مقدمة
أولًا: من «العقيدة والثورة» إلى «النقل والإبداع»
(١) النقد الذاتي
- (أ) لم يحدث التوازن المطلوب بين التراث والتجديد؛ فقد خرج أقرب إلى التراث منه إلى التجديد، يغلب عليه تحليل القدماء أكثر من تحليل المعاصرين؛ فيتناول الموضوعات القديمة أكثر مما يبيِّن أثرها كمخزون نفسي في سلوك الأفراد والجماعات ووعيهم بالتاريخ، أقرب إلى القلة من المتخصصين منه إلى مجموعة المثقفين، وباختصار أقرب إلى العقيدة منه إلى الثورة. كان السبب في ذلك أنه بالإضافة إلى صعوبة إيجاد ميزان متعادل بين القديم والجديد، كان يتم الانتقال أحيانًا من القديم إلى الجديد قفزًا بعد أن يتم الاستغراق في القديم دون القدرة على الخروج منه خروجًا طبيعيًّا منتقلًا إلى الجديد؛ لذلك خرجت قفزات قديمة وأخرى جديدة متجاورات دون الانتقال بين الاثنين على نحوٍ طبيعي متصل كتوالد طبيعي.٣ كان فك القيد من القدماء هو الهم الغالب على تثوير المحدثين، فما أسهل التثوير إذا ما كُسرت القيود. والتحرر من الماضي هو شرط الثورة في الحاضر، والتخفيف من ثِقَل الحِمْل هو إسراع في التقدم. كان الغالب هو الفكر السالب؛ فالسلب أقوى من الإيجاب، والهدم يسبق البناء، والرفض متقدم على القبول خاصةً في عصرٍ يُخشى من الرفض والتمرد والنفي، ويغلب عليه القبول والتسليم، ويُلاحق فيه المفكرون والمبدعون. كان القصد هو التحرر من المنبع، وخلخلة الجذور حتى يتحقق التثوير خاصةً بعد فشل تجاربنا الحديثة في النهضة في القرن الماضي، والثورة في هذا القرن، عودًا إلى بدأ، ورجوعًا إلى المنبع والجذور الأولى في السكون والخوف والاستسلام. كانت خلخلة الحائط المنيع من الأساس، مرةً إلى الأمام ومرة إلى الخلف تكفي لأية هبَّة ريح لاقتلاعه بدلًا من خبط الرأس فيه فتسيل الدماء. كان يكفي وضع بعض الزيت على المزلاج الصدئ وتحريك المفتاح مرتين فتحًا وغلقًا حتى يكفي ذلك لأية ريح تفتحه بدلًا من ضربة رأس تُسيل الدماء ولا ينفتح الباب.
- (ب) غلب على الكاتب منهج العرض أكثر من منهج التحليل، عرض أقوال القدماء، ثم الدخول معها في حوار من أجل مراجعتها ثم خلخلتها والشك فيها دون تحليل النص وبيان مكوناته، كيف نشأ وتطوَّر ثم انغلق حتى تحوَّل إلى سلطة. كانت الغاية من العرْض كشْف القدماء، وإعادة بسْط فكرهم حتى تسهُل رؤيته، والتعرُّف على بنيته ثم التصويب عليه بعد أن أصبح لوحة مكشوفة. غلب على الحوار مع القدماء أسلوب المواجهة من الأمام وليس أسلوب الالتفاف من الخلف؛ لذلك صعُبت معرفة أين ينتهي العرْض وأين يبدأ النقد؟ متى ينتهي كلام القدماء ومتى يبدأ كلام المحدثين؟ أين ينتهي النص القديم ومتى يبدأ النص الجديد؟ كان يمكن إعادة كتابة النص القديم بأسلوب جديد عن طريق منهج القراءة وآليات التأويل، وهو ما كان يحدث أحيانًا، ولكن الخطورة كانت في ضياع النصين معًا، القديم والجديد، وبالتالي يتوارى التمايز والتقابل بين القدماء والمحدثين. وكان قد تم استعمال هذا المنهج من قبلُ في «مناهج التفسير في علم أصول الفقه»، ولم يكن مُرضيًا بسبب خروج نص يختفي فيه التمايز بين القديم والجديد، بين التراث والتجديد، مجرد قراءة لا أساس لها ولا منطق، عمل فلسفي خالص، ذهنان يتحاوران في لا زمان ولا مكان بهدف بيان إمكانية التجاوز والانتقال من مرحلة تاريخية قديمة بأسلوبها ومناهجها وموضوعاتها إلى مرحلة تاريخية جديدة مخالفة في تطلعاتها ووسائل تعبيرها وأهدافها، وسُمِّي ذلك منهج النقل؛ أي مجرد إعادة كتابة النص القديم بأسلوب جديد، مستعملة لغة العصر، مثالية الشعور، ومنهج العصر، منهج تحليل التجارب الشعورية تحت تأثير الحركات الإسلامية المعاصرة.٤
- (جـ)
أتى مُسهبًا، مُطوَّلًا، وكأنه موسوعة جديدة في علم العقائد منذ «المُغني في أبواب التوحيد والعدل» للقاضي عبد الجبار. وبالتالي استحال عمليًّا الاطلاع عليه من الجمهور لإحداث التثوير المطلوب. يُوضع في المكتبات العامة وليس في المكتبات الخاصة، يُحمل على المناضد وليس بيانًا يُوزَّع على الناس في الشوارع. أوغل في التفصيلات الجزئية حتى ضاعت الرؤية الكلية، فلم يتحقق القصد من التثوير. كان الهدف هو العلم الدقيق قبل الأيديولوجيا، وحتى لا يتهم الكتاب بأنه ضحَّى بالأول في سبيل الثاني. كان الهدف أيضًا مبارزة القدماء ضربة بضربة وطعنة بطعنة حتى يتم الانتصار عليهم في جولات متعددة وليس بالضربة القاضية. كان المطلوب تقويض الأسس النظرية التي قامت عليها تحليلات القدماء، وكان لا بد من خلخلتها. واقتضى ذلك التعامل مع الجذور جزءًا جزءًا حتى لا تُقطع الجذوع والجذور باقية فتُنتِج جذوعًا أخرى. وعِلم الكلام ذاته عِلم حِجاج وجدال وصنعة أدلة وبراهين، بل إن إثبات الشيء مرهون بالدليل عليه، وما لا دليل عليه يجب نفيه بمنطق الأصوليين. كان العذر في ذلك ألا يترك تحليل المحدثين صغيرة ولا كبيرة، شاردة ولا واردة، عرَضها القدماء حتى يتم تذويب الماضي كله في الحاضر، والقضاء على تكلُّسه وقدْرته على التأثير في التاريخ. ولكن العيب في العصر الذي يبغي الاطلاع السريع، والتعامل مع أجهزة الإعلام، وملء الفراغ الثقافي والتعامل مع الثقافة في الأمد القريب، وليس تحليلًا لجذورها التاريخية على الأمد البعيد. هو عصر ثورة المعلومات التي يهمها نقلها من أطراف الأرض إلى أطرافها بصرْف النظر عن مضمونها.
- (د) جاء التبويب أقرب إلى القدماء منه إلى المعاصرين، ليس فقط في البنية الثلاثية للعلم: المقدمات، والإلهيات (العقليات)، والنبوات (السمعيات)، بل أيضًا في ألفاظه ولغته، مثل الذات والصفات والأفعال، والنبوة والمعاد، والإيمان والعمل والإمامة، مما يسهُل على أهل التخصص المعاصرين تصنيفه ضمن العقيدة أكثر من تصنيفه ضمن الثورة. لم يكن هناك إشكال في المقدمات النظرية (المجلد الأول)؛ فقد وصلت نظرية العلم ونظرية الوجود إلى أكبر قدْر ممكن من التعقيل والتنظير والتعميم، متجاوزةً العقيدة إلى المبادئ العامة؛ أي إلى الأوَّليات التي تقوم عليها أية عقيدة.٥ كما أن «التوحيد» (المجلد الثاني) و«العدل» (المجلد الثالث) أقرب إلى العموم منهما إلى الخصوص، وإلى العقل منهما إلى النقل؛ فلفظ «التوحيد» لفظٌ فلسفي وميتافزيقي ووجودي، وليس بالضرورة لفظًا عقائديًّا. إنما كان الإشكال في «السمعيات» التي غلبت عليها الألفاظ العقائدية: النبوة، والمعاد، والإيمان، والعمل، والإمامة؛ لذلك آثرنا وضْع اللفظ الجديد تحت اللفظ القديم؛ فالتوحيد هو الإنسان الكامل، والعدل هو الإنسان المتعين. والنبوة والمعاد يشيران، إلى التاريخ العام؛ والإيمان والعمل والإمامة يشيران إلى التاريخ المتعين. في الظاهر البنية القديمة لم تتغيَّر، الإلهيات والسمعيات. وفي الحقيقة تغيَّرت لأنه أمكن تحويل هذين القسمين للعقائد إلى بُعدين جديدين ينقصان في وجداننا المعاصر، الإنسان والتاريخ. آثرت الإبقاء على الشكل وتغيير المضمون، الشكل القديم لجذب القراء القدماء والأزهريين وعلماء أصول الدين، والمضمون الجديد لجذب القراء المحدثين والجامعيين والثوريين. وبلغة التضاد العصري، الأول لجذب السلفيين، والثاني لجذب العلمانيين، تحقيقًا للمصالحة الوطنية بدلًا من الاقتتال وسفك الدماء في الجزائر ومصر. والأفضل الإبقاء على الشكل وتغيير المضمون من تغيير الشكل والإبقاء على المضمون.٦كان يمكن في مرحلة أخرى أن يصبح للجديد الأولوية على القديم، ولكن تضخم العمل في خمسة مجلدات جعل أي إضافة له بمثابة انتحار عملي. كما أن زيادة الجديد على القديم قد تقلِّل من آليات التخفي والحذَر، وبيان إمكانية خروج الجديد من القديم كما تنص البعير بإخراج رأسها دون جسدها وترك إكمال الخروج لأجيال قادمة؛ فالتغيير على الأمد الطويل خير من الفرقعة على الأمد القصير. ومع ذلك فإن علوم الحكمة أكثر أمانًا من علم أصول الدين، وعلوم للخاصة وليست علومًا للعامة. فهل يؤدي ذلك إلى أن يكون للجديد الأولوية على القديم، وأن يتجه نحو الإبداع أكثر مما يتجه نحو النقل؟ إن الإسراع بمعرفة النتائج دون المقدمات، وبالحصاد قبل الزرع، وبالثمار قبل البذور، أمر بشري. ولكن التأسيس والتأصيل والبرهان ضرورة علمية؛ لذلك قد يغلب القديم على المجلدين: الأول «النقل»، والثاني «التحول». وقد يبدأ الجديد في المجلد الثالث «الإبداع» على حذَر؛ فالأفضل أن يتولَّد الجديد من القديم، وأن يخرج الإبداع من النقل على نحوٍ طبيعي، وربما على نحوٍ خفي يصعب استئصاله.٧
- (هـ) زادت نسبة الهوامش والنصوص الحرة مما جعل الكتاب مثقلًا متضخمًا، قد لا ترن في آذان جميع القراء، وقد لا تثير عواطفهم ووجدانهم. بدت تكرارًا لا فائدة منه. كان من الأفضل أخذ عبارات دالة أو تحليلها حتى تتحول إلى نصوص مدروسة وليس مجرد نصوص خام. وقعت مغالاة في إيراد النصوص حتى إنها بلغت نصف كل صفحة؛ أي نصف الكتاب، مجلدان ونصف من خمسة مجلدات، وأين القارئ اليوم الذي يستطيع استيعاب ذلك كله؟ ألا يؤدي ذلك التضخم إلى عكس المطلوب، أن تصبح العقيدة من عمل الخاصة وليست تنويرًا للعامة؟ كان الهدف إشراك القارئ مع المؤلف في نفس التجارب، التعامل مع نصٍّ قديم مثير للأذهان، ومقلِق للأعصاب، إشراكهم في الغضب والثورة، خاصةً فيما يتعلَّق بنصوص السلطان، وإشراكهم في التأييد والدفاع، خاصةً عن نصوص المعارضة وإبرازها للمعاصرين. فالجرأة في العقائد لها ما يساندها أيضًا عند القدماء في تراث المعارضة الذي ضُربت حوله مؤامرة الصمت وأصبح في طي النسيان. وقد يكون العذر في ذلك استعمال بعض آليات التخفي؛ فعلم العقائد ليس من السهل التعرُّض لنصوصه بالفهم والتأويل بعد أن أصبح علمًا مقدَّسًا في الأذهان، وأصبح إنتاج القدماء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فالنص القديم المثير للغضب يشارك القارئ فيه وينفعل به غاضبًا نظرًا لتجدُّد حاجات العصر. والنص القديم المثير للتأييد والدفاع عن حاجات العصر يحمي المؤلف من الاتهام بالخروج على السلف وأقوال القدماء. لو كان في النص القديم شرٌّ فهو منهم ننقطع عنه، ولو كان فيه خير فهو مِنَّا نحرص عليه. لو أثار النص الجديد أنصار القديم فهو نص القدماء، ولو أعجب النص القديم أنصار الجديد فهو نص المحدثين. ولا فرق في آليات التخفي بين استعمال نصوص القدماء أو نصوص المحدثين.٨ ومع ذلك لم يسْلم الكتاب من الهجوم عليه من غير المتخصصين والمزايدين، والمتملقين للأذواق العامة، والراغبين في الشهرة، والحريصين على السيطرة على الرأي العام، شفطًا للدولة والمجتمع من أسفل، بدلًا من الانقلاب عليهما من أعلى، مجرد زوبعة لم تتحوَّل إلى إعصار.
- (و) غابت التحليلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تبيِّن نشأة الأفكار والعقائد القديمة وحاجات العصر الحديثة وتجاربه ومطالبه، وحتى لا تبدو الأفكار طائرة في الهواء، لا مستقر لها ولا مكان. غاب البحث في تكوين النصوص وتدوينها وصياغة العقائد وتكلسها حتى يمكن بيان نشأتها في التاريخ قبل أن تصبح مقدَّسًا خارج التاريخ مع أن البحث في النشأة والتكوين كان جزءًا من التراث والتجديد.٩ وكان الاستماع إلى هذا النقد المستمر من علماء الاجتماع والمؤرخين يهزُّ الأعماق ويجد له مهربًا في تحليل الشعور. كان يشفع في ذلك أن المنهج المختار يبرأ عن رد الظواهر إلى أسبابها الاجتماعية فحسب، ويؤثِر إبقاءها تصوراتٍ في الذهن وأبنيةً في الشعور في مجتمعات تراثية ترى حقائق مطلقة في وعيها، وأن وحيها خارج التاريخ. ومع ذلك فإن بيان نشأتها في ظروفٍ اجتماعية معينة، وفي أتون الصراعات السياسية، يساعد على استعمالها في عصرنا كسلاح فكري بدلًا من ممارسات المعارضة استنادًا على تراث السلطة. الأفكار والعقائد وظائف اجتماعية وفاعلية في الجدل الاجتماعي، ولكن خشية الوقوع في منطق النشأة والتكوين حدَثَ ردُّ الفعل في الوقوع في منطقة البنية والماهية المستقلة. والجمع بين التاريخ والبنية في منهج مزدوج يفي بالمطلبين، حق الواقع الحامل للفكر، وحق الفكر المستقل عن الواقع. ولا ضيرَ أن تتكامل المناهج، وأن تتكاتف الجهود، وأن تتعدَّد الرؤى، وكلٌّ ميسَّر لما خُلق له.١٠
- (ز) غياب المقارنات مع الفكر الغربي بوجه عام ولاهوت التحرير بوجه خاص حتى يجد الكتاب مستقرًّا له وميدانًا وعلمًا قائمًا يربط نفسه به ويضع نفسه فيه. وإذا كانت الغاية من «التراث والتجديد» هو التحديث، فأين الحداثة؟ كان الخوف من المقارنات ناشئًا عن رفض التحديث من الخارج عن طريق الانتساب إلى رؤية أو مذهب أو منهج غربي، ثم قراءة التراث ابتداءً منه، إسقاطًا أو قراءةً أو تحليلات، وإيثار التحديث من الداخل بفعل الاجتهاد، وإعادة قراءة القديم بناءً على متطلبات الحديث وحاجات العصر.١١ كانت النية حاضرة، وما زالت، في كتابة دراسة خاصة عن لاهوت التحرير عرضًا ومناقشةً ونقدًا، إهداءً إلى الأخوة أقباط مصر، لبيان إمكانية تثوير الدين إذا كان ما زال يغلب عليهم الاتجاهات المحافظة ومساعدتهم على التحديث والعلم بما يدور حولهم من اجتهادات النصارى في الخارج.١٢ كان يمكن إكمال هذا النقص في الهوامش لمن شاء المقارنة، وإثارةً للأسئلة، وتفتيحًا للموضوعات، ووضعًا لبرامج في المستقبل لجيل جديد من الباحثين. ربما ما زال هناك فصل حادٌّ بين الجبهتين الأولى: موقفنا من التراث القديم، والثانية: موقفنا من التراث الغربي، كرد فعل على التعالم باستعمال الثقافة الغربية والزهو بمعرفتها، والدراية بأسماء أعلامها ومذاهبها، وحتى يحظى الباحث بحظوة تجعله أقرب إلى المحدثين منه إلى القدماء، وتخفيفًا للشعور بالنقص من القدماء أمام المحدثين.
- (ﺣ) غلبة الإنشائية على المقدمة والخاتمة، وبعض أجزاء الخطاب في الداخل جعل العلماء ينأون عنه والسياسيين يبرءون منه. والإنشائية أيديولوجيا وليست علمًا، وعظًا وليست تحليلًا، خطابةً وليست برهانًا. وأخذ البعض ممن لا يقوى على الصبر هذه الأجزاء الإنشائية لنقد الكتاب كله وبالتمايز عنه، وهم علماء لا خطباء، عقلانيون لا دعاة. كان السبب الإجرائي هو أن «التراث والتجديد» كان مقدمة «من العقيدة إلى الثورة»، فلما صدر بمفرده قبل صدور الكتاب بثمانية أعوام، جاء الكتاب خاليًا منها ومن أية مقدمة أخرى. وطال الوقت بحثًا عن مقدمة بديلة، وأخيرًا استقر العزم على تقليد القدماء بعد معرفة مقدماتهم. وكانت في معظمها مدحًا لله وللسلطان. وجاءت مقدمة الكتاب قلبًا لمقدمة القدماء، كما أن الكتاب كله قلب لعلم الكلام القديم رأسًا على عقبة، انتقالًا من مدح السلاطين إلى الدفاع عن الشعوب. وجاءت الخاتمة أقل إنشائية أيضًا، قلب للقدماء من الفَرْق بين الفِرَق إلى الجمع بين الفِرَق، ومن الفرقة الناجية إلى الوحدة الوطنية. وكان السبب الفعلي هو أن الجمهور جزء من الخطاب حتى يحدث أثره فيه. ولما كان للجمهور لغته وأسلوبه، غلبت بعض الإنشائية في التحليل تحقيقًا لهدف الانتشار في الغالبية على التأثير في الأقلية، وإيثارًا للعلم النافع على العلم الخالص؛ فالعلم حركة وتغيُّر ونشاط وفاعلية وتاريخ. ليس الهدف من العلم النظر بل العمل. والنظر ما هو إلا مقدمة للعمل، وقد يكون البحث النظري الخالص أحيانًا ترفًا لا قِبَل للتاريخ به إذا كان المنزل يحترق ويحتاج لمن يطفئ النار. صحيح أن البحث النظري على الأمد الطويل هو الحل الجذري، ولكن في مجتمعات مستقرة استطاعت أن تفي بالحد الأدنى من الخدمات والحاجات الأساسية والاستقلال والكرامة والوطنية. وهناك الأسلوب الفلسفي الذي يجمع بين التحليل العلمي والأسلوب الأدبي، يعرفه الخاصة والعامة، ويفي بشروط البحث النظري والبيان للناس.١٣
- (ط) لم يُحدث «من العقيدة إلى الثورة» الأثر المطلوب، ولم تَقُم الدنيا ولم تقعد. لم يحدث تحوُّل في عقائد الناس، ولم تقع هزة في أروقة المتخصصين، بل ربما زادت العقيدة تكلسًا وتشيؤًا، وانقلبت الثورة على نفسها في ثورة مضادة. يرن عن بُعد وليس له إلا رجع الصدى، ربما لتضخمه مما جعل البعض يطلب اختصاره في جزء واحد.١٤ ربما لهموم الناس اليومية وانشغالهم عن العلم التأسيسي على الأمد الطويل. ربما لأننا نعيش في عصر الاستقطاب بين العقيدة والثورة؛ أي بين السلفية والعلمانية إلى حد الاقتتال وسفك الدماء، وبالرغم من نهاية عصر الاستقطاب في العالم وبداية العولمة عند غيرنا. ربما ليس له منبر شعبي يبسطه للناس وتُقام فيه معاركه بالرغم من محاولة ذلك في «اليسار الإسلامي». ربما ليس له جماعة تطوِّره كما هو الحال في الجماعات والمدارس التي تنشأ حول المذاهب وأصحابها. ربما ليس له حزب يتبناه؛ فقد كبا الإصلاح الذي أراد «من العقيدة إلى الثورة» إقالته من عثرته وتطويره من أجل لمِّ الشمل والوحدة الوطنية.١٥ ربما ليس له حزب ثوري يقوم بتحويل الأيديولوجيا الثورية إلى ممارسات ثورية بالرغم من التنبيه على ذلك سلفًا في «التراث والتجديد».١٦ ربما لأن الإعلام والثقافة والتعليم ما زال كل ذلك تحت سيطرة الدولة التي تستعمل العقيدة لإيقاف الحراك الاجتماعي والدفاع عن الوضع القائم بلسان فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس، وتستعمل الثورة ضد العقيدة بفضل مثقفي الدولة وأجهزتها، تضرب هذا بذلك مرة، وذلك بهذا مرة أخرى حتى يضعف الجناحان ويقوى القلب. والكل يريد السلطة القائم فيها والمعارض لها، والثقافة لعبة السياسة، والوطن هو الخاسر.١٧
(٢) من علم أصول الدين إلى علوم الحكمة
- (أ) علم أصول الدين وعلوم الحكمة كلاهما علمان نظريان يؤسِّسان عقائد ونظريات في مقابل العلمين المنهجيين اللذين يؤسِّسان مناهجَ وطرقًا، علم أصول الفقه وعلوم التصوف. وعلى الرغم من وجود موضوع منهجي في علم أصول الدين، وهو «العقل والنقل»، وموضوع منهجي آخر في علوم الحكمة وهو «المنطق»، إلا أن الطابع العام للعلمَين هو الطابع النظري. وهذا لا ينفي وجود فكر عملي أخلاقي سياسي في كلا العلمين، الإيمان والعمل والإمامة في علم أصول الدين؛ وعلم الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل في الحكمة العملية في علوم الحكمة، ولكنه فكري عملي نظري؛ أي دراسة نظرية خالصة لموضوعات الأخلاق والسياسة والاقتصاد.١٨
- (ب)
علوم الحكمة تطوير طبيعي لعلم أصول الدين، وإعادة تفكير في نظرية العلم التي تحوَّلت إلى منطق، ونظرية الوجود التي تحولت إلى طبيعات، والإلهيات التي ظلت إلهيات، والسمعيات أو النبوات إلى نفسانيات أو شرعيات، كما هو الحال عند إخوان الصفا بإضافتهم قسمًا رابعًا إلى علوم الحكمة. المنطق تطوير لنظرية العلم، والطبيعات تطوير لنظرية الوجود، والإلهيات؛ أي نظرية واجب الوجود وتطوير لنظرية الذات والصفات والأفعال. وقد كان الفلاسفة الأوائل متكلمين قبل التحوُّل إلى فلاسفة بفضل قراءة الوافد بالإضافة إلى الموروث مثل الكندي. ويقل الكلام تدريجيًّا حتى تبتلعه الفلسفة كما هو الحال في علم الكلام المتأخِّر ابتداءً من القرن السادس.
- (جـ) علوم الحكمة أيضًا تطوير طبيعي لعلم أصول الدين من حيث منهج الاستدلال؛ فبينما يعتمد علم أصول الدين على الدليل النقلي والدليل العقلي، فإن علوم الحكمة تعتمد في الغالب على الدليل العقلي وحده. صحيح أن الدليل النقلي وحده دون دليل عقلي دليل ظني طبقًا لنظرية العلم في علم أصول الدين، وأن العقل أساس النقل عند المعتزلة، وأن مَن قدح في العقل فقد قدح في النقل لموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول عند ابن تيمية، ومع ذلك فإن استعمال الدليل النقلي يعادل استعمال الدليل العقلي في علم أصول الدين.١٩ أمَّا علوم الحكمة فإنها استغنت استغناء شبه كلي عن الدليل النقلي، واعتمدت على اتساق الخطاب العقلي وحده؛ فالحكمة تتجاوز الديانات والكتب المقدسة. هي الحكمة الخالدة الواحدة التي وراء تنوُّع الشرائع وتعدُّد الديانات. علوم الحكمة بهذا المعنى تطوير للاعتزال. كان الكندي متكلمًا قبل أن يصبح فيلسوفًا، وله رسالة في الاستطاعة في موضوع خلق الأفعال. ثم خطا خطوة أبعد نحو علوم الحكمة، فكان أول فيلسوف، فيلسوف العرب.
- (د) علوم الحكمة تطوير طبيعي لعلم أصول الدين، وتحوُّل للعقائد إلى نظريات، وقواعد الإيمان إلى تصورات عامة للكون، وباختصار تحويل «الثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا». لقد وضع علم أصول الدين نظرية الذات والصفات والأفعال، وتنازعها تصوران، التشبيه والتنزيه، الحلول والمفارقة، التشخيص والتعقيل. ثم طوَّرتها علوم الحكمة إلى نظرية واجب الوجود، الموجود لذاته في مقابل الموجود بغيره، انتقالًا من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، دون ما حاجة إلى أدلة على وجود الله كما هو الحال في علم أصول الدين أو إلى دليل أنطولوجي كما هو الحال في الفكر الغربي. صحيح أن نظرية الوجود في المقدمات النظرية في علم أصول الدين قد اقتربت أيضًا من مباحث الأنطولوجيا، ولكنها ظلت أنطولوجيا الأجسام المادية؛ أي الجوهر والأعراض، منها إلى الأنطولوجيا العامة.٢٠ وصحيح أيضًا أن علوم الحكمة ما زالت متصلة بالعقائد بالرغم من تحوُّلها إلى تصورات؛ فصفات واجب الوجود مثل العلم والحياة والقدرة تشبه صفات الذات في علم أصول الدين. كما أن موضوع قِدَم العالم وحدوثه هو الغاية القصوى من مبحث الوجود في علم أصول الدين من أجل إثبات حدوث العالم كدليل على وجود الله. وموضوع المعاد في علم أصول الدين مشابه لموضوع البعث في علوم الحكمة دون صوره الفنية ابتداءً من عذاب القبر حتى الصراط والميزان والحوض. علم العقائد يغذي علوم الحكمة من الباطن وإن لم يبدُ على السطح في التصورات النظرية العامة في علوم الحكمة.
- (هـ)
علم أصول الدين عِلم مفرد كما يدل على ذلك تسميته بلفظ مفرد، لم تتمايز علومه بعدُ إلى علم الإلهيات وعلم النبوات أو علم العقليات وعلم السميعات. في حين أن علوم الحكمة علوم بالجمع كما يدل على ذلك تسميتها بلفظ الجمع. تمايزت فيها علوم المنطق والطبيعات والإلهيات طبقًا للقسمة الثلاثية الشهيرة. وبالتالي تُعتبر علوم الحكمة أكثر تطورًا من علم أصول الدين من حيث تحوُّل العلم الواحد الشامل إلى علوم جزئية متخصصة. وقد حدث نفس التمايز في علوم التصوف بالنسبة إلى علم أصول الفقه؛ فقد تمايزت العلوم داخل التصوف لدرجة أن كل مقام أو حال أصبح علمًا في حين ظل علم أصول الفقه علمًا واحدًا، وكما تدل على ذلك تسمية كل علم بالجمع أو المفرد. ولا تدل وحدة علم أصول الفقه على تأخُّره، بل على وحدة النسق العلمي بالرغم من اعتماده على علم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ المستمدين من علوم القرآن. ولا يدل تعدُّد علوم التصوف على تقدُّمها بل على تشعُّبها.
- (و) علم أصول الدين يتعامل أساسًا مع الداخل، مع الموروث الديني، في حين تتعامل علوم الحكمة أساسًا مع الخارج، الوافد المنقول بعد أن أصبح موروثًا بعد عصر الترجمة. صحيح أن علم أصول الدين يتعامل أيضًا مع الخارج، ولكن في مرحلة متأخرة وليس في مرحلة النشأة، في مرحلة التطور والاكتمال وليس في مرحلة التكوين الأولى أو حتى في مرحلة الانهيار الأخيرة، مرحلة قواعد العقائد السلفية. وقد استخدم البعض منه كأدوات وثقافات حديثة لنصرة العقائد القديمة والدفاع عنها وليس كحقائق مستقلة بذاتها.٢١ كانت أقرب إلى علوم الوسائل منها علوم الغايات، في حين أنها في علوم الحكمة أقرب إلى علوم الغايات منها إلى علوم الوسائل.٢٢ كان هدف علم أصول الدين الدفاع عن الأنا ضد الآخر، خاصةً في البداية وعلى مستوى العقائد، في حين كان هدف علوم الحكمة تمثُّل الآخر واحتوائه واستعماله كأدوات وألفاظ للتعبير بها عن مقاصد الحضارة الجديدة الناشئة. وبالرغم من اقتراب علم الكلام المتأخر من علوم الحكمة، إلا أنها ظلت فيه خارجية عن بنية العقائد، مجرد مقدمات نظرية وصلت إلى حد ثلاثة أرباع العلم. أمَّا علوم الحكمة فإنها تكاد تخلو من العقائد الكلامية المباشرة، وتعبِّر عن تصوُّرات عامة وشاملة للكون اعتمادًا على الثقافة الوافدة، ومن خلال مفاهيمها وألفاظها وتصوراتها. فإذا كان علم أصول الدين رؤيا للأنا من خلال الأنا وواقعها، فإن علوم الحكمة رؤيا للأنا من خلال تفاعلها مع الآخر.
- (ز)
كانت العقائد للعامة، وكان المشتغلون بعلم العقائد أكثرية حريصة على عقائد العامة، في حين كانت علوم الحكمة للخاصة، وكان المشتغلون بها أقلية تصدم عقائد العامة. كانت علوم العقائد تُدرَّس في المساجد، في حين حمل لواء علوم الحكمة أفراد قلائل متَّهمون بالكفر من خطباء المساجد وأئمتها. صحيح أن الغزالي قد دعا إلى «إلجام العوام عن علم الكلام»، كما أن رسائل إخوان الصفا كانت تعبِّر عن الثقافة الشعبية، إلا أن الغزالي كان يود إبعاد العامة عن طرق النظر حتى تظل في اختيار التصوف لها كطريق. وإن إخوان الصفا في النهاية كانت من الصفوة المختارة والأقلية المثقفة. كان علماء الكلام من الحرفيين وتجار السوق، كان منهم النجار والعلَّاف والغزَّال، في حين كان الفلاسفة من العلماء والوزراء وعلية القوم وندماء البلاط. وإذا كان علم أصول الدين مستمرًّا كمخزون نفسي عند الجماهير، خاصةً فيما يتعلق بتراث السلطة، فإن علوم الحكمة قد انقطع الاتصال بها لأنها كانت أقرب إلى الدوائر الخاصة المغلقة منها إلى الثقافة العامة لم يبقَ منها شيء في وعي الجماهير إلا جانبها الإشراقي من خلال التصوف. ومن هنا ارتبطت ثقافة الجماهير بعلم أصول الدين أكثر من ارتباطها بعلوم الحكمة. بينما ارتبطت ثقافة الصفوة بعلوم الحكمة أكثر من ارتباطها بعلم أصول الدين. وبدلًا من علوم الحكمة القديمة انتشرت الثقافة الغربية المعاصرة كوافد حديث يملأ فراغ الموروث القديم. كما انتشرت أيضًا بين الخاصة دون العامة.
- (ﺣ) كان هدف الفرقة الناجية من بين الفِرَق الهالكة تدعيم السلطة دفاعًا عن النظام القائم، بينما كان الغرض الأساسي من علوم الحكمة تقويض السلطة القائمة من الداخل؛ إذ انتشرت في الجماعات السرية مثل إخوان الصفا، وارتبطت بفِرَق المعارضة العلنية مثل المعتزلة، أو السرِّية مثل التشيُّع.٢٣ صحيح هناك فِرَق كلامية للمعارضة كما أن هناك من الفلاسفة مَن كان جليس السلطان مثل: الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، ولكن الغالب على العقائد السنية تدعيم الدولة السنية، بينما كان الغالب على نظريات الفلاسفة الاستقلال عن السلطة الدينية والسياسية. سجن ابن سينا ومحنة ابن رشد. لذلك لم يتعرض «من العقيدة إلى الثورة» لعقائد الشيعة؛ لأنها لم تكن مخزونًا نفسيًّا مباشرًا في مصر والوطن العربي والعالم السُّني، بالرغم من حب مصر لآل البيت، وتأسيس الأزهر لنشر الشيعة حتى صلاح الدين، ووجود الشيعة في الخليج والعراق. وهو على أية حالة نقص كبير يعيبه علماء إيران. ولكن علوم الحكمة ذات صلة وثيقة بالتراث الشيعي؛ لذلك أمكن إضافته بلا حرج، ليس فقط عند السجستاني والعامري، بل أيضًا عند الطوسي وناصر خسرو والشيرازي وغيرهم. وربما للشيعة باع طويل في علوم الحكمة أكثر مما للسُّنة.
- (ط)
قام علم الكلام في صورة فِرَق؛ أي تيارات جماعية أو أحزاب سياسية أو قوًى اجتماعية، مثل السُّنة والشيعة، والمعتزلة والخوارج، والمرجئة والجهمية. وقد كُتب تاريخ علم الكلام بطريقة تاريخ الفِرَق وبطريقة نسق العقائد معًا. في حين حمل لواء الحكمة أفراد قلائل: الكندي والرازي والفارابي والعامري وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد. صحيح أنه كان هناك رؤساء للفِرَق مثل الأشعري وواصل بن عطاء، وكان هناك فكر جماعي مثل إخوان الصفا، ولكن ظل التمايز بين العلمين هو التمايز بين عقائد الفِرَق ومذاهب الفلاسفة. المتكلمون كثرة والفلاسفة قلة. يُعَد المتكلمون بالمئات في حين يُعد مشاهير الفلاسفة على أصابع اليدين. صناعة الكلام مشاع في حين صناعة الفلسفة نادرة.
- (ي) وكما ارتبط علم أصول الدين بعلم أصول الفقه، فكلاهما شقَّان لعلم واحد هو علم الأصول، الأول أصول النظر، والثاني أصول العمل، ارتبطت علوم الحكمة بعلوم التصوف من خلال حكمة الإشراق.٢٤ فمن الحكماء مَن ارتبط بالعقل والعلم، أي بالطبيعة، مثل الكندي والرازي وابن رشد. ومنهم مَن ارتبط بالذوق والإشراق مثل الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل. ومن الصوفية مَن ارتبط بالتصوف العلمي والرياضيات والمجاهدات مثل الصوفية الأوائل وصوفية المرحلتين الأخلاقية في القرون الثلاثة الأولى وصوفية المرحلة النفسية في القرنين الرابع والخامس. ومنهم مَن ارتبط بالتصوف النظري مثل صوفية القرنين السادس والسابع، السهروردي وابن الفارض وابن عربي وابن سبعين؛ ففي الجزء الرابع من «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا، وفي «حكمة الإشراق» للسهروردي، لا فرقَ بين علوم الحكمة وعلوم التصوف، بل قد نشأت خصومات وعداوات بين المجموعة الأولى، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، وبين المجموعة الثانية: علوم الحكمة وعلوم التصوف، بين علماء التنزيل وعلماء التأويل، بين استنباط الواقع من الوحي واستقراء الوحي من الواقع.٢٥ وهو النزاع الشهير بين الفقهاء من ناحية والصوفية والحكماء من ناحية أخرى، وعلى الرغم من النزاع بين الفقهاء والمتكلمين.
- (ك) علوم الحكمة تالية على علم أصول الدين، كما أن علم أصول الدين سابق على علوم الحكمة في الزمان. نشأ علم أصول الدين أولًا نشأة داخلية صرفة، ابتداءً من أحداث محلية خالصة مثل الإمامة ومرتكب الكبيرة، واستمر الأمر كذلك على مدى قرنين من الزمان، في حين لم تنشأ علوم الحكمة إلا بعد عصر الترجمة، بعد دخول عنصر ثقافي جديد، هو الوافد، بالإضافة إلى الموروث القديم، فنشأ علم ثالث من حدث ثقافي يجمع بين الموروث والوافد. يطوِّر الموروث ويُعقله كي يتمثل الوافد. ويؤوِّل الوافد ويوظِّفه للتعبير عن رؤية الموروث المتجددة. بدأ علم الكلام مبكرًا منذ القرن الأول، واستمر إلى فترة متأخرة حتى القرن الثامن في علم الكلام الفلسفي عند الإيجي والتفتازاني والبيضاوي وأصحاب قواعد العقائد حتى «رسالة التوحيد» و«الحصون الحميدية». في حين بدأت علوم الحكمة متأخرة منذ القرن الثالث، وانتهت مبكرًا في العالم السني حتى القرن السادس، ببارقة ابن رشد. واستمرت في إيران حتى القرنين التاسع والعشر عند صدر الدين الشيرازي وناصر خسرو. ولم يستطع السلطان عبد الحميد إحياءها بإعادة التحكيم بين الغزالي وابن رشد بين «تهافت الفلاسفة» و«تهافت التهافت».٢٦
- (ل) غلب عِلم أصول الدين على ثقافة المشرق دون المغرب، ربما لقرب المشرق من منطقة الديانات والمذاهب التي نشأ علم الكلام للرد عليها والدفاع عن الشبهات الآتية منها، في حين كان صقع المغرب بعيدًا عن هذه المنطقة كما يعترف بذلك ابن رشد.٢٧ وبالرغم من جمْع ابن حزم لأقوال المتكلمين في «الفصل» في إطار علم تاريخ الأديان المقارن، كان هناك عداء لعلم الكلام في المغرب على ما وضُح في «الكشف عن مناهج الأدلة» لابن رشد. وربما كانت سيطرة الفقهاء في الأندلس على الحياة العقلية أحد أسباب غياب علم الكلام فيه. في حين شاعت الفلسفة في المغرب شيوعها في المشرق بالرغم من محنة ابن رشد. فظهر فلاسفة في المغرب كما ظهر فلاسفة في المشرق. ولا يعني ذلك وجود عقلية مشرقية صوفية إشراقية وعقلية مغربية عقلانية علمية؛ فقد ظهرت العقلانية والعلم في المشرق قدْر ظهور التصوف والإشراق في المغرب. العقلية مفهوم أوروبي وافد، نشأ بدافع عنصري حضاري. إنما التيار الغالب مفهوم علمي ووصف تاريخي.٢٨
ثانيًا: النقل والإبداع بين القدماء والمحدثين
(١) نقل المحدثين
فبعد اتصالنا بالغرب منذ أكثر من مائتي عام، منذ فجر النهضة العربية الحديثة، بدأت علاقة التتلمذ والتعلم على يديه. وتم نقل المعلومات منه إلينا حتى أصبح العالِم هو المتعلم؛ أي حامل العلم وناقله وليس مبدعه وخالقه. وطالت مدة نقل المعارف دون أن ينشأ علم جديد. ولما كان معدل الغرب في الخلق والإبداع أسرع بكثير من معدلنا في النقل والترجمة، ازدادت المسافة بيننا. وكلما ظننا أننا قاربنا اللحاق اليوم بما أنتجه بالأمس اتسعت الهوة بيننا حتى نُصاب بالصدمة الحضارية، ونيأس من التقدم، ونكتفي بدور التابع، ويصبح الآخر في المقدمة ونحن في المؤخرة، حتى لا نكاد نراه فيتبع بعضنا بعضًا. ونتحول إلى تلميذ أبدي لا دور له إلا النقل. ويكون الغرب هو المعلم الأبدي، دوره الأساسي في الإبداع. وتتراكم المعلومات طبقة فوق طبقة، وعلمًا فوق علم، حتى نطمس معالم الواقع ويغيب التنظير المباشر له. فتكون الثقافة في جانب والواقع في جانب آخر، ويصبح العلم حرفة وليس رسالة، وينشأ التكسُّب بالعلم، وتظهر طبقة من حَمَلة العلم ونَقَلة المعلومات، تحصل على الشهادات والأوسمة، وتنال الجوائز المحلية والعالمية، وتصبح نجومًا في أجهزة الإعلام تنافس نجوم الرقص والغناء. وتتكافأ النظريات، وتتعادل المذاهب دون قدرة على الاختيار أو النقد إمَّا بمراجعتها على العقل أو بالتحقق من صدْقها في الواقع، وتنفصل عن بيئتها الأولى التي خرجت منها، وتصبح «عالمية» خاصة بعد سيطرة أجهزة الإعلام الغربية على وسائل نقل المعلومات، فتنتشر حضارة الغرب وحدها، وتُطمَس معالم الثقافات المحلية، وتصبح الحضارة الإنسانية ذات بُعد واحد، أحادية الطرف، وحيدة القرن. بل إن ثقافات الغرب قد تمَّت السيطرة عليها بثقافة أعم هي الثقافة الأمريكية؛ أي اللاتاريخي اللاحضاري الآلي الذي حاول الجمع بين الثقافات الأوروبية المحلية، الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والهولندية والإسبانية، على أيدي المهاجرين الجدد والفارين من القانون والباحثين عن الذهب، العنصري الطائفي الذي لم تؤثِّر فيه فلسفة التنوير في الأعماق، في التصورات وفي السلوك. ولما كانت الثقافة الأساس النظري لكل انتشار آخر، فسرعان ما تعم السيطرة الاقتصادية والعسكرية، وتعم التبعية، وتضيع الهوية لدى كل الشعوب غير الأوروبية. ولا خلاص من ذلك إلا بثورة عارمة مضادة تنقل الأمة من الفعل إلى رد الفعل، من التغريب إلى مقاومة الغرب؛ فمقاومة الغرب إنما هي نتيجة التغريب ورد فعل عليه. يولد الشيء نقيضه، ويتضمنه ليرثه ويحل محله.
صحيح أن إبداعاتنا عملية في إتمام حركة التحرر الوطني، وإنشاء دولنا الحديثة، والتصنيع، واستصلاح الأراضي، وفي الثورات الحديثة، ثورات الضباط الأحرار أو الثورة الإسلامية في إيران أو الثورات والهبَّات الشعبية في مصر والسودان والمغرب والجزائر وتونس والأردن وسوريا. ونظرًا لأن هذه الإبداعات العملية لم تواكبها إبداعات نظرية على نفس المستوى انهارت معظم المشاريع القومية الليبرالية والقومية الاشتراكية والإسلامية. بل وتفاقمت الأزمات، واشتد الكرب: احتلال مزيد من الأراضي في فلسطين، انتهاك حقوق المواطنين، تفاقم أزمة الحريات العامة، ازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء، سيطرة التجزئة على الأمة الواحدة، اندلاع الحروب الطائفية والقبَلية والعشائرية، زيادة التبعية للخارج، الاعتماد عليه في الغذاء والسلاح والتعليم والثقافة، ضياع الهوية لصالح التغريب، سكون الجماهير ولا مبالاتها لما يحدث في حياتها من انتهاك لاستقلالها ونيل من كرامتها الوطنية. كل ذلك يحدث في منطقتنا والعالم يجدِّد نفسه، الرأسمالية تجدِّد نفسها، والاشتراكية تحدِّث نفسها، بينما تنحسر أيديولوجيات العالم الثالث وتنهار مشاريعه في التحرير والاستقلال الوطني.
(٢) إبداع القدماء
ثالثًا: ظاهرة «التشكُّل الكاذب»
(١) خطأ الحُكم بالنقل والتأثُّر والخلط والتوفيق
وقد يتعدى الحكم الخاطئ النقل والأثر إلى سوء الفهم والخلط والتوفيق الهجين بين الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي، بين الحكمة والشريعة، بين العقل والإيمان، بين الفيلسوف والنبي، بين أرسطو ومحمد. إن أقصى إبداع لعلوم الحكمة هي الشروح والملخصات على أرسطو خاصة، صائبة أحيانًا وخاطئة في معظم الأحيان، تخلط بين أفلاطون وأرسطو، بين أفلوطين وأرسطو، من عقليةٍ لا تعرف النقد التاريخي أو الموضوعية العلمية. وهو أيضًا حكم عام ومبتسر يحكم على ظاهر الأشياء. ويرجع الخطأ في الحكم إلى سببين: ذاتي يتعلق بعقلية المستشرق، وموضوعي خاص بطبيعة العمليات الحضارية التي تحدث في حالة التقاء الوافد والموروث في حضارة واحدة؛ فعقلية المستشرق عقلية مفرقة، تقوم على التمييز والفصل ورصد الاختلاف أكثر من رؤية التشابه إثر تجربة العصور الحديثة التي كشفت مخاطر الخلط بين الكنيسة وأرسطو، بين الإيمان والعقل، بين الدين والفلسفة، بين الكتاب المقدس المغلق وكتاب الطبيعة المفتوح. ولما كان المستشرق ابن حضارته فقد حكم على كل نتاج حضارة يقوم على الجمع بين الثقافات والتزاوج بينها، ورؤية العالم من منظور الوحدة أكثر من منظور الاختلاف بأن ذلك خلط وتلفيق وتوفيق، ويقوم على سوء فهم لأحد الطرفين، هو الغالب الوافد لتقريب المسافة بينه وبين الموروث. فأرسطو هو الفيلسوف النبي، حكيم اليونان، المعلم الأول، وسقراط أحد صوفية المسلمين، وهرمس هو النبي إدريس، وأفلوطين هو الشيخ اليوناني، فتقريب الوافد إلى الموروث أكثر من تقريب الموروث إلى الوافد؛ لأن الوافد يمكن تأويله بسهولة، في حين أن الموروث له قواعده وأصوله. وقد أمكن تقريب الوافد إلى الموروث عن طريق نسبة أعمال إلى أرسطو، تاسوعات أفلوطين، حتى يبدو كاملًا، وبالتالي يصبح نموذج الفيلسوف الكامل، خاتم الأنبياء. كما أمكن تقريب الموروث إلى الوافد عن طريق التأويل العقلي للنصوص خاصةً وأن علوم الحكمة قد وحَّدت بين الفلسفة والدين، بين الحكمة والشريعة، بين الوحي والعقل، استئنافًا للاعتزال في جعل العقل أساس النقل، وتأكيدًا لموقف الفقهاء، أن مَن قدح في العقل فقد قدح في النقل، وأن الاتفاق مع بداهة العقل وشهادة الحس والوجدان أحد شروط التواتر.
«من النقل إلى الإبداع» إذن موجَّه ضد فريقين: الأول المستشرقون وأتباعهم من العرب الذين يرون علوم الحكمة مجرد نقل لفلسفة اليونان وامتداد للتراث اليوناني داخل التراث الإسلامي، حكمًا على ظاهرة اللغة، وتأثُّرًا بالحضارة الغربية التي ترى أن اليونان هم الأصل، وبدافع النظرة الدونية للمركز إلى الأطراف؛ فالإبداع لا يكون إلا في المركز والأطراف ليس لها إلا التعليق والشرح. وإن كان لذلك فضل فهو في حفظ تراث الأصل اليوناني ونقله في العصر الوسيط إلى الغرب الحديث قبل أن ينقله الغرب بنفسه مباشرةً بعد أن اكتشف نقص النقل الأول، زيادةً ونقصانًا، أو سوء فهم وخلط. والثاني الفقهاء القدماء والمحدثون؛ فهم الذين يعتبرون فلاسفة الإسلام مجرد دوائر منعزلة على هامش الحضارة الإسلامية، يكفرونهم ولا يرون لهم أي دور إلا في تبعية اليونان، بل والتآمر على العقيدة من الفلاسفة الباطنيين والانحراف بها عن فهمها الصحيح عند متكلمي أهل السُّنة.
يقوم «من النقل إلى الإبداع» على فرض عمل مغاير، أن الحكماء لم يكونوا تابعين للنقل ولا نَقَلَة عنهم، بل كانوا مبدعين، نقلوا أولًا من أجل التمثل، ثم أبدعوا ثانيًا تأكيدًا على وحدة الثقافة. وهم ليسوا دوائر منعزلة على هامش الحضارة الإسلامية، بل مفكرون على التخوم مزدوجو الثقافة، يد في الموروث ويد في الوافد، يد تبني ويد تحمل السلاح. يقوم «من النقل إلى الإبداع» على فرض أن الحكماء كانوا ضد التغريب؛ فاليونان القديم أصل الغرب الحديث. وقف الحكماء أمام الوافد بطريقة المحاور، الند للند، من أجل استيعابه وتمثُّله، والأوسع نظرًا يستوعب الأضيق أفقًا، والأكمل تصوُّرًا يحتوي الأنقص رؤيةً. جمعوا بين الموروث والوافد على عكس المتكلمين الذين يتعاملون مع الموروث فحسب باستثناء المعتزلة وأصحاب الطبائع خاصة، وطوَّروا علم الكلام من علم داخلي إلى علم داخلي وخارجي، مدافعين ليس فقط عن الأمن في الداخل، بل أيضًا عن الأمن في الخارج، فالمتكلمون نصف فلاسفة، والفلاسفة متكلمون كاملون. «من النقل إلى الإبداع» قراءة داخلية لتفاعل الوافد مع الموروث، ورد الوافد إلى وظائفه الداخلية بصرْف النظر عن مصدره الخارجي وشده إلى الموروث بدلًا من شد الموروث إليه؛ فالمياه في المصب لا تعود إلى المنبع.
(٢) جدل اللفظ والمعنى والشيء
- (١)
الثقة بالنفس وعدم الخوف على الدِّين الجديد من الديانات القديمة، بل والإقبال على الثقافات السابقة في وقتٍ لم تملك فيه الحضارة الناشئة ثقافة إلا الشعر والديانات العربية القديمة، والعادات والأعراف القبلية. كما تدل على الانفتاح على الآخرين، وأن فتوح البلدان لا تعني القضاء على ثقافاتها كما حدث في الاستعمار الغربي الحديث، بل الحفاظ عليها، والتعرُّف على مضمونها، ونقلها إلى لغة الفاتحين، وتقديرها واحترامها، واستخدامها كأدوات للتعبير، بل والدفاع عنها ضد سوء تأويلها والطعن فيها والنيل منها، وإكمال أوجه نقصها، والجمع بين شتاتها، وضمها كلها في منظومة واحدة، ورؤية شاملة تعبِّر عن تصورها للعالم، وإعطائها نسقًا متكاملًا، ومثالًا خالدًا على إبداع الثقافات. فتأكيد الهوية لا يمنع من الاختلاف، وإثبات الأنا لا ينفي الآخر، وتأصيل الذات لا يكون على حساب الغير، وليس كما يحدث هذه الأيام من انغلاقٍ للأنا على ذاتها باسم الدفاع عن الهوية والأصالة، والخصومة مع الغير والعداء للآخر باسم تأكيد الأنا وإثبات الذات؛ فانغلق الأنا وانعزل الآخر، وحدث الشِّقاق في الأمَّة، وازدوجت الثقافة، ونشأ الصراع بين الأخوة الأعداء؛ بين السلفية والعلمانية، بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والتجديد، بين العقيدة والثورة. ظاهرة «الشكل الكاذب» مجرد افتراض عقلي قادر على تفسير جدل اللفظ والمعنى والشيء في حالة الالتقاء الحضاري بين ثقافتين، مجرد ظاهرة لغوية لا تمس الإحساس أو الوجدان أو الفكر والنظر أو الممارسات العملية، مثل تحويلِ لفظِ ما بعد الطبيعة أو الفلسفة الأولى إلى إلهيات، أو تحويل الله إلى عقل فعَّال.
- (٢)
القدرة على الحوار مع الآخر، والتعامل معه من موقف الندِّية مع الاحتكام للعقل والطبيعة والتجربة الإنسانية. لم تأخذ الحضارة الناشئة دَور العقيدة الجديدة المتعالية على ثقافات الغير، وهي عقيدة الفاتحين المنتصرين بناءً على مركَّب عَظَمة. ونظرت لحضارات الشعوب المفتوحة نظرة دونية بناءً على مركَّب نَقْص. بدأت الحضارة الناشئة بتقدير العلم واحترام العلماء؛ فهي وريث الديانات القديمة وحاملة لواء الفتح الجديد. ولا فرق بين الوحي والعقل، بين النبي والفيلسوف؛ لذلك وزن الخلفاء ثقل المخطوطات اليونانية القديمة ذهبًا لإحضارها من بلاد الروم إلى عاصمة الخلافة. وانتسب النصارى إليها، وقاموا بخدمتها وترجمة التراث اليوناني من لغتهم السريانية إلى اللغة العربية. كانوا نصارى دينًا، وعربًا لغةً، ومسلمين ثقافةً. ولأول مرة في تاريخ التقاء الحضارات تحدُث هذه الندِّية المتبادلة بين ثقافة الفاتحين وثقافة المفتوحين، بل وأحيانًا لحساب ثقافات المفتوحين لغةً ومُثلًا وتصورات، اعترافًا بفضل الآخر على الحضارة الإنسانية، تأخذ البدن منه وتعطيه الروح.
- (٣)
الوعي المستنير بالصلة بين اللفظ والمعنى والشيء، بين اللغة والفكر والعالم؛ فاللفظ مجرد أداة للتعبير، ولكنه ليس جوهر المعنى، فالمعنى مستقل عنه. اللغة مجرد شكل خارجي لمضمون الفكر، ويمكن التعبير عن نفس المعنى بألفاظ عديدة؛ فالله هو الجوهر والماهية، وواجب الوجود، والعلة الأولى، والمحرِّك الأول، والغاية القصوى، والخير المحض، والصورة الخالصة بألفاظ اليونان. وهو الكمال، والمثال، والمطلَق، والصيرورة، والدافع الحيوي، والتطور الخالق، والحرية، والوجود، والمستقبل بلغة المعاصرين. اللفظ متغيِّر والمعنى ثابت. والألفاظ تأتي من لغات متعددة، وتنطق بأصوات متغايرة. أمَّا المعنى فلا يتغير من لفظ إلى لفظ أو من لغة إلى لغة. وقد تتغير التصورات والمفاهيم والرؤى التي هي تأويل للمعاني طبقًا لنوعية الثقافات وخصوصية الحضارات، التحولات الدلالية للمعنى طبقًا لطبائع الشعوب وأمزجتها. أمَّا الشيء فهو الموضوع القصدي؛ فالعالم أصل الأشياء، لا خلاف عليه بين لفظ ولفظ، وتصور وتصور. العالم أصل اللغة، والأشياء منشؤها.
- (٤)
الاعتراف بحدود اللفظ القديم الذي استعمله علماء الكلام، وأنه أصبح غير قادر على مواجهة الخارج، وإن كان قادرًا على مواجهة الداخل، وأن مواجهة الخارج تتطلب ألفاظًا من نوعه، وأسئلة مستمدة منه، وليس ألفاظًا محلية تقليدية قديمة لا تقوى على الحداثة، وتعجز عن المعاصرة. هي ألفاظ دينية ارتبطت بدينٍ معيَّن، وبتراث خاص لا تقوى على رحابة العقل، وإطلاق الفكر في الوافد اليوناني. هي ألفاظ اصطلاحية مغلقة على ذاتها، يصعب الخروج منها أو الدخول إليها، ألفاظ شرعية يصعب معها الحوار والأخذ والعطاء، والتفاعل مع ألفاظٍ أخرى. المعنى الشرعي الاصطلاحي هو ركيزة المعنى الاشتقاقي والعرفي، هو المعنى الثابت، والعرفي هو المتحول، والاشتقاقي هو جذره الحسي في عالم الأشياء. هي ألفاظ نشأت من ثنايا الوحي، لها قدسيتها وإطلاقها، ولا يمكن تعقيلها أو تنظيرها أو حتى تأويلها. ليست ألفاظًا عقليةً عامةً يمكن الحوار معها واستبدال بعضها بالبعض الآخر. هي ألفاظ خاصة لوحي خاص، الوحي الإسلامي، وليست ألفاظًا عامة تنطبق على الوحي وعلى غيره من مراحل الوحي السابقة أو من الاجتهادات البشرية المستقلة. لا تتمتع بقدْرٍ كافٍ من العموم لمخاطبة الناس جميعًا؛ فكل حضارة تنشأ إنما تبدأ من خصوصية المصطلحات.
- (٥)
التسليم بعجز المصطلحات القديمة عن التعامل مع الثقافات الوافدة. لقد انتشرت هذه المصطلحات في علم الأصول وهو في مواجهة الداخل، ونجحت في كسب معاركها، ولكنها عاجزة عن مواجهة الخارج الذي يعتمد على العقل وحده، ويقدِّم مصطلحات عقلية صرفة. لقد تمَّت التضحية بالألفاظ القديمة وقصرها على علم الكلام وتبني الألفاظ الجديدة، وإنشاء علم بأكمله هي علوم الحكمة؛ فقد تجدَّدت الحياة الثقافية، وانتشرت الثقافة الأجنبية، وأصبحت تمثِّل الآخر المطلق السراح تحديًا للذات. لم تَعُد الألفاظ الاصطلاحية الخاصة قادرة على التصدي للغزو الثقافي الجديد فنشأت مصطلحات جديدة أكثر اتساعًا وعقلانيةً، وأقدر على الحوار مع الثقافات الوافدة.
- (٦)
الاعتراف بفضل المصطلحات الجديدة لما تتسم من عقلانية وطبيعية وواقعية وإنسانية. وهي من السمات الرئيسية للوحي وأسسه في العقل والطبيعة والإنسان والمجتمع والتاريخ، والجرأة على استخدامها، وترك الألفاظ القديمة بالرغم من هجوم الفقهاء واتهام الحكماء بالتبعية والتقليد، والخروج على الموروث، والمروق عن الدين. كانت المصطلحات والألفاظ اليونانية بالمصادفة التاريخية عقلانية طبيعية إنسانية متفقة مع مضمون الألفاظ القديمة، فسهل انتشارها، والتعبير عن المعاني العقلية الطبيعية الإنسانية بألفاظ جديدة مطابقة لها، والبعض منها ألفاظ مشتركة بين القديم والجديد مثل العقل والنفس، والروح، والإنسان. فلماذا يُحكم على هذه الألفاظ المشتركة بأنها وافدة من الخارج وليست نابعة من الداخل؟ الأقرب أن تكون هي الألفاظ القديمة بمعاني جديدة لا ترفضها المعاني الاصطلاحية؛ فالتجديد اللغوي إنما يحدث في حالة عجز الألفاظ القديمة عن التعبير عن المعاني الجديدة فقط. أمَّا في حالة القدرة فتبقى الألفاظ التي يتطابق فيها القديم مع الجديد.
- (٧)
كان من الطبيعي بعد عصر الترجمة وانتشار ثقافات جديدة بألفاظها أن تنشأ عملية تجديد عن طريق تغيير الألفاظ، إسقاط الألفاظ القديمة لعجزها عن التعبير عن المعاني الجديدة، واستعمال الألفاظ الجديدة كأدوات للتعبير والأكثر قدرة على الحوار والتفاعل بين الموروث والوافد. والألفاظ هي ثوب الفكر، والفكر بطبيعته متعدد الأثواب. وإذا ما كبر الثعبان غيَّر من جلده وإلا ضاق عليه ومات. ودون هذه العملية تقع الأمة في ازدواجية الثقافة. تُعجَب الخاصة بالجديد فتتصل به وتنقطع عن القديم. فالفكر أولى بالحرص عليه من اللغة، والمضمون له الأولوية على الشكل. فتتمسك العامة بالقديم كرد فعل على الخاصة، وتتصل به وتنقطع عن الجديد، وبالتالي تقع الأمَّة في صراع بين العلمانية الجديدة والمحافظة القديمة، بين اختيار الصفوة وثقافة الجماهير.
إن معظم الأحكام الخاطئة الخاصة بالنقل والتأثُّر والخلط والتوفيق إنما ترجع إلى أنها تتعامل مع «النقل» أكثر من تعاملها مع «الإبداع»، وتنظر إلى النقل نظرة خارجية محضة دون وعي بظاهرة «التشكل الكاذب». وتغفل الإبداع لأن التأليف حكر على اليونان. أمَّا تأليف الشعوب الأخرى المجاورة السابقة على اليونان مثل شعوب الشرق القديم أو التالية لها مثل الشعوب الإسلامية، فإنه تأليف ديني أخلاقي سياسي، وليس تأليفًا فلسفيًّا ميتافيزيقيًّا نظريًّا منطقيًّا خالصًا، وهو ما يميز التأليف اليوناني القديم والتأليف الغربي الحديث. فالغرب وحده، في مصدره اليوناني القديم، أو في تطوره الحديث، هو الوحيد القادر على التنظير. أمَّا الشعوب اللاأوروبية فليس لها إلا النقل والترجمة والتعليق والشرح والتلخيص والعرض، التهميش على المتون.
رابعًا: مناهج الدراسة لعلوم الحكمة
(١) المنهج التاريخي والمنهج البنيوي
يمكن دراسة علوم الحكمة بعدة مناهج أهمها المنهج التاريخي والمنهج البنيوي. ولا يعني المنهج التاريخي ما هو متبع في دراسات المستشرقين وفي الكتب المقررة عند أساتذة الجامعات، مجرد رصد زماني لأسماء الفلاسفة وعرض مؤلفاتهم وتكرار مضمونها؛ فهذه هي النزعة التاريخانية عند المستشرقين التي ارتبطت بالمدرسة التاريخية في القرن التاسع عشر. وهي العادة المتبعة عند الأساتذة الذين يكررون القديم استسهالًا أو كسبًا أو إيثارًا للسلامة أو للترقية.
وقد يتناول المنهج التاريخي تطوُّر علوم الحكمة من المتقدمين إلى المتأخرين كما هو الحال مع باقي العلماء. وقد لاحظ القدماء هذا التقابل بين المتقدمين والمتأخرين، بين السلف والخلف، بين الأوائل والأواخر، وبلغتنا بين القدماء والمحدثين. إلا أن المتقدمين في التراث أفضل من المتأخرين، والأوائل أكثر علمًا من الأواخر، والسلف أكثر إبداعًا من الخلف، في حين أن المحدثين في عصرنا أفضل من القدماء منذ عصر النهضة الغربي في القرن الماضي.
وقد يكون العيب الرئيسي في هذا المنهج هو إغفال الإبداعات الفردية، ومساواة الفلاسفة بعضهم ببعض، والوقوع في قدْر كبير من التجريد والعمومية، والانتقال بالفلسفة إلى الميتافيزيقا، ومن الموضوع إلى الذات، ومن التاريخ إلى الفكر الخالص، بل ونسيان التاريخ والنشأة لصالح الماهية والبنية. وهذا اختيار فكري ومنهجي، مثل أفلاطون أو وقائع أرسطو.
(٢) منهج تحليل المضمون
- (١) وصف تكوين النص من أجل معرفة كيف تكوَّن في التاريخ ابتداءً من الحدث أو التجربة المعاشة في فترة التدوين؛ فالنص يبدأ في التاريخ من خلال وعي المؤرِّخ. يقع الحدث ويراه المؤرخ ويدوِّنه بلغة ومفاهيم ورؤية، وربما ببواعث ودوافع لأنه جزء من الحدث، وله دور في التاريخ. النص ابن التاريخ دوَّن إحدى لحظاته ثم انغلق النص، وتغيَّرت الأحداث، واستمر التاريخ، وتناقل الناس النصوص بعد أن تكلَّست واستقلَّت عن مسارها التاريخي، وتحوَّلت إلى ثوابت عقلية في علوم الحكمة، ومقدَّسة في علم الكلام، وفي باقي العلوم النقلية، واستدلالية في علم أصول الفقه، وتوجُّهات عملية في علوم التصوف. والنص في علوم الحكمة يبدأ بالنقل ثم بالتحول من النقل إلى الإبداع، ثم ينتهي إلى الإبداع الخالص؛ ففي مرحلة النقل يتم استعمال الخطوة الأولى، وصف تكوين النص بداية بكيفية تدوينه في كتب تاريخ الحكمة ثم قراءتها ونقلها من ثقافة الآخر إلى ثقافة الأنا، ثم الإضافة عليها ابتداءً من روحها وهو ما يُسمَّى الانتحال. كما يبين تطور النص الانتقال من الترجمة إلى نشأة المصطلح الفلسفي إلى التعليق، أي تحرُّك النص المنقول إلى نص مفهوم باحتوائه وتمثُّله وإعادة التعبير عنه بلغة جديدة. كما يبيِّن أيضًا تذويب النص في الشرح بداية باللفظ، والتلخيص بداية بالمعنى، والجامع بداية بالشيء، حتى ينتهي تمثُّل النص الأول قبل إعادة عرضه وإخراجه وتوظيفه في بيئته الجديدة. وهو المنهج المستعمل في المجلد الأول «النقل».٦٣ولا يتم وصف التكوين التاريخي للنص إلا بعيش الواصف التجربة التاريخية القديمة التي عاشها المترجمون والشُّراح والفلاسفة لإعادة بناء الموقف الحضاري القديم بناءً على الموقف الحضاري الحالي؛ فوصف التكوين التاريخي للنص هو فهمه وليس مجرد بيان تركيبه.٦٤ والحقيقة أن الفهم لا يتم من الماضي إلى الحاضر إلا إذا كان الحاضر مُعاشًا أولًا، فتتم رؤية الماضي على أساسه. عيش الحاضر هو أساس فهم الماضي. وتجربة العصر هو أساس فهم التاريخ. لا يستطيع فهم التجربة القديمة إلا مَن عاش التجربة الحالية، وإلا كان كمن يقدِّم طبولًا جوفاء لا يسمع منها إلا رجع الصدى أو كمن يتعامل مع أعاجم صماء لا يرى إلا الحركات. لا يُفهم النص إلا كتجربة مُعاشة عند الباحث وفي الحضارة، فهْم الماضي ابتداءً من الحاضر، وفهْم الحاضر كتراكم للماضي، وإعادة بناء الموقف القديم بناءً على الموقف الحالي، رؤية الماضي في الحاضر، والحاضر في الماضي. وبالتالي تتحقق وحدة التاريخ ووحدة الحضارة، وتظهر البنية الثابتة عبر العصور.٦٥ وتتم الاستفادة من النموذج السابق في حل أزمة العصر، والاستفادة من علوم العصر والتجارب الحالية لفهم تجارب الماضي. لا تُفهم علوم الحكمة ونشأتها في عصر الترجمة بفترتيها، الأولى في القرن الثاني والثانية في القرن الثالث عشر (التاسع عشر الميلادي) إلا بناء على تجارب معاصرة في التعامل مع النصوص الأجنبية واستئناف الحضارة مسارها في دورة ثانية. فإذا كانت الدورة الأولى قد تمَّت مع النص اليوناني، فإن الدورة الثانية تتم الآن منذ مائتي عام مع النص الغربي؛ فالحكيم هو الذي يقوم بالترجمة الآن من أجل احتواء النص الغربي والقضاء على الاغتراب الثقافي المعاصر. وبهذه التجربة الحضارية الجديدة يمكن فهم التجربة الحضارية القديمة عن طريق إعادة بناء الموقف الحضاري الماضي بناءً على وجود موقف حضاري حالي، رؤية الحاضر في الماضي ورؤية الماضي في الحاضر. هذا هو السبيل لفهم عصر الترجمة وما تلاه من شروح وملخصات أولًا، وعرض وتأليف وإبداع ثانيًا. النص تجربة حية عند مؤلفه ولا يُفهم إلا بتجربة حية مماثلة عند قارئه.٦٦ وباتحاد التجربتين يتم فهم النص الأول وإعادة كتابة النص الثاني. ودون معرفة تجارب العصر وهمومه سيظل النص القديم مغلقًا، نصًّا ميِّتًا. قراءة النص القديم لا تكون إلا بوعي يقظ وليس بوعي غافل.٦٧
- (٢) تحليل مكونات النص. والنص خبرة فردية لصاحبه، وخبرة جماعية لمجتمعه وثقافته وحضارته. هو نص إبداعي من خلْق الذات الواعية لموقفها الحضاري. وهو نص جماعي لأن الذات الواعية كائن حضاري يعبِّر عن موقف حضاري؛ فمكونات النص تكشف عن مكونات الوعي الفردي والجماعي، والوعي الفلسفي والوعي التاريخي. الحضارة موقف يتم التعبير عنه وتدوينه في نص فردي وجماعي. تحليل مكونات النص إذن هو منهج لشرح النص بإخضاع النص الفلسفي لعملية تحليل قبل التأويل لمعرفة البواعث العامة للحضارة ومقاصدها.٦٨ ولا فرق بين الوعي الحضاري القديم في تعامله مع النص اليوناني قديمًا والوعي الحضاري الحديث في تعامله مع النص الغربي حديثًا. هناك إذن أربعة أطراف في هذا التحليل المزدوج للنص الماضي في الحاضر وللنص الحاضر في الماضي. الأول النص اليوناني القديم، والثاني موقف القدماء منه، والثالث النص الغربي الحديث، والرابع موقف المحدثين منه. والأنا الواعي هو حلقة الاتصال بين الموقف القديم والموقف الحديث بأطرافه الأربعة، تقرأ الموقف الثنائي القديم، النص اليوناني موضوعًا والقدماء ذاتًا من خلال الموقف الثنائي الحديث، النص الغربي موضوعًا والمحدثون ذاتًا. تدرس الأنا الواعي الموقف كله ثم تبين موقع القدماء منه كما فصَّل القدماء عندما درسوا الموضوع ذاته وبينوا موقع اليونان منه خاصة ابن رشد. وقد تم استعمال هذا المنهج في المجلد الثاني «التحول».وأهم مكونين للنص هما الموروث والوافد.٦٩ الموروث مما يأتي من الداخل، من الحضارة الناشئة، من العلوم النقلية، من علوم العرب. والوافد ما يأتي من الخارج، من الحضارة الغازية، من العلوم العقلية، من علوم العجم. ومن التفاعل بين الداخل والخارج ينشأ النص. في هذا التفاعل يبدو إبداع الذات، وتظهر عمليات الإبداع، «التشكُّل الكاذب»، من أجل حل قضية ازدواجية الثقافة، تغيير الوظائف، إكمال الناقص، عدل الميزان بين الأطراف، وضع الأجزاء المنتشرة في كل واحد، إيجاد نسق عقلي شامل، رؤية تطور المذاهب واكتمالها، إدراك دورات الحضارة وتعاقبها. الوافد من علوم الوسائل والموروث من علوم الغايات.٧٠ الوافد يعطي أدوات التعبير، والموروث هو مضمون التعبير. لو تحوَّل الوافد من أداة إلى جوهر، ومن شكل إلى مضمون نشأت ظاهرة التغريب، وتقوقع الموروث على ذاته ما دام قد فقد أدوات تخارجه، وانغلق وتغرَّب معاديًا الجسم الغريب الدخيل الذي أتى يزاحمه، وتجاوز وظيفة الأداة إلى حقيقة الجوهر.
ويكون تفاعل الوافد والموروث في النص نوعًا أدبيًّا له مقوماته الذاتية وشكله الأدبي، ويتم التعامل معه كما يتعامل النُقَّاد مع النص الأدبي. كما يجوز للفيلسوف أن يتعامل مع النص الأدبي باعتباره نصًّا فلسفيًّا. الجمالي في النص الأدبي، والإخباري في النص التاريخي، والإلزامي في النص القانوني، والإيماني العملي في النص الديني، والمعقول في النص الفلسفي.
إن النصوص التراثية كما بدت في العلوم القديمة كلها أنواع أدبية؛ فالنص الكلامي، والنص الفلسفي، والنص الفقهي، والنص الأصولي، أنواع أدبية قبل أن تكون مضمونًا. فالنص الفلسفي في علوم الحكمة وحدة تحليل واحدة لا تاريخ ولا موضوعات له، بل نوع أدبي واحد في مقابل نصوص العلوم الأخرى باعتباره إبداعًا حضاريًّا مشخصًا.
وتحليل مضمون النص ليس تحليلًا إحصائيًّا شاملًا كما هو الحال في تطبيقات منهج تحليل المضمون في العلوم الاجتماعية في تحليل الخطاب، خطاب الرؤساء أو بيانات المحافظين ورجال الإعلام أو مواعظ رجال الدين؛ فالإحصائيات الكمية الصرفة دون وصف كيفي مجرد أرقام لعدد تكرار الأسماء والأفعال والحروف دون دلالة. إنما يكفي الإحصاء الدال، الكمي الكيفي. رؤية الكيف هي التي تحدد قدْر الكم كما هو الحال في الاستقراء المعنوي عند الأصوليين القدماء، وهو الاستقراء الناقص الذي يفيد معنى التام في الغرب المعاصر. الإحصائيات تقريبية، قد تزيد وتنقص دون أن يؤثِّر ذلك على اتجاه النص العام. تحليل الخطاب ليس غاية في ذاته كما هو الحال أحيانًا في العلوم الاجتماعية وفي تحليل الخطاب في الغرب المعاصر في علم اللسانيات الحديث، ولكنه وسيلة ضبط المعنى بدليل حسي لغوي مادي. تحليل المضمون لا يعطي المعنى، بل يؤكده ويبرهن عليه. ويعطي البراهين الجزئية على الحدوس الكلية، والتفصيلات التي تكمن وراء العموميات. ويكشف عن:- (أ)
مدى استعمال الحجج النقلية، الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لمعرفة مدى اعتماد النص على الموروث أم على العقل، ومدى التكرار، ونوع الآيات والأحاديث، وطرق استخدامها مباشرة أم غير مباشرة، حرة نصية أم معنوية.
- (ب)
مدى ظهور الأنبياء، سواء من خلال الآيات والأحاديث أو بمفردهم باعتبارهم روادًا للحكمة لمعرفة مدى نهل النص من الأنبياء أم من الحكماء خاصةً في النصوص الفلسفية عند الشيعة، حيث تحول قصص الأنبياء من الماضي إلى الحاضر إلى فلسفة في التاريخ من الحاضر إلى المستقبل.
- (جـ)
مدى الإحالة إلى الموروث العام في علوم الكلام والتصوف والأصول أو العلوم النقلية، وأهم أسماء الأعلام والمذاهب خاصةً في النصوص المتأخرة التي غاصت فيها علوم الحكمة داخل منظومة العلوم كلها.
- (د)
الإشارة إلى التراكم التاريخي الفلسفي ومدى تكرار ظهور أسماء الحكماء لمعرفة كيف يبني حكيم على آخر، وكيف يقوم مذهب على آخر، ومدى إحالة اللاحقين للمتقدمين، إحالة الفارابي إلى الكندي والرازي، وإحالة ابن سينا إلى الفارابي والرازي والكندي، وإحالة ابن رشد إلى ابن سينا والفارابي والرازي والكندي أم أن كل حكيم يبدأ من الصفر ويخفي مصادره في حضارة لا تعرف نسبة الأفكار إلى أصحابها، بل تجعلها إرثًا عامًّا ينهل منه مَن يشاء كما هو الحال عند ابن سينا.
- (هـ)
مدى حضور البيئة المحلية في النص، أسماء الخلفاء والأمراء والقوَّاد أو أسماء المناطق الجغرافية، البحار والأنهار والبلدان أو أسماء المدن، بغداد والبصرة وبلخ ونيسابور، لمعرفة مدى ارتكان النص إلى بيئته المحلية وخروجه منها.
- (و)
نوع الإحالة إلى الوافد، مذاهب أو أسماء الأعلام، وأي المذاهب أو الأعلام أكثر إحالة من الآخر، أفلاطون أم أرسطو، جالينوس أم أبقراط لمعرفة توجُّه النص نحو الوافد ومدى حضور الوافد فيه.
- (ز)
مدى استعمال المصطلحات الوافدة، معربة أو منقولة، ومدى الاستقلال عنها بمصطلحات تلقائية شائعة من اللغة العادية، ونشأة المصطلح الفلسفي المستقل؛ فالحكمة لغة وأسلوب.
- (ﺣ)
مدى حضور بيئة الوافد، أسماء الملوك والبلدان والبحار والأنهار والمدن والتواريخ والأمثال لمعرفة مدى تخليص النص المترجَم من شوائبه الأولى التي نشأ فيها من أجل إعادة غرسه في بيئة أخرى بأقل قدْر ممكن منها أو باستبدال بيئة محلية أخرى موروثة بها.
- (ط)
متى تغيب الإحالات إلى المصدرَين الرئيسيين، الوافد والموروث، ويستقل الإبداع، وينتج نصًّا ثالثًا جديدًا لا أثر فيه للوافد أو للموروث أثرًا مباشرًا، وهو الإبداع الفلسفي العلمي الخالص، ومدى نسبة هذا الإبداع للتأليف السابق في مرحلة النقل، شرحًا وتلخيصًا وجمعًا أو في مرحلة التحول من النقل إلى الإبداع عرضًا جزئيًّا أو كليًّا، نسقيًّا أو أدبيًّا.
- (أ)
- (٣) قراءة النص من أجل إعادة توظيف بنيته الأولى التي تكوَّنت في التاريخ حتى العصر الحاضر، سواء بنفس البنية أو ببنية أخرى معدلة أو مغايرة. النص في هذه الخطوة كائن حي، نشأ وتكوَّن وتطوَّر. له مكوناته الأولى ونموه ثم استقلاله. يبدأ مفعولًا ثم يصبح فاعلًا مثل انتقال الإنسان من مرحلة الطفولة والصبا إلى مرحلة الشباب والرجولة. وكما يُولد ويحيا فإنه يهرم ويموت مثل الحكمة الطبيعية في علوم الحكمة والمقدمات النظرية خاصةً نظرية الوجود في المبادئ العامة، والجوهر والأعراض في علم أصول الدين.٧١ لا تتم قراءته إلا بمنهج حي مطابق. القراءة إعادة بناء القديم طبقًا للجديد، إحضار الماضي في الحاضر، وإلغاء الفارق الزمني بين العصور، فهم الذات العارف فهمًا تاريخيًّا زمانيًّا من أجل التعرُّف على الموقف المعرفي الثابت له. وقراءة النص تُعادل قضية المنهج أو نظرية المعرفة المسبقة التي يتطلبها الباحثون والمفكرون العرب المعاصرون المقلِّدون للغرب في أولوية نظرية المعرفة والمدخل المعرفي للعالم. وقد تم اتِّباع هذا المنهج في المجلد الثالث «الإبداع».٧٢وتتم قراءة النص على مستويات ثلاثة:
- (أ)
عرض المادة القديمة كما هي وبأمانة تامة حتى يعرف المحدثون ما أنتجه القدماء عن طريق اكتشاف البنية القديمة التي يقوم عليها النص وقراءة ما بين السطور. وهي البنية القديمة التي تكوَّنت في ظروف النص القديمة.
- (ب)
مناقشة المادة القديمة بعقد حوار مع بنيتها الداخلية وبيان كيفية توظيفها في ظروفها القديمة من أجل تفكيكها وخلخلة ثباتها وإعادة الحركة لها وتسخينها حتى يمكن بعد ذلك تعديلها جزئيًّا أو تغييرها كليًّا إلى بنية جديدة تعبِّر عن ظروف العصر.
- (جـ)
إعادة بناء النص القديم بناءً على ظروف العصر وإعادة كتابته بعد ألف عام، وكأن الحكماء قد بُعثوا من جديد ويقومون بفعل التفلسف في ظروف جديدة، هو المستوى الإبداعي الخالص والذي يرى فيه الحكيم الجديد الحكيم القديم.
وتتحقق قراءة النص بخطوات أربع متمايزة:- (أ)
تخليص النص القديم من شوائبه التاريخية والبيئة الثقافية القديمة، أسماء الأعلام والأماكن والشواهد حتى يصبح ماهية خالصة يسهل التعامل معها وتحريكها في التاريخ، من الماضي إلى الحاضر؛ أي التخلي عن الخاص من أجل العام، والانتقال من الحسي إلى العقلي، ومن الجزئي إلى الكلي، ومن الزماني إلى الأبدي، ومن التاريخي إلى البنيوي. هكذا فعل ابن رشد في «تلخيص الخطابة» متخلِّصًا من الشواهد والأمثلة اليونانية ومستبدلًا بها الشواهد والأمثلة العربية. يُعاد إنتاج النص من جديد. النص لم يَعُد وافدًا؛ أي نازلًا، بل أصبح موروثًا عقليًّا جديدًا في مقابل الموروث النقلي القديم. تقدِّمه الخاصة للعامة، وتقبله العامة مثل قبولها للمورث، فتتسع مداركها، وتتحدث رؤيتها للعالم.
- (ب)
نقل البنية الخالصة من الماضي إلى الحاضر، وتسليطها على العصر لمعرفة مدى استمرارها فيه، وأية وظائف قديمة أو جديدة تؤديها. صحيح أن النص الفلسفي لم يعِش في الوعي المعاصر كما عاش النص الأشعري والنص الصوفي والنص الفقهي وإلا كُنَّا قد استطعنا احتواء الحاضر والقضاء على التغريب في عصرنا كما استطاع القدماء احتواء الواقع والقضاء على عزلة النص. استطاع القدماء تخليص السقراطية من شوائبها وتركيزها على معرفة النفس ونقلها من «اعرف نفسك بنفسك» إلى «مَن عرف نفسه فقد عرف ربه»، بإضافة البُعد الرأسي الناقص إلى البُعد الأفقي الموجود وإكمال علاقة الإنسان بالعالم بعلاقته مع الله، وإكمال علاقة الداخل بالخارج مع علاقة الداخل بالمفارق. وإذا كان أفلاطون قد عرف نصف الحقيقة وأرسطو قد عرف النصف الآخر، فإن الفارابي قد جمع بين النصفين في حقيقة كلية واحدة شاملة تجمع بين الآخرة والدنيا، بين النفس والبدن، بين العقل والحس، بين الله والعالم، بين الداخل والخارج، بين الخيال والواقع، بين الفن والعلم، بين الدين والفلسفة. وبالنسبة لنا قد يتحول المنطق الصوري القديم إلى منطق شعوري حديث. وقد تصبح الطبيعات العقلية القديمة إحساسًا معاصرًا بالطبيعة ينقص المعاصرين. أمَّا الإلهيات الثنائية الرأسية القديمة فقد تتحول إلى إلهيات أفقية من نوع جديد، يصبح فيها الأعلى هو الأمام، والأسفل هو الخلف، ويتم تصوُّر واجب الوجود في حركة وليس في ثبات، في التاريخ وليس خارج التاريخ.
- (جـ)
ملؤها بمضمون جديد لو كانت مطابقة أو تعديلها طبقًا للمضمون الجديد قوة واتجاهًا، أو تعديلها إن لم تكن مطابقة، زيادةً أو نقصًا أو توازنًا وربما قلبًا رأسًا على عقب؛ فقد تغيَّرت المادة الثقافية من اليونانية والرومانية والفارسية والهندية إلى الغربية أساسًا بعد أن ضعف جناحنا الشرقي حاليًّا وقوي جناحنا الغربي، فأصبحنا تقريبًا طائرًا وحيد الجناح. فالتوحيد بين الفلسفة والدين، بين العقل والوحي، بين الحكمة والشريعة ما زال بنية مطابقة لاحتياجات العصر الذي اتُّهِمت فيه العقول بالقصور وضرورة فرض الوصايا عليها من السلاطين والعلماء، قدماء ومحدثين. ومقاربة المنطق في علاقته بالفكر مع الوحي وعلاقته بالحياة ما زالت مقاربة صحيحة تجعل الوحي منطقًا، والمنطق وحيًا، وتصنيف العلوم كلها في الحكمة الشاملة دون فصل بين العلوم الرياضية والطبيعية، والنقلية والعقلية ما زال وضعًا قائمًا نظرًا لفقدان النظرة الشاملة للحياة. فالماضي يصب في الحاضر، يقويه ويلبي حاجاته أو يتكيف طبقًا لمطالبه.
- (د) إنشاء بنية جديدة في حالة وصول التجديد إلى أقصى حالاته وأبعد حدوده، وخلق نص فلسفي جديد لا يكون فقط إعادة قراءة «الشفاء» أو إعادة إنتاجه من جديد، بل خلق «الشفاء» الثاني موازيًا للأول وكأن ابن سينا قد بُعث من جديد بعد ما يقرُب من ألف عام، مستبدلًا بأرسطو هيجل، وبسقراط هوسرل، وربما بالطبيعيين الأوائل وبالمدارس الأخلاقية بعد أرسطو كارل ماركس. وبدلًا من أن تكون الحكمة ثلاثية: منطقية وطبيعية وإلهية، تكون أيضًا ثلاثية: الشعور الخالص، والشعور بالآخرين، والشعور بالعالم، ثلاث دوائر متداخلة، مركزها الوعي، وحولها دائرتان، الدائرة الإنسانية وعالم الأشياء كما هو الحال عند هوسرل.٧٣ وبدلًا من أن تنتهي الحكمة بالإلهيات، وتتوزع الإنسانيات، بدأها إخوان الصفا تحت اسم الناموسيات أو الشرعيات من أجل تلبية مطلب ناقص في عصرنا؛ ومن ثمَّ تبرز الحكمة العملية ابتداءً من الأخلاق والسياسة والتاريخ.٧٤ كما يمكن إبداع نص جديد كلية بتجاوز حكمة القدماء وبنيتها الثلاثية القديمة أو الجديدة إلى بنية أخرى نظرًا لتعامل الحكيم الآن مع الغرب الحديث. قد تكون الحكمة أيضًا ثلاثية: المثالية والواقعية وفلسفات الحياة (الإرادية أو العملية أو الوجودية) الرئيسية في الفلسفة الغربية كما كشف عنها الوعي الأوروبي.٧٥
- (أ)
خامسًا: التبويب والأسلوب
(١) التبويب الموضوعي
مشروع «التراث والتجديد» يعيد بناء العلوم القديمة كأنساق كما تم ذلك من قبلُ في «من العقيدة إلى الثورة» كأنساق للعقائد وليس كتاريخ للفِرَق الكلامية المسماة في معظمها بأسماء رؤساء أصحابها. وعلوم الحكمة علم متكامل له نسقه بصرْف النظر عن أشخاص المتكلمين والفلاسفة.
ولما كان أحد عيوب «من العقيدة إلى الثورة» هو الإسهاب، وأي قارئ يستطيع قراءة خمسة مجلدات، حتى ولو كان مؤلفها القاضي عبد الجبار صاحب العشرين مجلدًا في «المغني في أبواب التوحيد والعدل»؟! ومن ثمَّ كانت الخطة الأولى أن يأتي «من النقل إلى الإبداع» في مجلدين: الأول «النقل»، والثاني «الإبداع». الأول عن الحكمة النقلية، والثاني عن الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية. الأول تحليل للنصوص والثاني تركيب لها. الأول رصد للوافد، نقلًا وتعليقًا وشرحًا وتلخيصًا وعرضًا، والثاني تفاعُل الوافد والموروث تأليفًا وإبداعًا ونسقًا. الأول يغلب عليه المنهج التاريخي ومنهج تحليل المضمون، والثاني يغلب عليه المنهج البنيوي ومنهج قراءة النصوص. الأول حفر البئر والثاني تفجير النفط بلغة أغنياء العصر. للموضوع إذن مرحلتان: الأولى رد الاعتبار إلى الفلسفة وإلى دورهم الحضاري في تمثل الوافد واستعماله للتعبير من خلاله عن الموروث؛ فقد كانوا زعماء حداثة. والثانية الحوار معهم، فكرًا لفكر، وندًّا لند، وعصرًا لعصر. الأولى نقل الخارج إلى الداخل، والثانية نقل الداخل الماضي إلى الداخل الحاضر. هناك إذن استدراك على ما فات، وتقدم من المجلدات الخمسة في «من العقيدة إلى الثورة» إلى مجلدين في «من النقل إلى الإبداع». ومجلدان بالنسبة لمجلدات «الشفاء» التي تفوق العشرة تقدم بالنسبة إلى كم القدماء. إن ضخامة إنتاج القدماء وبعض المحدثين لأن كلًّا منهم لديه مشروع متكامل وليس مجرد كتاب مقرَّر غير مترابط، ولا هدف له كمتطلب حرفة وليس لتحقيق رسالة. ومشروع «التراث والتجديد» به هذا النفَس الطويل من القدماء، من «المغني في أبواب التوحيد والعدل» للقاضي عبد الجبار، ومن «الشفاء» لابن سينا، ومن «إحياء علوم الدين» للغزالي، ومن كتب التفسير والحديث والفقه المطولة. وفي كلتا الحالتين، القراء هم الضحايا. الأول يبدأ من صورة الفكر، النقل، والثاني يتعامل مع مضمونه، الإبداع. ولا تقلُّ معرفة شكل الفعل عن مضمونه؛ فالفكر شكل ومسار واستدلال قبل أن تكون له مادة أو موضوع. الأول يحفر ويؤسس والثاني يبني ويشيِّد. الأول يستقرئ الجزئيات، والثاني يستنبط الكليات. الأول يغلب عليه النقل وتحليل المادة القديمة، والثاني يحاول الخروج من النقل إلى الإبداع عن طريق القراءة.
(٢) الأسلوب المباشر
سادسًا: المصادر والمراجع
(١) استعمال المصادر القديمة
الاعتماد الأول في «من النقل إلى الإبداع» على المصادر الأصلية، وهي المصادر القديمة، المادة الخام. وهي النصوص موضوع التحليل المباشر والقراءة الفلسفية من أجل إعادة البناء. والتفضيل الأول للمصادر الكاملة كما كان الحال في كتب العقائد في علم أصول الدين، النصوص الرئيسية التي وضعت لعلوم الحكمة بنيتها، سواء في مرحلة النقل أو في مرحلة الإبداع. نموذج ذلك الترجمات العربية القديمة وشروح ابن رشد وتلخيصاته وجوامعه عليها في مرحلة النقل، وعروض الفارابي لفلسفة أرسطو، و«الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» لابن سينا في مرحلة التحول وبعض المؤلفات الفلسفية والرياضية والطبيعية، وكذلك رسائل الكندي الفلسفية والطبيعية بصرْف النظر عن الترتيب الزماني في مرحلة الإبداع. فالبنية في التاريخ، في المعية الزمانية، وليست في التوالي الزماني. فابن رشد هو الشارح الأعظم في مرحلة النقل، والفارابي هو المعلم الثاني، وابن سينا الشيخ الرئيس في مرحلة التحول، والكندي فيلسوف العرب في مرحلة الإبداع.
وبعد الأعمال الكاملة تأتي الأعمال الجزئية، الرسائل والمقالات والسير الذاتية، مثل سيرة ابن سينا بيد تلميذه البوزجاني، وسيرة حنين بن إسحاق عما ترجم عن اليونانية. وتدخل في ذلك كل مؤلفات الفارابي التي وُضعت في صيغة رسائل باستثناء كتاب الحروف و«آراء أهل المدينة الفاضلة» وكتاب «الموسيقى الكبير»، وكذلك «رسائل إخوان الصفا» لدلالتها على البنية الرباعية لعلوم الحكمة مثل دلالة أعمال ابن سينا وقسمته الثلاثة، نظرات جزئية تدخل في النسق الكلي. وهناك أعمال جزئية أخرى في إحدى فروع الحكمة، إمَّا في المنطق أو في الطبيعيات أو في الإلهيات، مثل «الحكمة السعيدية في الحكمة الطبيعية»، ومثل كتب المنطق المتأخرة الذي أصبح علمًا مستقلًّا، نثرًا أو شعرًا، مثل «البصائر النصيرية» للساوي، و«السلم المنورق»، والشروح المتعددة على نصوص المنطق القديم في القرنين السابع والثامن بعد نهاية التأليف الفلسفي عند ابن رشد وقبل استئنافه في فارس على يد صدر الدين الشيرازي وملا خسرو.
وكنت قد ظننت تحت وهم مناهج التعليم ومقرراته في عصرنا وتبعيتها للاستشراق الغربي أن مؤلفات علماء الطبيعة والرياضة أدخل في تاريخ العلوم الطبيعية والرياضية منها في علوم الحكمة؛ فأعمال الكندي العلمية وكذلك رسائل الرازي وابن حيان والبيروني والحسن بن الهيثم وثابت بن قرة وأعمال حنين بن إسحاق الطبية وكذلك «القانون» في الطب لابن سينا و«الحاوي» للرازي، و«الكليات» لابن رشد، أقرب إلى تاريخ الطب عند العرب، وكذلك الأعمال الفلكية والموسيقية، كل ذلك أدخل في تاريخ العلوم عند العرب، والذي يبعد عن الحكمة الطبيعية التأملية الخالصة. وكان في مشروع «التراث والتجديد» في صياغته الأولى سيتم عرض هذه المادة في الجزء السادس من الجهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» بعنوان «العقل والطبيعة» محاولة لإعادة بناء العلوم الرياضية والطبيعية. ثم أُضيف إليها «الوحي» في عنوان ثلاثي الإيقاع: «الوحي والعقل والطبيعة» يخرج عن ثنائية الإيقاع المتبع في باقي الأجزاء. ثم جاء التردد نظرًا لأنها أصبحت مهنة خاصة لها متخصصوها. أصبحت موضوعًا لعلم خاص ومعاهد خاصة في تاريخ العلوم، كجزء من تاريخ العلم العام تحت بند «تاريخ العلوم عند العرب». يرث ما قبله عند اليونان والشرق القديم، ويرثه من بعده في تاريخ العلم الغربي الحديث. ثم تبدَّد هذا الوهم بعد دراسة الحكمة الطبيعية، وأنها تشمل كل هذه العلوم الرياضية، الحساب والهندسة والموسيقى والفلك والكيمياء، بل والجغرافيا باعتبارها علم طبقات الأرض، والتاريخ نظرًا لسيادة النظرية الجغرافية على تفسير أمزجة وطبائع الشعوب. ولا عجب أن يضم «الشفاء» القسم الرياضي، وأن تضم رسائل إخوان الصفا القسم الرياضي كذلك. والعجيب أنه هو الجانب الذي به الإبداع الخالص دون الإحالة إلى الموروث أو الوافد والذي يتم فيه التركيز على العقل والطبيعة تنظيرًا مباشرًا للواقع دون رؤيته من خلال نص الأوائل أو الأواخر.
وهناك مؤلفات فلسفية أخرى لم يكتبها حكماء خُلَّص مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، بل كتبها مؤلفون موسوعيون مثل الغزالي، الذي كان متكلمًا مع المتكلمين في «الاقتصاد»، وحكيمًا مع الحكماء في «مقاصد الفلاسفة»، و«تهافت الفلاسفة»، ومنطقيًّا مع المنطقيين في «محك النظر» و«معيار العلم» و«القسطاس المستقيم». وهناك أيضًا الرازي، الذي كتب «الحكمة المشرقية» جامعًا بين الفلسفة والكلام، كما هو الحال في علم الكلام المتأخر. أمَّا كتب المصطلحات فإنها جزء من علوم الحكم، مثل: «اصطلاحات المتكلمين والفلاسفة» للآمدي، و«التعريفات» للجرجاني، و«كشاف مصطلحات الفنون» للتهانوي، و«أبجد العلوم» لحسن صديق خان، و«دستور العلماء» للقاضي عبد الرسول؛ فهي قمة ما وصلت إليه علوم الحكمة من تجريد؛ فالفلسفة هي المصطلح، نشأةً وتكوينًا واكتمالًا.
كما ظهر الأدب المسيحي الشرقي في حضن المسلمين؛ فهو جزء من تاريخ الفلسفة الإسلامية باعتبارها النموذج الذي تمَّت عليه صياغة الفلسفة المسيحية منذ يحيى بن عدي ونصارى الشام الأوائل حتى بولس الأنطاكي وفلاسفة الشرق المسيحيين، بل إن الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط المتأخر تُعتَبر امتدادًا للفلسفة الإسلامية لاعتبارها النموذج العقلي للإيمان عند أبيلار وغيرهم من الفلاسفة العقليين منذ القرن الحادي عشر حتى القرن الرابع عشر الميلادي.
وهناك صورة لعلوم الحكمة في كتب الفِرَق، فالحكماء فرقة، أتباع سقراط وأفلاطون وفيثاغورس وأرسطو ضمن الفِرَق غير الإسلامية، خاصةً عند الشهرستاني في «الملل والنحل». وقد تم عرض هذه الصورة في التدوين تلافيًا لنقص «من العقيدة إلى الثورة»، الذي لم يتعرض لهذه الصورة؛ نظرًا لأنه في نسق العقائد وليس في تاريخ الفِرَق.
وهناك صورة معادية لعلوم الحكمة في كتب الفقهاء المعادين للمتكلمين والحكماء والصوفية وكل اجتهاد أو إبداع إنساني بدعوى ابتعادها عن الشرع وخروجها على العقيدة ورجمها بالظن، وخطرها على العامة، وضلال الخاصة منذ محنة أحمد بن حنبل في موضوع خلق القرآن، حتى «مصارعة الفلاسفة» للشهرستاني، و«اجتماع الجيوش الإسلامية» لابن القيم، ومجموع أعمال ابن تيمية في «منهاج السنة» و«موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول» و«الرد على المنطقيين» و«نقض المنطق» حتى فتاوى ابن الصلاح. وقد تساعد هذه الصورة على نحوٍ سلبي على معرفة وضع هذه العلوم من منظور فقهي خالص الذي يرفض الوافد لصالح الموروث، ويرجِّح أساليب القرآن على منطق اليونان. ولم يتم استعمال هذه المصادر لأنها أدخل في الفكر الفقهي؛ فالفقهاء هم حراس المدينة، دورهم في التطهير ودق نواقيس الخطر وأجراس الإنذار من أجل العودة إلى النص الخام قبل أن يعمل الاجتهاد الإنساني فيه.
وبطبيعة الحال لا يمكن نظريًّا وعمليًّا تحليل كل النصوص؛ فلا يمكن لأي باحث الاطلاع على كل ما أنتجته علوم الحكمة من مطبوع ومخطوط، حتى ولو أمكن الحصول عليه بمزيد من الجهد والصبر والوقت. فالبحث العلمي له حدوده الزمنية والبشرية، وإلا لما أمكن إصدار حكم على أي شيء انتظارًا لتوافر المادة العلمية الكاملة في كل ميدان بحثي، ولتوقَّف البحث العلمي إلى يوم الدين نظرًا لما يكتشفه الباحثون في دهاليز المكتبات القديمة كل يوم من مخطوطات جديدة. بل إنه يستحيل البحث العلمي على الإطلاق نظرًا لضياع جزء كبير من التراث القديم إلى غير رجعة. وما بقي منه لا يمثِّل في حالة علوم الحكمة إلا ثلثه. لم يبقَ إلا ما هو في الإمكان، ما هو متاح؛ فبعض المطبوع غير متاح بالنسبة لقدرات أي باحث لصعوبة الحصول عليه من خارج الأوطان في عصرٍ أصبح فيه تبادل الكتب والمجلات العلمية أشبه بتناول المخدرات. وحتى في عصر إنشاء معاهد المخطوطات في المنظمات العربية والإقليمية. والبعض ما زال مخطوطًا، مصوراته قد تكون متاحة والبعض غير متاح. والمنشور منها أكثر بكثير من غير المنشور، ويعطي مادة كافية للحكم على الفيلسوف أولًا وعلى مجموع نصوص علوم الحكمة ثانيًا. فأعمال الكندي والرازي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد المنشورة أكثر من الأعمال غير المنشورة إن وُجدت. ولما كان المتاح المطبوع يعطي عينة ممثلة للمادة الأولى، فإن تحليله يكون ممثلًا لتحليلات غير المتاح المطبوع أو المخطوط المفقود. وبالتالي يمكن إصدار أحكام عامة على التراث، علوم الحكمة نموذجًا. الاستنتاجات العامة كاملة حتى ولو كانت مادة التحليل ناقصة. الروح مرئية في حين أن البدن قد تنقصه أحد الأعضاء. وهذا لا ينفي وجود الإنسان. وهو ما يُسمَّى في المنطق بالاستقراء الناقص الذي يقوم عليه القانون العلمي دون الاستقراء التام الذي يستحيل تطبيقه إلا اعتمادًا على مبدأ الاطراد في الطبيعة. ويُسمَّى في علم أصول الفقه عند الشاطبي الاستقراء المعنوي، الذي يقوم على اطراد العلة في الفرع في حالة واحدة دون استقرائها في كل الحالات. لا يهم إذن غير المتاح من النصوص المطبوعة غير المتاحة أو المخطوطة أو المفقودة؛ فالمتاح فيه دلالة ومؤشر على غير المتاح، والحاضر يغني عن الغائب وإلا استحال الحكم انتظارًا لعودة الغائب الذي قد لا يعود. يمكن إذن قياس الغائب على الشاهد. وما يشفع في ذلك أحيانًا هو تكرار المادة المتاحة بحيث تتوقف أية مادة جديدة عن إضافة أية دلالة جديدة أو تغييرها أو تعديلها أو مناقضتها. بمجرد حصول الكيف تتوقف دلالة الكم، وبمجرد حصول المعنى يصبح تامًّا باكتمال المعنى وإن لم يكن تامًّا باكتمال الأمثلة. وماذا عن حريق مكتبة الإسكندرية وإغراق مكتبات بغداد، وما دمَّره الحريق أو العسكر، وما أتلفته غوائل الزمان؟ الروح لا تضيع، وإن ضاعت بعض أطراف البدن. حجة «الإنسان الطائر» عند ابن سينا و«أنا أفكر فأنا إذن موجود» عند ديكارت. والوعي التاريخي في النهاية مستقل عن الوثائق التاريخية، وإن كان محمولًا فيها ومدوَّنًا عليها. إن عدم الاطلاع على كل النصوص حجة لا نهاية لها ولا حدود لها. فما ضاع ربما أكثر مما حُفظ طبقًا لما روته الأخبار عن حريق مكتبة الإسكندرية والكتب الملقاة في نهر دجلة كي تسير عليها الخيل، حتى تحوَّلت مياه النهر إلى أحبار سوداء! ليس المهم اكتمال الوثائق، بل نوع العمليات الحضارية التي يمكن التعرُّف عليها بما تبقَّى من التراث القديم؛ فالمفهوم من المقروء عينة من المتاح المطبوع. والمتاح المطبوع عينات ممثلة للمطبوع كله. والمطبوع عينة ممثلة للمخطوطات المفقودة. والمخطوطات الموجودة عينات ممثلة للمخطوطات الضائعة والتي يمكن تحليل عناوينها لاكتشاف دلالاتها. وربما ما تم تأليفه، المطبوع والمخطوط والمفقود، ما هو إلا عينة ممثلة لمشاريع التأليف عند الحكماء التي لم ترَ النور. وكم من مشاريع الفكر ما زالت مطوية في أذهان أصحابها، ولها أكبر الدلالة على التحول من النقل إلى الإبداع. ولو انتظر الباحث استيفاء كل المادة لما صدر حكم عام، والأحكام العامة تتراءى من المستشرقين وغيرهم على الحضارة الإسلامية منذ قرنين من الزمان.
أمَّا الإشارات إلى أسماء الحكماء، فإنه تم تفضيل النسبة على الكنية أو اللقب، الكندي وليس أبو يعقوب أو فيلسوف العرب، والفارابي وليس أبو نصر أو المعلم الثاني، وابن سينا وليس أبو علي والشيخ الرئيس، والغزالي وليس أبو حامد أو حجة الإسلام، وابن رشد وليس أبو الوليد أو الشارح الأعظم. فالكنية تحول العلم إلى شخص، وقد تقلل من هيبته وثقله في التاريخ، ولا يعرفها كل القراء. واللقب يضفي عليه هيبة أكثر مما هو عليها، تقدِّسه وتعظِّمه وتمنع من نقاشه والحوار معه وتجاوزه. كما أن هذه الألقاب من صُنْع التاريخ ومن وضْع المؤرخين في عصورٍ متأخرة عندما تحوَّل الماضي إلى مقدَّس وعزَّ الإبداع في الحاضر، وهو ما يعارض روح «من النقل إلى الإبداع»، بل ومشروع «التراث والتجديد» كله، الذي يقوم على أن الحاضر يزخر بإمكانيات أكثر من الماضي، وأن المستقبل أغنى وأثرى من الحاضر طبقًا لروح التقدم في التاريخ.
(٢) إغفال المراجع الثانوية
ولا يبحث العالم إلا همه. ولما كان همه هو إبداع المعاصرين وتجاوز نقلهم بدليل إبداع القدماء، فإن هم المستشرقين إثبات نقل القدماء بناء على نقل المعاصرين، وتأكيدًا للمركزية الأوروبية القديمة عن اليونان أو الحديثة عند الغربيين المحدثين. ويمكن تحقيق هدفي موضوعيًّا في حين يصعب تحقيق هدف المستشرق إلا ذاتيًّا بناءً على الأحكام المسبقة والحكم بظاهر اللغة في النصوص الفلسفية القديمة ونقص في العلم بمناهج التأويل الحديث والأنثروبولوجيا الحضارية، مع أنه تربَّى في الغرب وتعلَّم في جامعاته. ولكنه لا يستعمل ذلك كله إمَّا كسلًا أو تجاهلًا. فدراسة الشرق تتم بأسهل الوسائل، اللغة والتاريخ، والتحرر الثقافي كقصد أقرب إلى الموضوعية من الغزو الثقافي كهدف.
إن الاستشراق العربي، وهو امتداد للاستشراق الغربي، إنما يقوم على التبعية للغرب والإعجاب بتقدُّمه، وأنه آخر ما وصلت إليه البشرية من تقدُّم، وأنه هو المبدع الخلاق، وما على غيره من الشعوب إلا التبعية والتقليد. وهذا إحساس بالنقص أمامه، والعجز أمام خلقه، ونسيان للإبداع الذاتي للشعوب عبر التاريخ مثل إبداع القدماء. ولو أخذ الاستشراق العربي موقفًا حضاريًّا ذاتيًّا، واعتبر نفسه من الداخل وليس من الخارج مسئولًا عن التطوير وإعادة البناء لتحوَّل من استشراق عربي إلى بحوث وطنية.
وعيب هذه الدراسات أنها تخلو من الرؤية، ولا تقوم على تفلسف، ولا تتجه نحو هدف، ولا تضع افتراضًا، ولا تقيم برهانًا، تكرر نفسها وتنقل عن غيرها. يحفظ الطلاب، وتوزِّع دُور النشر، ويطبع الأساتذة على نفقاتهم حتى يستحوذوا على كامل الربح. تحول إلى التجارة، وانتقل الهدف من ميدان البحث إلى ميدان الرزق. وهي تعبِّر عن العيب الرئيسي في الدراسات الجامعية التي لا ترتبط بمشروع حضاري شامل يربط أجزاءها، وينسِّق بين موضوعاتها، وتصب جميعها في تحقيق هدف مشترك وهو توظيف القديم لصالح الجديد، ومعرفة كل علوم الوسائل بما في ذلك الفلسفة الغربية الحديثة من أجل تطور علوم الغايات، واستعمال الآخر لتطوير ثقافة الأنا.
وما زال يقع الباحث تحت الأوهام والأحكام الخاطئة التي تُلقى له وهو ما زال في مرحلة الدراسة الجامعية. إن الفلسفة الإسلامية شرح لليونان دون إعطاء البراهين والأدلة، ودون تحليل لغوي للنصوص، وإخراج النصوص الرياضية والطبيعية من النصوص الفلسفية بدعوى أنها أدخل في تاريخ العلم عن العرب تحت أثر مؤرخي العلم الغربي، وتقسيم الفلاسفة إلى فلاسفة المشرق: الكندي والفارابي وابن سينا، وفلاسفة المغرب: ابن باجة وابن طفيل وابن رشد طبقًا لقسمة المؤرخين الغربيين العالم الإسلامي إلى مشرق ومغرب للفصل بين جناحيه، والإيحاء بالقطيعة المعرفية بين الاثنين، المشرق أقرب إلى إشراقيات إيران، والمغرب أقرب إلى عقلانية الغرب، وانتهاء الفلسفة بعد ابن رشد وكأن صدر الدين الشيرازي والطوسي وغيرهم لا وجود لهم، والسخرية من عصر الشروح والملخصات، عصر التدوين الثاني، وهو موضوع دراسة وتحليل، لكيف تعيش الحضارة على ذاتها، تجتر ما ابتدعته سلفًا وتدوِّنه بالذاكرة الجماعية بعد أن عزَّ الإبداع، وصعوبة تصنيف الغزالي، وهو متكلم مع المتكلمين، فيلسوف مع الفلاسفة، أصولي مع الأصوليين، صوفي مع الصوفية … إلخ. وغياب العلاقة مع فارس والهند والصين، وكأن الغرب اليوناني أكثر حضورًا فينا من الشرق الآسيوي، والتركيز على اليونان دون الرومان إسقاطًا من أولوية الغرب على الشرق في وعينا السياسي المعاصر.
أمَّا الإحالات إلى الذات، والأعمال السابقة، دراسات ومقالات، فإنها لا تعني أية نرجسية أو غرور أو ثقة زائدة بالنفس، أن يكون الباحث هو مرجع نفسه، بل يعني أن «من النقل إلى الإبداع» هو جزء من مشروع «التراث والتجديد»، وأن اللاحق يعتمد على السابق، وأن السابق يؤدي إلى اللاحق، وأن الدراسة السابقة أو المقال السابق هو جزء من كلٍّ حتى يكتمل البناء دون تكرار اللبنات أو الأدوار السابقة ودون تكرار ما قيل سلفًا على وجه الخصوص. كما أن ذلك يفيد في ربط أجزاء المشروع الممتدة على أكثر من ثلاثين عامًا منذ ثلاثية الشباب «مناهج التفسير» و«تفسير الظاهريات» و«ظاهريات التفسير»، منذ منتصف الستينيات، حتى «من النقل إلى الإبداع» في أواخر التسعينيات. وقد يصل التذكير إلى حد التكرار تنبيهًا وإرشادًا.
ولم تتم الإحالة إلى الآخر الغربي في صلب التحليل لإعادة قراءة النص الفلسفي القديم من داخله وبناءً على ظروف العصر دون تطوير له من الخارج باستعمال مناهج أو استخدام مفاهيم وإسقاط تصورات وضرورة تجاوز أن تكون الثقافة الغربية المعاصرة إطارًا مرجعيًّا لكل تجديد كما هو الحال في الفكر العربي الحديث، رؤية الأنا في مرآة الآخر، وتطوير ثقافة الأنا من خلال ثقافة الآخر. ومع ذلك أمكن التنبيه على احتمال قيام هذه المقارنات أسفل الصفحات لبحوث قادمة مستقبلية تقوم بوضع منطق جديد للحضارات المقارنة.
كما تهدف المقارنات مع الغرب الإعداد للخاتمة «من اليونان القديم إلى الغرب الحديث»؛ فقد كان الهدف «من النقل إلى الإبداع» بيان التقابل بين إبداع القدماء ونقل المحدثين. فلا فرق بين سقراط وأفلاطون وأرسطو بالنسبة إلى القدماء وبين ديكارت وكانط وهيجل بالنسبة إلى المحدثين. تعامل القدماء مع اليونان وبين الاثنين ما يزيد على ألف ومائتي عام، أربعمائة قبل المسيح وثمانمائة بعده حتى عصر الترجمة، في حين نتعامل نحن مع الغرب الحديث والمسافة الزمانية ليست بعيدة بيننا وبينه منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر وعصر النهضة في السادس عشر؛ أي أربعمائة أو خمسمائة عام على الأقل، ثلث الزمن الذي كان بيننا وبين قدماء اليونان. فالموضوع واحد بيننا وبين القدماء مع اختلاف الآخر، الآخر اليوناني قديمًا والآخر الغربي حديثًا. واليونان في النهاية أصل الغرب. كما تهدف الإحالات إلى الغرب في أسفل الصفحات إلى وضع الغرب في إطار إسلامي بدلًا من وضع الفكر الإسلامي في إطار الفكر الغربي إلى أن يُعاد كتابة تاريخ الفكر الغربي في إطار لا غربي، وكما تمَّت محاولة من قبل في «مقدمة في علم الاستغراب». كما تهدف هذه الإحالات إلى بيان كيف تكون علوم الأنا هي علوم الغايات، بينما علوم الآخر هي علوم الوسائل.
وحتى يمكن تطوير الدراسات العليا ووضع خطة مستقبلية لها في ميدان الدراسات الفلسفية، تم التنبيه على بعض الموضوعات أسفل الصفحات تستحق التطوير والدراسة في خطة متكاملة لإعادة بناء العلوم القديمة بوجه عام وعلوم الحكمة بوجه خاص؛ فمشروع «التراث والتجديد» ما هو إلا نموذج لمشروع رؤية للدراسات الإسلامية الجديدة تطويرًا للدراسات القديمة وحلًّا لأزمتها موضوعًا ومنهجًا.
Certainty and conjectures, a protype of Islamic Christian relations, in “Religious Dialogue and Revolution”, Anglo-Egyptian Bookshop, Cairo, 1977. PP. 56–89.