محاولة الروسيا السوفييتية محو الفقراء والأغنياء على السواء١
تحاول روسيا السوفييتية في الوقت الحاضر أن تعدِّل توزيع الثروة بحيث يسير وفق طرائق الإنتاج الحديثة، وهي تسير في محاولتها سيرًا جريئًا حقًّا، ولقد سبق لنا أن درسنا بعض جوانب هذا المجهود الجريء الذي يبذلونه في شئون الإنسانية، فلا نزاع في أنه مجهود يدفع بنا إلى الأمام؛ ففي الروسيا فكرة حديثة جدًّا تنشد غاية من التنظيم أعلى وأدق مما شهده العالم حتى اليوم، وهو نظام يُفرَض على الناس فرضًا في إقليم فسيح من الأرض لا يزال جوهر الثقافة الجارية فيه مشوبًا بروح الثقافة في العصور الوسطى، ولا يزال كثير من نظم الصناعة الأساسية الهامة عند مرحلة بدائية، ولكنا لا نستطيع حتى اليوم أن نجزم كم أصاب هذه المحاولة من التوفيق. وإنها لمحاولة تجري في وجه العداوة التي تبديها الحكومات الأجنبية، وفي جو من عدم الثقة يثيره العالم أجمع؛ وكان لزامًا في كل مرحلة من مراحل السير أن يواجه المتحمسون المغامرون الذين قبضوا على زمام الروسيا بعد ما أحدثته الحرب الكبرى (١٩١٤–١٩١٨م) من إعياء وفوضى اجتماعية، صعوبةً ناشئة من عجز الناس عن الفهم الصحيح ومن فساد الهيئة الإدارية.
ومن أعسر ما يصادف الروسيا السوفييتية من مشاكل هو أنها اعتبرت تقدمها الاجتماعي نظامًا عالميًّا قبل أن يسلِّم الجميع بضرورة رقي الحياة الاقتصادية على أسس عالمية بعشرين سنة، مع أن ذلك التقدُّم كان فكرة أكثر منه خطة، وليس تاريخه المؤلم إلا سلسلة من تصرفات خطيرة هدامة إلى حد كبير، تصرفات كانت تحدث كلما بدا في الطريق حائل مباغت، ولقد أَلْفَتِ الروسيا نفسها منذ بداية الأمر نابية لا تنسجم مع بقية العالم الذي تم فيه الانقلاب الصناعي، كما وجدت نفسها مع سائر الحكومات كلها عدوة صريحة، وذلك لانخفاض مستوى التعليم بها انخفاضًا لا يكون معه مجديًا في تأثيره، ولِما كان ينتابها من انحطاط صناعي بلغ غاية قصوى، فاقتضى ذلك بالضرورة ضمن ما اقتضى من النُّظم المعقدة الشاذة إقامة السدود بين عملتها الداخلية وبين عملة العالم الخارجي، فلقد عملت داخل حدودها على تضخم عملتها تضخُّمًا يؤدي إلى رفع الأثمان، ومن العسير أن نرى كيف نظفر بزيادة في إنتاج الدولة أو في إنتاج الأفراد بغير هذا التضخُّم. ولما كانت عناصر التجديد التي تتضمنها تجربة الروسيا يشوبها شيء من تعصب الجمود، نشأت متاعب لا تنقطع في الدعاية الاجتماعية والسياسية خارج حدودها بما تبذله من مساعٍ لتحمل على الأقل بعض سكان العالم الخارجي أن يعطفوا على أهم آرائها؛ ومن المعقول أن تمضي في دعايتها، بل إن وجودها نفسه ليس إلا مظهرًا من مظاهر الدعاية، وطبيعي ألا تني الحكومات التي تأخذ بمذهب الوطنية أو الإمبراطورية بما يؤدي إليه من تفكك بين الدول والتي ترى في مجهود الروسيا ما يهدِّدها سواء فيما تضربه من الأمثلة أو فيما تذيعه من الآراء؛ نقول إنه طبيعي ألا تني هذه الحكومات عن مقاومة الروسيا مقاومة متصلة، وما أشبه الروسيا بالوليد المعتسر؛ فهي تسير إلى الأمام سيرًا متعثرًا لما يعترض سبيلها من وسائل الدعاية؛ إنها تسحق العمال الناقمين وتقتل الموظفين الضعفاء العاجزين، وإن الآلام والتضحيات المحزنة الهائلة التي يعانيها الشعب الروسي، وما ترتكبه الحكومة المنهوكة من ضروب الخطأ والغلظة والجفاوة والقسوة، وما تؤدي إليه الدكتاتورية المسيطرة فيها من صنوف المظالم والغضبات القاتلة، لا ينبغي أن ينسينا كثيرًا من عظيم مجهوداتها وأعمالها؛ فإن الروسيا رغم كل هذا ترفع لواء التعاون العالمي المحزن، وتقف في مسرح الإنسانية موضع الأمل والرجاء؛ نعم إنها تفعل ذلك رغم جمودها ومقاومتها وعراكها المضني، ورغم ما يعتورها من جنون الوهم وخبل الاضطهاد وحكمها حكمًا إرهابيًّا لا ينقطع.
فإذا تناولنا بالبحث مناشط الإنسان وجدنا الملايين الكثيرة من الزارعين الذين يحيون حياة الفاقة في الروسيا، والعمال الذين لا يطعمون طعامًا كافيًا ويسكنون في دُور رديئة في مدائنها المقفرة — وفي الروسيا من هؤلاء المزارعين والعمال ما يبلغ مائة وخمسين مليونًا — موضوعًا جديرًا بالعناية القصوى؛ فمهما يكن من أمر رداءة طعامهم وسوء سكنهم في الوقت الحاضر، فإن الإحصائيات الهامة التي أسلفناها تبيِّن أنهم أنظف، وينالون من العناية أكثر مما كانوا عليه في عصور القياصرة، ولا يجوز لبحثنا هذا أن يغفل هذه الملايين.
وكما أن واجبنا في هذا البحث أن نصوِّر الزارع وقد تحطمت حواجز فرديته على مناعتها، لتنشأ رحاب فسيحة للدولة، وأن نصوِّر أسْرته — وقد انفصمت أوثق صلاتها — تدخل في دار من دُور المجتمع، فواجبنا كذلك أن نصوِّر العمال في مصنعهم الحديث الذي اشتُريت معداته كلها من أمريكا وأُقيمت في أرض الروسيا، ينصتون إلى العبارات الحماسية التي يلقيها فيهم وكيل الحزب الاشتراكي ليحتفظ في صدورهم بروح الأمل؛ إنهم فقراء لا يصلحون لهذا العمل الجديد، ومع ذلك إذا أخطئوا أنحى عليهم باللوم القارص وسِيموا عقابًا لا يعرف الرحمة رغم ذلة نفوسهم؛ إنهم يلبسون ثيابًا لا تستر الأجسام، ويأكلون أردأ الطعام، ولا يزال الفقر مخيمًا على كل شيء في الروسيا، ولكن الناس مع ذلك يعملون لم يُنتزعوا من عملهم ولم تصبهم الهزيمة، ولم يسيروا إلى غير هدفٍ كما يفعل المتعطلون المتزايدون في مدنيات المحيط الأطلسي، إنهم يستمدون القوة من حماسٍ يرفرف عليهم، ولا يتعذر أن يُلْهَبَ هذا الحماس حينًا بعد حين فيكون أملًا يملأ الصدور.
وفي مقدور الدول الغربية، وهي أشد ارتباكًا من الروسيا، أن تحل مشكلة الركود الصناعي المعقدة حلًّا متقطعًا آنًا بعد آن، ذلك الركود القائم في غمر من الثروة؛ ولقد تكون للدول الغربية اضطراباتها ومشاكلها المحلية في السياسة والاجتماع، ولكنها مع ذلك لا تمضي بكليتها في ثورة اجتماعية كالتي تنبأ بها ماركس؛ ولنذكر أن الموقف الذي اتخذته هذه الدول الغربية من كفاية نفسها بنفسها ردًّا على محاولة الروسيا في هذه السبيل؛ نقول إن هذا الموقف سينهض سدًّا منيعًا يَحُول دون التجديد الشامل المنظم؛ فالروسيا في أمسِّ الحاجة للتعاون مع دول الغرب والأخذ عنها، أما هذه الدول وإن تكن بدورها بحاجة إلى الأخذ عن الروسيا في شيء كثير، فلا ينبغي أن تنقل عنها كثيرًا مما بها، وأعني به سوء الظن بتضحيات الروسيا؛ نعم نستطيع أن نترسم خطاها فيما يمكن فعْله لإشعال الحماسة وما تؤدي إليه تلك الحماسة من أثر، ونستطيع كذلك أن نكوِّن فكرة عما ليس في مقدور الحماسة أن تؤديه بغير وجود فئة متعلمة منظمة لنفسها بنفسها من الدائنين والموظفين والقائمين بأمر الصناعة.
… الحساب ممتنع امتناعًا باتًّا، ومباني المصانع مليئة بالمنتجات المهملة، والفِناء مكدَّس بالأوساخ والمنتجات التالفة، وحضور العمال مهمَل الرقابة، ورؤساء العمال والمهندسون لا يستقرون في مراكز أعمالهم، وتدور الآلات وتقف بغير رقيب، والعناية الواجبة بالإعداد لا وجود لها، والمسئولون عن مجرى الإنتاج الصحيح في الفروع الجزئية لا يباشرون أعمالهم …
هذه عبارة قالها رجل من أخلص أعوان ستالين وأجدرهم بالثقة، وسنستطيع بعد حين قصير حين نتناول بالبحث تنظيم الحكومة والإدارة في الدولة الحديثة أن ندرك أن هذا التبديد والفوضى في الوسائل التي ترتجلها الروسيا أمر لا مفر منه.
وليست فضيلة البلاشفة الوحيدة هي اعترافهم الصريح بالعسر والفشل، بل إن من شمائلهم كذلك الجرأة والشجاعة العظيمتين في سرعة تغيير الوسائل إذا ما تبيَّن فشلها؛ ففي ٢٣ يونيو سنة ١٩٣١م خطب ستالين في مؤتمرٍ من رجال الاقتصاد في موسكو وأعلن بدء مرحلة جديدة في تجربة الروسيا الكبرى، فقال إن سير التقدُّم قد تعثَّرت خطاه حين امتنع تدفُّق المتطوعين من المزارعين في الأعمال الصناعية، وبصفة خاصة في أعمال الخشب والفحم والبناء والنقل وصناعات الحديد، وعلى ذلك يجب أن يلتزم الريف بتقديم ما يكفي للصناعة من الأيدي العاملة. وذلك على أساس نظام من التعاقد بين المنشآت الصناعية من المزارع الجمعية، وأنحى باللائمة على رجال الاقتصاد الذين «يألمون حنينًا إلى الأيام الخوالي الزاهرة حين كان العمال يتطوعون لأعمالهم» وأنذرهم بوجوب الاعتراف بأن الظروف الجديدة تتطلب وسائل جديدة. ثم مضى قائلًا بأن واجب الاقتصاديين أن يتحققوا أن تسخير العمال ليس كل شيء، فلا بد أن يرتبط العمال بالمشروعات التي تعاقدوا معها، كما يجب أن نواجه «مجرى العمل» بنظام من الأجور المتفاوتة لكي نزيد من قدرة الإنتاج، مع أنه لم يكد يكون هنالك حتى ذلك الحين اختلاف بين ما يكسبه مهرة العمال وغير الماهرين، وعلى ذلك لم يجد العاجزون ما يحفزهم إلى تحسين مواهبهم ولم يَعُد هذا الشر محتملًا بعدئذٍ، فتطلبت الدولة السوفييتية من العمال الجد في العمل والنظام والتنافس، ولم يَعُد في حدود المستطاع أن ينفذ نظام الأجور القائم على احتياج العامل، بل تحتَّم أن يؤجر العامل تبعًا لما يؤديه من العمل جودة ومقدارًا، بحيث تُراعى في ذلك الدقة؛ لأنه من ألزم الواجبات خلق طراز جديد من «المهارة الفنية المنتجة».
وأعلن ستالين أنه لا ينبغي لرجال الاقتصاد أن يخشوا مواجهة الحقيقة، وأنهم يجب أن يسلموا جهرة بأن نظام تجزئة اليوم إلى مراحل ثلاث لم ينجح في كل مكان، وقد اتبع كثير من المشروعات نظام اليوم المتصل، ولكنه لبث على الورق ولم يُمهَّد له تمهيدًا كافيًا، فواجب تلك المشروعات أن تتذرع بالجرأة وتلقي بهذه الإصلاحات المسطورة على الورق، وأن تعود مؤقتًا إلى نظام اليوم ذي المرحلة الواحدة، كما فعلت مصانع الآلات الزراعية في ستالنجراد، وألا «تعالج الصعاب باللين» فتلقي العبارات الرنانة والوعود الحماسية العقيمة، هذا فضلًا عن وجوب اتباع نظام «الرجل الواحد» في الإدارة في كل مكان، ووجوب انحلال الأعمال الضخمة إلى وحدات صغيرة، فبدل أن يقوم بالإدارة مجلس ينبغي أن يُعهَد بالإشراف إلى مدير واحد فقط في كل جزء صغير من العمل، وأن تقع عليه التَّبعة كلها في إدارة شئونه …
وحسبنا ما ذكرناه عن المشاكل الداخلية في التجربة الروسية، ولنبحث الآن كيف أثَّر اختلاف وجهة نظرها عن بقية العالم في علاقاتها الخارجية.
«ولشركة الروسيا غير المتحدة» خزانة مالية واحدة في معاملة الأجنبي، ونظامها النقدي الداخلي تحميه الحواجز المنيعة لئلا يختلط بنظام النقد في العالم الخارجي، ولكن حاجتها لا تنقطع إلى المال من الدول الأجنبية لشراء الواردات الضرورية الهامة. ومما يبعث على الدهشة ما تبذله من مجهود في تدبير السلع وبيعها مقابل ذلك المال؛ ويصف وليام وَيِتْ (وهو من أول العلماء الذين أوفدتهم جامعة أمريكية — هي جامعة بنسلفانيا — ليدرس الروسيا عن كثب) المجهود العظيم الذي تنفقه الروسيا في إنتاج صادرات يمكن بيعها لتستبدل بها حاجتها من الآلات؛ فهنالك حملات تُعَبَّأ لجمع النفايات — كالمطاط القديم وجذاذات الحديد مثلًا، وهو يروي «أن هيئة البلدية في موسكو قررت ألا ترد الأمانات المدفوعة على زجاجات الخمر إلا إذا أُعيدت القوارير الفارغة ومعها سداداتها» — ومع ذلك لأنهم وجدوا سوقًا خارجية تُباع فيها السدادات المستعملة، «وخُصِّصت جوائز لكل من يقترح صنوفًا جديدة من المنتجات التي يمكن تصديرها، وكان بين تلك الجوائز أحيانًا واحدة هي أشد ما يرغب فيه الناس، أعني الرحلة إلى الخارج.» وهي كذلك تبعث البعوث لاستكشاف البحر الأبيض والتنقيب فيه عن أعشاب بحرية تُستخرَج منها مادة اليود، هذا إلى إجراء التجارب في القوقاز لزراعة الشاي لعلهم يستطيعون أن ينقصوا ما يستوردونه من الصين، أضف إلى ذلك أنهم استبدلوا ما ينبت من القطن في التركستان بالقطن الأمريكي، وترى «الفرد الأكبر» لا يفتأ يتخذ التدابير لرفع نسبة ما يتقاضاه من المال خارج بلاده فيصدر المحصولات كالقمح، بل يصدر كذلك المصنوعات القطنية التي هي من ألزم الضرورات لشعبه داخل حدود بلاده. وعلى الجملة فإن أهل الروسيا يقاسون العناء في جوٍّ من الأمل والحماسة؛ ولسنا ندري حدًّا يقف عنده هذا العناء.