منهج البحث في تاريخ الآداب
الأستاذ في السربون
وإذا كانت ملاحظاتي تنصبُّ بنوعٍ خاص على الأدب الفرنسي منذ عهد النهضة؛ فذلك لأن معرفتي به أتم، وتفكيري فيه مستمر، ثم لأنه بينما لا يُنكر أحدٌ فائدة المناهج الدقيقة في كل المجالات الأخرى؛ نرى الأدب الفرنسي الحديث مسرحًا لكل الأهواء، وميدانًا لمعارك الشهوات، بل نستطيع أن نهمس بأنه ملجأٌ للكُسالى؛ فكل إنسان يعتقد في نفسه الكفاية للحديث عنه، ما توهم أنه من ذوي الذكاء، وما أحسَّ بقدرته على الإعجاب والكراهية. ولكَم من أديب يرى في «المنهج» شبحًا مخيفًا، وعنده أن لا بدَّ من الدفاع عن لذته الخاصة وميله الشخصي ضد سطوته المميتة. وفي الحق، إن تلك المخاوف وهمٌ وباطل.
نحن لا ننال من لذة القارئ الذي لا يطلب من الأدب غير تسلية رفيعة تتغذى بها نفسُه وترهف؛ إذ من الواجب أن نكون نحن في بادئ الأمر ذلك القارئَ، وأن نعود فنكونَه في كل حين؛ لأن البحث المنظم يُكمل هذا النشاط، ولكنه لا يحلُّ محله.
هذا ونحن لا نريد أن نمحوَ أيَّ نوع من أنواع النقد الأدبي.
وكما يندر أن يجيء النقد التأثريُّ خالصًا، كذلك يندر أن يُمحى كُلية؛ فهو يتنكَّر في ثياب التاريخ والقضايا المنطقية، وهو يوحي بمذاهبَ عامةٍ تتخطى المعرفة الدقيقة، بل وتُتلفها.
ولذا كان من أهم وظائف المنهج أن يُطارد هذا النقدَ التأثري الذي يظل جاهلًا بما يفعل، وأن نُطهر منه أبحاثنا. وأما النقد التأثري الصريح كمقياسٍ للأثر الذي يخلفه كتابٌ ما في نفسٍ ما، فنحن نقبله ونستفيد منه.
(١) التاريخ العام وتاريخ الأدب
تاريخ الأدب جزءٌ من تاريخ الحضارة؛ فالأدب الفرنسي مظهرٌ لحياتنا القومية، نجد في سجلِّه الطويل الفني كلَّ تيارات الأفكار والمشاعر التي امتدت إلى الأحداث السياسية والاجتماعية، أو تركَّزت في النَّظم، بل ونجد كلَّ هذه الحياة النفسية الدفينة التي لم تستطع — بما فيها من آلامٍ وأحلام — أن تتحقَّق عملًا.
والتاريخ الأدبي يُحاول أن يصل إلى الوقائع العامة، وأن يُميز الوقائع الدالَّة، ثم يوضح العلاقةَ بين الوقائع العامة والوقائع الدالة.
ومع هذا، فثَمة فروقٌ هامة بين المادة العادية للتاريخ بمعناه الدقيق ومادتنا، وعن تلك الفروق تنشأ فروقٌ في المنهج.
نحن في موقفِ مؤرِّخي الفن، مادتنا هي المؤلفاتُ التي أمامنا، والتي تؤثر فينا كما كانت تؤثر في أولِ جمهورٍ عرَفها. وفي هذه ميزةٌ لنا وخطر علينا، وهي بعدُ حالة خاصة يجب أن تُلاقيَها وسائلُ خاصة في منهجنا.
نحن بلا ريب نتناول كالمؤرخين كميةً كبيرة من الوثائق محفوظة ومطبوعة ليست لها قيمةٌ إلا كوثائق، ولكنها — كوثائق — نستخدمها للإحاطة بالمؤلفات الأدبية موضوعِ دراستنا المباشر، ولإلقاء الضوء عليها.
إنه لَأمرٌ دقيق أن نعرف «العمل الأدبي»، ومع ذلك فمن الواجب أن نُحاول ذلك التعريف، ومن الممكن أن نقف عند تعريفين لا يكفي أيُّهما منفردًا، ولكن كل واحد منهما يُكمل الآخَر بحيث ينشأ عن اجتماعهما تعريفٌ يشمل كل مادة دراستنا.
يمكن تعريف الأدب بالنسبة إلى الجمهور؛ فالكتاب الأدبي هو ذلك الذي لا يُقصَد منه إلى قارئٍ متخصص، ولا إلى تعليمٍ أو منفعة خاصة، أو هو ذلك الذي يَعْدو ما قصد منه أولًا إن كان قد قُصد منه شيءٌ مما ذكرت، ويخلد بعده فيقرؤه جماهيرُ من الناس لا تلتمس فيه غيرَ التسلية أو الثقافة العقلية.
ثم إن الكتاب الأدبي يُعرَف على الخصوص بطبيعته الذاتية. هناك قصائدُ مقصورة بحكم فنها على جمهورٍ محدود جدًّا، ولن يتذوقها قط عددٌ كبير من الناس، فهل نُخرجها من الأدب؟ وأمارةُ العمل الأدبي هي القصد منه أو التأثير الفني، هو جمال الصياغة وسحرها، والمؤلفات الخاصة تُصبح أدبيةً بفضل صياغتها التي توسع من قوة فعلها، وتمدُّ منها. والأدب يتكون من كل المؤلفات التي لا يُدرَك معناها وتأثيرُها كاملَين إلا بالتحليل الفني لصياغتها.
ومن ثَم ينتج أننا نذهب من بين الكميات الكبيرة من النصوص المطبوعة بكل ما يثير لدى القارئ، بفضلِ خصائص صياغتها، صورًا خيالية أو انفعالاتٍ شعوريةً أو إحساساتٍ فنية. وبهذا تتميز دراستنا عن الدراسات التاريخية الأخرى، ويتضح أن التاريخ الأدبي ليس علمًا صغيرًا من العلوم المساعدة للتاريخ.
نحن ندرس تاريخ النفس الإنسانية والحضارة القومية في مظاهرها الأدبية، وفي تلك المظاهر قبل كل شيء، ونحن إنما نحاول دائمًا أن نصل إلى حركة الأفكار والحياة خلالَ الأسلوب.
وإذن، فعيونُ المؤلفات (روائعُها) هي محورُ دراستنا، أو بعبارةٍ أخرى: إن كلًّا منها مركزٌ من مراكز دراستنا، ولكن لا ينبغي أن نُعطي كلمة «عيون المؤلفات» معناها الحاضرَ أو الشخصي؛ إذ لا يجوز أن نَقصُرَ دراستنا على ما نعتبره اليوم نحن ومعاصرونا «عيونًا»، بل كل ما كان يعتبر كذلك في يومٍ ما؛ أي كل تلك المؤلَّفات التي رأى فيها جمهورٌ فرنسي مثلَه الأعلى في الجمال والخير أو في الحيوية. ولِمَ فقدَت بعضُ تلك المؤلفات خصائصَها الفعالة؟ أهي نجوم خبَتْ؟ أم أن أعيُنَنا هي التي لم تَعُد تستجيب لبعض أنواع الإشعاع؟ إن مِن عمَلنا أن نفهم تلك المؤلفاتِ الميتةَ ذاتَها، ومن أجل ذلك يجب أن نتناولها على نحوٍ يُغاير تناوُلَنا لوثائقِ المحفوظات، يجب أن نجعل أنفسنا قادرين على الإحساس بمزايا صياغتها، وذلك بما نبذل من جهدٍ في فَهمِها فهمًا يُقربها إلى نفوسنا.
(٢) بعض صعوبات المنهج
هذه الخصائص الحسِّية والفنية التي تُميز المؤلفات الأدبية هي «وقائعنا الخاصة»، ونحن لا نستطيع دراستَها دون أن نُحرِّك قلبنا وخيالنا وذَوقنا. وإنه لَيستحيل علينا أن نُنحِّيَ طريقةَ استجابتنا الشخصية، كما أنه من الخطر أن نحتفظ بها، وهذه أُولى صعوبات المنهج.
يقولون: إن الحسَّ التاريخي هو حسُّ الفروق، وعلى هذا النحو نكون نحن أمعنَ في التاريخ من كل المؤرخين؛ فالفروق التي يتسلَّمُها المؤرخُ بين الوقائع العامة نُمعن نحن فنلتمسها بين الأفراد. نحن نسعى إلى تحديدِ أصالة الأفراد؛ أي الظواهر الفردية التي لا شبيهَ لها ولا تحديد. وهذه هي الصعوبةُ الثانية في المنهج.
ولكن مهما يكُن الأفراد من العظَمة والجمال، فإن دراستنا لا يمكن أن تقتصرَ عليهم؛ وذلك أولًا لأننا لن نعرفهم إذا لم نُرِد أن نعرف غيرهم، فأكثرُ الكتاب أصالةً هو إلى حدٍّ بعيد راسبٌ من الأجيال السابقة، وبؤرةٌ للتيارات المعاصرة، وثلاثةُ أرباعه مُكوَّن من غيرِ ذاته، فلكي نُميزه — أي نجدَه هو نفسه — لا بدَّ من أن نفصل عنه كميةً كبيرة من العناصر الغريبة. يجب أن نعرف ذلك الماضيَ الممتدَّ فيه، وذلك الحاضرَ الذي تسرَّب إليه، فعندئذٍ نستطيع أن نستخلصَ أصالته الحقيقية، وأن نقدرها ونُحددها، ومع ذلك فلن نعرفه عند تلك المرحلة إلا معرفةً احتمالية؛ إذ لا بدَّ لكي نُدرك كيفَه وعُمقه الحقيقيَّين من أن نراه يعمل ويُنمي نشاطه؛ أي لا بدَّ من أن نتتبَّع تأثير الكاتب في الحياة الأدبية والاجتماعية؛ ومن ثَم تأتي دراسة الوقائع العامة وفنون الأدب وتيارات الأفكار وحالات الذَّوق والإحساس التي تُملي نفسَها علينا وقد أحاطت بكبار الكتب وعيونِ المؤلفات.
ثم إن الخصائص التي تُميز العبقريةَ الفردية ليست أجملَ ما في تلك العبقرية وأعظمَها لذاتها، بل لأنها تشمل في حَناياها الحياةَ الجماعية لعصرٍ أو هيئة، وترمز لها؛ أي تُمثلها. ومن ثَم وجب علينا أن نحاول معرفةَ كلِّ تلك الإنسانية التي أفصحَت عن نفسها خلال كبار الكتاب. كل تلك التضاريس الفكرية أو العاطفية الإنسانية أو القومية التي يُرشدوننا إلى اتجاهاتها وقممِها.
وهكذا نُضطَرُّ إلى أن نسير في اتجاهَين متضادَّين. نستخلص الأصالةَ ونوضحها في مظهرها الفريد المستقلِّ الموحَّد، ثم نُدخل المؤلف الأدبي في سلسلةٍ ونُظهر كيف أن الرجل العبقري نِتاجٌ لبيئةٍ وممثلٌ لجماعة. وهذه هي الصعوبةُ الثالثة في المنهج.
إن روح النقد عِلمية مستنيرة، فهي لا تطمئنُّ في بحثها عن الحقيقة إلى سَداد مَلكاتِنا الطبيعية، بل تُنظم خُطاها تبعًا للأخطاء التي عليها أن تتجنَّبها. وفي الملاحظات السابقة ما يُساعدنا على تكوينِ مناهج التاريخ الأدبي؛ إذ توضِّح النقط الأساسية التي نتعرض فيها للخطأ، وَفقًا لطبيعة موضوعنا وملابسات دراستنا.
وأخيرًا، لكي نردَّ الخاصَّ إلى العام، ونُحدد نسب العنصر الفردي إلى العنصر الجماعي في مؤلَّفٍ أدبي، ونُرجِعَ العبقرية إلى مصادرها دون أن نحطَّ منها، ونرى فيها مركبًا لا نقف به عند الجمع، ونجعلها تُعبر عن الجمهور المتَّضِع دون أن نردَّها إليه؛ كم في كل هذا من صعوبات! وكم فيه من شكوك! ثم كم من دراساتٍ دقيقة لا بدَّ من القيام بها! وفي تضاعيفها يمكن أن تنسابَ أهواؤنا الخاصة.
وعلى أيِّ حال، فموضع الخطر بالنسبة إلينا هو أن نتخيل بدلًا من أن نلاحظ، وأن نعتقدَ أننا نعلمُ عندما نُحس. والمؤرخون ليسوا في أمانٍ من هذا الخطر، ولكن وثائقهم لا تُعرضهم له بنفس النسبة؛ وذلك لأن الأثر الطبيعيَّ العادي للمؤلفات الأدبية هو أن تُحدِث في القارئ تغييرات، وإذن فمن الواجب أن يُعدَّ منهجنا بحيث يُصحَّح من المعرفة ويُنقيها من العناصر الشخصية.
(٣) ضرورة التذوق الشخصي
ولكنه لا يجوز أن نبلغ بتلك التنقية إلى أبعدَ ممَّا يجب.
وإذن فمحو العنصر الذاتي محوًا تامًّا أمرٌ غير مرغوب فيه ولا هو ممكن، و«التأثرية» أساس عملنا. وإذا كنا نرفض أن نعتدَّ باستجاباتنا الخاصة، فإننا لا نفعل ذلك إلا لكي نُسجل استجابات الغير. وهذه الأخيرة وإن تكن موضوعيةً بالنسبة إلينا، فهي شخصيةٌ بالنسبة للمؤلف الذي نريد معرفته.
أنا موجود ككلِّ قارئ آخر، ووجودي كوجوده لا أكبر؛ فتأثري يدخل في مجال التاريخ الأدبي، ولكنه لا يجوز أن يتمتَّع بامتيازٍ خاص هو حقيقةٌ واقعة، ولكنه ليس إلا حقيقةً ذاتَ قيمةٍ نسبية ننظر إليها نظرةً تاريخية؛ فهو يُعبر عن العلاقة بين المؤلف وبين رجلٍ ذي إحساس خاص وثقافةٍ خاصة في عصرٍ خاص؛ ومن ثَم يمكن أن يساعد على تحديدِ هذا المؤلف بآثاره في النفوس.
بل من الممكن استخدام كلِّ الشهوات الدينية والسياسية، وكلُّ ميلٍ ونفور مردُّه إلى الطبع؛ فالبُغض والحماسة، بل والتعصُّب، التي يُثيرها في نفسي كتابٌ قيِّم يمكن أن تتَّخذ أمارات تهديني في تحليله؛ وذلك بشرطِ أن لا أجعل منها مقياسًا للحكم على قيمته وجماله، ونوع الانفجار يدلُّ أحيانًا على المادة التي تفرقعت.
وإذا كانت أولى قواعد المنهج العلمي هي إخضاعُ نفوسنا لموضوع دراستنا؛ لكي ننظم وسائلَ المعرفة وفقًا لطبيعة الشيء الذي نريد معرفته، فإننا نكون أكثرَ تمشيًا مع الروح العلمية بإقرارنا بوجود التأثرية في دراستنا، وتنظيم الدور الذي تلعبه فيها؛ وذلك لأنه لما كان إنكار الحقيقة الواقعة لا يُمحوها، فإن هذا العنصرَ الشخصي الذي نحاول تنحيته سيتسلَّل في خبثٍ إلى أعمالنا، ويعمل غيرَ خاضعٍ لقاعدة. وما دامت التأثرية هي المنهجَ الوحيد الذي يُمكِّننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها، فلنستخدمه في ذلك صراحة، ولكن لنقصُرْه على ذلك في عزم، ولنعرف — مع احتفاظنا به — كيف نميِّزه ونقدِّره ونُراجعه ونحدُّه؛ وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه. ومرجع الكل هو عدم الخلط بين المعرفة والإحساس، واصطناعُ الحذر حتى يصبح الإحساس وسيلةً مشروعة للمعرفة.
(٤) يجب أن يكون لنا ذوقان
النظرة التاريخية تضع العنصرَ الشخصي في موضعه، وتُجرد الناقدَ من أهوائه، فاستجابتي التي هي كل شيء بالنسبة إليَّ ما دمتُ محتفظًا بها لنفسي لا تلبث عندما تصدرُ عني، وتستقرُّ في مجال التاريخ أن تُصبح واقعةً من الوقائع؛ واقعة لا امتياز لها. وهي إذا كانت تُنير تلك الوقائع الأخرى؛ فهذه بالتالي تَحدُّ منها.
ولكن المجال التاريخي ليس في الغالب إلا خدعة؛ فهو يُغطي كلَّ ألاعيب التأثرية ومحاولات النزعة التقريرية، هو حيلةٌ أو تمويه.
ولما كان التاريخ يُمكننا من أن لا نرجع كلَّ شيء إلى أنفسنا، وأن ندرس كلَّ قرن وكل كاتبٍ في ذاته؛ فإنه بذلك يفتح أمام حساسيتنا الفنية اتجاهًا جديدًا، وممكنات للنشاط لا حدَّ لها، ولا حظرَ فيها؛ فنحن عندما نقرأ لا تكون استجاباتنا الفنية في العادة تامة النقاء؛ إذ إن ما نسميه ذوقًا ليس إلا مزيجًا من المشاعر والعادات والأهواء التي تساهم فيها كل عناصر شخصيتنا المعنوية بشيء، ومن ثمَّ يدخل في تأثراتنا الأدبية شيء من أخلاقنا ومعتقداتنا وشهواتنا.
(٥) حذار المعادلات العِلمية والتراكيب الكيميائية
لقد كان تقدُّم علوم الطبيعة خلال القرن التاسعَ عشر سببًا في محاولة استخدام مناهجها في التاريخ الأدبي غيرَ مرة؛ وذلك أملًا في إكسابه ثباتَ المعرفة العِلمية، وتجنيبِه ما في تأثرات الذوق مِن تحكُّم، وما في الأحكام الاعتقادية من مُسلَّمات غير مؤيدة، ولكن التجرِبة قد حكَمت بإخفاق تلك المحاولات.
واستخدامُ المعادلات العلمية في أعمالنا بعيدٌ عن أن يَزيد من قيمتها العلمية. هو على العكس يَنقص منها؛ إذ إن تلك المعادلات ليست في الحقيقة إلا سرابًا باطلًا عندما تُعبر في دقة حاسمة عن معارفَ غير دقيقة بطبيعتها، ومِن ثمَّ تُفسدها.
لنحذر الأرقام؛ الرقم لا يمحو الفَضْفاض والعائم في تأثُّرنا، بل يستره، وكلُّ من له أقلُّ درايةٍ بفن الكتابة يستطيع أن يجد في اللغة العادية الوسائلَ التي يوضح بها المفارقات الدقيقة التي بدونها لا نصل في دراستنا إلى صواب. وتلك المفارقات لا تخضع للأرقام.
الاصطلاح العلمي عندما ننقله عندنا لا يُلقي غيرَ ضوء كاذب، بل قد يحدث أن يُلقي ظلمة، «لقد تطورت الخطابة الدينية في القرن التاسع عشر إلى شعرٍ غنائي.» هذه العبارة لا معنى لها إلا عند من يعرفون الوقائع، وأما عند أولئك الذين يجهلونها فإن معناها خطأ؛ وذلك لأنه ليس في الوقائع ذاتِها ما يدلُّ على تطور نوعٍ أدبي إلى نوع آخر. وإنما هو المذهب الذي يرى ذلك بحيث يكون من الخير أن نُسقط هذا الاصطلاح العلمي، ونقول في لغة جميع الناس: «إن الشعر الغنائي في القرن التاسع عشر قد اتخذ مادةً له تلك المشاعرَ التي لم يكن يُعبر عنها في فرنسا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر إلا بواسطة الخَطابة الدينية.» وهذه عبارةٌ لم يزل أقلُّ إشراقًا من السابقة، ولكنها أوضح وأصدق.
(٦) نحن بحاجةٍ إلى روح العلم
وأمعَنُ في الروح العلمية موقفُ أولئك الأدباء الذين لا يدَّعون بناءَ أي شيء على أنموذج غيرِه، بل يقصرون همَّهم على رؤية الوثائق الداخلة في مجال بحثهم، والعثور على العبارات التي لا تُخلف شيئًا خارجًا عنها، ولا تُضيف إليها إلا أقلَّ ما يمكن؛ ولذلك كان أساتذتنا الحقيقيون هم سان بيف وجاستون باري.
«منحًى نفسي نواجه به الطبيعة»؛ هذا هو ما نستطيع أن نأخذه عن العلماء، فننقل إلينا النُّزوعَ إلى استطلاع المعرفة، والأمانة العقلية القاسية، والصبر الدَّءوب، والخضوع للواقع، والاستعصاء على التصديق، تصديقنا لأنفسنا وتصديقنا للغير، ثم الحاجة المستمرَّة إلى النقد والمراجعة والتحقيق، وأنا لا أدري أهو علمٌ ما سنعمله عندئذٍ أم لا، ولكني على ثقةٍ من أننا سنعمل خيرَ تاريخ أدبي.
إذا فكَّرنا في مناهج علوم الطبيعة، فيجب أن يكون تفكيرنا في أكثرها عمومًا، في الوسائل المشتركة بين كل الأبحاث التي تتناول وقائع، وليكن ذلك لإثارة ضمائرنا أكثرَ من أن يكون لبناء معارفنا. لننظر إلى مناهج «التوافيق والتباديل» وإلى مناهج «البقايا والتغييرات»؛ ولكن على أن يكون ذلك للمغزى الذي تتضمَّنه، لا للإطارات والجبهات التي تُخططها. ولنستخلص من التفكير في مناهج العلوم قبل كل شيء حذرَ العلماء، ومعنى الدليل عندهم، ثم معنى المعرفة؛ حتى نصبح أقلَّ ميلًا مع أهوائنا، وأقلَّ إسراعًا إلى التأكيد.
(٧) المنهج العمَلي
إن عملياتنا الأساسية تتلخَّص في معرفة النصوص الأدبية ومقارنتها بعضِها ببعض؛ لنميز الفرديَّ من الجماعي، والأصيلَ من التقليدي، وجمعها في أنواعٍ ومدارسَ وحركات، ثم تحديد العلاقة بين هذه المجموعات، وبين الحياة العقلية والأخلاقية والاجتماعية في بلادنا وخارج بلادنا، بالنسبة لنموِّ الآداب والحضارة الأوروبية.
وللنهوض بهذا العمل لدينا عدةُ وسائل ومناهج؛ فالتأثُّر التلقائي والتحليل المتروِّي وسائلُ مشروعة ولازمة، ولكنها غيرُ كافية، فلكي ننظمَ ونراجع عمل نفوسنا عندما تستجيب لنصٍّ أدبي، ولكي نُقلل مما في أحكامنا من تحكُّم؛ لا بدَّ لنا من مساعدات أخرى. ونحن واجدون خيرَ تلك المساعدات في استخدام العلوم المساعدة؛ كمعرفة المخطوطات والمراجع والتواريخ وحياة الكتاب ونقد النصوص، ثم في استخدامِ العلوم الأخرى، وبخاصة تاريخَ اللغة والنحو وتاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم وتاريخ الأخلاق. والمنهج هو أن نجمع في كل دراسة خاصة بين التأثر والتحليل من جهة، والوسائل الدقيقة للبحث والمراجع من جهة أخرى؛ وذلك وفقًا لما يقتضيه الموضوع، فنستعين عند الحاجة بعدة علوم مساعدة نستخدمُها حسَب ما أُعدَّت له في تهيئة المعرفة الدقيقة.
إن معرفة نصٍّ ما هي أولًا العلمُ بوجوده، وفي المعلومات التقليدية مصحَّحةً ومُكمَّلةً بالفهارس ما يدلُّنا على المؤلفات التي نريد أن ندرسها.
- (١)
هل نسبة النصِّ صحيحة؟ وإذا لم تكن صحيحةً فهل النصُّ منسوبٌ خطأُ إلى غير صاحبه، أم أنه نصٌّ منتحَل بأكمله؟
- (٢)
هل النص نقيٌّ كامل خالٍ من التغيير أو التشويه أو النقص؟
- (٣) ما هو تاريخ النص؟ تاريخ تأليفه لا تاريخ نشره فحسب، تاريخ أجزائه لا تاريخُه جملةً فحسب.٥
- (٤) كيف تغيَّر النص منذ الطبعة الأولى إلى الطبعة الأخيرة التي طبعها المؤلف؟ وعلامَ تدلُّ التعديلات التي أحدثها المؤلفُ من حيث تطويرُ ذَوقه وأفكاره؟٦
- (٥)
كيف تكوَّن النص من أول تسويدةٍ إلى الطبعة الأولى؟ وعلامَ تدلُّ التسويدات إن وُجِدت؛ من حيث ذوقُ الكاتب ومبادئُه الفنية ونشاطه النفسي؟
- (٦) ثم نُقيم المعنى الحرفيَّ للنص، معنى الألفاظ والتراكيب، مستعينين بتاريخ اللغة وبالنحو وبعلم التركيب التاريخي،٧ ثم معنى الجمل بإيضاح العلاقات الغامضة، والإشارات التاريخية، أو الإشارات التي تتعلق بحياة الكاتب نفسِه.
- (٧)
وبعد ذلك نُقيم المعنى الأدبيَّ للنص؛ أي نُحدد ما فيه من قيمٍ عقلية وعاطفية وفنية، ونُميز استعمال الكاتب الشخصيَّ للُّغة من الاستعمال السائد بين معاصريه، والحالات النفسية التي ينفرد بها من الصيغ العامة للإحساس والتفكير، كما نستخلص ما يرقد تحت التعبير العامِّ المنطقي من أفكارٍ وصور وآراء أخلاقية واجتماعية وفلسفية ودينية، لم يشعر المؤلفُ بالحاجة إلى العبارة عنها، وإن كانت الأساسَ الدفين لحياته العقلية؛ وذلك لأنه كان يفهمها في نفسه كما كان الغير يفهمونها عنه، دون حاجةٍ إلى التصريح بها.
سوف ندرك في نبرة أو ومضة أو تركيب الأغراض العميقة الخفية التي كثيرًا ما تُصحح وتُغني، بل قد تُعارض المعنى الظاهر للنص.
وفي هذا بنوع خاص يجب أن نستخدم الإحساس والذَّوق الشخصيَّين، ولكن في هذا أيضًا يجب أن نحذرهما ونُراجعهما حتى لا نعرض أنفسنا تحت ستار وصفنا «لمونتين» أو «فني». يجب أن يدرك المؤلف الأدبي أولًا في الزمن الذي وُلد فيه بالنسبة إلى مؤلفه، وإلى ذلك الزمن يجب أن يُعالج التاريخ الأدبي على نحوٍ تاريخي. وهذه حقيقة معروفة، ولكنها لم تصبح بعدُ حقيقة مبتذَلة.
-
(٨)
كيف تكوَّن المؤلف الأدبي؟ أيُّ نوع من الأمزجة استجاب لأيِّ نوع من الملابسات فخلَقه؟ حياة المؤلف هي التي تُنبئنا عن ذلك، ثم من أيِّ المواد تكون؟ هذا ما يُخبرنا به البحث عن المصادر؛ على أن نقصد من هذا اللفظ إلى معناه الواسع، فلا نقتصرَ على البحث عن المحاكاة الواضحة، أو المسخ المفضوح، بل نَعْدوها إلى كل آثار التقاليد ومخلفاتها الشفوية والكتابية. ومن الواجب أن نصل في هذا الاتجاه إلى أقصى غايات الإيحاء والمسايرة التي يمكن أن نُدركها.
-
(٩)
أيَّ نجاحٍ لاقى المؤلف؟ وأيُّ تأثير كان له؟ والتأثير لا يتفق دائمًا مع النجاح، وتحديد التأثير الأدبي ليس إلا دراسةً عكسية للمصادر؛ فمنهج البحث فيهما واحد، وتحديد التأثير الاجتماعي أكثرُ أهميةً وأكثر مشقةً في ملاحظته، وفهارس عدد الطبعات الأولى والطبعات التالية يُبين نسبة انتشار الكتاب منذ خروجه من يد الناشر. وفهارس المكتبات الخاصة وقوائم تَرِكات الكتب وقاعات المطالعة تدلُّنا على ما صار إليه، فنعرف الأشخاص والطبقات الاجتماعية والمقاطعات التي انتشر فيها الكتاب. وأخيرًا نجد في تعليقات الصحف والخطابات الخاصة، وفي المذكرات الشخصية، وأحيانًا في التعليقات التي يكتبها القرَّاء على الهوامش، وفي المناقشات التشريعية وخصومات الصحف، وفي القضايا؛ معلوماتٍ عن الطريقة التي قُرئ بها الكتاب، وعن الرواسب التي خلَّفها بالنفوس.
هذه هي العمليات الأساسية التي تؤدي بنا إلى المعرفة الدقيقة الكاملة بالكتاب، وإن كانت تلك المعرفة في الواقع لا يمكن أن تبلغ درجةَ الكمال، وكل ما تستطيع أن تصل إليه هو أن يكون النقصُ فيها أقلَّ ما يمكن، ثم نطبق تلك العمليات على الكتب الأخرى للمؤلف، وعلى كتب المؤلفين الآخَرين، ونجمع الكتب تبعًا لما بينها من وشائجَ في الموضوع وفي الصياغة. وبفضل تسلسلِ الصياغات نضع تاريخ الفنون الأدبية، وبتسلسلِ الأفكار والإحساسات نضع تاريخَ التيارات العقلية والأخلاقية، وبالمشاركة في بعض الألوان وبعض المناحي الفنية المشتركة بين الكتب التي من نوعٍ أدبي واحد، ومن نفوس مختلفة؛ نضع تاريخ عصور الذوق.
ثم إنه لا يكفي أن نتبيَّن العلاقة العامة بين الأدب والهيئة الاجتماعية؛ فنحن لا نَقنع بأن نرى صورة أو مرآة، بل نريد أن نعرف الأثر والاستجابة المتبادَلَين بينهما: أيُّهما يسبق؟ وأيهما يتبع؟ وفي أي حين يُقدم أحدهما النموذج ويقلده الآخر؟ وفي الحق إنه لا شيء أدقَّ من البحث عن تلك المبادلات.
وليس من الشاقِّ إدراكُ أنه من الواجب أن نقسم تلك المشكلة العامة إلى مشكلات جزئية، وأنه لا بدَّ أن نصل إلى عددٍ لا حصر له من الحلول الخاصة قبل العثور على حل لا أقول عامًّا، بل تخطيطًا لحل عام يصدق بنحوٍ مقارب على عصر ما أو حركة ما.
وإنه لوهمٌ بعيدٌ أن نعرض دَفعةً واحدة لتأثير مجموعة من المؤلفات على مجموعة من الوقائع؛ فتأثير الأدب في الثورة لا يمكن أن يُدرَك إلا عندما نكون قد رصدنا في صبر المبادلات العديدة التي حدثَت بلا انقطاع بين الأدب والحياة منذ سنة ١٧١٥، بل منذ سنة ١٦٨٠ إلى سنة ١٧٨٩، وإذا كان للأدب تأثيرٌ فيها، فإن ذلك لم يكن منه ككتلة واحدة، ولا على كتلة من الوقائع، وإنما كان بعدد لا حصر له من التأثيرات الجزئية في عدد لا حصر له من النفوس الفردية خلال أكثرَ من قرن، حتى انتهى الأمر في سنة ١٧٨٩ بأن رأينا أن قرنًا كاملًا من الأدب قد تسرَّب ورسب في طبقات مختلفة على نسبٍ متباينة في الوعي الجماعي للأمة الفرنسية، وظهر في طريقة استجابتها للوقائع.
(٨) المنهج والأخطاء
منهجنا كلُّه — كما قلت — يقوم على الفصل بين التأثُّر الشخصي والمعرفة الموضوعية التي تحدُّ من ذلك التأثُّر وتُراجعه وتُفسره لصالحها.
- (١) معرفتنا بالوقائع التي نعمل فيها ناقصةٌ أو كاذبة؛ فنحن لم نُحصل في يقظة كلَّ النصوص التي نريد دراستها، ونحن نجهل عملَ سابقينا والنتائجَ التي وصلوا إليها. وعلمُ المراجع هو العلاج، وهذا علمٌ جافٌّ لا طعم له إذا اتخذنا منه غايةً في ذاته، ولكنه أداةٌ ضرورية قوية لإعداد المادة التي سنصوغها أفكارًا صادقة.١٠
- (٢)
نحن نُقيم علاقات غيرَ صحيحة؛ إما لجهلنا، وهذا يلحق بالخطأ السابق، وإما لعدم صبرنا. وعلاج هذا أن نخضع لنظامٍ عقلي، وأن نأخذ أنفسَنا بالعمل البطيء الذي تنضج معه الفكرة. وأخيرًا قد يكون لأننا نثقُ بالتفكير ثقةً هوجاء، والتفكير خدَّاع في العلوم التاريخية؛ حيث لا نكاد نملك وقائعَ فيها من البساطة والدقة ما يحكم التفكير، فلا أقلَّ من أن نَقصُره على العمليات القصيرة كاستخلاص نتيجةٍ مباشرة عندما يلوح بدقةٍ أنها النتيجة الوحيدة الممكنة. وأما سلاسلُ التفكير فمن الواجب التخلِّي عنها؛ إذ إنها كلما ازدادت طولًا ازدادت ضَعفًا؛ فاليقين الذي ينتج عند أول خطوة في اتصالنا بالوقائع يأخذ في التهافُت عند كلِّ خطوة تُبعدنا عن تلك الوقائع، ومهما كان حِرصنا على الدقة في التفكير، فإنه كلما تقدَّم بنا الاستنباطُ زاد عددُ الممكنات، وأصبح كلُّ اختيار تحكُّمًا؛ ومن ثَم وجَب عقب كل عملية من عمليات المنطق الشكلي أن نعود إلى الوقائع فنستقيَ منها ما يكفي لإجراء العملية التالية. يجب ألا نستخلص نتيجةً من نتيجةٍ أخرى إلا بمنتهى الحذر والتحرُّج.
- (٣)
نحن نُسرف على نحوٍ غير مشروع في تقديرِ مدى الوقائع التي لاحظناها. نُلاحظ شبهًا فنجعله مصدرًا: «م يشبه د» تصبح «م ينسخ أو يُقلد د». نلاحظ مصدرًا فنقرر أنه مباشرٌ بدون واسطة: «م يستوحي د»، ولكننا ننسى أنه قد كان هناك أو من الممكن أن يكون هناك «ﻫ»، وأن هذا الأخيرَ هو الذي استوحى «د»، وهو الذي أوحى إلى «م». نلاحظ علاقةً دقيقة محدَّدة جزئية فنستخلص منها نتيجةً رَحْبة عامة. هذه الجملة يمكن تأريخُها بفضل الإشارات التاريخية، وإذن فكلُّ الكتاب قد كتب في ذلك التاريخ. والمبدأ أن كل فقرة لا تُؤرِّخ إلا نفسها، وليس من المسلَّم به أن تُؤرخ قطعة كبيرة.
نحن نمدُّ دائمًا من معنى الوقائع والنصوص، والواجب على العكس من ذلك أن نضيق منه في أمانة. لا يجوز أن نُبالغ مُضحِّين بالإصابة. نعم إن الناقد لا يستطيع أن يدهش إلا بمقدرته على أن يحمل الأدلة على أن تُعطيَ أكثرَ ممَّا يبدو أنها تحمله، ولكن لنقبل العدل على أن ندهش، ولنكتفِ باستقصاء الحقيقة المحسوسة التي لا تقبل الشك؛ الحقيقة «الجلف» كما يقول بسكال عن الحقيقة الهندسية.
- (٤) نحن نخطئ في استخدام المناهج الخاصة، فنطلب إلى أحدها نتيجةً لا يستطيع أن يُعطيها إلا سواه. نحن نؤكد وقائعَ معتمدين على استنباطٍ أوَّلي أو تأثرٍ شخصي. وهذه حالاتٌ مفضوحة، ولكننا نستخدم حياةَ الكاتب مثلًا لنُحدد القيمة العقلية أو الأخلاقية لمؤلفٍ ما. وهذا حسنٌ إذا كنا نريد أن نحكم على الكاتب وإن تكن أهدافه وقتَ تأليف كتابٍ ما غيرَ خاضعة على نحوٍ جبري لأحداثٍ ماضية. فالأطفال الخمسة المودَعون في ملجأ اللقطاء وشريط «ماريون» Marion لا تدلُّنا على الاتجاه الأخلاقي لجان جاك روسو في سنة ١٧٦٠، وهي أقلُّ دلالةً على الفضيلة الأخلاقية، على ما يمكن أن نُسميَه الذكاء في «إميل». هذه المشكلة لا تحلُّها حياة الكاتب، بل استجابةُ الجمهور؛ ففي تلك الاستجابة لا تظهر حياةُ روسو وخُلقه كما كانا في الواقع، بل كما تصوَّرهما القراء في صورٍ صادقة أو كاذبة. وهذه الصور هي التي يمكن أن تدخل إلى حدٍّ قريب أو بعيد في الأثر الذي أحدثه الكتاب.
ونُخطئ عادةً في اختيار الوقائع الدالة؛ إذ إننا فضلًا عن التحيُّز والمحاباة اللذَين يُضلِّلان، كثيرًا ما يأخذنا الوهم فنرى من الوقائع المتطرفة وقائعَ دالَّة، ولكن الوقائع شاذةٌ بحكم تطرُّفها ذاته؛ ومن ثَم فهي ليست دالةً إلى نهايةٍ قُصوى في الدقة، وهي تحمل دائمًا في دراستنا جانبًا كبيرًا من الفردية يجعل قيمةَ دلالتها غامضةً غير ثابتة. إن عيون المؤلفات وقائعُ متطرفة، وإن «فدر» لدالة على التراجيديا الفرنسية، لكن ربما كان فيها من راسين أكثرُ ممَّا فيها من التراجيديا الفرنسية.
والوقائع التي تعتبر دالةً في وضوح هي الوقائع المتوسطة. نجمع عددًا كبيرًا منها فيخلص لنا محمولها المشترك؛ وبذلك يُصبح من السهل أن نختار أكثرَها دلالة، أعني تلك التي تُمثل أنقى الصور وأقربَها للنموذج العام، ويكون هذا ما يُنير عيون المؤلفات التي تعتبرها وقائعَ متطرفة. وبالمقابلة بين النوعين؛ الممتاز والمتوسط، يظهر كلُّ ما يحمل الممتاز من معنًى دالٍّ، وبذلك نرى بوضوحٍ كيف وإلى أيِّ حدٍّ يعتبر هذا النوع الممتاز دالًّا، وإن ظل فريدًا لا شبهَ له.
- (أ)
من الممكن أن يكون الكتاب الممتاز قد دقَّ ناقوس النصر الذي أحرزَه آخرون.
- (ب)
وقد يكون استولى على الحصن بعد أن ضعف، وقام بالهجوم الأخير للاستيلاء عليه.
- (جـ)
أو نفَخ في البوق الذي دعا إلى الهجوم.
- (د)
وقد يكون جمَع الرجال المشتَّتين في مهامِّ الحياة وحدَّد للرأي الشائع هدفًا.
- (٥)
وأخيرًا، لما كنا لا نحب أن يذهب جُهدنا سدًى، فإننا نبالغ في قيمةِ ما نصل إليه من يقين، مع أن الوثائق والمناهج التي تُوصل إلى يقينٍ حقيقي قليلةٌ جدًّا. واليقين بوجهٍ عام يطَّرِد اطِّرادًا عكسيًّا مع عمومية المعرفة، وهذا ما يجب أن نذكره، ولكن الاحتمالات والمقاربات جديرةٌ بأن لا تُحتقَر، ولن يَضيع سدًى جهدٌ يُدْنينا بضعَ خطوات من المعرفة التامة الوضوح، ومن الواجب أن نعرف لِما نصل إليه من نتائج قدْرَه؛ حتى لا يأخذنا اليأس، وألَّا نُسرف في ذلك التقدير حتى نثملَ برِضًى أحمق. والنسبية هنا — كدأبها في كلِّ مجال — هي مبدأ المنهج كما هي قِوامُ صحة الخلق.
إن عيبنا المألوفَ هو رفعُ ما تنتهي إليه دراستنا من حقائقَ ناقصةٍ درجاتٍ في مراتب اليقين، بل رفعُها أحيانًا إلى مستوى اليقين المطلَق. وهكذا تصبح الممكناتُ احتمالات، والاحتمالاتُ ترجيحات، والترجيحات وقائعَ واضحة، والفروض حقائقَ ثابتة، ويمتزج الاستنباط والاستقراء بالوقائع التي صدَر عنها، فإذا بهما في قوة الملاحظات المباشرة.
ومع ذلك فمنذ عشرين أو ثلاثين سنة، أصبح المؤرخون والنقادُ الذين يستخدمون المناهجَ التاريخية والنقدية أكثرَ حذرًا وقسوةً على أنفسهم، وحالة سان بيف النفسيةُ الدائمةُ الحذرِ واليقظة إن لم تكن قد صارت عامة؛ فهي لم تَعُد شاذة. ومصدر التقدُّم هو أن الأساتذة يجدون بعد ممارسة الدراسة زمانًا تلاميذَ يَبزُّونهم وكأنهم يملكون بطبيعتهم ذلك الضميرَ العلمي الذي لم يَصِلوا إليه هم إلا متأخرين وبعد مَشقة.
(٩) تقسيم العمل وأخطاره
قد يكون في المنهج الذي وصفتُه ما يبعث الرهبة. ولقد يتساءل المرء: أيُّ حياة إنسانية تتَّسع لدراسة الأدب الفرنسي إذا كانت مقتضياتُ المنهج على هذا النحو من التعدُّد والقسوة؟ والذي لا ريب فيه هو أنه لا يمكن أن تكفيَ حياةٌ واحدة للمعرفة الكاملة، ولكن ما يعجز عنه عمرٌ تستطيع أعمارٌ أن تعمله. إن تاريخ الأدب الفرنسي مشروعٌ جماعي؛ فليحمل كلٌّ حَجرَه وقد أحسنَ تسويتَه. وهذا لن يمنع أيَّ إنسان من أن يقرأ ما يريد للذَّتِه الخاصة.
بل إن المرء لا يستطيع فيما عدا مسائلَ البحث الصغيرة أن يُعالج علاجًا كاملًا موضوعًا خاصًّا، مع انفراده بكل الأعمال التي يتطلبها ذلك العلاج؛ ولهذا كان من الواجب أن نعرف كلَّ ما سبقَنا الغيرُ إلى عمله، وأن نبدأ من النتائج التي انتهَوا إليها؛ ومن ثَم يتضح أنه من المستحيل أن نصل إلى شيء بدون معرفة جيدة بالمراجع.
إن تقسيم العمل في الدراسات الأدبية هو وحده التنظيمُ العقلي المنتِج، فيتعهَّد كلُّ فرد بالعمل الذي يتناسب مع قُواه وذَوقِه، فيكون هناك باحثون ينصرفون إلى تهيئة المواد الأولية، والكشفِ عن الوثائق ونقدها وإعداد وسائل العمل. ويُخصِّص آخَرون للمؤلفين ولأنواع الأدب المختلفة أبحاثًا منفردة، كما يحاول البعضُ التأليفَ في المسائل الكلية. وأخيرًا يتولى نفرٌ أمرَ تبسيط النتائج التي تصل إليها الأبحاثُ الأصيلة وإذاعتها.
وأنا بعدُ لا أرى ما يراه «لانجلوا» من أنه من الخير أن نَفصل فصلًا تامًّا بين المبتكِرين والمبسِّطين، بين الباحثين عن التفاصيل والذين يتولَّون التعميم؛ ذلك لأن الإنسان لا يفهم الجزئياتِ إلا بالكل، ولا يعرف الكلَّ إلا بالجزئيات. والمرء يُسيء التبسيط إذا لم يعرف كيف تصنع المعرفةُ وما قيمة النتائج المكتسَبة. وإذن فلتقسيم العمل أخطارُه، ثم إن الحياة قصيرة، والإنسان لا يُحسن إلا ما يعمله بميلٍ خاص واستعداد طبيعي؛ ولذا كان تقسيم العمل ضرورةً بالنسبة إلى البناء الذي نريد إقامته، وبالنسبة للعمَّال الذين يعملون فيه.
ومع ذلك، فهناك زمنٌ لا يكون فيه هذا التقسيم ضروريًّا ولا مرغوبًا فيه، هو زمنُ التمرين. وإنه لمن الخير أن يُمرَّن طلبة الأدب في الجامعة على كل العمليات التي يُبنى بها التاريخ الأدبي، وأن يألَفوا كلَّ المناهج الواحدَ تلو الآخَر، فيتعلَّمون كيف يُعِدُّون ثبتًا بالمراجع، ويبحثون عن تاريخ، ويُعارضون طبعات متعددة، ويستغلُّون التسويدات المختلفة لكتابٍ ممتاز، ويبحثون عن مصدر، ويُتابعون تأثيرًا، ويوضحون أصولَ حركة أدبية، ويُميزون العناصر التي تدخل في مركبٍ مختلط. ولْيُحاولوا التأليفات الجزئية، ولْيَعرضوا بعضَ المسائل عرضًا لا يذهب فيه التبسيطُ بما في المعرفة من دقةٍ وثبات، وبعد ذلك فلْيعمَلوا في الحياة ما يريدون وما يستطيعون؛ فإنهم سيكونون عندئذٍ قد مرُّوا بكل «الأقسام»، وسيكونون قد عَلِموا كيف تُصنع المعرفة الأدبية وكيف تُستخدم. وإذا كانوا لا يعلمون هذين، وخصوصًا أوَّلهما، في الجامعة؛ فأين ومتى سيتعلَّمونها؟
بل لربما كان من الخير أن يحتفظ فيما بعد مَن يتولَّون التبسيط والتعميم بما ألِفوا، فيحلُّوا من حينٍ إلى آخَر بعضَ مشاكل البحث الدقيقة، ولو كانت تلك المشاكلُ نقدًا للوثائق أو إعدادَ كتابٍ للنشر. وعلى العكس يستفيد الباحثُ من محاولة التأليف العام والحديث إلى الجمهور في بعض الأحيان، ومُبادَلة الاختصاص على هذا النحو تحتفظ للنفوس بمرونتها وقوتها، وتقي البعضَ من الهُزال والآخَرين من التقلُّص، كما تحول دون ذلك الجفافِ الذي يولِّده تقسيم العمل حتى في النشاط العقلي. والجفاف داءٌ لا يُفلت منه متخصصٌ ولو كان تخصصُه في الخفة والاستهتار.
(١٠) لن نترك العبقريات بلا عمل …
يخشى بعضُ النقاد أن يكتم المنهج أنفاس العبقرية، ثم يتحمَّسون في دفاعهم كأنَّ لهم في ذلك مصلحةً خاصة. يُهاجمون آلية الجهد في عمل «الفيشات» (البطاقات) وعقم البحث. إنهم يريدون أفكارًا.
ألا فليطمئنُّوا؛ فالبحث ليس غايةً بل وسيلة، و«الفيشات» أدواتٌ للمد من المعرفة، ووقاية من أخطاء الذاكرة. إن غايتهما أبعدُ منهما. ليس هناك منهجٌ يُبرر آلية الجهد، وقيمة المناهج تتناسب وذكاءَ مَن يستخدمونها، نحن أيضًا نريد أفكارًا، ولكننا نريدها صادقة.
نحن لا نحدُّ من مجال الابتكار، بل نُضاعفه؛ إذ نُقدم إليه حقلًا جديدًا غيرَ محدود؛ فخلقُ الأفكار ليس كلَّ شيء، بل من الواجب أن نُحقق مناهج. ليست هناك مناهجُ تصلح لكل شيء، وإنما هناك مبادئُ عامة، وفيما عدا ذلك فكلُّ مشكلة خاصة لا تُحل إلا بمنهجٍ خاص يوضَع لها، تبعًا لطبيعة وقائعها والصعوبات التي تُثيرها، بل إن المشاكل لا تضع نفسها. وفكرة السؤال تتطلَّب من العبقرية قدْرَ ما يتطلب الجواب، بحيث يكون في دعوتنا الخيالَ الخالق إلى العمل في اختراع المشاكل والمناهج ما يمدُّ من نفوذه، ويفتح أمام نشاطه أبوابًا من الممكِنات لا حدَّ لها؛ فليطمئنَّ إذن رجالُنا ذَوو العبقرية، فلن نتركها بغير عمل.
(١١) يكفي المنهجَ أن يُثبت ويُحقَّق
ولكن هل تستحقُّ الحقيقة التي نصل إليها من دراساتنا الأدبية ما يُبذَل في سبيلها من جهد؟ هذا شكٌّ يعرفه الكثيرون، وفي جواب مونتين ما يكفيني. وإذا لم نكن قد خُلقنا على نحوٍ يُمكِّننا من معرفة الحقيقة، فلا أقلَّ من أن نبحث عنها، ولكن مهنة التحدُّث عن مؤلفات الغير لن يكون لها أيُّ نُبل إذا لم يُسفِر جهدُنا عن قليلٍ من الحقيقة نُقدمه للغير إلى جانبِ ما نجده من لذةٍ شخصية. والتعليم بالنسبة لأستاذ الأدب بنوعٍ خاص لن يكون إلا دجَلًا أو نفاقًا، إذا كان كلٌّ منا لا يدرُسَ إلا أهواءه ومعتقداتِه. هناك جانبٌ كبير من الأدب لا يمكن أن يُدرَس؛ فنحن لا نستطيع إلا أن نقول لتلاميذنا: «اقرَءوا وأحِسُّوا، استجيبوا للمؤلف. نحن لا نريد أن نحلَّ طرق انفعالنا محلَّ طرقِكم، لكننا نُعلمكم ما هو مادةٌ للعلم؛ أي: مادةٌ للتدريس. نحن نقدِّم إليكم كلَّ هذه المجموعة من الحقائق التي — وإن تكن نسبيةً ناقصةً — فهي مُحقَّقة دقيقة: التاريخ، وفقه اللغة، وعلم الجمال، وفن الأساليب، وقواعد العَروض؛ كل تلك الأفكار المرتبطةِ بالمعرفة الدقيقة، والتي يمكن أن تكون واحدةً في كل النفوس، وبفضلها ستستطيعون إرهافَ تأثُّراتِكم، وتصحيحَها وإثراءَها، بل سترَون في عيون الكتب أكثرَ مما رأيتم، وستكون نظرتُكم أعمق. ونحن سنُبصِّركم بكيفية الحصول على هذه المعرفة كما نُعِدُّكم للعمل على تنميتها إذا دفعَكم الميلُ إلى ذلك، فإن لم يكن، فلا أقلَّ من أنكم ستعرفون قيمتها، وستستخدمونها دون حطٍّ من قدرها، ولا إسرافٍ في ذلك القدر.»
ليس مِن شكٍّ في أننا لا نصل إلى أثبتِ النتائج إلا في أضيق المسائل، وأن اليقين — كما قلنا — يأخذ في التناقص كلما أخَذ التعميم في التزايد. وهذه حقيقةٌ تَصدُق على كل العلوم، ثم إنه لم يكن بدٌّ من أن نبدأَ البيت من أساسه، وأخذَت المعرفة الدقيقة تنمو وترتفع شيئًا فشيئًا، حتى وصلَت إلى أوسع المشاكل.
ها هي تحديداتُ خصائص الكتاب، وها هي الآراء التي تتناول تكوينَ عيون الكتب وتأثيرها قد أخذَت تتعيَّن وتثبت. سنظل دائمًا نجهل أشياءَ في مونتين وبسكال، في بوسويه وروسو، في فولتير وشاتوبريان وفي كثيرٍ غيرهم، كما ستظلُّ هناك متناقضات بنسبة ذلك المجهول. ومع ذلك فكلُّ متتبعٍ لحركة الدراسات الأدبية في السنوات الأخيرة لا يستطيع إلا أن يُلاحظ أن ميدان الاختلافات قد أخذ يضيق، وأن مجال العلم والمعرفة اليقينية قد أخذ يتَّسع حتى لم يعد للحرية مكانٌ كبير، اللهم إلا أن نستثنيَ أولئك الذين يُخفون جهلَهم بأن يلعبوا لعبةَ الهواء المتعطِّلين، أو يحتموا بالتعصُّب لمعتقداتهم؛ ولهذا لا نكون واهمين إذا تنبَّأنا بمجيء يوم يتَّفق فيه الناس على تعاريفِ عيون المؤلفات وموضوعاتها ومعانيها، ولا يختلفون إلا في خيرِها وشرها؛ أي في أوصافها العاطفية، ولكنهم فيما أظنُّ سيختلفون دائمًا حول هذه الأوصاف.
(١٢) الروح التاريخية أداةُ سلام
إن عددًا من العاملين اليوم لا يُهمُّهم إلا أن يرَوا الماضيَ كما كان، ولكنَّ آخَرين لا يستطيعون أن يُنحُّوا ميولهم الشخصية تنحيةً تامة، وذلك إما لأنهم أحمى من الأوَّلين طبعًا، أو لأن موضوعاتهم حارَّة، ومع ذلك يُنجزون كمؤرخين ونقادٍ أعمالًا جيدة، وهناك مفكِّرون أحرار وبروتستانت وكاثوليك وأناس من كل الديانات يزداد عددهم يومًا بعد يوم، يُدركون أنْ لا بدَّ للعمل في الأدب من نظامٍ ومناهج دقيقة. وهم يأخذون أنفسهم باستخدامها، وإذا كانت كتاباتهم تحتفظ رغم ذلك بآثارٍ من مشاعرهم الخاصة، فإننا — على الأقل — نجد إلى جوارِ هذه الآثار معلوماتٍ موضوعيةً محقَّقة، وفي طريقةِ عرضهم من الأمانة ما لا يصعب معه أن نُميز — في أغلب الأحيان — بين ما يعتقدونه وما يُدللون عليه.
وأخيرًا نقول: إن الروح التاريخية والمنهج النقدي أدواتُ سلام. وهذه نقطةٌ أخرى تُساهم بها مزايا النشاط العلمي؛ ذلك النشاط الذي يتضمَّن — كما نعلم — مبدأ الوحدة العقلية؛ فليس هناك علمٌ قومي، وإنما هناك علمٌ إنساني. وكما أن العلم يُحقق الوحدة العقلية في الإنسانية، فهو كذلك يُحققها في الأمم المختلفة؛ وذلك لأنه إذا لم يكن هناك علمٌ ألماني وعلم فرنسي، بل هناك العلم إطلاقًا، العلم الموحَّد المشترك بين كافة الأمم، فكذلك ليس هناك علمٌ حزبي، علم ملَكي أو جمهوري، كاثوليكي أو اشتراكي. وكل الرجال الذين يشتركون في الروح العلمية في الأمة الواحدة يؤيِّدون بعمَلهم هذه الوحدة العقلية لوطنهم؛ وذلك لأنه في الخضوع لنظامٍ عقلي واحد ما يربط بين الرجال مهما اختلفَت أحزابهم أو دياناتهم، كما أن التسليم بالنتائج التي يؤدي إليها ذلك النظامُ خليقٌ بأن يُهيئ من الحقائق المكتسَبة مجالًا متينًا يتلاقى فيه الرجالُ الذين يأتون من كل الآفاق. هذا، وقَبول قواعد المنهج كحكمٍ مطلق في الخصومات من شأنه أن يُجردها من مرارتها، وأن يضَع لها حدًّا. وهكذا نستطيع بفضله أن نتفاهم وأن نتفقَ وأن نتعاون، وذلك دون أن نتخلَّى عن مُثلِنا الشخصية. وفي هذا ما يؤدي إلى التقدير والمحبة المتبادَلَين. إن النقد التقريري نقد الأهواء والشهوات؛ يُفرِّق، أما التاريخ الأدبي فيُجمع، كما يفعل العلمُ الذي يستوحي روحه، وبذلك يصبح وسيلةً للتقريب بين المواطنين الذين يُباعد بينهم كلُّ ما عداه؛ ولهذا أستطيع أن أقول: إننا إذا كنا لا نعمل للحقيقة وللإنسانية فحسب؛ فإننا نعمل للوطن.