ثانيًا: الحضارات العامة والخاصة
-
(١)
ويتم تدوين التاريخ طبقًا لمجموع الحضارات القديمة المعروفة في ذلك الوقت؛ فالحضارة هي وحدة التحليل. لا فرق بين حضارة وأخرى ومجموعها يكون الحضارة البشرية. وأول محاولة في ذلك هي لابن جلجل (٢٩٨ﻫ) في «طبقات الأطباء والحكماء»، وهو أول أندلسي ألَّف في الموضوع قبل صاعد، بل إنه يعتبر أول مؤرِّخ في الإسلام، مؤرِّخ وشارح ومؤلِّف ومصحِّح لأخطاء الأطباء.١وكانت مصادره لاتينية أكثر منها يونانية لعيشه في الأندلس قريبًا من اللاتينية بعيدًا عن المشرق العربي القريب من اليونانية والترجمات اليونانية. وتكثر المصادر إلى حد اعتبار الكتاب مجرد تجميع من مصادر سابقة، وهو طابع التأليف عند القدماء نظرًا لشيوع النصوص كعمل جماعي وليست كملكية فردية. مصدره الرئيسي كتاب الألوف لأبي معشر، كتاب هروشيش صاحب القصص، كتاب القروانقة ليرونم الترجمان، كتاب أيزيدورس الأشبيلي، بالإضافة إلى كتب أخرى وردت في المتن. كما رجع إلى بعض المصادر الأصلية من كتب الأطباء.٢ كما يعتمد على مصادر شفاهية مروية بالسماع.٣والدافع على التأليف هو سؤال وُجِّه إلى ابن جلجل عن أول مَن وضع صناعة الطب نظرًا لعدم وجود كتاب مدوَّن في الموضوع. وتصعب الإجابة؛ فقد اندثر القوم وعزَّ الأثر. ومع ذلك يمكن الاعتماد على المدوَّنات السابقة في الموضوع، بالإضافة إلى بعض الأخبار الشفاهية أو المدوَّنة لحكماء اليونان يمكن الاستدلال بها على السيرة الذاتية لكل حكيم. ويعترف بالنقل ويذكر المصدر المنقول عنه.٤ويختلط التاريخ بالأسطورة والواقع بالخيال، مثل قسمة تاريخ العالم قبل الطوفان وبعده في السؤال عن بداية صناعة الطب، ومثل الحديث عن أبولن لا فرق بين الإله والإنسان.٥ ومع ذلك هناك حدٌّ أدنى من نقد المؤرخ للمصادر، وحدٌّ أدنى لقبول الأخبار التي تليق والتي تصل إلى حد الشناعة وتتجاوز المعقول.٦ ويظهر الشعر كمادة تاريخية من قرض الحكماء الأطباء أو من أصدقائهم.٧ويقسم الكتاب إلى تسع طبقات. وتعني الطبقة طبقات الأمم؛ أي دوائر الحضارات، كما هو الحال فيما بعد عند صاعد. وبالرغم من أن ترتيب الطبقات لا يخضع للزمان، إلا أن تواليها يوحي بذلك. وبداية الحضارة في وحدة أولى تجمع اليونان ومصر وبابل وفارس ممثلة في الهرمسية، ويسميها الحكمة الطبية والفلسفة العلوية. ثم يبدأ الطب في الحكمة الرومية اليونانية دون تمييز بين اليونان والرومان، ثم اليونان بعد غزو الفرس لهم، ثم اليونان بعد بناء روما، ثم انتقال الثقافة اليونانية إلى الإسكندرية، ثم تحوُّلها إلى العرب قبل الإسلام دون تسميتهم كذلك بل تسميتهم سلبًا «من لم يكن في أصله روميًّا ولا سريانيًّا ولا فارسيًّا»، ثم حكماء الإسلام في المشرق، ثم حكماؤهم في المغرب، وأخيرًا الحكمة الأندلسية.٨ وأكبرها الأندلسية الإسكندرانية.٩ وإذا كانت الطبقات الخمس الأولى من اليونانية؛ أي من الوافد، فإن الطبقات الأربع التالية من العرب وحكماء المسلمين، يهود ونصارى ومسلمين. فالأولوية للوافد على الموروث، ولكن باعتبار عدد الحكماء، فإن حكماء العرب والإسلام يزيد على حكماء اليونان بمقدار الثلاثة أضعاف.١٠ مقياس التصنيف إذن تاريخي من اليونان إلى الإسلام، وجغرافي بين المشرق والمغرب، وديني العرب قبل الإسلام وبعده. أمَّا مقياس ترتيب الحكماء فبالشهرة والأهمية وليس الترتيب الزماني.١١ ولا يذكر من الحكماء الإسكندرانيين الطبقة الخامسة؛ أي أسماء أو أعلام منهم.١٢ ومن حيث الحكماء كأفراد بصرْف النظر عن انتمائهم الحضاري يتصدر جالينوس، ثم أسقليبيوس، ثم حنين بن إسحاق، ثم أرسطاطاليس، ثم سقراط وإسحاق بن عمران، ثم أبقراط بن يحيى بن إسحاق، ثم أبو جعفر، ثم سعد بن عبد ربه وأحمد بن يونس وأخوه الحرانيان، ثم هرمس، في المراتب العشرة الأولى. ويأتي أفلاطون في المرتبة الرابعة عشرة، وبطليموس والرازي في الخامسة عشرة، وديسوقريدس في السابعة عشرة، وإقليدس في الثانية عشرة من مجموع خمسمائة وعشرين مرتبة.١٣وفي رسم الشخصية، يذكر الاسم والمكان والأهمية والعصر والملامح العامة للشخصية، ومعظمها ملامح إيجابية من علم وفضل وسيرة حسنة، بشيوخه وتلاميذه. سقراط شيخ أفلاطون، وأفلاطون شيخ أرسطاطاليس ومعلمه. كما تذكر الملة والدين: اليهودية أو النصرانية والحرانية والإسلام. ومن حكماء الإسلام ممن برع في الطب والفلسفة، الطبقة السابعة، مسلمون ومسيحيون. والعجيب في الأسماء الألقاب مثل سم ساعة لقب إسحاق بن عمران، الحراني الذي ورد من المشرق إحساسًا بجناحي العالم. ثم تذكر المؤلفات أساسًا وقليل من الأقوال بصرْف النظر عن صحة نسبتها. إنما هو قول صحيح فلسفيًّا ووجدانيًّا بصرْف النظر عن صاحبه مثل الثمان كلمات الجامعة لأمور المصلحة عن العلم والدولة والرعية والجيش والعدل والصلاح التي تُعزى إلى كسرى أنوشروان وأرسطو في آنٍ واحد. ثم تذكر النوادر العجيبة تبين عظمة الحكيم وتتحقق من أسلوب السرد التاريخي في ثقافةٍ تجمع بين العلم والأدب، والفلسفة والأسلوب، العقل والخيال، الحكمة والنبوة. تخفف عن القراء جفاف الفلسفة، وتجعل الكتاب مقروءًا عند الجميع. فلا فرق بين سيرة الحكماء وسيرة الأنبياء في النوادر والحكايات والحوارات مع الخصوم، بل والإتيان بالأفعال العجيبة التي تستدعي الانتباه. النوادر تأليف شعبي قادر على نشر العلم باعتباره ثقافة، وتحويله من الخاصة إلى العامة.١٤ وكما يذكر للفيلسوف نعمه من السلطان ورضى الأمراء عنه، فإنه تذكر محنهم وغضب السلاطين والملوك والأمراء عليهم، أو مآسيهم الشخصية البدنية أو النفسية والتي تصل إلى حد القتل.١٥ ومعظمها العمى في آخر العمر أو الموت بعلل الأمراض، وهم أطباء مما يدل على سخريات الأقدار.
-
(٢)
والثانية محاولة «طبقات الأمم» لصاعد الأندلسي (٤٦٢ﻫ).١٦ ويقترح في البداية عدة مقاييس للتصنيف، منها تصنيف البشر طبقًا للأخلاق والعادات، ولكن لم يستمر هذا التصنيف لأن البشر كائنات حضارية تبدع ثقافةً وفكرًا وعلمًا وصناعةً.١٧وأحيانًا يكون مقياس التصنيف الزمن؛ فالأمم إمَّا قديمة أو حديثة. ولا يُذكر لفظ الحديث صراحةً، بل يُفهم ضمنًا ويضم العرب والأندلس. فالحضارة الإسلامية حضارة حديثة بالنسبة لحضارات الأمم القديمة، وهي سبع: الفرس، الكلدانيون، اليونان، القبط، الترك، الهند والسند، الصين. وهو ما يُسمَّى بلغة العصر تاريخ الشعوب السامية التي حملت الحضارة الإسلامية.١٨ والحضارة مقياس التدوين، والفلاسفة داخلها؛ فالفيلسوف انبثاق فلسفي، والفلسفة بزوغ حضاري. ويصف صاعد الحضارة من الأعلى إلى الأدنى. يبدأ بإصدار حكم عام على الأمة محدِّدًا مكانتها في التاريخ ومدى عظمتها. ثم يحدِّدها جغرافيًّا، ويبيِّن مساحتها على الأرض، ثم يضيف تاريخها حسابيًّا بمنعطفات ملوكها. وهو نوع من التاريخ السياسي. ثم يصف البشر والسكان وسلالتهم مثل علم السكان أو الجغرافيا البشرية. ثم يصف الدين وهو الأهم، مصدر الحضارة والباعث على الفكر، وهو أقرب إلى تاريخ الأديان. وأخيرًا يبيِّن العلم وذروة الإبداع الحضاري. وهو نفس المسار الذي اتبعه ابن خلدون في المقدمة في أبوابها الست ابتداءً من الجغرافيا حتى العلوم.ومفهوم «الطبقة» وارد عند المؤرخين والفلاسفة لتأريخ الحضارات كما هو الحال عند صاعد في «طبقات الأمم» وعند ابن جلجل في «طبقات الأطباء والفلاسفة» داخل الحضارات أو عند ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء» خارج الحضارات، وكأنهم ينتسبون جميعًا على نحوٍ أبجدي لحضارة واحدة. ولا يعني مفهوم الطبقة فقط الجيل؛ أي الزمن والعصر، بل قد يتضمن حكم قيمة التفاضل. وفضل المتقدمين على المتأخرين، وفضل الأوائل على الأواخر، وبالتالي فضل اليونان على الكل.١٩ومقياس تصنيف الحضارات هو الانشغال بالعلم.٢٠ فالعلم هو جوهر الحضارة وإبداعها. والأمم التي اشتغلت بالعلم ثمان: الهند، وفارس، والكلدان، واليونان، والروم، ومصر، والعرب، والأندلس، والعبرانيون. ولا تشتغل بالعلم إلا الصفوة أو النخبة الذين يعكفون على النفس وليس على الدنيا مثل الصين والترك. والأمم التي لم تُعنَ بالعلم أيضًا ثمانية، وفي مقدمتها الصين والترك والخزر، مُضافًا إليهم الصقالبة والروس والبرابرة وغيرهم. ويكون المجموع خمس عشرة أمة بمعنى قبيلة أو جماعة معظمهم في الشرق الأقصى وآسيا الوسطى وأوروبا الشرقية، وهناك أمم غير معروفة في وقتنا هذا مثل: برطاس، السريز، جوران، كشك، البرجمان قد يشيرون إلى التتار والمغول أهل الحرب الذين دمَّروا بغداد. ويدلل صاعد على أربعة أمم لم تُعنَ بالعلوم؛ فالصين مملكة كبيرة، أهلها أصحاب صناعة عملية، يجدون في تجويد الأعمال وتحسين الصنائع والمهن التصويرية كما تبدو في نقش الحروف والزخرفة. والترك أهل حرب وفروسية. والزنوج والسودان والحبشة والنوبة أقرب إلى البهائم. والجلالقة والبرابرة يتميزان بالطغيان والجهل والعدوان والظلم، وأقرب إلى البدو، لا هم من أهل الشمال ولا هم من أهل الجنوب. والبهائم أفضل منهم في الصنعة والتصوير كالنحل والعنكبوت. والحيوان أفضل منهم في الحس والجسم. وقد يوحي ذلك التحليل ببعض الشعوبية والظلم التاريخي للصين، وقد كانوا أهل علم وحكمة، والترك وقد حفظوا العلوم في عصر الشروح والملخصات، كما أن للبرابرة ثقافاتهم وحضاراتهم ودياناتهم وممالكهم مما يصعب معه إصدار مثل هذا الحكم على السودان برداءة شيمهم وسفاهة أحلامهم.٢١ويختلف تدوين الحضارات من الناحية الكمية إمَّا طبقًا لأهميتها وهو الأغلب، أو طبقًا لتوافر الأخبار عنها، وهو الأقل احتمالًا؛ فقد كان الروايات عن الأمم القديمة ومصادر المعلومات الأخرى متوافرة كما وضُح ذلك في علوم التاريخ والتفسير. وربما زاد الأندلس لأن المؤرخ أندلسي تتوفر لديه المعلومات عنها ولأنها ثقافته الوطنية. وتبدو الأولوية للموروث على الوافد، لحضارة الأنا على حضارة الآخر بنسبة كبيرة، أكبرها الأندلس وأصغرها الكلدان. وبمقارنة الوافد بالموروث كمًّا نجد أن الوافد لا يزيد على خمسين علمًا، في حين أن الموروث يتجاوز الخمسمائة مما يدل على ضمور الوافد واتساع الموروث.٢٢ولا فرق في تسمية الحضارة بين الموقع أو البلد، مثل: الهند، فارس، الأندلس، وبين الشعب أو الأهل أي البشر؛ فالبشر هم صنَّاع الحضارة، وهم الذين يخلدون الموقع والبلد. وذلك مثل: الكلدان، اليونان، الروم، العرب، بنو إسرائيل، أهل مصر. ويُلاحَظ غياب لفظ الإسلام أو المسلمين؛ فالحضارة قومية أكثر منها دينية، ثقافة وطنية يلعب فيها الدين والعلم والصناعة أدوارًا رئيسية.٢٣ويعتمد تدوين التاريخ على مصادر سابقة مدوَّنة أو شفاهية. ويرجع المؤرخ إمَّا إلى مؤلفاته السابقة أو إلى مؤلفات الآخرين الأصلية.٢٤ كما أن القرآن والحديث مصدران للأخبار.٢٥ ولا يذكر شيئًا بلا مصدر. ويأسف لعدم وجود أخبار كاملة لاستكمال أسماء الأعلام.٢٦ ويحيل إلى كتابه «جوامع أخبار الأمم من العرب والعجم». كما أن القرآن مصدر أخبار وأساس لمعرفة قوانين التاريخ وقيام الحضارات وسقوطها: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، ومصدر أخبار عن النمرود من الكلدان. كما أن الحديث مصدر للأخبار لتفسير تشتيت اليهود: «ولا يبقى دينان في أرض العرب.»٢٧ كما أن الشعر مصدر للمعلومات.٢٨ الروايات الشفاهية أيضًا مصدر للمعلومات، سواء كانت روايات المسلمين أو اليهود مثل حسداي بن يوسف.٢٩ والتاريخ الموضوعي تاريخ صِرْف تغيب منه الدلالة. أخبار رواها السابقون تطابق مجرى الأحداث. قد تقع أخطاء هنا وهناك نظرًا للاعتماد على الروايات دون التحقق من صدقها كما طالب ابن خلدون بعد ذلك وكما هو الحال في مناهج النقد التاريخي، سواء في علم الحديث قديمًا أو عند المؤرخين المعاصرين حديثًا.٣٠ويشمل التاريخ، تاريخ الدول والمناطق الجغرافية وتاريخ الحضارات والملل والنحل في آنٍ واحد. تاريخ الحوادث وتاريخ الثقافات، مما يدل على ارتباط تاريخ الحكمة بتاريخ الملل والنِّحل، وكما بدا ذلك عند مؤرخي الفلسفة مثل ابن النديم، ومؤرخي الملل والنحل مثل الشهرستاني.٣١وقد يتجاوز التقرير التاريخي الموضوعي الجغرافيا والتاريخ إلى الحضارة، الفلسفة والعلم والدين واللغة عند أرسطو وذكر شراحه اليونان. ولا فرق بين الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني. وأحيانًا تُذكر بعض الأعلام بلا دلالات من حيث الألقاب والمهن والاتجاه الفكري.٣٢ واليونان نقطة إحالة إلى الرومان لدرجة الخلط بينهما.٣٣ وتتعادل الحضارات بين أجنحتها المختلفة بين الشرق والغرب والجنوب؛ فقد كانت تلك مناطق الحضارات القديمة، إذ كان الشمال؛ أي أوروبا، الحالية لم تستيقظ بعدُ، ولم تبزغ حضاريًّا إلا بعد انتشار المسيحية من الجنوب والشرق إلى الشمال والغرب. فالهند وفارس والكلدان في الشرق، واليونان والروم في الغرب، ومصر والغرب في الجنوب الشرقي، والأندلس وبنو إسرائيل في الغرب الإسلامي. كانت الحضارة الإسلامية إذن في المشرق والمغرب. وكان الإسرائيليون جزءًا من حضارة الأندلس.ولا يكون الحديث عن الهند إيجابًا إلا بالحديث عن الصين سلبًا مع إطلاق بعض الأحكام مدحًا للأولى وذمًّا للثانية في أسلوب خطابي للمدح أو الذم؛ فالهند أمَّة عظيمة لها مآثر جليلة، وكأن المؤرخ صديق ما يعلم وعدو ما يجهل. ولبعد الهند لم تصل تآليفها إلا القليل. وقد عُرفت «كليلة ودمنة» عبر فارس بعد أن ترجمها عبد الله بن المقفع من الفارسية إلى العربية. وبسبب الإعجاب بالهند، فإن صاعد لا يحكم عليهم بالخرافة في تصوُّر زُحَل لحمايتهم من السواد، وعطارد لإعطائهم الحكمة والنظر. ويذكر مذاهبهم في النجوم ويذكر بعض علمائهم مثل كنكه وبعض ألعابهم مثل الشطرنج.٣٤وفي الصين الملوك خمسة والناس أتباع: الصين، والهند، والترك، والفرس، والروم. وملك الصين ملك الناس لأنهم أتباع طبيعيون، والهند ملك الحكمة، والترك ملك السباع للشجاعة، والفرس ملك الملوك للعظمة، والروم ملك الرجال، وللملوك السِّيَر المحمودة.٣٥ويمدح الفرس وهم المهزومون من الروم مما يدل على احترام الشعوب المغلوبة وثقافاتها. وهم أهل شرف وبذخ وعز، أوسط الأمم دارًا وأشرفها إقليمًا، وأسوسها ملوكًا.٣٦ وللكلدان علوم حكمة ورياضيات والإلهيات. ولم يصل من كتبهم شيء إلا عبْر اليونان.٣٧ والعلوم في مصر أقرب إلى القراءة منها إلى التاريخ، وقراءة الفراعنة من خلال العمالقة وإعادة قراءة التراث الهرمسي.٣٨ويشمل العرض التاريخي الموضوعي أيضًا حضارة الأنا وليس فقط حضارة الآخر، حضارة العرب والأندلس وبني إسرائيل التي نشأت في حضن حضارة الأنا في المشرق والمغرب.٣٩ ويستعمل الشعر العربي كمصدر تاريخي للعرب. كما يستعمل القرآن والحديث لمعرفة طبائعهم وكيفية نشأة علومهم.٤٠ ومن عرض حضارة الأنا الموروثة يبدو الوافد في عصر الترجمة والشرح؛ فثقافة الأنا تحمل ثقافة الآخر ولا تستبعدها.وتخصيص الأندلس بعد العرب هو تخصيص المغرب بعد المشرق، وبيان أدوار مدن قرطبة وطليطلة وسرقسطة وبلنسية. كما بانت أدوار البصرة والكوفة وبغداد. يصف صاعد الأندلس باعتبارها آخر المعمورة من ناحية الغرب قبل اكتشاف أمريكا في استطراد جغرافي يعود بعده إلى التاريخ الثقافي.٤١ ويقسِّم علومها إلى أربعة علوم: الهندسة والرياضيات، الفلسفة والمنطق، الطب، أحكام النجوم. ويصنِّف الفلسفة إلى تعليم وهو علم رياضي وأحكام النجوم. ويصنف باقي العلوم حسب العلوم الكلية وهي الفلسفة، والجزئية وهي الرياضة. ويصنِّف أنواع الطب باعتباره علمًا طبيعيًّا. ثم يذكر أسماء مشاهير الإسلام من أهل العراق والشام ومصر في المشرق قبل التوجه إلى المغرب. وداخل كل علم يذكر الأسماء والأعلام، وهجرات الشاعر إلى مصر والحجاز والشام والعراق للتعلم قبل العودة إلى الأندلس؛ فالمغاربة تلاميذ المشارقة. ويذكر تواريخ الوفاة أكثر من تواريخ الميلاد والعمر. ويرسم صورة لبعض العلماء كمحاولة أولية لرسم الشخصيات كما بدا ذلك عند البيهقي، سواء السمات الذهنية أو البدنية. وبيَّن وظائفهم عند الحكام ومحنة بعضهم وحرق كتبهم قبل ابن رشد إلا الطب والحساب إرضاءً للعامة وتقبيحًا لمذهب الخليفة السابق قبل أن يستجلب الخلفاء الكتب من جديد زينةً لمجالسهم مما يبيِّن أيضًا ارتباط الثقافة بالسياسة. ويذكر صاعد أجيالًا عدة من الشيوخ والشبان حتى وإن لم يكونوا من المشهورين. يذكر الاسم كله حتى ولو طال ونسبه إلى الرسول والمؤلفات وتقييمها، والبلد التي ينتسب إليها مثل البلنسي والسرقسطي، ومكان الولادة والوفاة، وتاريخ هجرته من الأندلس ومكان الهجرة ثم العودة. قد يتم الاستطراد في بعضٍ دون الآخر مثل الطبري وكثرة تآليفه.٤٢ ثم يثني بوجه خاص على الفلاسفة؛ فلهم أفهام صحيحة، وهمم رفيعة، عرفوا أجزاء الفلسفة وأحكموا صناعتها. في حين يأسف للبعض الآخر لعدم إبداعهم والاكتفاء بتدوين مجرد كنانيش في الطب.والعلوم في بني إسرائيل مثل العلوم في مصر، أقرب إلى القراءة منها إلى التاريخ لأنها نقل إلى تاريخ الأنبياء وأثر الإسرائيليات في علم التفسير عند عبد الله بن عباس باستثناء حساب اليهود وسنواتهم. أمَّا أعلامهم فمعظمهم من الشبان.٤٣ وينطبق عليهم نفس العناصر المكونة لرسم الشخصية من حيل الميلاد والوفاة وخدمة الأمراء.٤٤
-
(٣)
وقد استمر تاريخ الحضارات المقارن حتى القرن السابع في «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة (٦٦٨ﻫ) بالرغم من تعدُّد المناطق الجغرافية للحضارة الإسلامية الواحدة بين العراق وبلاد العجم والمغرب والشام ومصر ودخول بعض الثقافات كالسريانية داخل الثقافة الإسلامية، والإسكندرانيين داخل اليونان في مقابل الهند. فالحضارة هنا منطقة جغرافية داخل الحضارة الإسلامية الواحدة المتعددة.٤٥ لا فرق بين الديانات والملل والطوائف، حرانية، ويهودية ونصرانية ومجوسية وإسلام. وهي دائرة معارف ضخمة أقرب إلى التاريخ السردي الشامل مع أقل قدْر ممكن من القراءة والتأويل، والأحكام المغالية، والخيال الشعبي.٤٦وقد كان الهدف من التأليف ذكر نكت وسير للتمييز بين الأطباء القدماء والمحدثين؛ أي لإعادة كتابة تاريخ الطب، ومعرفة طبقاتهم على توالي الأزمان وتسلسلهم في مدارس طبية عبر التاريخ معلمين وتلاميذ، ومعرفة أسماء كتبهم؛ فالأعمال مقدمة للأقوال ووعاء لها.٤٧ لذلك ذكرت في بعض الأطباء الأخبار والأقوال. الأطباء عائلات، وأسر وأنساب، فصولون أخو أسقليبيوس.
والطب جزء من الحكمة، لذلك سُمِّي الكتاب «طبقات الأطباء» أي الحكماء. أمَّا الحكماء الرياضيون فقد ذُكروا في كتاب آخر هو «معالم الأمم وأخبار ذوي الحكم». الحكماء إذن نوعان، حكماء أطباء وحكماء تعليميون، فصلًا بين العلمين، الطبيعي والرياضي.
وبالرغم من قسمة الكتاب إلى خمسة عشر بابًا، إلا أنها تتجمع في الحقيقة في ثلاثة أقسام بعد الباب التمهيدي عن أول مَن أحدث صناعة الطب والذي يكشف عن وحدة الحضارات البشرية القديمة اليونانية والمصرية والبابلية التي ورثتها الحضارة الإسلامية، وهي قضية الهرمسية.٤٨ القسم الأول يشمل أبوابًا أربعًا أولى من الثاني حتى الخامس عن اليونان أول المبتدئين بها ثم أسقليبيوس ثم أبقراط ثم جالينوس، وهي مرحلة وضع الطب القديم.والقسم الثاني يضع أبوابًا أربعة ثانية، من السادس حتى التاسع. وتضم المترجمين والشراح السكندرانيين والسريانيين واليونانيين مع الأطباء العرب قبل الإسلام، وهي مرحلة التحول من القدماء إلى المحدثين. والقسم الثالث يضم أبوابًا ستة أخيرة: من العاشر حتى الخامس عشر عن الأطباء المتأخرين في العالم الإسلامي مقسمًا جغرافيًّا بين العراقين والجزيرة وديار بكر منطقة واحدة، ثم الاتجاه شرقًا إلى بلاد العجم والهند، ثم الاتجاه غربًا إلى المغرب، ثم شمالًا إلى الشام، ثم جنوبًا إلى مصر، وهي مرحلة إبداع المحدثين.
ويجمع هذا التقسيم بين الوافد والموروث. وينقسم الموروث طبقًا للمناطق الجغرافية، وضم الهند وفارس ضمن الحضارة الإسلامية. القسم الأول عن اليونان أصغر الأقسام، والثاني عن الانتقال مثل القسم الأول حجمًا. ولكن القسم الثالث عن المسلمين يعادل ضِعف القسمين الأولين.٤٩ وأكبر اليونان حجمًا أبقراط مما يبين أهميته، ثم جالينوس ثم المبتدئون ثم نسل أسقليبيوس.٥٠ وأكبر النَّقَلة كمًّا السريان ثم الأطباء العرب ثم الإسكندرانيون، وأصغرهم النَّقَلة من اللسان اليوناني.٥١ وأكبر المناطق الجغرافية ازدهارًا بالطب داخل العالم الإسلامي الشام ثم العراقان والجزيرة وديار بكر، ثم تتساوى بعد ذلك تقريبًا بلاد العجم والمغرب ومصر، ثم الهند أصغرها.٥٢وإذا كان مقياس القسم الثالث هي المنطقة الجغرافية، فقد تعدَّدت مقاييس التقسيم في القسمين الأول والثاني؛ ففي القسم الأول مقاييس التقسيم، إمَّا التاريخ والزمان مثل تحديد الحدث الأول (البابان الأول والثاني والخامس)، أو المدرسة مثل أبقراط (الباب الرابع) أو الذرية من نسل أسقليبيوس (الثالث). وفي القسم الثاني تتعدد المقاييس أيضًا بين الزمان والمكان والطائفة مثل الإسكندرانيين (السادس)، أو الدين والقوم مثل العرب (السابع)، أو الطائفة والحكم السياسي مثل السريان حتى ظهور دولة بني العباس (الثامن)، أو النقل واللغة مثل النَّقَلة من اللسان اليوناني (التاسع).
والسؤال الآن: هل هناك خصوصيات حضارية لهذه المناطق الجغرافية الحاملة للحضارة الإسلامية؟
كان النقل في مصر عند الإسكندرانيين وفي الشام عند الحرانيين، الأول نقل اليونان وشروحهم، والثاني نقل العرب وشروحهم على اليونان. في حين هجا بعض الأطباء الشعراء في الشام اليهود مع مدح السلاطين وجالينوس.٥٣ واجتمع اليهود والنصارى والمسلمون في مصر. وجمعت مصر كل هؤلاء بما تتسم به من وحدة الدين الأصلي، التوحيد، بصرْف النظر عن مراحله. ويغلب الشعر على أطباء العراق. وتغلب الحكم الإلهية والأخلاقية والسياسية على أطباء العجم. فالطب ليس علمًا طبيعيًّا فقط، بل هو جزء من علوم الحكمة النظرية، وهي نفسها مقدمة للحكمة العملية، ويظهر الطب الروحاني مع الطب الديني؛ فالطب واحد للنفوس وللأبدان.والوافد أكثر حضورًا في العمق من الموروث يتوزع في سبع عشرة مرتبة، في حين أن الموروث أكثر اتساعًا من الوافد يتوزع في سبع وعشرين مرتبة. أعلام الوافد أقل كمًّا (٦١ علمًا) من الموروث (٤١٥ علمًا)، في حين أنه أهم كيفًا؛ إذ يتصدر جالينوس كل الأطباء (١١٣ص)، ثم أبقراط (٥٧) قبل أن يبدأ الموروث، حنين بن إسحاق (٥٣). ويختلط مع الحكماء أسماء الشعراء المؤرخين والملوك والبشر والآلهة.٥٤ ولكن الوافد أقل حضورًا من الموروث في المجموعات والأمم.٥٥ كما أنه أقل من حيث الأماكن.٥٦ ويأتي جالينوس في المقدمة من حيث المساحة كما هو الحال من حيث التردد ثم أرسطو ثم أبقراط، ثم سقراط وأسقليبيوس، ثم فيثاغورس ثم أفلاطون.٥٧وبعد أن يتحول الوافد إلى موروث يصبح محمولًا عليه، ومصدرًا للروايات، وجزءًا من الثقافة العامة.٥٨أمَّا الموروث فيتصدره حنين بن إسحاق رئيس المترجمين ثم ابن جلجل الطبيب المؤرخ الأندلسي، ثم جبرائيل بن بختيشوع. ولا يأتي ابن سينا إلا في المرتبة الرابعة، والرازي الطبيب بعده في المرتبة الخامسة.٥٩ ثم يدخل الأطباء والمؤرخون والفلاسفة والمترجمون في نفس الزمرة. ويدخل الموروث الشرقي مع الموروث الإسلامي سواء الفارسي، أنبياء وملوكًا، زرادشت ودارا أو السند أو مصر القديمة مثل الملك أماسيس ملك مصر أو الشخصيات النصرانية مثل بطرس الرسول وبولس الرسول.٦٠ وقد يخضع التقدير الكمي لحكم شخصي للمؤرخ أو لدى توافر المعلومات حوله أو لأهميته في عصره مثل عِظَم الشهرزوري في مقابل صِغَر السهروردي.٦١ويتصدر أمين الدولة بن التلميذ الموروث ثم ابن سينا ثم حنين بن إسحاق. ويأتي ابن رشد في المرتبة الثالثة عشرة من سبع عشرة مرتبة.٦٢ كما يظهر عديد من أسماء الأنبياء والخلفاء والأمراء والأئمة والصحابة والملوك والقبائل والطوائف، ويتصدر الوافد على الإطلاق.٦٣ كذلك تتصدى أماكن الموروث وفي مقدمتها بغداد ثم مصر ثم الإسكندرية والعراق والهند، ثم دمشق ثم الأندلس وخراسان، ثم جنديسابور والشام قبل أن تظهر معها القسطنطينية.٦٤وميزة الكتاب المتأخر الاعتماد على الكتب المتقدمة ووفرة المصادر المدوَّنة قبل الإقلال من الروايات الشفاهية. ويعتمد ابن أبي أصيبعة على بعض المصادر الأصلية المترجمة للأطباء اليونان أو المؤلفة للأطباء المسلمين، سواء لمعرفة آرائهم أو روايات عنهم عن آخرين. وأحيانًا لا يذكر اسم الكتاب نظرًا لشهرته مثل كتاب ديسقوريدس أو الكناش الكبير لأريباسيوس.٦٥ وقد يكتفي بذكر المؤلِّف دون ذكر الكتاب، سواء بألفاظ القول أو ما يعادلها، مثل «ذكر» أو بدونها،٦٦ وقد يحدِّد ابن أبي أصيبعة المصدر بأنه رآه بخط صاحبه، وقرأه كما هو الحال في مناهج النقل المدوَّن في علم الحديث.٦٧ وأحيانًا ينقل الكلام نصًّا وبألفاظه وينص على ذلك.٦٨ كما يعرف الوافد من خلال الموروث، مثل معرفة أرسطو من خلال حنين بن إسحاق والفارابي، ومعرفة جالينوس عن طريق يحيى النحوي.ويُعرف الموروث من خلال كتب التاريخ السابقة مع ذكر أسمائها ومؤلفيها.٦٩ ولمزيد من التدقيق يحدِّد ابن أبي أصيبعة الخط ويتعرف عليه مع ذكر اسم الكتاب وصاحبه. وأحيانًا يكفي التصريح بالنقل من بعض التواريخ.٧٠ وأحيانًا يكتفي بأفعال القول مثل قال، حكى، ذكر قبل المؤلف دون تعيين لكتاب أو مصدر.٧١ وأحيانًا يذكر مجرد المؤلف والمصدر متضمن فيه؛ فقد أصبح المؤلف بديلًا عن المصدر مثل ابن النديم، ابن جلجل، ابن هندو.٧٢ وهناك مصادر مجهولة غير موثقة مثل: ثبت في الأثر المروي عن السلف.٧٣ وهناك مصادر شفاهية عديدة تبدأ بلفظ «حدثني» كما هو الحال في السند في علم الحديث. وأحيانًا يكون المحدث مذكورًا باسمه. يكفي أنه موثوق به «حدثني مَن أثق فيه». وقد يروي عن المحدِّث مرة أو أكثر من مرة. وليس من الضروري أن يكون المحدث طبيبًا، بل يكون فقيهًا أو قاضيًا أو شيخًا أو إمامًا. وقد يُروى الحديث من أكثر من محدِّث كما هو الحال في التواتر في علم مصطلح الحديث زيادةً في الثقة واطمئنانًا للخبر. وقد تترك الروايات متعارضة دون توفيق بينها ما دام المؤرخ يجمع الأخبار. وقد يكون اللفظ مجرد عن «شيخنا» دون استعمال لفظ «حدثني».٧٤والشعر العربي أحد المصادر في التدوين؛ فالشعر ديوان العرب في الجاهلية. ويمكن قرض الطب شعرًا كما هو الحال في الأرجوزة المتأخرة كنوع أدبي عندما عاد الشعر أداة للتعبير بعد أن توقفت العلوم الإسلامية وحُفظت في الذاكرة دون تطوير للقديم أو إبداع للجديد.٧٥ وقد عبَّر به بعض أطباء العرب قبل الإسلام باعتبار أن الشعر هو حامل للثقافة والعلم. يكثر الشعر وتقل الإلهيات عودًا إلى ثقافة العرب القديمة قبل الإسلام. كثر الشعر في كتب التدوين المتأخرة مثل الشهرزوري، وعودة العرب إلى الأدب بعد أن توقف العلم بالرغم من ازدهار المنطق والرياضيات وأيضًا الفلسفة في إيران في هذه العصور المتأخرة. كما يستعمل ابن أبي أصيبعة المصدر التجريبي المباشر، ويذكر التجارب الطبيعية بناءً على ملاحظاته ومشاهداته.٧٦ يعتمد على العقل والتجربة وهما دعامتا الوحي.وهو العصر الذي تم فيه التعبير عن العلوم بالشعر، مثل «الأجوزة» الطبية لابن شقرون.٧٧ وتنتهي بعض أسماء الأعلام بالنوادر والحكايات، والبعض بالأقوال والغالب بالأعمال وكثير منها بالأشعار. ندر الإبداع في الحكمة، الفلسفة والعلم، وعاد الإبداع إلى الشعر حتى ولو كان تعليميًّا. والبعض له دواوين شعر. ويكثر الشعر في أطباء العراق. ونقل الرازي وهو الأعجمي كتاب الأنس لجابر إلى الشعر. وابن الهيثم له تأليف في صناعة الشعر ممتزجة من اليوناني والعربي.٧٨ونظرًا لذكر أعلام كل قسم وسرد أسماء الأطباء للتوزيع الجغرافي للعالم الإسلامي، فلأول مرة يتم التركيز على الأعمال أكثر من الحياة؛ أي السيرة الذاتية أو الأقوال، كما هو الحال في السجستاني والبيهقي. ويختلف الحال في الوافد عن الموروث. فإذا كانت الأقوال هي الغالب على الوافد، فإن الأعمال هي الغالب على الموروث. الأقوال تسهل حركتها، والأعمال يسهل تصنيفها بين النقل والإبداع، الشرح والتأليف، سواء كان الشرح لتمثُّل الوافد أو نتيجة لتراكم داخلي في الموروث. وأحيانًا تطغى الأقوال كنوع أدبي. لذلك بدأ الجملة بفعل «القول» في صيغة «قال» لا تميز شروح أرسطو وحدها، بل هو نوع أدبي لرواية الأقوال والاستشهاد بها. ويخضع لمنطق الرواية كما هو الحال في ألفاظ القول في علم الحديث.٧٩ وبلغت أهمية المؤلفات أنها أصبحت وحدة التحليل أكثر من السيرة أو الأقوال لدرجة الحديث عنها بالتفصيل وإجراء قوائم بها وتصنيفها.٨٠ كما غلبت على أسماء أخرى النوادر والحكايات وليس الأعمال وهم الأطباء الظرفاء والحكماء والقدماء.٨١وبالرغم من هذه التقسيمات الجغرافية وثبت الأعلام في كل منطقة ورصد مؤلفاتهم، إلا أن الكتاب يتميز بوحدة الرؤية وجمع العناصر كلها في كل واحد، كما تدل على ذلك عبارات التذكير بين اللاحق والسابق.٨٢ والأسلوب علمي دقيق، حتى وإن ظهرت بعض التشبيهات الأدبية بين الحين والآخر طبقًا للأسلوب الشرقي، خاصةً في التقابل بين الطب والحياة.وهناك عنصران أساسيان في رسم السيرة الشخصية للفيلسوف؛ الأولى حياته وشخصيته وعلمه وسماته النفسية، عقله وقريحته ولغاته التي يتحدث بها. وأحيانًا يذكر الاسم فردًا مثل «أبو الحكم» نظرًا لشهرته في عصره. وقد تتغير الشهرة من عصر إلى عصر. ولا يذكر لكل الأعلام تواريخ المولد والوفاة ولكن يُحال إلى العصر، أهم الأحداث والشخصيات فيه.٨٣ ومن مظاهر حياته مآسيه التي تعرَّض لها بالمرض مثل العمى، أو السجن والتعذيب، وهو مصير الفلاسفة باعتبارهم مفكرين أحرارًا، أو القتل دسيسة بالسم أو تنفيذًا للأمر بالقتل من الخلفاء والسلاطين. وأخف المآسي المواجهات الفكرية والعلمية بين الحكماء، مثل تلك التي بين ابن بطلان وابن رضوان.٨٤والبعض يتقلد الوزارة، ويصاحب الأمراء، ويكون زينة البلاط؛ فقد عمل بعض الأطباء بالسياسة، والسياسة لها مخاسرها أولًا ومكاسبها ثانيًا. ومخاسرها أكثر من مكاسبها. ربما يمدح البعض السلاطين مثل أبي الحكم.٨٥ بل إن البعض كتب مؤلفات إلى الأمراء والسلاطين والدعاء لهم بما في ذلك كتاب ابن أبي أصيبعة. وهذا لا يمنع من تشجيع بعض السلاطين والأمراء العلمَ والعلماءَ كما حدث أيام العباسيين في بغداد في عصر الانفتاح والنصر الأول، وأيام الأيوبيين في مصر في عصر رد الغارة الأولى على العالم الإسلامي من الصليبيين. -
(٤)
وقد يؤرَّخ لحضارة واحدة خاصة تكون هي الأساس التي تتم عليه المقارنة مع الحضارات الأخرى، مثل الحضارة الهندية، من مؤرخ عربي مسلم، مما يدل على أولوية الشرق على الغرب، والهند على اليونان ضد أسطورة المركزية الأوروبية والعبقرية اليونانية. ومثال ذلك «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة» للبيروني (٤٤٠ﻫ).٨٦ ويمكن اعتباره أيضًا في تاريخ الفِرَق غير الإسلامية؛ أي جزءًا من علم الكلام مثل «الملل والنحل» للشهرستاني، ولكنه لا يتضمن عرضًا للفِرَق الإسلامية أو لنسق العقائد بشكل تفصيلي، بل لفرقة غير إسلامية واحدة؛ ومن ثمَّ كان أقرب إلى تاريخ عام للحضارات. ويعتبر البيروني كتابه ضد كتاب المقالات وتشويهها. وقد فعل مسكويه نفس الشيء مع فارس وحدها في «الحكمة الخالدة» مع ترجمة لجاويدان خرد ومقارنات مع اليونان الوافد الغربي ومع الحضارة الإسلامية، حضارة الآخر الشرقي مع الآخر الغربي مع حضارة الأنا.٨٧ويتحقق البيروني أولًا من صدق الروايات وصحة المصادر كما فعل ابن خلدون بعد ذلك في المقدمة قبل تدوين التاريخ من أجل معرفة الخبر الصادق من الخبر الكاذب. وينقد الأخبار عن جهل وتقليد المخبرين والتسليم برواياتهم. كما ينقد المصادر في كتب الفِرَق التي تعتمد على المنحول والمخلوط والروايات الخاضعة للأهواء، والمبالغة في ذكر المذهب كما فعل الإيرانشهري مع المانوية، والاعتماد على الروايات الشعبية دون تمحيص كما نقل الإيرانشهري عن زرقان في دراسته فِرَق الهند عامة والشمنية خاصة، والحجاج مع الخصوم. بل قد يتعدى الأمر إلى أخطاء النساخ والأعراض عن الترتيب المعروف. ويحكم على روايات الإيرانشهري بأنها غير محصلة أو عن غير محصل، وكذلك روايات ابن طارق.٨٨ ويمكن تصحيح الأخطاء بالمراجعة على كتب الأوائل أو بالمراجعة على الواقع المشاهَد.ويعترف «بتعذر استشفاف أمور الهند لأجل القطيعة» مما يدل على أن الغاية من الحضارات المقارنة، ورؤية حضارة الآخر من خلال حضارة الأنا هو التواصل بين الحضارات.٨٩ فالحضارات متصلة تاريخيًّا وبنيويًّا، واقعيًّا وذهنيًّا. وفي لحظات الخطر أو الضعف ينشأ التمايز بينها إلى درجة الانفصال والتعارض. ويحدد البيروني أسباب القطيعة في دراسة الهند في خمسة أسباب: الأول اللغة الهندية طويلة عريضة، تشبه اللغة العربية، تُسَمِّي الشيء الواحد بأسماء متعددة، وتُطلِق الاسم الواحد على عدة مسميات، ويقع فيها خلاف بين القصص والعامية، وعدم مطابقة حروفها للعربية، بالإضافة إلى أخطاء النسخ المقارنة باللغة العربية واللغة الفارسية. والثاني بسبب الديانة وطائفة المنبوذين والاستنكاف منها. والثالث العمل الاجتماعي والعادات والرسوم والزي مما يجعلها أقرب إلى الوثنية. والرابع العامل السياسي، وعداوة الشمانية للبراهمة، حتى قضى عليها زرادشت. والخامس التنافر الأخلاقي مع ديانات الهند.ويعتمد البيروني على النصوص المقدسة الهندية؛ أي على المصادر الأولى، وليس فقط على كتب التاريخ؛ فالدين أصل الحضارة ومنبعها الأول. وقد ترجم منها البيروني نصين؛ «سانك» و«باتنجل» كنموذجين؛ الأول في مبادئ الموجودات، والثاني في تخليص النفس من البدن.٩٠ وهو يؤرِّخ للدين الخالص وفي نفس الوقت للدين الشعبي، الدين من حيث هو دين، دين البشر الواحد قبل أن يتجزأ في ديانات شعبية طبقًا لاختلاف الزمان والمكان وتعدُّد الشعوب والأوطان. ولما كان الدين بؤرة الحضارة، يصبح تاريخ الدين تاريخًا اجتماعيًّا وسياسيًّا وحضاريًّا شاملًا. وفي التعامل مع النصوص، يذكر أسماء الكتب، ويقتبس النصوص، ويذكر أسماء الكتب المقدسة.ويستعمل البيروني القرآن كمصدر للأخبار. كما يستعمل الكتب المقدسة السابقة مثل الإنجيل استعمالًا معنويًّا وليس كشواهد نصية، احترازًا من قضية التحريف.٩١ كما يعتمد على منهج الملاحظة والمشاهدة، فالتنظير المباشر للواقع أفضل من الرواية الشفاهية والنص المدون، بل إن المشاهدة مقياس للتحقق من صدق الخبر، «ليس الخبر كالعيان»،٩٢ بالرغم مما قد تخضع له المشاهدة أيضًا من خطأ في الإدراك أو التفسير.
ومن عناصر المنهج التاريخي عند البيروني يمكن التعرف على فلسفة كاملة للعلوم التاريخية تقوم على علم النفس التاريخي، وعلم الاجتماع التاريخي، مثل حب الشكر والمدح أو الذم والقدح كبواعث ودوافع لكتابة التاريخ. ويمكن تحديد المنهج التاريخي عند البيروني أيضًا بأنه يقوم على العرض الموضوعي مع أقل قدر من النقد في حالة الأخطاء الشنيعة التاريخية أو العقائدية والمصطلحات والتعريف بها، ثم النقل عن المصادر كشواهد ودون الإحالة إلى الماضي أو إلى المستقبل والاكتفاء بتحليل الحاضر.
ويعتمد البيروني على مصادر مكتوبة وروايات شفاهية في آنٍ واحد، وعلى المشاهدة والملاحظة في آنٍ واحد، مما يجعل الكتاب أقرب إلى التجميع منه إلى التأليف. وقد كان ذلك سنَّة القدماء.٩٣ وقد يوحي ذلك أحيانًا بالاستطراد والتجميع غير الدال، مثل مقارنة علم العروض العربي والهندي والفرسي؛ فالعلم معلومات، والمعلومات علم.٩٤ وتوحي هذه التواريخ التفصيلية أنها نقل من مصادر وليست بناء على حساب شخصي. وقد تعلَّم البيروني اللغة السنسكريتية، وعرف الحضارة الهندية من مصادرها الأصلية وليس من ترجمات عربية سابقة عليه. ويعرض العقائد مدعمًا بالنصوص مثل كتاب باتنجل، كتيا، بهارت، سانك. وربما لم يعتمد على مصادر عربية أو هندية سابقة كُتبت قبله ذكرت الهند، بالرغم من اعتماده أحيانًا على مؤرخي المغرب، هذا الصقع البعيد، مما يدل على وحدة الأمة وتواصلها.٩٥ وربما اعتمد البيروني على مترجمين كما اعتمد على كتب التاريخ الإسلامي كمصادر.٩٦ اعتمد على المصادر الهندية الأصلية. ويحيل البيروني إلى باقي مؤلفاته مما يدل على وحدة عمل المؤلف كمشروع فكري.٩٧ كما يبين الأسلوب وحدة العمل بالعود على بدء، وبالتذكير بما سبق، وبعبارات الربط بين الأبواب، وبالإحالة إلى ما سيأتي، وبإرجاء بعض الموضوعات إلى مناسباتها.٩٨وبالرغم من أن البيروني يبدأ من التاريخ، إلا أن التاريخ ليس هو تاريخ الحوادث بداية من الجغرافيا والتاريخ الطبيعي وانتهاءً بالتاريخ السياسي والاجتماعي، بل هو التاريخ الحضاري وبؤرته تاريخ الأديان والثقافات والشرائع، انتقالًا من التاريخ غير الدال إلى التاريخ الدال؛ فالتاريخ ليس مجرد حوادث تاريخية، بل حقائق نظرية أو بنيات ذهنية.٩٩ وتغيب الدلالة أحيانًا لحساب التاريخ، وإعطاء أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الهند.١٠٠ ويذكر الأنهار ومخارجها وممارها على الطوائف في استدراك جغرافي. ويعطي معارف شتى من بلادهم وأنهارهم وبعض المسافات بين ممالكهم وحدودهم، إلا أن كثرة ورود أسماء الأعلام والكتب والأماكن وترجمة النصوص، قد تمنع من تسلسل الأفكار وفهمها دون ردها إلى حواملها التاريخية، مما يدل على أهمية حذف هذه الأسماء كلها من أجل الإبقاء على الأفكار كما هو الحال في المراحل التالية في التلخيص كما فعل ابن رشد في «تلخيص الخطابة». وفي النصف الثاني من الكتاب تقل الأفكار والحضارات المقارنة وتزيد الوقائع والتاريخ المحلي، وكأن البنية قد بدت قبل التاريخ، والكليات قبل الجزئيات. وبالرغم من سيادة أحيانًا النزعة التاريخية، إلا أن الوصف الاجتماعي أحيانًا يفوق «المقدمة» لابن خلدون. فيصف الزي الشعبي كثقافة وحضارة، والأعياد والعادات والتقاليد. فلا فرق بين العقائدي والشعائر، بين النظر والعمل. ويذكر النظام الاجتماعي، نظام المنبوذين والذي يُسمَّى ألوان.١٠١ وتظهر النزعة التاريخية في ذكر اليونانيين دون مقارنة بالهند، وكأن البيروني يريد تقديم مجرد معلومات عن اليونان كما قدَّم معلومات عن الهند. ويخصص البيروني عشرات الأبواب لذلك.١٠٢وقد تضيع المقاصد العامة للكتاب وسط هذه التفصيلات والجزئيات التي بلغت ثمانين فصلًا، مما يجعلها في حاجة إلى تجميع في موضوعات كلية لمعرفة العناصر الرئيسية المكوِّنة للحضارة الهندية بوجه عام وللدين الهندي بوجه خاص. تكثر الأبواب عددًا وتقل صفحاتها. وتقصر الأبواب تباعًا من البداية إلى النهاية. ويمكن تجميع هذه الأبواب الثمانية في ثلاث مجموعات كبرى: العقائد، والشعائر، والحكمة. العقائد ثلاث: الله والعالم والنفس، كما هو الحال في كل الديانات، بل والفلسفات والشعائر؛ أي الدين باعتباره مؤسساتٍ أربعًا: الشعائر، والشرائع، والمجتمع، والرهبنة. والحكمة أربع: الحساب، والفلك، والتاريخ، والجغرافيا. ويسود الفلك والجغرافيا، وهما مستوى التحليل عند القدماء، وهي ميادين اهتمام البيروني.١٠٣ وكأن الكتاب في الفلك، وما الأديان إلا مقدمة. وربما هذا الجمع بين الفلك والتاريخ هو الذي جعل دراسة البيروني للهند دراسة متميزة. وربما استعمل البيروني الهند لعرض علم الفلك، وهو من المتعمقين فيه. وتنتقل الموضوعات من الفلك إلى التشريع إلى الفلك من جديد بحيث يبدو أقرب إلى الفلكي منه إلى علم الاجتماع الديني.من هذه المقدمة التاريخية العامة يمكن تلمس منهج البيروني في كتابة التاريخ الذي يقوم على التعرف على حضارة الآخر، مع احترام كامل لحضارة الغير، وعدم الإحساس بالنقص أمامها، ثم تمثُّلها، ومقارنتها مع غيرها، والرد عليها بوضعها في إطار ثقافة الأنا. كما يقوم على التعاطف المسبق مع الموضوع المقارَن من أجل فهمه والغوص فيه؛ فالحضارة كلها على مستوًى واحد من الاحترام.١٠٤ ويعطي البيروني مئات من الجداول والرسومات التوضيحية للتواريخ والمذاهب والديانات. ويمكن أيضًا تحديد المنهج التاريخي عند البيروني على أنه يقوم على العرض الموضوعي دون الجدال، والتعريب للمصطلحات والتعريف بها مثل لفظ الشرف، والاعتماد على المصادر التاريخية والنصوص المقدسة الهندية مثل كتب باتنجل، كيتا، بهارت، سانك، ودون الإحالة إلى الماضي في تاريخ الهند أو التطوير إلى المستقبل، بل دراسة الدين في حاضره.١٠٥ كما يستعمل علم النفس الاجتماعي في تحديد مراحل عمر البرهمن.١٠٦الحضارة الهندية موضوع المقارنة من أجل مزيد من العلم بها، ووضع الأقل معرفة في إطار الأكثر معرفة مثل اليونان داخل الحضارة الإسلامية للعرب والمسلمين الجامعة لثقافات اليهود والنصارى والسريان، بل ولأوروبا التي كانت آنذاك طرفًا بالنسبة لمركزية الحضارة الإسلامية وعلى النحو الآتي:١٠٧ويبدأ البيروني بوضع الهند موضوع المقارنة مع الحضارات الأخرى، ثم نقل المقارنة تباعًا حتى تصل إلى الهند مع نفسهما؛ أي الاقتراب من الموضوع عن بُعد، الهند مع غيرها قبل الهند مع نفسها، الالتفاف حول الموضوع أولًا وحصاره قبل الاقتراب منه والنفاذ إليه في العمق. وقد تتسع المقارنة أكثر من الهند واليونان بوضع فارس وسطًا بين الهند والعرب، والهند واليونان، والكل وسط بين الصين والعرب.
ولا تعني المقارنة الجدل والخصومة والرد والتفنيد كما هو الحال في تاريخ الفِرَق في علم الكلام، بل مجرد رؤية الثقافات في مرايا الثقافات الأخرى مع تقدير كامل للتعددية الثقافية.١٠٨ والحضارات المقارنة لا حدود لها موضوعًا ومنهجًا وغايةً للتعرف على الروح في التاريخ؛ فالحضارة روح التاريخ ومحركه الأول.١٠٩وتبدو أهمية المقارنة في حالة غيابها والوقع في الأساطير الهندية المحلية غير المقارنة مما يفقدها دلالتها وأهميتها. وتحتاج المقارنة كي تصبح ممكنة إلى قانون عام أو بنية ذهنية واحدة تندرج تحتها كل الحالات الجزئية مثل البداية بقانون عام للنكاح في الأمم، وهو قانون فطري يقوم على الزوجة الواحدة وليس تعدد الزوجات.١١٠وبمقارنة الموروث بالوافد، حضارة الأنا بحضارة الآخر، تظل الأغلبية لحضارة الأنا على حضارة الآخر، سواء كان الآخر شرقيًّا: الهند وفارس، أو غربيًّا: اليونان والرومان. الفزاري يسبق جالينوس، والإسلام يأتي قبل الروم. ولكن الهند والبراهمة والروحانيون باعتبارهم موضوع الكتاب ومقارنتهم بالمنجِّمين في فارس تأتي قبل الجميع. ويحيل إلى اليونان أكثر مما يحيل إلى فارس. ويذكر الصقالبة مع اليونان.١١١ وتذكر الصين بالمقارنة مع الهند في حروف اللغة، والكتابة على الجلود بين الهند والصين ومصر اليونان والعرب، مع بعض الأحكام الشعوبية عن سفالة الزنج والصين.١١٢وتتركز المقارنة بين الجانبين الشرقي والغربي، بين الهند واليونان، بين الموجودات العقلية في الهند والمثل عند أفلاطون، كما تتم المقارنة بين جغرافية اليونان وجغرافية الهند. وأحيانًا تتم المقارنة بين الهند واليونان بتوسط العرب في الجاهلية؛ أي عبر التاريخ. وقد حدث اللقاء بين الاثنين أثناء حروب الإسكندر؛ إذ تشبه عقائد اليونانيين أيام الجاهلية عقائد الهند. الإسكندر نقطة الصلة بين الشرق والغرب. ويذكر فضل اليونان كمؤرخين. وقد استطاع اليونان تهذيب علومهم أكثر من الهند. وفازوا بالبحث النظري. فقد هذَّب الحكماء السبعة اليونان الفلسفة بعد أن نشأت مجسَّمة في الهند. فاليونان أكثر توحيدًا وتنزيهًا وتقدمًا في الوعي من الهند.
ويهاجم براهجر اليونانيين لأنهم أنجاس، في حين أن الهنود قد جمعوا بين الطهارة والعلم.١١٣ ويختلف المؤرخون حول أول من أحدث مراكب القتال، مثقالوس في أثينا أو أفروذيس الهندي في مصر.١١٤ ولكن هل عرف البيروني اليونانَ معرفة مباشرة، وقد عاش في الهند معظم عمره، أم عن طريق الروايات غير المباشرة؟ويقارن البيروني بين آراء الهند واليونان في النفس والروح والتناسخ وتسميتها آلهة، ومقارنة سقراط في خلود النفس في «فيدون» مع نتائج الهنود، ومقارنة التذكر والنسيان عند أبرقلس مع تناسخ الهنود أيضًا.١١٥ ويقارن بين الهند واليونان خاصةً الصقالبة في كيفية دفن الموتى، إذ تحرق الصقالبة موتاهم كالهند، واليونان بين الحرق والدفن.١١٦ ويقارن بين عقائد اليونان وعقائد الهند أيام الجاهلية ويجد تشابهًا بينهما. ويقارن بين أساطير الهند وأساطير اليونان للمقاربة بينها،١١٧ مثل القنطور اليوناني، الفرس الإنسان، وبين آلهة الهند والفرس، ومقارنة زيوس مع آلهة الهند، وكأن هناك بنية حضارية واحدة للإيمان، ومقارنة نشأة الأرض وأنساب الآلهة ونَسب أبقراط مع أنساب الهند. ويقارن بين إماتة الشهوات عند فيثاغورس وعند الهنود.١١٨ وتتم مقارنة اللغة والألفاظ اليونانية واللغة والألفاظ الهندية، وكتابة الاثنين من اليسار إلى اليمين.١١٩ لم يكتب الهنود على الجلود كما فعل اليونانيون. وقد انتقلت الحروف من الهند إلى اليونان، وزاد اليونان عليها حروفًا فيما يُعرف الآن باسم اللغات الهندية الأوروبية. ويقارن البيروني بين الطب الهندي والطب اليوناني،١٢٠ بين جالينوس وكلام الهند غير المحصل. ويقارن الهندسة والفلك اليوناني عند إقليدس والمجسطي بهندسة الهند وفلكها،١٢١ بين بلس وأرشميدس اليوناني ومقاييس الهند. وتتم مقارنة الشعر الهندي العربي الفارسي مع الشعر اليوناني.١٢٢ ويقارن بين المدن اليونانية الرومانية والمدن الهندية.ويبدو أن الهند عند البيروني ما هي إلا مناسبة لعرض اليونان، وأن المقارنة تتم لحساب اليونان التي تمثل تقدُّمًا حضاريًّا بالنسبة للهند مما يجعل البيروني يونانيًّا أكثر منه هنديًّا. وأحيانًا تبدو اليونان كإطار مرجعي للهند وليس معيارًا بالضرورة؛ فأيام سم سقراط بداية للتاريخ.١٢٣ إنما تكثر المقارنة بين الحضارتين، فالهند درة الشرق، واليونان درة الغرب، بل تبدو اليونان كإطار مرجعي للهند أكثر من الحضارة الإسلامية.والسؤال الآن: هل عرفت الهند الثقافة اليونانية وهي أبعد من فارس؟ هل كانت الثقافة اليونانية منتشرة في الهند أم كانت ثقافة المسلمين حملها معه من العالم العربي؟ أم إن الهند كانت تضم إيران وأفغانستان، وكل آسيا منطقة حضارية واحدة كانت بها مدارس يونانية مثل مدرسة بلخ؟
وتستمر المقارنات مع اليهود والنصارى والعبرية والسريانية ومع المانوية في فارس ومصر وأوروبا. وكلما اقتربت المقارنات مع حضارة الأنا يتحول التاريخ إلى قراءة حتى تصبح قراءة تامة بالمقارنة مع العرب والمسلمين. ويقارن البيروني بين اليونان وبين إسرائيل وآل فارس وأنبيائهم وملوكهم. كما يقارن بين التاريخ اليهودي والتاريخ الهندي. ويربط بين الإسكندر في مصر وعبادة آمون. ويقارن بين عبادة الأصنام والمنصوبات في الدين الشعبي في اليهودية والنصرانية والمانوية مع الهند. ويطبِّق علم النفس التاريخي ليفسر أسباب نشأة عبادة الأصنام، من الشخص إلى الواقع المادي احترامًا للشخص وتحويل ذلك إلى قانون؛ فالوثنية هي الأصل وليس التوحيد. التوحيد ارتقاء عند كل الشعوب بما في ذلك اليهود والرومان. البداية بالواقعة المحددة ثم التعميم. ويقارن بين اسم الله في الهند «أوم» وفي اليهودية.١٢٤ ويقارن بين المانوية والنصرانية في المباح والمحظور في الطعام والشراب ويعطي لذلك تعليلًا علميًّا كما يفعل الأصوليون.١٢٥ ويقارن أحيانًا بين اليهود والفرس وليس بين اليهود والنصارى أو الفرس والهند. ويقارن بين نظام الطوائف في الهند وفارس وبين الاختيار اليهودي ويتساءل عن سببه، هل هو سبب حرفي أو اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو ديني أو عنصري. ويقارن بين المنانية والنصرانية من خلال أقوال ماني. كما يقارن بين المجوسية والهندوكية؛ فقد أنكر زرادشت الشمنية في تسمية الشياطين. كما يقارن بين الصابئة الحرانية والثنوية المنانية مع الهند في عبادة الأصنام.١٢٦ ويقارن بين نكاح اليهود وزواج الفرس. ويقارن اللغة الهندية باللغة الفارسية، فكلاهما لغة متسعة، وأوروبا وآسيا جناحان للعالم الإسلامي، وجبال الألب امتداد لجبال الهيمالايا التي يسميها البيروني همنت. أمَّا الزنج فيصفهم بالبلادة والسفالة ويفسر سلوكهم على نحو اقتصادي؛ فلا تحاسد فيهم إذ لا يملكون شيئًا، ولا غم ولا حزن لهم، أعمارهم أطول، لا يعرفون موتًا طبيعيًّا وإنما ينسبونه إلى السم.١٢٧
- (١)
كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها (ص١١–٢٨).
- (٢)
طبقات الأطباء الذين ظهرت لهم أجزاء من صناعة الطب وكانوا المبتدئين بها (ص٢٩–٣٨).
- (٣)
طبقات الأطباء اليونانيين الذين هم من نسل أسقليبيوس (ص٣٩–٤٢).
- (٤)
طبقات اليونانيين الذين أذاع أبقراط فيهم صناعة الطب (ص٤٣–١٠٧).
- (٥)
طبقات الأطباء الذين كانوا منذ زمان جالينوس وقريبًا منه (ص١٠٩–١٥٠).
- (٦)
طبقات الإسكندرانيين ومَن كان من أزمنتهم، النصارى وغيرهم (ص١٥١–١٥٩).
- (٧)
أول ظهور الإسلام من أطباء العرب وغيرهم (ص١٦١–١٨١).
- (٨)
طبقات السريانيين الذين كانوا في ابتداء ظهور دولة بني العباس (ص١٨٣–٢٧٨).
- (٩)
النَّقَلة من اليوناني إلى العربي (ص٢٧٩–٢٨٣).
- (١٠)
العراقين والجزيرة وديار بكر (ص٢٨٤–٤١١).
- (١١)
بلاد العجم (ص٤١٣–٤٧٢).
- (١٢)
الهند (ص٤٧٣–٤٧٧).
- (١٣)
المغرب (ص٤٧٨–٥٣٩).
- (١٤)
مصر (ص٥٤٠–٦٠٢).
- (١٥)
الشام (ص٦٠٣–٧٧٦).