ وتغيَّر عليك؛ لأني لم أمدَحْه، فإن كنتَ لا تُبالي هذه الحال، فأنا أُجيبك إلى ما التمستَ، ولا أريد منك مالًا، ولا عن شِعري عِوَضًا.» ويقول الحسنُ بن إبراهيم بن هلالٍ الصابي بن أبي إسحاق، الذي يروي لنا عن أبيه هذا الخبرَ في ياقوت: «قال والدي: فتنبَّهتُ على موضع الخطأ، وعلمتُ أنه قد نصح، فلم أعاوده.»
وإذن فالصابي لم يكن من خُصوم المتنبي، بل لقد تأثَّر به في رسائله، فمِن ذلك ما كتب في تقريظ شابٍّ مُقتبل الشبيبة، مُكتمِل الفضيلة: «ولقد آتاه الله في اقتبال العمر جوامعَ الفضل، وسوَّغه في عُنفوان الشباب مَحامدَ الاستكمال، فلا تجد الكهولةُ خَلَّةً تتلافاها بتطاوُل المدَّة، وثُلْمةً تسدُّها بمزايا الحُنْكة.» وهذا من قول أبي الطيب:
ومن ذلك ما كتبه إلى ابنِ معروف يُهنِّئه بقضاء القُضاة: «منزلةُ قاضي القضاة تجلُّ عن التهنئة بالولاية؛ لأن ما يكتسبُه الوُلاة من الصِّيت والذِّكر، ويدَّعونه فيها من الجمال والفخر، سابقٌ لها عنده، وحاصلٌ قبلها له، وإذا مدَّ أحدُهم إليها يدًا تجذبها إلى أسفل، جذبَتها يدُه إلى المحلِّ العالي.» فكأنَّ أبا الطيب عَناه أو حَكاه بقوله:
(١٢-١٣) تأثُّر الصاحب بن عبَّاد
«وأما الصاحب بن عبَّاد، فهم يُحدِّثوننا أنه طمع في زيارة المتنبي إيَّاه بأصفَهان، وإجرائه مَجرى مقصوديه من رؤساء الزمان — وهو إذ ذاك شابٌّ والحال حُوَيلة، والبحرُ دُجَيلة، ولم يكن استُوزِر — فكتب يُلاطفه في استدعائه، ويضمن له مُشاطرةَ جميعِ ماله، فلم يُقِم له المتنبي وزنًا ولم يُجِبه عن كِتابه. وقيل إن المتنبيَ قال لأصحابه: إن غُلَيمًا مِعطاءً بالريِّ يريد أن أزورَه وأمدحَه ولا سبيلَ إلى ذلك. فصيَّره الصاحبُ غرَضًا يرشقه بسهام الوَقيعة، ويتتبَّع عليه سَقطاتِه في شِعره وهفَواته، ويَنْعَى عليه سيئاته، وهو أعرفُ الناس بحسَناته، وأحفظُهم وأكثرُهم استعمالًا لها وتمثُّلًا بها في مُحاضراته ومُكاتَباته» (الصبح، ص٨٢).
والواقع أن هذا الصاحبَ — مع بُغضِه له وتعصُّبه عليه — أكثرُ الناس استعمالًا لكلماته في مُحاضراته ومكاتباته؛ فمِن ذلك فصلٌ له من رسالةٍ في وصف قلعةٍ افتتَحها عَضُدُ الدولة: «وأما قلعةُ كذا فقد كانت بقيةَ الدهر المديد والأمد البعيد، تُعطي بأنفٍ شامخ من المنَعة، وتَنْبو بعطفٍ جامح على الخطيَّة، وترى أن الأيام قد صالحَتْها على الإعفاء من القوارع، وعاهدَتها على التسليم من الحوادث، فلما أتاح الله للدنيا ابنَ بَجْدتِها، وأبا بأسِها ونَجْدتِها، جَهِلوا بَوْنَ ما بين البحور والأنهار، وظنُّوا الأقدارَ تأتيهم على مِقدار، فما لَبِثوا أنْ رأَوْا مَعقِلَهم الحصين، ومَثْواهم القديم نُهْزةَ الحوادث، وفرصةَ البوائق، ومَجَرَّ العوالي، ومَجْرى السَّوابق.» وإنما ألمَّ بألفاظِ بيتَين لأبي الطيِّب؛ أحدهما:
والثاني قولُه الآخر:
ومن ذلك فصلٌ له أيضًا: «لئن كان الفتحُ جليلَ الخطر، حميدَ الأثر، فإن سعادة مولانا لَتُبشر بشوافعَ له، يعلم معها أنَّ لله أسرارًا في عُلاه لا يَزال يُبْديها، ويَصِل أوائلَها بتواليها.»
وفصل: «ولو كان ما أُحسه شظيةً في قلمِ كاتبٍ لما غيَّرتُ خطَّه، أو قذًى في عينِ نائم لما انتبهَ جَفنُه.» وهو من قول أبي الطيب:
ومن ذلك في التعزية: «إذا كان الشيخُ القدوةَ في العِلم وما يقتضيه، والأُسوةَ في الدين وما يجبُ فيه؛ لزم أن يتأدَّب في حالات الصبر والشكر بأدَبِه، ويأخُذَ في تاراتِ الأسى بمذهبه، فكيف لنا بتعزيته عند حادثِ رَزيَّتِه، إلا إذا رَوينا له بعضَ ما أخَذْناه عنه، وأعَدْنا له طائفةً مما استفدناه منه.» وإنما حلَّ من قول أبي الطيب:
ومن ذلك: «وقد أثنى عليه ثناءَ لسانِ الزَّهر على راحةِ المطر.» وهو من قول أبي الطيب:
ومما أورَده من أبيات أبي الطيب كما هي: قولُه في كتابٍ أجاب به ابنَ العميد عن كتابه الصادر إليه عن شاطئِ بحرٍ في وصفِ مَراكبه وعجائبه: «وقد علمتُ أن سيدنا كتَب، وما أخطر بفِكْره سَعة صدرِه، ولو فعَل ذلك لرأى البحرَ وَشَلًا لا يَفضُل عن التبرُّض، وثَمَدًا لا يَكثر على الترشُّف.
وله من رسالةٍ في التهنئة ببنتٍ أولُها: «أهلًا بعَقيلة الأمراء، وكَريمة الآباء، وأمِّ الأبناء، وجالبةِ الأصهار، والأولادِ الأطهار.» ثم يقول فيها:
وهما من قصيدةٍ في مَرثيَّة والدةِ سيف الدولة، إلا أنه يقول: ولو كان النساءُ كمَنْ فقَدْنا … إلخ.
وله من كتابِ تعزية: «وقلنا: قد أخذ الزمانُ مَن أخذ وترَك من ترك، فهو لم يزلَّ يعفو عن القمر وقد أسلمَ الشمسَ للطفل، ولا يصلُ الصُّروفَ بالصروف، ولا يجمع الكسوفَ إلى الخُسوف، فأبى حُكمُ المَلَوَين، وقد غبَنَك إذ قاسَمَك الأخَوَين، إلا أن يعودَ فيُلحِقَ الباقيَ بالفاني، والغابرَ بالماضي.
أقول هذا كعادةِ المصدور في النَّفْثِ، وشَكْوى الحزن والبثِّ، وإلا فما يعجب السَّفْرُ مِن تقدُّم بعضٍ، وكلٌّ بين الراحلة والرَّحْل، يترك الموتُ ساعيًا على وجه الأرض، حتى ينقُلَه إلى بطنِ التُّرْب.
(١٢-١٤) رسالة الصاحب في نقد المتنبي
ومع ذلك، فهذا الدَّين الذي استدانه الصاحبُ من المتنبي لم يمنَعْه من أن يتحامَل عليه عندما رفَض مدْحَه، فيَكتُبَ رسالةً صغيرة في الكشف عن مساوئ شِعر المتنبي (طبع مكتبة القدس بالقاهرة، سنة ١٣٤٦ﻫ، ٢٦ صفحة).
ولقد كان لهذه الرسالة تأثيرٌ واضح على النقَّاد اللاحقين. كما أخذ كاتبُها — فيما يظهر — ببعضِ انتقادات الحاتميِّ في مُناظرته، فالناقدان يُجمِعان مثلًا على تسخيفِ قول المتنبِّي:
وفي اليتيمة، نرى الثعالبيَّ يورد أكثرَ من مرةٍ انتقاداتِ صاحب الكشف.
يبدأ الصاحبُ نفسُه بتبريرِه نقْدَه، وإيضاحِ ما دفعه إليه، مدَّعيًا الإنصافَ والبُعدَ عن الهوى فيقول: «أما بعد، أطال الله مُدَّتَك، وأدام في العُلوم رغبتَك؛ فالهوى مَركبٌ يَهْوي بصاحبه، وظهرٌ يَعبُر براكبه، وليس من الحزم أن يُزْريَ على نفسه بالمعصية، ويضعَ مِن عِلمه بالحَميَّة؛ فالناس على اختلافهم وتبايُنِ أصنافهم متَّفِقون على أن الأهواءَ طمسُ أعيُن الآراء، وأن الميل عن الحق يُبهم سُبل الصدق.
وكنتُ ذاكَرتُ بعضَ مَن يُوسَم بالأدب والأشعار وقائليها والموجودين فيها، فسألني عن المتنبِّي فقلتُ: إنه بعيدُ المرمى في شِعره، كثيرُ الإصابة في نظْمِه، إلا أنه ربما يأتي بالفِقرة الغرَّاء مشفوعةً بالكلمة العَوراء. فرأيتُه قد هاج وانزعج وحَمِي وتأجَّج، وادعى أنَّ شعره مستمرُّ النظام، متناسبُ الأقسام، ولم يرضَ حتى تحدَّاني فقال: إن كان الأمر كما زعمتَ فأثبِتْ في ورقةٍ ما تُنكره، وقيِّدْ الخطبةَ ما تذكره؛ لِتتصفَّحَه العيون، وتَسبكَه العقول، ففعلتُ وإن لم يكن تَطلُّبُ العثَرات من شيمتي، ولا تتبُّعُ الزلَّات من طريقتي. وقد قيل: أيُّ عالمٍ لا يهفو، وأيُّ صارم لا يَنْبو، وأيُّ جَوَاد لا يَكْبو؟! وإنما فعلتُ لئلَّا يُقدِّر هذا المعترضُ أني ممَّن يروي قبل أن يُروَى، ويُخبِرُ قبل أن يُخبَر. فاسمَعْ واعدِلْ وأنصِفْ؛ فما أوردتُ فيه إلا قليلًا، ولا ذكرتُ مِن عِظَم عيوبه إلا يسيرًا. وقد بُلِينا بزمنٍ المنسمُ فيه يَعْلو الغارب، ومُنِينا بأعيارٍ أغمارٍ اغتَرُّوا بمادح الجهَّال، لا يَضْرعون لمن حلب الأدبُ أفاويقَه، والعلمُ أشْطُرَه، لا سيَّما على الشعر، فهو فريقُ الثُّريا دون الثرى. وقد يوهمون أنهم يعرفون، فإذا حكَموا رأيتَ بهائمَ مُرسَنة، وأنعامًا مُخبَّلة.»
وهذا كلامُ رجل واضحِ الكِبْر، حظُّ طبعِه من الإنصاف أقلُّ مما يدَّعي لسانُه.
وهو بعد هذه المقدمة يبدأ فيُقرِّر أن نقد الشعر ليس في مقدور كلِّ إنسان. وهذا صحيح. وعنده أنه لا يستطيع أحدٌ أن ينقدَ الشعرَ كما يستطيع ابنُ العميد؛ فإنه يتجاوز نقْدَ الأبيات إلى نقدِ الحروف والكلمات، ولا يرضى بتهذيبِ المعنى حتى يُطالِبَ بتخيُّر القافية والوزن. ويُخبرنا الصاحب أنه تتلمذَ في النقد لابنِ العميد.
ثم يَسْمو إلى فكرةٍ عامة لها أهميَّتُها في تاريخ النقد عند العرب، هي أنَّ للنقد رجالَه، وهم يكونون طائفةً خاصة مختلفة عن علماء اللغة أو النحو أو الأنساب أو التاريخ. هذا كلامٌ يدلُّ على أن النقد عند العرب كان في ذلك الحين قد أخذ يصلُ إلى مرتبة الاستقلال عن غيره من العلوم والأبحاث، يقول: «قال أبو عُثمان الجاحظ: طلبتُ عِلم الشعر عند الأصمعيِّ فوجَدتُه لا يعرف إلا غريبَه، فرجعتُ إلى الأخفش فألفيتُه لا يُتقن إلا إعرابَه، فعطفتُ على أبي عُبيدة فرأيته لا ينقد إلا ما اتَّصل بالأخبار، وتعلَّق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردتُ إلا عند أدباء الكُتَّاب؛ كالحسَنِ بن وهب بن عبد الملك الزيَّات. فلله دَرُّ أبي عثمان! لقد غاص على سرِّ الشِّعر، واستخرَج أدقَّ من الشَّعر.
وفي هذا النمَط ما حدَّثني به محمدُ بن يوسف الحماري قال: حضرتُ مجلسَ عبدِ الله بن طاهر وقد حضَرَه البحتري، فقال: يا أبا عُبادة، مُسلمٌ أشعرُ أم أبو نُوَاس؟ فقال: أبو نُواس؛ لأنه يتصرَّفُ في كلِّ طريق، ويتنوَّع في كل مذهب؛ إنْ شاء جَدَّ وإن شاء هزَل، ومسلمٌ يلزم طريقًا واحدًا لا يتَعدَّاه، ويتحقَّق بمذهبٍ لا يتَخطَّاه، فقال له عبد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلبًا لا يُوافقك على هذا، فقال: أيها الأمير، ليس هذا مِن علم ثعلبٍ وأضرابه ممَّن يحفظ الشعرَ ولا يقوله، وإنما يعرف الشعرَ مَن دُفع إلى مَضايِقه، فقال: ورَّيتُ بك زِنادي يا أبا عُبادة، إنَّ حُكمك في عمَّيك أبي نُواس ومُسلم وافقَ حُكم أبي نُواس في عمَّيه جَريرٍ والفرزدَق؛ فإنه سُئل عنهما ففضَّل جَريرًا، فقيل له: إن أبا عُبيدة لا يُوافقك على هذا، فقال: ليس هذا مِن عِلم أبي عُبيدة؛ إنما يعرف الشعرَ مَن دُفع إلى مَضايقه.»
(١٢-١٥) مَنْحى الصاحبِ في النقد
وإذن فالنقد الذي يَعتدُّ به الصاحبُ هو نقدُ الشعراء والأدباء، ونقدٌ كهذا هو في الغالب نقدٌ ذَوْقي بحت؛ ولذلك نرى الصاحبَ ينقد بعضَ أبياتِ المتنبي بروحٍ تغلب عليها السُّخرية، ويقلُّ فيها التعليل، وتكاد تنعدمُ المناقشة. وهو بعدُ نقدٌ جزئي، ولا غرابةَ في ذلك؛ فالمؤلفُ لا يَعيب على الشاعر خاصيةً من خواصِّ شعره أو مذهبًا فنيًّا بعينِه، وإنما يَعيبه لأنه يأتي بالفِقرة الغرَّاء مشفوعةً بالكلمة العوراء، يَعيبُه لعدم استواءِ نَسْجِه أو تَساوي شِعره؛ ومِن ثَم لم يكن له بُدٌّ من أن يبحث في ديوان الشاعر عن الأبيات التي يراها ساقطةً لفهاهة المعنى، أو عدمِ اللياقة، أو هَلْهلة العبارة، وهو يَسخر من أمثالِ تلك الأبيات أو يُظهِر سخفها بتجريح الشاعر نفسِه.
والصاحبُ يريد أن يكون في نقدِه أديبًا؛ ومن ثَم فهو لا يعمد إلى السَّرِقات كما كان يفعل علماءُ الشعر عندما يُريدون تجريحَ شاعر، بل هو لا يرى في السرقة عيبًا؛ وذلك لاتفاق شِعر الجاهلية والإسلام عليها، وإنما يُعاب أن يأخذ من الشعراء المحْدَثين كالبُحتريِّ وغيره جلَّ المعاني، ثم يقولَ: لا أعرفُهم ولم أسمع بهم، ثم يُنشِد أشعارَهم فيقول: هذا شعرٌ عليه أثرُ التوليد. وهذه تهمةٌ سبق أن رأينا الحاتميَّ وأبا القاسم الأصفهانيَّ يتَّهِمانه بها، كما رأينا الخالديَّين يردَّانِها عنه. وإنه لَمِن الخير أن نُهمِل أمثالَ تلك التهم الباطلة؛ لننظر فيما عابه الصاحبُ على أبيات الشاعر التي أوردها.
وهو يبدأ فيُقرر (ص١١) أنه سيُخرج «بعض الأبيات يستوي الرَّيِّض والمرتاضُ في المعرفة بسُقوطها، دون المواضع التي تَخفى على كثيرٍ من الناس لِغُموضها.» وننظر فيما يُخرج الصاحب، فلا نرى إلا ملاحظاتٍ مُقتضَبةً ساخرة، إن أصابت حينًا فهي تُخطئ حينًا آخَر؛ يقول مثلًا: «وأولُ حديث المتنبِّي أنْ لا أدلَّ على تفاوت الطبع من جمع الإحسان والإساءة في بيت؛ كقوله: «بَلِيت بِلَى الأطلالِ إن لم أقِفْ بها»، وهذا كلامٌ مستقيم لو لم يُعقِبه ويُعاقبه بقوله: «وقوف لئيمٍ ضاع في التُّرب خاتَمُهْ»؛ فإنَّ الكلام إذا استشفَّ جيدُه ووسطه ورديئه، كان هذا الكلامُ من أرذلِ ما يقعُ لصِبيان الشعراء ووِلْدان الأدباء. وأعجبُ من هذا هجومُه على بابٍ قد تداوَلتْه الألسنة، وتناولتْه القرائح، واعتوَرَته الطِّباع، وهو النَّسيب، بإساءةٍ لا إساءةَ بعدها؛ سقوطُ لفظٍ وتهافت معنًى. فلَيْت شِعري ما الذي أعجبه من هذا النظم، وراقَه من هذا السَّبْك، لولا اضطرابٌ في النقد وإعجابٌ بالنفس.» وفي الحق، إن المتنبيَ كان معجبًا بنفسِه، وإنَّ اضطراب النقد وضعف السَّبك قد يظهر في شعره أحيانًا، ولكننا لا نرى للعجَب أو الاضطراب أو الضعف أثرًا في هذا البيت، وبخاصةٍ إذا ذكَرْنا أن الشطر الأخير لم يكن «وقوف لئيمٍ ضاع في التُّرب خاتَمُه»، بل «وقوف شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه»، وهذا على الأقل هو ما نجده في الديوان، فأيَّة صِبيانيَّةٍ في هذا وأيُّ ضعف؟! قيل: كان أبو العَلاء المعَرِّي إذا ذكر الشعراء قال: قال أبو نُواس كذا، وقال البُحتريُّ كذا، قال أبو تمامٍ كذا، فإذا أراد المتنبي قال: قال الشاعرُ كذا؛ تعظيمًا له، فقيل له يومًا: أسرفتَ في وصفِك المتنبِّيَ، قال: أليس هو القائل:
وإذا صحَّت هذه الحكاية، أفَما يكون المعري أقربَ إلى الإصابة في إعجابه بهذا البيت من الصاحبِ في تهجينه له؟!
ولكن إلى جانبِ هذا النقد الظالم، نجد ملاحظاتٍ أخرى مُصيبةً؛ كالذي سبق أن أشَرْنا إليه عن استعماله لغةَ المتصوِّفة، أو قولِه في رثاء أمِّ سيف الدولة: «رِواق العزِّ فوقَك مُسبطِرُّ.» فالناقد يُلاحظ أن استعمال لفظة الاسبطرار في مَراثي النساء من الخِذْلان الصَّفيق الدقيق المغير، كما يرى أن مُخاطبةَ ملكٍ بهذه اللُّغة يدلُّ على فساد الحسِّ وسوءِ أدبِ النفس (ص١٣). ونحن نستطيع أن نُهمل عنفَ ألفاظ الناقد لنرى في كلامه هذا حقيقةً واحدة هي ثقل «مُسبطر» على السمع، سواءٌ أكان استخدامها في الرِّثاء أم المدح، وسواءٌ أكان ذلك في الشعر أم في النثر.
وأحيانًا يأتي نقدُ الصاحبِ الذوقيُّ نقدًا صحيحًا؛ كقوله: «ولما أبدع في هذه المرثيَّة واخترَع قال:
والذي لم يزلَّ فيه أن تشبيه صلاة الله على الميتة بالبخور، ووصف الوجه بأنه مُكفَّنٌ بالجمال شعرٌ مُتكلَّف مرذول يَمجُّه الذوق.
والصاحب ماهرٌ في اختيار الأبيات المشرِقة الجَمال، يضَعُها إلى جوار أبيات المتنبي التي يَنقُدها. انظر إليه مثلًا يقول: «ولما أحب تقريظ المتوفَّاة والإفصاحَ عن أنها مِن الكريمات أعملَ دقائقَ فكرِه، واستخرَج زُبدَ شعره فقال:
ثم يقول: «ولعلَّ هذا البيت عنده وعند كثيرٍ ممن يقولون بإمامته أحسنُ من قولِ الشاعر:
وهو على العكس من ذلك قد يَستخدم المقارنةَ بين بيتَين مرذولَين ليدلَّ على أن المتنبيَ أمعَنُ في السُّخف من غيره، فيقول مثلًا: «وكان الناس يستبشعون قولَ مُسلم: «سلَّت وسلَّت ثم سلَّ سليلها.» حتى جاء هذا المبدِعُ بقوله:
فالمصيبةُ في الرَّاثي أعظمُ منها في المرثي.»
ويستمرُّ الناقد في هذا النقدِ معتمِدًا حينًا على ذَوقه الذي لا يُعلِّله إلا في لفظٍ مُقتضَب، ومُعوِّلًا على المقارنات أحيانًا أخرى، فينقد ما «يتعاطاه المتنبِّي من التفاصُح بالألفاظ النافرة والكلماتِ الشاذَّة، حتى كأنه وليدُ خِباء أو غذيُّ لبن، ولم يطَأِ الحضَر ولم يَعرف المدَر.» كاستعمالِه للفظة «التوراب» بدلًا من «التراب»، التي كانت — فيما يظهر — إحدى لهجاتِ البادية، ثم سخافته في بعض استعمالاته؛ كقوله عن «لذَّة البَنين»: «حلواء البنين» (ص١٤).
والصاحبُ فيما يظهر كان مُطَّلِعًا على كتب النقَّاد السابقين؛ فهو يعجب مثلًا من قول أبي تمام: «لا تَسقِني ماء المَلام»، ومن المعلوم لنا الآن أنَّ نُقادًا قد أُعجِبوا من ذلك قبله، ثم يُردِف ذلك بأن المتنبيَ قد جاوز الجميعَ عندما قال:
ومع هذا لا ينتقد من هذا البيت إلا لفظةَ حينئذٍ التي يراها هنا نافرة. وأما الرَّكاكة الفلسفية التي نراها في «كان أو هو كائن»، فلا يفطن إلى ما فيها من ثِقلٍ وسماجة.
وأخيرًا ثَمة عيبٌ التفت إليه الحاتميُّ من قبلُ، ولاحظَه الصاحبُ في غيرِ موضع من رسالته، هو عدم سلامة ذَوق المتنبِّي في مُخاطَبة مَمدوحيه، وتكبُّره وغروره، فيقول: «ومن ابتداءاته العجيبة في التسلية عن المصيبة:
هو يُعلق على هذا البيت بقوله: لا أدري لِمَ لا يحزن سيفُ الدولة إذا أخذ أبو الطيب بنصيبٍ من القلق، أترى هذه التسلية أحسنَ عند أمَّته أم قول أوس؟
ويستطيع القارئ أن يرجع إلى هذه الرسالة ليُناقش نقْدَ الصاحب؛ فهو نقدٌ جزئي لا تُسيطر عليه أيُّ فكرة عامة: من ردِّ لفظ، إلى تسفيهِ عبارةٍ، إلى التماسِ خطأ في وزنٍ أو نقدٍ لاستعارة. ولئن كان التحامُل واضحًا في أقواله، فالكثير من مُلاحَظاته صحيح، وإنما يقدح في المؤلف أنه لم يُشِر إلى أي حسَنة للمتنبي، ولا أورد له أيَّ بيت من أبياته الجميلة الكثيرة العدد.
والذي يدهشنا من أمر الصاحب هو أن نراه ينقد المتنبيَ هذا النقد المُر، مع أنه قد تأثر به وأخذ عنه، كما سبق أن أشَرنا، ويَزيدنا دهشةً أن بِدار الكتب المصرية رسالةً منسوبةً إلى الصاحب بعنوان «كتاب الأمثال السائرة من شعر المتنبي»، وفي مقدمتها يقول المؤلف: إنه قد وضَعها لفخر الدولة بن بُوَيه، وفيها زُهاء ثَلاثمائةٍ وسبعين بيتًا تجري مَجرى الأمثال (الدكتور عزام، ذكرى أبي الطيب، ص٤١٨). وإليك نصَّ أقوالِه: «وهذا الشاعر مع تميُّزه وبراعته، وتبريزه في صناعته، له في الأمثال خصوصًا مذهبٌ يسبق به أمثالَه.» ولكننا لم نعثر في الكتب التي بين أيدينا على أيِّ إشارة إلى هذه الرسالة، فهل نستطيع رغم ذلك أن نُسلِّم بأنها حقًّا للصاحب؟ هذا ممكن. ولقد رأينا الحاتميَّ ينتهي في آخِر الأمر بأن يكتب «الحاتمية» ويُصدِّرَها بمقدمةٍ تدلُّ — على الأقلِّ في الظاهر — على أن المؤلف لم يَعُد يحقد على المتنبي، وربما دلَّت على الإعجاب. ولقد يكون الصاحبُ في ذلك كالحاتمي، ويكون قد عاد عن تحامُلِه إلى الإنصاف، ولكنه لا سبيل إلى الجزم في نِسبة ذلك الكتاب.
(١٢-١٦) أبو هلالٍ العسكريُّ بين المتنبِّي والصاحب
ولقد أثار الدكتور زكي مبارك في كتابه «النثر الفني» (ج٢، ص٩٦) حول الصاحب مشكلةً، عاد فنقَلها إلى مجلة «الهلال»، في العدد الخاصِّ بالمتنبي، ضاربًا بها المثلَ للدسائس الأدبية. وفيها يدَّعي أن «أبا هلالٍ قد انضمَّ إلى النقَّاد المغْرِضين الذين كُلِّفوا بالبحث عن عيوب المتنبي ابتغاءَ مرضاة الوزير ابن عبَّاد.» ولكن الثابت أن الصاحب قد تُوفِّي سنة ٣٨٥ﻫ، وأبو هلال يُخبرنا بنفسه «أنه قد فرَغ من تأليف كتابه ووصفِه وتصنيفه في شهر رمضان سنة ٣٩٤ﻫ.» وإذا صحَّ ذلك، فكيف نستطيع أن ندَّعيَ أن أبا هلال قد حمَل في «الصناعتين» على المتنبي إرضاءً للصاحب، مع أن الصاحب كان قد تُوفي، اللهم إلَّا أن يكون أبو هلال قد فعل ذلك إرضاءً لروح الصاحب؟! والدكتور زكي مبارك نفسُه يُخبرنا «أنه ليس في كتب التراجم ما يشرح لنا صلةَ أبي هلال بذلك الوزير الذي استبعد مُعاصريه من الكُتَّاب والشعراء.» ومع ذلك يدَّعي دَعْواه السابقة. وهو يرى أن لتلك الدعوى مظهرَين: (١) إشادة العسكريِّ بأدب الصاحب، ثم (٢) تحامله على المتنبي. وهو يستنتج إشادتَه بأدب الصاحب من استشهاده ببعض رسائله في باب «السَّجع والازدواج» وباب «الفصل والوصل»، وشهادته له بسُرعة الخاطر، وأنه «يقطع كلماته على كل معنًى بديع ولفظٍ شريف.» وأما تحامُله على المتنبي فيراه صاحبُ «النثر الفني» في أن أبا هلال لا يذكر اسمَ المتنبي، ولا يتحدَّث عن شعره إلا حين يريد التمثيلَ للشعر القبيح.
وقوله في باب المضاعفة: «ومن المضاعفة قولُ الآخَر:
ومن سياق الحديث يُدرك القارئُ أن أبا هلالٍ مُعجَب بهذا البيت.
وقد لاحظ الدكتور زكي مبارك نفسُه (ج٣، ص١٠٦) «أن أبا هلالٍ يُكثِر من كلمة قال الشاعر وقال الآخَر من غيرِ تعيين. وهذا عيبٌ لم ينفرد به، وإنما هو عيبٌ غالبٌ على أكثرِ المؤلفين في اللغة العربية، وصَلْنا به إلى الجهل المطبَق بتمييزِ العصور بعضِها عن بعض، ولو نُسِبَت كلُّ كلمة إلى قائلها لَعرَفنا كثيرًا من تطورات المعاني والألفاظ والأساليب.» ومع ذلك يرى الدكتور زكي في سكوتِ أبي هلال عن إيراد اسم المتنبي والاستعاضة عنه بقوله: «وقال الآخر» أو «قال بعضُ المتأخِّرين» دليلًا يستند إليه في دعوى تحامُل أبي هلالٍ على المتنبي.
والآن يبقى من كلام الدكتور زكي مبارك حقيقةٌ أظنُّ أنه لم يزلَّ فيها؛ هي أن أبا هلال قد انتقد المتنبيَ في غيرِ موضع من كتابه، وأنه لم يكَدْ يذكر من مَحاسنه شيئًا، اللهم إلا أن تكون إشاراتٍ كالتي أورَدْناها، وهو إذا كان قد ذكر استحسانَ الناس لأحدِ مَطالعه، فإنه قد أتبعَها بستةَ عشَر مطلعًا ينتقدُها مُرَّ الانتقاد، بل ويصفُها بأنها: «ابتداءات المصايب وفراق الحبايب»، وأنها: «لا خَلاق لها» (ص٤٢١ وما بعدها). وهو كذلك يُبدي إعجابه بنَثرِ الصاحب، بل وبالصاحب، فكيف نُفسر ذلك؟
الأمر فيما يبدو بسيطٌ بالنسبة للمتنبي؛ فنحن لا نرى تحاملًا من أبي هلالٍ على هذا الشاعر إلا في إغفاله لذِكر مَحاسنه، كما نراه يفعل عند الكلام على ابتداءات القصائد؛ إذ لا يورِدُ له مَطلعًا واحدًا يستحسنُه له الناس، بينما يورد ١٦ مطلعًا رديئًا. وسوف نرى علي بن عبد العزيز الجرجاني يورد للمتنبِّي عشَرات المطالع الجيدة جودةً حقيقية يُقيمها إلى جوار ما انتقَد من ابتداءاته. وهذا هو النقد النزيه الذي يبدو نقدُ أبي هلال إلى جواره غيرَ عادل. وأما نقده لما أوردَه من أبيات، فقد راجَعْناه بيتًا بيتًا، ولا نستطيع مُنصِفين إلا أن نُقِرَّه على معظم ما قال؛ فهو ينتقد قوله: «جفَخْت بهم وهُمْ لا يجفخون بها»، وفي فصل الكناية يقول: «ومن شَنيع الكناية قولُ بعضِ المتأخِّرين:
وسمعتُ بعضَ الشيوخ يقول: الفجور أحسنُ من عفافٍ يُعبَّر عنه بهذا اللفظ.» وفي فصل التَّرصيع: «ومِن مَعيب هذا الباب قولُ بعض المتأخِّرين:
هذا رديءٌ لتعميةِ معناه.»
كما أنَّ الابتداءات التي يَعيبها كلَّها تستحقُّ أن تُعاب. وإليك نصَّها:
فهذه كلُّها — كما نرى — أثرُ التكلُّفِ والجهد والإغراب فيها واضح. وفي الحق إن المتنبيَ لم يكن مُوفَّقًا في كثيرٍ من مَطالعه، وكأني به لا يُسلسَلُ له الشعر إلا عندما يتوغَّل في القصيدة، ويحمي نفسَه، ويصلُ إلى الموضوعات التي تُهمه. وأما المطالع التقليدية التي يتَكلَّف فيها الغزَلَ أو بُكاء الديار، فهو يقولها وكأنه يخلع أضراسَه. ومعظم المطالع التي يُحسُّ فيها تلك التي يتحدث فيها عن نفسه وهمومه وآلامه وآماله، أو يهجم بها على موضوعه مباشرة.
وإذن فأبو هلالٍ مُصيب في تلك الانتقادات، ولولا عنفُ عباراته لما أحسَسْنا في أقواله تحاملًا، ومع ذلك فهو لم يَقصُر نقْدَه على المتنبي، وإذا كان قد عاب عليه «الغُلوَّ الغَثَّ»، فإنه يَعيب أيضًا على أبي تمام «رَديء المبالغة» في قوله (ص٣٥٩):
مضيفًا: «أراد أن يُبالغ في ذِكر الممدوح باللَّهَج بذِكْر الجُود فقال: «ما زال يهذي» «فجاء بلفظٍ مذموم»، والجيِّد في معناه قولُ الآخَر:
قسَم الكرمَ قِسمَين: ممدوحًا ومذمومًا؛ ليُخرج الممدوحَ من المذموم إلى الممدوح المحمود.»
وهو في باب الاستعارات ينقل عن الآمديِّ الكثيرَ مما عابه صاحبُ الموازنة على أبي تمام ثم يقول: «وقد جنى أبو تمام على نفسه بالإكثار من هذه الاستعارات، وأطلق لسانَ عايِبه، وأكَّد له الحُجَّة على نفسه» (ص٢٩٨). وفي ص٤٢١ يقول: «إن لأبي تمام ابتداءاتٍ كثيرةً رديئة.» ويُورِدُ لذلك أمثلة.
ومع ذلك، فإننا نُحسُّ بأن عباراته في نقد أبي تمام أقلُّ عنفًا منها في نقدِ المتنبي. ونحن نرى تفسيرَ ذلك في ذَوق أبي هلالٍ العسكري نفسِه ومَنْحاه في الحكم على الشعر، بل الأدب بوجهٍ عام.
(١٢-١٧) أبو هلالٍ والبلاغة
فأبو هلال العسكريُّ فيما نحسب نقطةُ البدء في فَساد الذَّوق في النقد، كما هو بدءُ تحوُّلِ النقدِ إلى بلاغة. وفي هذا أوضحُ تفسيرٍ لإعجابه بسَجْع الصاحب وازدواجِه، وترفُّقه بأبي تمام؛ فالصاحبُ في النثر كأبي تمامٍ في الشعر، كلاهما صاحبُ صناعةٍ لفظية، وكلُّ إعجابِ أبي هلال في كتابه منصرفٌ إلى هذا النوع من الأدب، حتى لَنراه يُعدِّد خمسةً وثلاثين نوعًا من أنواع البديع، ويفتخر بأنه قد أضاف إلى ما كان معروفًا من تلك الأنواع ستةً جديدة.
والواقعُ أن كتاب الصناعتين ليس كتابًا في النقد، وإنما هو في البلاغة، جمَع فيه مؤلفُه ما قاله ابنُ المعتز في كتاب البديع إلى ما قاله قُدامة، ثم أخذ يتَمحَّلُ ويخرج ويُفصِّل إلى أنْ وضَع هذا الكتابَ الذي استَطار شرَرُه على اللاحقين. أما النقد العربي الصحيح فلم يوضَع فيه غيرُ كتابَين؛ هما: «الموازنة» و«الوساطة»، وقد وُضِعا لأنَّ خُصومةً نشَأَت حول أبي تمامٍ والبُحتري، وأخرى حول المتنبِّي، وتحمَّس لكلٍّ من الطائيَّين نفرٌ من الأدباء، كما تحمَّس للمتنبي أو ضدَّه نفر، على نحوِ ما يتحمَّس الأدباءُ اليوم في أوروبا لهذا المذهب الأدبيِّ أو ذاك. وتلك هي الظاهرةُ التي تُولِّد النقد.
«كتاب الصناعتين» كتابُ رجلٍ لا يُعْنَى بغيرِ الصَّنعة، ولا يَدرُس في الأدب غيرَها. وهذا ما سنُوضِّحه عند الكلام على تحوُّل النقدِ إلى بلاغة، وإنما الذي يُهِمنا الآن هو التدليلُ على فَساد ذَوق أبي هلال؛ لنُفسِّر بذلك موقفَه من المتنبي وأبي تمام والصاحبِ وغيرهم.
(١٢-١٨) فَسادُ ذَوقِه وسببُه
وفسادُ ذوقه مَردُّه إلى فرْطِ إعجابه بالبديع وأوجُهِه؛ فهو يورد مثلًا (ص١٣٣) البيت:
ثم يقول: «قال أبو بكرِ بنُ دُرَيد: لو قال يا قُربَ زائرةٍ وبُعدَ مَزار لكان أجوَد.» ويؤمِّن أبو هلال على رأيِ أبي بكرٍ بقوله: «وكذلك هو؛ لِتَضمُّنِه الطِّباق.» والفَهاهةُ في هذا النقد بل والسُّخف واضحان.
وهو في باب التشبيه يوردُ (ص٢٢٩) قولَ الوَأْواء:
ويُعلِّق عليه بقوله: «فشبَّه خمسةَ أشياء بخمسةِ أشياء في بيتٍ واحد: الدمعَ باللؤلؤ، والعين بالنَّرجس، والخدَّ بالورد، والأناملَ بالعُنَّاب؛ لما فيهن من خِضَاب، والثَّغْرَ بالبَرَد.» ويُضيف: «ولا أعرف لهذا البيت ثانيًا في أشعارهم.» وفي موضع آخر (ص٣٣٨) يُعلِّق على قول امرئ القيس:
بقوله: «وهذا من بديعِ التشبيه؛ لأنه شبَّه أربعةَ أشياءَ في بيت واحد.» وما نظنُّنا بحاجةٍ إلى التدليل على فَساد ذَوق هذا البلاغي بأكثرَ من أن نراه يُفضل هذه الأبيات، ويرى أنْ لا مثيلَ لها لِكثرة ما جمعَت من تشبيهات؛ فهذا تفكيرٌ شكليٌّ عدديٌّ سقيم. ومن البيِّن أنه قلَّ أن نجد في الشعر العربي أسخفَ من «وأسبَلَت لؤلؤًا … إلخ» الذي لا يعرف العسكريُّ له مثيلًا في الجودة.
ولو أننا نظرنا فيما ينتقده لَوجَدْنا نفس الذوق الفاسد، نُفسره بنفس نزعتِه إلى الإعجاب بالبديع وقواعدِ البديع الشكليَّة المنطقية الحمقاء. خُذْ لذلك مثلًا قولَه في باب التقسيم عن بيتِ جميل:
«فإتيان الرسائل داخلٌ في الوصل.» وإذن فهو يَعيب هذا البيتَ الحسَن؛ لأن التقسيم فيه غيرُ مُحكَم فيما يرى، حتى لَكأنَّ الوصل لا يُمكن أن يفيد شيئًا غيرَ المراسَلة، أو كأنَّ تخصيص المراسَلة بعد ذِكر الوصل شيءٌ لا يستسيغُه الشعر.
ونحن لا نريد أن نستقصيَ القولَ في منهج العسكري؛ فهذا سيأتي في موضعه، وإنما أرَدْنا أن ندلَّ على أنه رجلُ البديع، والصاحبُ وأبو تمَّام من رجاله. وإذن فإعجابه بالصاحب قد يكون لصدوره عن المذهب الذي يُعجَب به.
والناظر في شِعر أبي هلال ونثره يرى المحسِّنات واضحةً. انظر إليه مثلًا يورِدُ مثالًا لِتجاهُل العارف ومزجِ الشكِّ باليقين: قوله هو في إحدى رسائله (ص٣٨٧): «سمعتُ بورود كتابك فاستفزَّني الفرح قبل رؤيته، وهز عِطْفي المرحُ أمام مُشاهدته، فما أدري أسمعتُ بوُرود كتاب، أم ظفرتُ برجوعِ شَباب، ولم أدْرِ ما رأيتُ أخطٌّ مسطور أم روضٌ ممطور، وكلامٌ منثور أم وشيٌ منشور، ولم أدْرِ ما أبصرتُ في أثنائه أأبياتَ شعر أم عقودَ دُر، ولم أدْرِ ما حملتُه أغيثٌ حلَّ بوادٍ ظمآن أم غوثٌ سِيق إلى لَهْفان.» وهذا قولٌ واضح التكلُّف والسُّخف، كلامٌ لا طائل ولا فائدة فيه من معنًى أو إحساسٍ أو أسلوب، وإنما هو السَّجع المرذول والصناعةُ العقيمة.
فأيُّ غرابة في أن يُعجب رجلٌ كهذا بنثرِ الصاحب، أو يترفَّقَ في نقدِه لأبي تمام، بينما يقسو على المتنبِّي الذي لم يكَدْ يَكمُل نُضجُه حتى تحرَّر من أبي تمام وصنعته لِيَصدُر في شعره عن طبعٍ عربي قوي؟!
والعسكريُّ يوردُ في باب التشبيه قولَ صاحب كَليلة ودِمْنة (ص٢٣١): «من لا يَشكر له كان كمن نثَر بَذْره في السِّباخ، ومن أشار على مُعجَب كان كمَن سارَّ الأصم.» ثم يُخبرنا أنه قد نظَم هذا المعنى فقال:
وهذا شعرٌ نثريُّ الصياغة لا رونقَ له ولا ماء، وهو أشبهُ بكلام الفقهاء منه بشِعر الشعراء. ومن البيِّن أن عبارة ابنِ المقفَّع في أسلوبه القويِّ الجميل الدالِّ خيرٌ من هذا الشعر.
والقرابة بين منهج العسكري في الأدب ومنهج الصاحب واضحة؛ فجُمل الصاحب التي يُعجب بها العسكريُّ من نوع نثره. انظر مثلًا إلى قول ابنِ عبَّاد: «وأنا متوقِّعٌ لكتابك توقُّعَ الظَّمْآن للماء الزُّلال، والصوَّام لهلال شوَّال.» وأمثال ذلك مما نجدُه في «الصناعتين»؛ أليس واضحَ الشبَهِ «بالخط المسطور والرَّوض الممطور، والكلام المنثور والوشْيِ المنشور»، وما إليه من كلامٍ مُبتذَل كالذي أورَدْناه لأبي هلال؟!
وإذن فالذي يتمشَّى مع النظر الصحيح هو أن أبا هلالٍ قد أُعجب بالصاحب وأدبِ الصاحب؛ لفساد ذَوقه هو، واتحادِه في ذلك مع ابنِ عبَّاد. وأما تحامُله على المتنبي، فقد رأينا أنه لم يكن إلى الحدِّ الذي زعَمه الدكتور زكي مبارك، وإنما هو نقدٌ سبق إليه صاحبُ الصناعتين، وهو نقدٌ صحيح. وأما التحامل فلا نُحسُّه إلا في عنف عباراته، وفي إهماله لذكر مَحاسن ذلك الشاعر العظيم، وهذا يمكن تفسيره باختلاف الأذواق. والعسكري رجلُ بديعٍ وصَنْعة، والمتنبي في خير شِعره بعيدٌ عن هذا المذهب. ونحن على أيِّ حال لا نقبل ما ادَّعاه الدكتور زكي مبارك مِن تحامل العسكريِّ على المتنبي لإرضاء الصاحب؛ لأن الصاحب كان من بين خُصوم المتنبي والشاعرُ حي، بل نحن لا ندري في أيِّ سنٍّ كان أبو هلال عندما مات المتنبي سنة ٣٥٥ﻫ، وهل كانت مَلَكاتُه قد نَضِجَت أم لا.
ثم إنه لو صحَّت نسبةُ كتاب «الأمثال السائرة من شعر المتنبي» للصاحب بن عباد، لكان في مقدمة ذلك الكتابِ وما فيها من إعجابٍ بالشاعر دليلٌ قويٌّ على أن الصاحب كان قد رجَع عن تحامُلِه على الشاعر كما رجَع الحاتمي، ولَرُبما كان ذلك بعد موت المتنبِّي، فيكون كتاب الأمثال قد كُتِب بعد وفاة الشاعر كما كُتِبَت «الرسالة الحاتمية». وعندئذٍ لا نرى ما يدعو الصاحبَ إلى حمل أبي هلالٍ على تجريح المتنبِّي، أو إلى الرِّضا عن ذلك التجريح.
(١٣) المتنبِّي وأنصاره
(١٣-١) المتنبي وابنُ جنِّي
ولو أننا ترَكْنا خصومَ المتنبي لِنَنظر فيما عَمِله أنصارُه والمعجبون به الذين كانوا يجتمعون حوله بمنزلِ أبي عليٍّ البصري؛ لَبرَز من بين الجميع رجلٌ كان له أعظمُ الأثر عند اللاحقين؛ ذلك هو أبو الفتح عُثمان بن جني الموصليُّ اليونانيُّ الأصلِ (وُلد بالموصل قبل سنة ٢٣٠ﻫ، وتوفي في سنة ٢٩٢ﻫ ببغداد).
لقي ابن جني المتنبيَ لأول مرة فيما يظهر بحلب. لقيه بتحفُّظٍ ثم لم يلبث أن أُعجب به. ونعود فنرى ذِكرَه في العراق بعد عودة الشاعر من مِصر، فمنذ ذلك الحينِ لم يُفارقه. لزمه في الكوفة ثم في بغداد، وعندما عاد المتنبي إلى الكوفة عاد معه. وأخيرًا لازمَه في سفره إلى ابن العميد وعَضُد الدولة. والظاهر أنه كان معه ليلةَ قتلِه. صحب ابنُ جني المتنبيَ يقرأ عليه شِعرَه، ويسأله عن شرح الأبيات ويكتبُ عنه، وبذلك استطاع أن يُؤلِّف شرحَين لديوانِ الشاعر: أحدهما سمَّاه «الفَسْر»، والآخر «كتاب معاني أبيات المتنبِّي»، وهو فيهما متعصبٌ للشاعر مُدافعٌ عنه. ومنذ ذلك الحينِ اعتُبِرَت شروحُ ابن جني المرجعَ الأساسي لكل شرح، وذلك منذ حياة الشاعر. وهم يُحدثوننا أن المتنبيَ كان إذا سُئل عن معنى بيتٍ قال: «اسألوا الشارح.» يعني ابنَ جنِّي.
(١٣-٢) ما أثارته شروحُ ابن جني من نقد
والواقع أنَّ شرح ابن جني لم يكن مجردَ شرح، بل فيه كما قلنا دفاعٌ عن الشاعر، وإذن فهو لا يَخلو من نقد، وإنه لأمرٌ هام أن نستوضحَ مذهب ابن جني في فَهْم الشاعر ونقدِه؛ لأنه كان مرجعَ جميع اللاحقين، كما أن آراءه قد أثارَت مُعارضاتٍ كثيرة، فأُلِّفَت عدة كتب في الردِّ عليه؛ أولُها — فيما يظهر — كتاب «إيضاح المشكِل في شعر المتنبي» لأبي القاسم بن عبد الرحمن الأصفهاني المعاصِر للشاعر (وكان لا يزال حيًّا سنة ٣٧٩ﻫ)، وفيه يتحامل على المتنبي، كما يُبين أخطاءَ ابنِ جني. وفي «خِزانة الأدب» مقدمة هذا الكتاب عن حياة المتنبِّي، كما سبق أن قُلنا، ثم إن أحمد بن محمد العَروضي (وُلد سنة ٣٣٤ﻫ، ومات بعد سنة ٤١٦ﻫ) الذي درَس الديوان على الشَّعراني؛ خادم المتنبي، ثم على أبي بكرٍ الخُوارَزمي، أخذ يشرح لتلاميذ الشاعر ويُمْلي في ذلك أماليَ يظهر أن تلاميذه قد احتفَظوا بها؛ لأن صاحب الصُّبح (ص٢٦١) يذكرها ككتاب. ولقد كان في هذه الأمالي التي يُورد بعضَها الواحديُّ في تفسيره نقدٌ لاذع لبعض شُروح ابن جني وتخريجاته.
وكذلك فعَل أحمد بن فُورَّجَهْ (وُلد سنة ٣٣٠ﻫ بالقرب من أصفهان، وأما تاريخ وفاته فغيرُ محقَّق)؛ إذ كتب كتابَين في الرد على ابن جني؛ أحدهما «التجنِّي على ابن جِني»، والآخر «الفتح على أبي الفتح». كما ألَّف الفيلسوف أبو حيَّانَ التوحيديُّ «الرد على ابن جنِّي في شعر المتنبِّي»، وكذلك الشريف المرتضَى فيما بعدُ كتَب «تتبُّع أبيات المعاني للمتنبي التي تكلَّم عليها ابنُ جني»، وفيه يتحاملُ على المتنبي.
والأمر لا يقفُ عند هذا الحد؛ إذ مِن الثابت أن الشروح المتداوَلةَ الآن كالواحديِّ والعُكبَري هي الأخرى قد أُخِذَت على ابن جني، وعمَّن ردَّ على ابن جني، بحيث يُعتبر هذا النَّحْوي مصدرَ فَهمِنا لشعرِ هذا الشاعر الذي لم يكن من السهل فَهمُه بدون شرح.
والذي بقي لنا من كلِّ تلك الكتب هو شرحُ ابن جني «الفَسْر»، الذي لدينا منه نسخةٌ بدار الكتب، ثم «التَّجنِّي على ابن جنِّي» الموجود مخطوطًا بمكتبة الأسكوريال بإسبانيا. وأما «أمالي العَروض» و«الفتح» لابن فُورَّجَه وردَّا التوحيديِّ والمرتضَى؛ فمفقودة، وإن كنا لا نَعدِمُ العثورَ على مُقتبَسات منها في كتب الأدب التي بين أيدينا، وبخاصةٍ في شرح الواحدي.
والذي لاحظه الشرَّاح والناقد على شرح ابن جني؛ هو أنه مُثقَلٌ بالشواهد التي يأخذها من الشعر القديم؛ للتدليل على المسائل اللُّغوية والنَّحْوية التي يُثيرها، حتى إذا وصل إلى فَهم معاني المتنبِّي نفسِه لم يُوفَّق. وفي ذلك يقول الواحدي (ص٤): «وأما ابن جني فإنه مِن الكبار في صَنعة الإعراب والتصريف، والمحسنين في كلِّ واحدٍ منها بالتصنيف، غيرَ أنه إذا تكلم في المعاني تَبلَّد حِمارُه، ولجَّ به عِثارُه. ولقد استهدف في كتاب «الفَسْر» غرضًا للمَطاعن، ونُهزةً للغامز والطاعن؛ إذ حشَاه بالشواهد الكثيرة التي لا حاجةَ له إليها في الكتاب، والمسائلِ الدقيقة المستغنَى عنها في صَنعة الإعراب. ومِن حقِّ المصنِّف أن يكون كلامُه مقصورًا على المقصود بكتابه، وما يتعلَّق به من أسبابه، غيرَ عادلٍ إلى ما لا يُحتاج إليه ولا يُعرَّج عليه، ثم إذا انتهى الكلامُ إلى بيان المعاني، عاد طويلُ كلامه قصيرًا، وأتى بالمحال هُزؤًا وتقصيرًا.»
والنقَّاد من البلاغيين كابن الأثير في «المثَل السائر» لا يقلُّون قسوةً عن الواحديِّ في الحكم على ابن جني؛ فقد أورَد صاحبُ المثل قولَ المتنبي (ص٢٢٩):
ثم قال: «والبيت الثاني من الأبيات الحِسان التي تتواصف، وقد أحسنَ الاستعارةَ التي فيه؛ إذ جاء ذكرُ المطر مع البرق. وبلَغَني عن ابن جني رحمه الله أنه شرَح ذلك في كتابه الموسوم بالفَسْر، الذي ألَّفه في شرح شِعر أبي الطيب، فقال: إنها كانت تُبرق في وجهه، فظن أن أبا الطيِّب أراد أنها كانت تبسم، فيخرج الرِّيق من فمها ويقعُ على وجهه، فشبَّهه بالمطر، وما كنتُ أظن أن أحدًا من الناس يذهب وهمُه وخاطره حيث ذهَب وَهْمُ هذا الرجلِ وخاطِرُه. وإذا كان هذا قولَ إمام من أئمة العربية تُشير إليه الرجال، فما يُقال في غيره؟ لكنَّ فنَّ الفصاحة والبلاغة غيرُ فنِّ النحو والإعراب.»
ذلك ما يقوله الواحديُّ وابنُ الأثير، ولكننا بالرجوع إلى شرح ابنِ جني نفسِه، نجد أنَّ هذين الرجُلَين قد أسرَفا في تَنقُّص ابنِ جني، على عادة المؤلفين العرب، الذين لا يجدون عادةً سبيلًا إلى تبرير تأليفهم في أشياءَ سُبِقوا إليها، غيرَ اتهام السابقين بالخطأ أو التقصير أو العجز، مع أنهم يأخذون عنهم دائمًا، بل ويأخذون دون أن ينصُّوا على أسماءِ مَن أخذوا عنهم في أغلب الأحيان، فإنْ ذكَروهم كان ذلك لردِّ أقوالهم أو تجريحهم. وتلك ظاهرةٌ عامة نُلاحظها في أكثرِ المؤلفات العربية. وأما أن يفطن المؤلفُ الحديث إلى أن السابقين له لم يقولوا كلَّ شيء، وأن ما قالوه يحتاج إلى مراجعةٍ لِيُؤخذ منه الثابت، ويُقوَّم المعوجُّ، ويُكمَل الناقصُ مع النص على كل ذلك؛ فتلك روحٌ عِلمية لا نجدها لسوء الحظ عند مؤلِّفي العرب. خُذ مثلًا البيت:
وارجع إلى شرح ابن جني له ورد ابن فُورَّجه على هذا الشرح، كما أوردَهما المرحوم عبد الرحمن البرقوقيُّ نقلًا عن الواحدي، وذلك في كتابه «شرح المتنبي» (ج٤، ص٥١٤)، تجد: قال ابن جني: دلَّ بهذا البيت على أنها كانت مُكِبَّةً عليه وعلى غايةِ القرب منه. قال ابن فُورَّجه: أيظنُّها وقَعَت عليه تبكي حتى سال دمعُها عليه؟ ومعنى البيت أن دموعي كالمطر تبلُّ خدِّي، أي كلما ابتسمَت بكيتُ، فكأنَّ دمعي برقُه بريقُ ثَناياها؛ إذ كان بكائي في حال ابتسامها كقوله: «ظللتُ أبكي وتبتسم». وإنه إن يكن تفسيرُ ابن فُورَّجَه أصحَّ فيما يبدو وأشكلَ بالمعول، إلا أن تفسير ابن جني هو الآخَر ليس من الحُمق بحيث ظنَّ ابن الأثير المدِلُّ بنفسه، وابن جني لم يقل إنها كانت «تبرق في وجهِ الشاعر، وإنها كانت تبتسم فيخرج الريقُ من فمها، فهذا سخفٌ لا ندري من أين سمعه ابنُ الأثير، ونعجب كيف استطاع أن ينسبَه إلى عالِمٍ ثَبتٍ كابن جنِّي. ونحن بعدُ نرى في فَهْم ابن جني للبيت أصالةً جميلة؛ فالمرأة التي تبكي وهي مُكبة على حبيبها، وتتظاهر رغم ذلك بالابتسام؛ معنًى جميل، بل صورةٌ مؤثرة. وتفسير ابن فورَّجه لا ميزة له إلا قُربه، وإن يكن في شروح ابن جني عيبٌ فهو في الغالب تَلمُّسُه للمعاني البعيدة، بدلًا من المعاني المباشرة. وأما اتهامُه بالخطأ أو السخف، وتبلُّد الحمار، واللَّجاج في العِثار؛ فتَجنٍّ على ابن جنِّي، كما قالوا. وفي البيت السابق بالذات، يُخيَّل إلينا أن ابن جني، اليونانيَّ الأصل، ربما يكون قد استوحاه من كلمةِ هوميروس الشهيرةِ في الإلياذة، عندما قال عن أندروماك: إنها تَلقَّتْ من زوجها ولدَها «بابتسامةٍ تُبللها الدموع.» هذا ممكن، ولكننا لا نجزم بشيء.
(١٣-٣) طريقة فَهم ابنِ جنِّي لمعاني المتنبي
وننظر فيما أُخذ على ابن جنِّي من أخطاء، فنراه في الغالب من هذا النحو؛ أعني التماسَه للمعاني البعيدة دون المعاني القريبة المباشرة. وفي هذا ما يُخرج بعضَ شروحه إلى المبالغة التي تُفسد الشعر، وهو لا يفعل ذلك إلا عندما يكون المعنى القريبُ غامضًا. والكثيرُ من تفاسيره لها وجه، بحيث يبدو أن اتِّهامه بالخطأ إسرافٌ لم يزل فيه.
ففي شرحِ البيت:
قال ابنُ جني: معنى «فذُبْن أمْواهَا» أجْرَين دُموعَهنَّ أسفًا علينا، وبعبارة: بكَيْن لفِراقنا بدمعٍ كثير حتى كأنَّ أبدانَهن قد ذابت وسالت دموعًا. وقال غيرُهما: إن المعنى نزَلْن في الوادي سائراتٍ فاستَحْيَين منَّا فذُبن أمواهًا. (البرقوقي، ج٤، ص٥١٥). ومن الواضح أن كلَّ هذه المعاني مُمكنةٌ بحيث لا يمكن أن يُتَّهَم ابنُ جني بالخطأ في فَهمِه للبيت، وإن كان في ذلك الفَهم عيب؛ فهو إخراجه المعنى إلى المبالغة التي تذهب بجَمال البيت. والذي لم يزل فيه أن تفسير «الذوَبان» «بالاستحياء» فيه أرقُّ فَهمٍ وأجملُه، وكذلك في تفسير البيت:
قال ابنُ جني: أما قوله: «ولا يُنظِرُها الدهرُ بعد قَتْلاها» فالمعنى أنه إذا قتَل الفارسَ عقرت بعده فرَسه، وردَّ فُورَّجه على ابن جني قال: «ليس هذا بشيء؛ لأنه يريد بقتلاها مَن قتَلَته وقتَله أصحابُها، فهو يريد خَيل القاتلين لا خيلَ المقتولين. والمعنى أن أصحابها يُهلِكونها بالتعب، وكثرة الرَّكض بعد الذين قتَلوهم، فلا بقاءَ لها بعدهم» (البرقوقي، ج٤، ص٥١). وهنا يظهر أن تفسير ابنِ فورَّجه أكثرُ تمشِّيًا مع النص؛ فنحن في صدد المديح وليس بمعقولٍ أن يُشير الشاعر إلى قتل الأبطال الذين يُشيدون بهم، كما أن إرجاع الضمير في «قَتْلاها» إلى أصحاب تلك الخيل غيرُ مقبول، وإنما هو تخريجٌ بعيد غريب للنَّحْوي ابنِ جني.
وكذلك الأمرُ في شرحه للأبيات:
وقال ابن جني في شرح البيت الأخير: أي شنَّ الغارةَ على جميع الأرض عند إظهار تلك الهِمَم، فصار الجيشان لاختلاطهما كالجيش الواحد، وتعثر الأحياء منهم بالموتى، قال ابنُ فورجه يردُّ على ابن جني: ليس أبو الطيب مَن ذكَر الغارة وشنَّها في شيء، وإنما هو يقول قبل هذا البيت: في فؤاده هممٌ إحداها أعظمُ من فؤاد الزمان، فهو لا يُبْديها؛ لأنه لا يجد زمانًا يسَعُها، فإن قضى لها وجاء حظُّها وبختها بأزمنةٍ أوسعَ من هذا، فحينئذٍ يُظهِر تلك الهمم، ويجتمع أهلُ الزمان وأهلُ تلك الأزمنة ويَصيران شيئًا واحدًا، وتضيق الأرضُ بهم حتى يعثر حيُّهم بميتهم للزحمةِ وكثرةِ الناس. ومثلُ هذا في الزحمة قولُه أيضًا:
فإنه وإن يكن المعنَيان غامِضَين رغم جهدِ ابن جنِّي وابن فُورَّجه، فإن سياق الحديث يرجح فهم ابن فورَّجه؛ وذلك لأن الشاعر لا يُشير أصلًا في هذا الموضع من قصيدته إلى مَعارك الجند؛ بدليل أن البيت الذي يأتي بعد تلك المقطوعة هو:
ومع ذلك فنحن لا نستطيع أن نجزم بخطأ ابن جني؛ لأن تفسيره رغم كلِّ شيء ممكن.
وفي شرح البيت:
قال ابن جني: المعنى يسرُّ بأضيافه فتَقْوى نفسُه بالسرور، فإذا ارتحَلوا عنه اغتمَّ فضَعُفَت نفسُه. وقال ابن فورَّجه: كأنه — أي ابنُ جني — يظنُّ أنهما قَلْبا عضُد الدولة، ولو أراد المتنبي ما قال لقال: تحل به على قلبٍ مسرور، وترحل عنه عن قلبٍ مغموم، فأما الشجاعة والجُبن فلهما معنًى غيرُ ما ذهب إليه، وإنما يريد إذا حللتَ به كنتَ ضيفًا له وفي ذِمامه، فأنت شجاعُ القلب لا تُبالي بأحد، وتُفارقه ولا ذِمامَ لك، فأنت جبانٌ تخشى مَن لَقِيَك. ومِثلُه له: «وإنَّ نُفوسًا أمَّمتْك مَنيعةٌ»، وهنا أيضًا يلوح أن ابن فورجه هو المصيب، وبخاصةٍ إذا ذكرنا أن المتنبيَ قد امتدح غيرَ مرة عضد الدولة بتحقيقه الأمنَ في منطقة نفوذه، ثم إن التكلُّف في «جعل السرورِ بالأضياف شجاعةً، وانصرافِهم جبنًا»؛ أمرٌ سخيف. ولكن البيت غامضٌ لعدم وضوح التعلُّق فيه.
وننظر في تفسيره للبيت:
رواه ابنُ جني بموضِع الأعضاء، وقال: أي دعَتْه السيوفُ بمَقابضِها والرِّماحُ بأعقابها؛ لأنها مواضعُ الأعضاء منها، وحيث يُمسك الطاعنُ والضارب، قال: ويحتمل أنه يريد دعَتْه الدولة، بمواضع الأعضاء من السيوف والرماح، أي اجتذبَته واستمالته. قال ابنُ فورجه: «هذا ما ذهب إليه ابنُ جني، مسحٌ للشعر لا شرح له. وما قال الشاعر إلا بمفزع الأعضاء، يعني دعَتْه الدولة عضدًا، والعَضُد مفزع — ملجأ — الأعضاء، وكأنه شرَح قوله: بعَضُد الدولة امتنعَت وعزَّت. قال الواحدي: وهو على ما قال ابنُ فورجه يريد أن الدولة سمَّته بعضدِها، وهي — العضد — مفزعُ الأعضاء؛ لأن الأعضاء عند الحرب تَفزع إلى العضد، والعضدُ هي الدافعة عنها الحامية لسائر الأعضاء، وحاصلُ المعنى: أن الدولة دعَتْه بعضدها، وهو ملجؤها الذي تدَّخره لأيام الحروب» (البرقوقي، ج٤، ص٤٩٤). ورأيُ ابنِ فورجه واضحُ الوَجاهة.
وأخيرًا عند البيت:
«قال ابن جني: يقول: القوم تُرْك، وخيلهم عزيزةُ الأنفس، أي أتَوْك عليها. قال ابن فورَّجه: كيف خصَّ ابن جني التُّرك بالذكر دون سائر أجناس العسكَر، سيَّما وأكثرهم دَيْلمٌ والممدوحُ دَيْلميٌّ، وذهب عليه أن الغَضْبان يتَخازر، وقد سمع مِن ذِكر خزَرِ الغَضْبان ما لا يُحصى، فكقوله: خزَرٌ عيونُهمُ إلى أعدائِهم.»
هذه أمثلةٌ لِما أخطأ فيه ابنُ جني أو اتُّهِم فيه بالخطأ، ولها نظائرُها في شرحه، يُورِدُها الواحديُّ مع ردودِ ابن فُورَّجه، ولكن ذلك لا يمنع من أن يظلَّ هذا النحْويُّ أهمَّ مصدرٍ لفهم شعر المتنبي.
(١٣-٤) دفاع ابن جني عن المتنبي
وموقفُ ابن جني من شِعر المتنبي لا يقف — كما قلنا — عند مجردِ الشرح، بل يَعْدوه إلى النقد والدفاع عن الشاعر. وأوضحُ ما يكون هذا الدفاع في أمرَين: أولهما ردُّ تهمة السرقة عن المتنبي كلَّما استطاع سبيلًا، وثانيهما محاولتُه تصحيحَ موقفِ الشاعر عن مبادئ الأخلاق. ولننظر في هذين الأمرين.
فأما عن السرقات فمن المعلوم أن ابن جني قد كتَب كتابًا يردُّ فيه على الشاعر المصري ابن وكيع صاحب «المصنَّف في السارق والمسروق من شعر المتنبي». وهذا الردُّ وإن يكن لسوء الحظِّ مفقودًا، إلا أننا نستطيع أن نستنتجَ منهجه وروحه من بعض الإشارات التي وصلَت إلينا. ومن ذلك ما أورده صاحبُ الصبح نقلًا عن اليتيمة قال: «وأخَذ قوله، وهو مِن قلائده، قيل: ولعلَّه أمير شعره:
من مِصْراع لابن المعتز. ذكَر ابن جني قال: حدثني المتنبي وقتَ القراءة عليه قال: قال لي ابنُ حنزابة وزيرُ كافور: أعَلمتَ أني أحضرتُ كتبي كلَّها وجماعةٌ من أهل الأدب يطلبون لي من أين أخذتُ هذا المعنى، فلم يظفروا بذلك. وكان أكثر ما رأيتُ كتبًا. قال ابن جني: ثم إني عثرت بالموضوع الذي أخَذه منه؛ إذ وجدتُ لابن المعتزِّ مِصراعًا بلفظٍ ليِّن صغير جدًّا فيه معنى بيتِ المتنبي كلُّه، على جلالةِ لفظه وحُسن تقسيمه، وهو قوله: «فالشمس نمَّامةٌ والليل قوَّادُ»، ولن يَخلُوَ المتنبي من إحدى ثلاث: إما أن يكون قد ألمَّ بهذا المِصراع فحسَّنَه وزيَّنَه وصار أوْلى به، وإما أن يكون قد عثَر بالموضوع الذي عثر به ابنُ المعتز فأربى عليه في جودة الأخذ، وإما أنه قد اخترَع المعنى وابتدَعه وتفرَّد به، ولله دَرُّه! وناهيك بشَرفِ لفظِه، وبراعةِ نَسجِه. وما أحسنَ ما جمع أربع مُطابقات في بيتٍ واحد، وما أراه سُبِق إلى مِثلها» (الصبح، ص١٧٣).
وواضحٌ من كلام ابنِ جني أنه يحرص كلَّ الحرص على أن يُظهر أصالةَ المتنبي، ويستعرضَ كلَّ الممكِنات، مُخرِجًا منها السرقةَ التي بالغ النقادُ في استخدامها لتجريح الشعراء؛ فهو يرى الأمرَ إن كان مجرَّدَ توافُق فبيتُ المتنبِّي أجود، وإن كان «إلمامًا» فالمتنبي قد حسَّن المِصراع حتى صار به أولى، وإن كان اختراعًا فقد تفرَّد به شاعرُه. وهذه روحٌ إن لم تكن روح المحاباة، فهي على الأقل روحُ الإنصاف التي لم تتوفَّر لكثيرين من نقاد المتنبي.
ومَيلُ ابن جني إلى أبي الطيِّب واضحٌ في دفاعه عنه من الناحية الأخلاقية. خذ لذلك مثلًا قولَه تعليقًا على بيت المتنبي:
«أرجو أن لا يكون أراد بذلك أنَّ نومة القبر لا انتباهَ لها» (الصبح، ص٢٣٤). فهذا يدلُّ على أن الشارح حريصٌ على سُمعة الشاعر الدينية، بل وعلى سلامة عقيدته.
(١٣-٥) موقف ابن جنِّي من كافوريات المتنبِّي
وأهمُّ من ذلك كلِّه موقفُ ابن جني من «كافوريَّات أبي الطيِّب»، وهذه مسألةٌ تدخل في صميم النقد؛ لأنها تَعْدو الفَهم الظاهر للأبيات إلى مَراميها الخفيَّة، والحُكم على مقدرة الشاعر في الهجاء بظاهر المدح.
هذه مسألةٌ يميل النقادُ المحْدَثون إلى رفض محاولات ابن جنِّي فيها، وهم يُفسرونها بإيعاز المتنبِّي لشارحه بأن يُخرج كلَّ ما يستطيع إخراجَه من مدحه لكافور مخرجَ الهجاء؛ وذلك لِما أحسَّه الشاعرُ من الخزي عندما رأى أنه قد أسَفَّ بمدح عبدٍ خصيٍّ بسبب الطمع في ولايةٍ لم يستطع أن ينالها.
ونحن قد سبق لنا أن ناقَشْنا تلك المسألة. ومِن أبيات الشعر العربي ما يحتمل معنيَين؛ كقول الشاعر:
إذ من الواضح أن هذا البيتَ قد يكون ذمًّا للأموات كما قد يكون مدحًا. وهذا طبعًا إذا جُرِّد البيتُ من سياقه ومُلابَساته، وكذلك الأمرُ في قول المتنبِّي نفسِه:
فإن الحاسدَ الظالم هنا قد يكون المادحَ وقد يكون الممدوح.
ولكننا نُبادر فنُقرِّر أن هذا المنهجَ في فَهم الأبيات منهجٌ فاسد؛ لأن البيت مهما قيل عن استقلالِه في القصيدة العربية، لا يُمكن ولا يجب أن يُفهَم إلا في سياقه، على ضوءِ ملابساته.
ولكن موقف المتنبي من كافور كله يدعو إلى النظر؛ وذلك لأنَّ التدقيق في فهم كافوريَّاته يدعونا إلى الإحساس بشيءٍ من احتقارِ الشاعر لممدوحه، أو على الأقل من السخرية منه والعجَب من وصوله إلى الملك، بل وسَلْبه فضلَ الوصول إليه بعمله وشجاعته واستحقاقه.
انظر مثلًا إلى قوله:
هل مِن التعسُّف أن نرى في هذا المدح — مدحِ المتنبي الذي يفخر دائمًا بالطَّعنة البكر وتضريبِ أعناق الأبطال — هجاءً مستترًا، أو على الأقل سلْبَ الممدوح كلَّ فضل في الوصول إلى المُلك، وهو لم يُجرِّد من أجله سيفًا ولا أشرَع رُمحًا، وإنما هو القضاء الذي مكَّنه مما لم يُجاهد في سبيله؟
وابن جني لم يكن الوحيدَ من بين الشُّراح في إحساسه بما خلف ألفاظِ المتنبي من مَرامٍ بعيدة، فها هو الواحدي يقول تعليقًا على أحدِ أبيات هذه القصيدة ذاتِها:
«وهذا إلى الهجاء أقرب؛ لأنه نسَب علوَّه على الناس إلى قدَرٍ جرى به من غيرِ استحقاق. والقدَرُ قد يوافق بعضَ الناس فيعلو ويرتفع على الأقران، وإن كان ساقطًا باتفاقٍ من القضاء» (البرقوقي، ج٣، ص٤٧٢).
وإذن فابن جني في تخريجاته في بعض أبيات المتنبي في كافور لم يَهْرف دائمًا ولا تَمحَّل دائمًا. إنه وإن تكن بعضُ تخريجاته متعسَّفةً غيرَ معقولة، وإن يكن من التجنِّي أن نظنَّ بكافور الغفلةَ إلى الدرجة التي يفترضُها المتنبي وشارحُه، إلا أننا رغم ذلك لا نرى أننا نَعْدو الحقَّ عندما نُقرر أنه من بين أبيات أبي الطيب ما ينمُّ عن آراء وإحساسات عميقة للشاعر، تُخالف ما يدلُّ عليه ظاهرُ ألفاظه. ونحن بعدُ لا نريد أن نرى في ذلك مجردَ غفلةٍ من الشاعر، أو تَهافُتًا في الذَّوق وعدمَ فطنةٍ للِّياقة في المدح بما يُناسب المقام؛ فهذا الفهمُ وإن يكن له ما يُعززه في مدائح المتنبي الأخرى، وإن يكن نقادُ الشاعر كالصاحب مثلًا قد أظهَروا ما في شِعره من هذا القبيل، أقول: إننا رغم ذلك لا نكادُ نتصوَّر أن المتنبيَ لم يكن في قرارة نفسه محتقرًا لكافور، ساخرًا منه، بل ساخطًا على القضاء لِما حَباه من مُلك لا يراه الشاعرُ أهلًا له. ولقد ظهرَت هذه المشاعر في شِعر الشاعر، سواءٌ أكان قد أراد ذلك أم لم يُرِدْه.
ولننظر في تلك التخريجات لنرى تفصيلَ ما أجمَلْنا؛ فمن ذلك قولُ الشاعر:
قال ابن جني: «لما قرأتُ هذا البيتَ على أبي الطيب قلتُ له: ما زدتَ على أن جعلتَ الرجلَ أبا زنة (كُنية القرد)، فضحك.» وقال الواحدي: «هذا البيت يُشبه الاستهزاء؛ لأنه يقول: طربتُ على رؤيتك كما يطربُ الإنسان على رؤية القُرود، وكلِّ ما يُستملَح ويُضحَك منه.»
وفي الحقِّ، ما هذا الطربُ الذي استشعره المتنبي برؤية كافور؟ وما مصدرُ الدهشة الكامنة في رؤيته له؟ ألسنا نجد تفسيرَ ذلك في هجائه له فيما بعدُ بقوله:
وإذَن فهذا البيتُ يحمل بلا ريبٍ سخريةً خفيفة، وابنُ جني والواحدي قد صدَق حسُّهما عندما أشارا إلى تلك السخرية.
وإنما يَعيب تخريجاتِ ابن جني وغيرِه تخطِّي هذه الحالة النفسية إلى الكثير من الأبيات الأخرى يتعسَّفون في إخراجها إلى الهجاء، كما فعَل الواحديُّ مثلًا عند شرحِه البيت:
إذ قال: «المِصراعُ الأول هجاءٌ صريح لولا التالي.»
ولقد كفانا الخطيبُ التبريزيُّ مئونةَ الردِّ على الواحدي؛ إذ قال: «ليس في البيت هجاء، ومعناه أن همَّته عذَلتْه كيف قَنع بغيره، والقوافي لِمَ صرَفها في مدح غيره، وشهد بذلك بقيةُ البيت» (البرقوقي، ج٤، ص٢١٤).
وكذلك قول ابن جني عن البيت:
فالبيتُ مدحٌ على النحو الذي ألِفَه العرب، بل لقد قال البحتريُّ نفسَ المعنى في بيته:
ومن التعسُّف البيِّن تفسيرُ ابن جني للبيت الآتي تفسيرًا يذهب بما فيه من مدح:
إذ قال: «المعنى أنه أوسعُ ما يكون صدرًا إذا تقدَّمَ في أول الكتيبة يضربُ بالسيف وأصحابُه من ورائه بين طاعن ورامٍ، فجعل الرُّماةَ من أصحاب الممدوح، وليس في هذا مدح؛ لأن كلَّ أحد إذا كان خلفه مَن يرمي ويطعن مِن أصحابه فصدرُه واسع وقلبُه مطمئن، وإنما أراد: خلفه رماةٌ وأمامَه طعنٌ من أعدائه. يعني إذا كان في مأزقٍ مُتضايق في الحرب، وقد أحاط به العدوُّ من كل جانب لم يَضِق صدرُه، وإنما تراه أوسعَ ما يكون صدرًا» (البرقوقي، ج١، ص٢٢٥).
وهو كذلك متعسفٌ في قوله عن البيت:
«هذا ظاهرُه أنَّ من رآك استفاد منك كسْبَه المعاليَ، وباطنُه أنَّ من رآك على ما بك من النقص وقد صِرتَ إلى هذا العلوِّ ضاق ذَرعُه أن يَقصُر عمَّا بلَغتَه، ولا يتجاوز ذلك إلى كَسْب المكارم، وكذلك إذا رآك راجلٌ لا يستكثر لنفسه أن يرجع واليًا على العراق؛ لأنه لا يوجد أحدٌ دونك وقد بلغتَ هذا» (البرقوقي، ج٤، ص٥١). ومن البيِّن أن هذا تَمحُّل سخيفٌ تورَّط فيه الشارح.
ومن أمثلة تعسُّفِه أيضًا شرحُه للبيت:
«هذا تعريضٌ بسيف الدولة؛ أي صاروا عند غيرك بظُلمه وسوءِ سيرته شِيبًا. يجوز أن يكون هذا من المقلوب هَجْوًا؛ يريد أن الكُهول عندك لِما ينالهم من الذلِّ والظلم والاحتقار كحال الصِّبيان، وأن المُرْد — وهم الشُّبَّان — عند غيرك بالاحترامِ لهم ورَفْعِ أقدارهم صاروا شِيبًا، أي موقَّرين توقيرَ الشيوخ. فالمعنى المقبول الواضح هنا هو أنه يُعرِّض بسيف الدولة الذي شابَ الشاعرُ ببلاطه لكثرةِ ما قاسى من عدوان.»
أخيرًا يظهر سُخْف ابن جني في قوله عن البيت:
«هذا المدحُ ينعكس هجاءً؛ يقول: أنت رَذْلٌ ساقط، والساقط لا يُضاهيه إلا مِثلُه، وإذا كان مُعاديك مِثلَك؛ فهو مذمومٌ بكل لسان كما أنك كذلك ولو عاداكَ القمَران.» فهذا تمحُّلٌ سخيف، والمتنبي لم يخطر بباله أن يقولَ لكافور «إنه رَذْل ساقط»، وإن كان هناك ما يُلاحَظ على هذا البيت فهو السخرية الخفيَّة في جعلِ «القمران» من أعداء كافور «الأسودِ الوجه».
ونَخلُص من تخريجات ابن جني بأنَّ منها المتعسَّفَ ومنها السخيف، ولكن يبقى من محاولاته ما ينمُّ عن نفسيةِ المتنبي وشعوره الحقيقيِّ نحو كافور، واستخراجُ ذلك من عمل النقد، وهو ما وُفِّق إليه ابنُ جنِّي أحيانًا، ومن الواجب أن نُقِرَّه عليه مع الاحتياط اللازم عن استغراق المتنبي نفسِه وعدم فِطنته دائمًا للِّياقة، ككثرة ذِكره لِلَون كافورٍ وما شابهَ ذلك مما فصَّلنا فيه القولَ عند حديثنا عن اختصام ابن حنزابة للشاعر.
هذا هو الدور الهام الذي لعبه ابن جني في الخصومة حول المتنبي؛ شرَح ديوانَه فقرَّبَه من الناس وإن لم يُوفَّق دائمًا إلى أصوبِ المعاني، وردَّ على ابن وكيع في اتهامِه للشاعر بالسَّرقة، ودافع عن المتنبي ضدَّ تُهمة الكفر، وحاوَل أن يُخرِج الكثير من مدحه لكافور مخرجَ الهجاء حتى ينجوَ بالشاعر مما هوجم من أجله، وكان لأقوال ابن جني أكبرُ الأثرِ على اللاحقين إلى يومنا هذا.
(١٤) الخصومة حول المتنبي في فارس
والآن لم يبقَ علينا في استعراض أنباء تلك الخُصومة وما أثارَت من نقدٍ إلا النظرُ في آخِر مراحل حياة الشاعر عند ابن العميد وعَضُد الدولة.
(١٤-١) المتنبي وابنُ العميد
ونحن نعلم أنَّ ابن العميد «وإن لم يكن قائدًا ممتازًا، فقد كان ذا ذكاءٍ فَذٍّ، وكانت ثقافته — التي تفوق ثقافةَ سيف الدولة بكثير — تتناولُ العلومَ والفلسفة والأدب، وكان مُعاصروه يعتبرونه خيرَ كُتَّاب الرسائل في عصره، كما كانوا يُشيدون في فارس بسهولته في قَرْض الشعر، ويرَون في تلك السهولة أمارةَ الشاعر الموهوب» (بلاشير، المتنبي، ص٢٢٣).
وقد حدَّثنا الصاحبُ بن عباد في أول رسالة «الكشف عن مساوئ المتنبي» عن مَلَكة ابن العميد في نقد الشعر، وأورد لذلك عدةَ أمثلة ثم قال: «ولو تتبَّعت ما علقتُ وحفظتُ عن الأستاذ الرئيس في هذا الباب؛ لاحتَجْتُ إلى عَقْدِ كتابٍ مفرَد.» وبالنظر في الخطَرات التي أورَدَها الصاحب، نجد أن ابن العميد كان نافذَ الحِسِّ في نقد الشعر، وأنه قد فَطِن إلى أمورٍ نعتبرها اليوم أساسيةً في كلِّ شعر جيد؛ كجَرْس الحروف ووقْعِها، وانسجامِ نَغْماتها، ومُلاءمة الأوزان والقوافي لمعاني الشاعر، وحُسن المطالع والمقاطع.
وأما البيئة الأدبية التي كانت تُحيط بابن العميد، فلم تكن في ازدهارِ تلك التي أحاطت بسيف الدولة أو بكافور، بل ولا في ازدهارِ تلك التي سيَجِدُها الشاعرُ عند عضد الدولة. والذي لم يزلَّ فيه أن المتنبيَ لم يجد مَشقةً في أن يَظهر بمواهبه وعلمه في تلك الحلقة الضيِّقة، وسرعان ما أخجَل شعراءَ صِغارًا؛ كأبي الحسَن البديهي وأبي محمدٍ هندو، بل والقاضي ابن خلَّاد نفسه. ومع ذلك فإن حركة النقد لم تكن معدومةً في تلك البيئة، وهم يُحدثوننا أن المتنبيَ لم يكد يصلُ إلى أرَّجان ويُلقي قصيدتَه الأولى بين يدَي ابنِ العميد حتى انهالَ عليها النقد. والقصيدة في الحقِّ واضحةُ الضعف، حتى لَيزعمون — كما أشَرْنا سابقًا — أن الشاعر لم يضَعْها لابن العميد خاصة، وإنما كانت قصيدةً قديمة ترجع إلى زمنِ إقامته بمِصر، قالها الشاعرُ إذ ذاك في ابن حنزابة، ولكنه لم يُنشِدها وظلَّ محتفظًا بها إلى أن كان قدومُه على ابن العميد، فحَوَّر فيها قليلًا وخصَّ بها الأستاذ الرئيس.
يبتدئُ الشاعر قصيدتَه بقوله:
وإلى هذا المطلع وُجِّهَت عدةُ انتقادات وصلَتْنا أصداؤها؛ فلقد انتقدوا قولَه: «تَصْبرا»، قيل: سُئل أبو الطيب عن نَصْب تَصبرا، فقال: سَلوا الشارح. يعني ابنَ جني (الصبح، ص٨٣). ويُفسر العكبريُّ هذا النصب بأنه تخفيفٌ عن نون التوكيد، ويورِدُ لذلك أمثلةً من القرآن ومن النثر ومن الشعر (البرقوقي، ج٢، ص٣١٧).
وكذلك يَرْوون أنه قد قيل للمتنبي: خالفتَ في هذا البيت بين سَبْك المِصراعَين، فوضعتَ في المصراع الأول إيجابًا بعده نفي، وفي الثاني نفيًا بعده إيجاب؟ فقال: لئنْ كنتُ خالفتُ بينهما من حيث اللفظ، فقد وفَّقتُ بينهما من حيث المعنى؛ وذلك أنَّ مَن صبَر لم يجْرِ دمعُه، ومن لم يصبر جرى دمعه. يعني أنه أراد صبرتَ فلم يَجرِ دمعُك أو لم تصبر فيَجْري (البرقوقي، ج٢، ص٣١٧).
وعندما قال بيته الثاني:
قالوا: إن ابن العميد الذي كان — فيما يُحدِّثوننا — كثيرَ الانتقاد على أبي الطيِّب قال: «يا أبا الطيب، تقول بادٍ هواك، ثم تقول بعده: غرَّ صبرُك! ما أسرعَ ما نقَضتَ ما ابتدأتَ به، قال: تلك حالٌ وهذه حال.»
هذه أمثلة تدلُّ على الدقة في الفَهم، ومُناقشة المعاني، والإمعانِ في الصياغة. وليس ذلك بغريبٍ على رجل كابن العميد ومَن حوله. وقد سبق أن أورَدْنا خبرًا يشهدُ بمَبلَغ اهتمامِ الأستاذ الرئيس بما أصاب المتنبيَ من مَجْد، وحُزنه لعدم مقدرتِه على إخماد ذكره، وثمة إشاراتٌ أخرى في الكتب التي بين أيدينا تُحدثنا عن مناقشة ابن العميد ونُدمائه لمعاني الشاعر، ومحاولتهم إظهارَ غامضِها؛ فهُم يقولون: إنَّ نُدماءه تنازَعوا في البيت:
فقال ابن العميد: أثبِتوه حتى أتأمَّلَه، فأُثْبِت البيت ووُضِع بين يدَيه، فأطْرَق مَليًّا ثم قال: هذا يُعطلنا عن المهم، وما كان الرجلُ يدري ما يقول (الصبح).
وقد أشار المتنبي نفسُه إلى أن ابن العميد قد انتقَد شِعرَه، وذلك في قصيدته في عيد النيروز حيث يقول:
وهذا — فيما يبدو — اعتذارٌ من الشاعر عمَّا أخَذ ابنُ العميد على قصيدته الأولى من ضعفٍ يقعدُ بها عن أن تصلَ إلى مستوى السيفيَّات، التي كان يطمع في مثلها كلُّ مَمدوحي الشاعر.
(١٤-٢) المتنبي وعضد الدولة
«وأما عضدُ الدولة فإنه لم يتميَّز كرجلٍ من كبار رجالِ الدولة فحسب، بل كأميرٍ عالي الثقافة. ولقد تناوَلَت ثقافتُه فِقهَ اللغة ونحْوَها وأدبَها، كما امتدَّت إلى الفقهِ والطبِّ والعلوم المختلفة، ثم إنه كان يقول الشعرَ إذا هجَسَت بذلك نفسُه، والأشعار التي بقيَت لنا من شعره لا تقلُّ جودةً عن شِعر الكثيرين من المحترفين. وهو في سخائه على الشعراء إن لم يكن قد بذَّ سيفَ الدولة فإنه على الأقل قد ساواه، حتى لقد كان بلاطه أشبهَ ما يكون ببلاط حلَب والفسطاط، وبذلك أصبحَت شيراز في عهده بيئةً عِلمية أدبية، إن لم تصل في الأهمية إلى مرتبة حلب، فإنها بلا ريبٍ قد سبقَت الفسطاط.
ففي شيراز اجتمع عددٌ كبير من الشخصيات الممتازة، من بينهم العلماءُ مثل الصوفي المنجِّم، الذي كان لمؤلفاته في علم الفلك تأثيرٌ كبير خلال القرون الوسطى، وابنِ المجوسيِّ الطبيب، الذي ظلَّ كتابُه في الطبِّ المرجِعَ الأساسيَّ إلى أنْ كتب ابنُ رشد «قانونه»، ثم النَّحْوي أبو عليٍّ الفارسي، الذي سبق للمتنبي أنْ لاقاه في حلب، ثم تلميذاه ابن جني والرباعي. ومن بينهم كِبار موظَّفي ديوان البويهيِّين، رجالٌ واسعو الثقافة الأدبية، وكتَّابُ رسائل ممتازون وفقًا للذَّوق السائد في ذلك الوقت، وأحيانًا نُظَّام ماهرون. ولعله من الخير أن نخصَّ بالذكر عبدَ العزيز بن يوسف؛ حاميَ الأدباء، وكاتبَ الرسائل المبجَّل من أقرانه، والمادحَ الموفَّق لسلطان البويهيين.
وكذلك كنتَ ترى في شيراز مثلما ترى في حلب رجلًا كابنِ العلَّاف يجمع كافةَ أنواع المعرفة، بحيث يصعب أن نخصَّه بأيٍّ منها؛ فهو عالمُ القوانين، وهو نَحْوي، وهو شاعرٌ مُسرِفُ السهولة. وأخيرًا كنتَ تلقى في ظل عضد الدولة أولئك الضيوفَ المعتادين الذين يَغْشَون قصورَ الأمراء، وأعني بهم الشعراءَ الفقراء الذين يجذبهم بذَخُ الأمير فيأتونه مادحين. ومن بين هؤلاء نذكر ابنَ بابَك مثال الشاعر المتجوِّل في الشرق، ثم السلمي بنوعٍ خاص، وهو شاعرٌ نضج في سنٍّ مبكر نضوجًا رائعًا، وتمتع بحظوة كبيرة في شيراز حتى اعتبر شاعر تلك المدينة» (بلاشير، المتنبي، ص٢٤٠ وما بعدها).
وصل المتنبي إلى شيراز فاعتُبر قدومُه إليها كحدثٍ خطير، وقد أحسَنوا وِفادته، وتقبَّلوه راضينَ كأستاذٍ لا يُنازَع في مملكة الشعر، وحتى خصومه القدماء كأبي عليٍّ الفارسيِّ لم يلبثوا أن غيَّروا رأيهم فيه، وأصبحوا من المعجَبين به. يقول صاحبُ الصبح (ص٩١): وكان أبو عليٍّ الفارسيُّ إذ ذاك بشيراز، وكان ممرُّ المتنبي إلى دار عضد الدولة على دار أبي عليٍّ الفارسي، وكان إذا مرَّ به أبو الطيب يستثقلُه على قُبح زيِّه وما يأخذ به نفسَه من الكبرياء. وكان لابن جنِّي هوًى في أبي الطيب، كثيرَ الإعجاب بشعره، لا يُبالي بأحدٍ يذمُّه أو يحطُّ منه، وكان يسوءُه إطنابُ أبي علي في ذمِّه. واتفق أنْ قال أبو عليٍّ يومًا: اذكُروا لنا بيتًا من الشعر نبحث فيه، فبدأ ابنُ جني وأنشد:
فاستحسنه أبو عليٍّ واستعاده، وقال: لِمَن هذا البيت فإنه غريبُ المعنى؟ فقال ابنُ جني: للذي يقول:
فقال: والله هذا حسنٌ بديع جدًّا، فلِمَن هما؟! قال: للذي يقول:
فكثر إعجابُ أبي عليٍّ واستغرب معناه، وقال: لِمَن هذا؟ قال ابنُ جني: للذي يقول:
فقال: وهذا أحسن، والله لقد أطلتَ يا أبا الفتح، فأخبِرْنا مَن القائل؟ فقال: هو الذي لا يزالُ الشيخ يستثقلُه ويستقبحُ زيَّه وفِعلَه، وما علينا من القشور إذا استقام اللُّب! قال أبو علي: أظنُّك تقصد المتنبي، قلتُ: نعم، قال: واللهِ لقد حبَّبتَه إليَّ. ونهض ودخَل على عضد الدولة فأطال في الثناء على أبي الطيِّب. ولما جاز به استنزله واستنشدَه وكتب عنه أبياتًا من الشعر.
وغادر المتنبي شيراز عائدًا إلى العراق فقُتل في الطريق.
هذا مُلخصٌ للخصومة التي أثارها المتنبي حيثما سار، ولِمَا حرَّكَت تلك الخصومةُ من نقد، رأينا أن الأهواء قد لعبَت فيها دورًا كبيرًا، سواءٌ في حلب أو في بغداد، ومع ذلك فإن هذه الحركة القوية التي لا أظنُّ أنه قد قام مِثلَها حول شاعرٍ آخر من شعراءِ العرب، قد مدَّت من آفاق النقد، وبسَطَت من مواضعه، وأوضحَت الكثيرَ من مناهجه ومقاييسه، بحيث مهَّدَت السبيلَ إلى النقد المنهجي، الذي لا يقلُّ إنصافًا ودقَّةً عن نقدنا نحن اليوم. وهذا ما قد حان الحينُ لننظرَ فيه عند الجُرجاني (تُوفي سنة ٣٩٢ﻫ) صاحب الوساطة، ثم عند الثعالبي مؤلف يتيمة الدهر (توفي سنة ٤٢٩ﻫ).