(١) سِر الخليقة وصنعة الطبيعة، كتاب العلل
ويُعتبر «سر الخليقة وصنعة الطبيعة، كتاب العلل» لبلينوس
الحكيم الذي نُسب إليه الخوارق وعاش في القرن الأوَّل
الميلادي نموذج المُنتحَل المُتعدِّد. وهو نصٌّ في علم
الكيمياء والمعادن خاصةً، والطبيعيات عامةً. هو كتاب في
علم الكيمياء العملي كجزءٍ من الطبيعيات، صورته كما تبدو
من الكتاب أنه إلهي، مُصاحِب للجن والسحر والمعجزات،
أخلاقي الاتجاه. ضاعَتْ معظم كتُبه. نشأ المؤلف يتيمًا مثل
الرسول حتى يُوحي بالتعاطُف معه والإيمان به ويحثُّ على
قراءة الكتاب.
١
يحتوي العنوان على ثلاثة أقسام: الأوَّل «سر الخليقة»،
وهو يُعبر عن الموروث، نظرية الخلق والدافع على الانتحال.
والثاني «صنعة الطبيعة» التي تُعبِّر عن الوافد
الذي يتمثَّل داخل
الموروث. والثالث «كتاب العِلل» وهو الرابطة بين الاثنين،
مكان التعشيق حيث يتمُّ نقض التعليل والصلة الضرورية بين
العِلة والمعلول كي يصبح الله هو العِلة الأولى، بل والعلة
المباشرة الموجهة لظواهر الطبيعة كما هو الحال في
الأشعرية.
وهو كتاب مُركَّب يحتوي على أقسام: الأوَّل مُختصر للنص،
والثاني رواية أولى تطابق الترجمة العربية، والثالث رواية
ثانية مُنقَّحة وموسَّعة ومنسَّقة أدخل فيها المُنقِّح
الذي عاش في أواخر القرن الثاني أقسامًا كبيرةً من الكتاب
في طبيعة الإنسان لنمسيوس تُرجِم إلى العربية، ثم ترجَم
إسحاق بن حنين (٢١٥–٢٩٨ﻫ) «سر الخليقة» ويُحيل إلى عشرة
كتُب أخرى في النص. يتقابل كتاب الخلق المخلوقة مع العلل
المعلولة. وتُسَمَّى الكتُب غير المنزَّلة مصاحف مثل مصحف
هرمس ومصحف فيدون.
٢
وكعادة التشويق في النصوص المُنتحَلة تروى قصص خيالية؛
كيف وصل الكتاب في سردابٍ من هرمس المثلث بالحكمة مع نصٍّ
آخر على صحيفة زمرُّدية مُوحًى به.
٣ «أسرار الخليقة» لبلينوس يُمثل حضارة الوحي
وكأنَّ عقل اليونان هو وحي الإسلام. واللوح الزمرُّدي
لهرمس «صناعة الطبيعة» يُمثل الدين الطبيعة، لا فرق بين
الخلق والطبيعة. لوح الزمرُّد نموذج نصِّي في الكيمياء يرى
أن الطبيعة تفعل بنفسها، ولكنه قاصر لأنَّ جوهر المادة لا
يُعرَف إلَّا بالخلق. وهذا سِر المزاوجة بين الكتابَين،
والتحوُّل من التصوُّر الأحادي للعالم إلى التصوُّر
الثنائي.
ويُعرَض الكتاب على مستوى شعبي للدفاع عن العقيدة
الشعبية بمادة كتبَها العلماء مُتعدِّدة المصادر. ويظهر
سحر الأعداد، وتتكرَّر أربعة في أربعة مما يُفسِّر كل شيءٍ
كما هو الحال عند إخوان الصفا، وتُضرَب الأمثلة للشرح،
ويظهر الطابع القصصي. بل إنَّ الخلق تُقسَّم قصة، بالإضافة
إلى أسلوب الحوار المُتخيَّل ونسبة الأقاويل للغير أو
الأغيار؛ قال أو قالوا. وتتمثَّل عبقرية المؤلف في صياغة
موحدة للكتاب من موارد مُتفرقة يدلُّ عليها مخطوطات الكتاب
التي تصِل إلى حوالي ثلاثين مخطوطًا. لم يهتم به الخاصة
لأنَّ الحكماء كان لديهم الأصول اليونانية. ومع ذلك يذكُره
جابر بن حيان. وربما استفاد منه بعض المُشتغِلين بالعلوم
الطبيعية كمقدمةٍ للفلسفة الطبيعية في القرون الأولى
للإسلام في أوائل عصر الترجمة، لأن الترجمة لم تكن قد
توفَّرت بعد.
ومن الطبيعي أن يبدأ الانتحال بهرمس المُثلث بالحكمة
والذي يُمثل الحكمة الخالدة للأنبياء والحكماء. وهو جماع
الدين الطبيعي ودين الوحي. فالله خالق عادل رحيم، وسعَتْ
رحمته كل شيء فله الحمد. وهي حكمة سِرية مضنونٌ بها على
غير أهلها. لذلك أودعت في سرداب مُظلم عليه طلسمات لا
يفكُّها أحد. ولكن بلينوس عرضها وفسَّرها وأوصى بها بَنيه
كما أوصى يعقوب وموسى ولقمان. وأخذه المُترجِم ساجيوس القس
ونقله إلى العربية ناقلًا الحكمة إلى العرب. واللوح
والزمرد مادة الكتابة من نفس نوع قيمة الحِكمة في الخيال الشعبي.
٤ ويعتبره المؤلف كتابًا سِريًّا محفوظًا للأهل
والقوم والحرص على عدَم وقوعه في يد الغُرباء والقسَم على ذلك.
٥
وتكشف مقدمة الكتاب عن عناصر الانتحال ومنطق الإبداع.
ويدلُّ تعبير «الجامع للأشياء» على التركيب والتأليف والانتحال.
٦ ويعترِف المؤلِّف بأن الكتاب ترجمة ولكنه يكشف
المستور بالحذْف والإضافة وبالتأويل؛ إذ يضمُّ الكتاب
تحليلًا كميًّا وقراءةً للطبيعة. كما يظهر هذا أيضًا في
المُلحَق الأوَّل من كتاب الخلقة التي تتضمَّن الكلمة
الختامية للمُترجِم، وهو لا جديد فيه، مجرَّد تجميع مواد
مُتشابهة عن الخلق ضدَّ قِدَم العالم، وحديث بلينوس عن
نفسه وأنه صاحب الكتاب مما يُوحي بالشك، والإصرار على أنه
يُخبر كما أخبر مثل إنجيل يوحنَّا وإصراره على أنه شاهدَ وعايَن.
٧ الزيادة ليست جديدة إلا من المفاهيم الرئيسية
الأربعة طبائع مع مفتاحها. كما أنَّ التأكيد على مصادر
الكتاب الإلهية يُوحي بالانتحال. والصحيح لا يحتاج إلى تأكيد.
٨ وكثرة الكلام على كيفية تأليف الكتاب وأقسامه
وأجزائه تدلُّ على الانتحال.
وتدلُّ الإحالات المُستمرة إلى أجزاء الكتاب على محاولة
الربط بينها، إحالة اللاحق إلى السابق، والسابق إلى
اللاحق، العود إلى البدء، والرجوع إلى الموضوع، والإيجاز
بعد الإطناب، والإطناب بعد الإيجاز، وبيان «التفصيلات».
ونقاط العبور من موضوع إلى آخر، وتفصيل المُجمَل، وإجمال المُفصَّل.
٩ ثم يستدل على التجميع بالقياس والتجربة دون ما
حاجة إلى شواهد شعرية أو نصوص دينية إسلامية أو مسيحية
نظرًا لاحتمال الانتحال في بيئة مسيحية قبطية.
١٠
وبتحليل أسماء الأعلام الواردة في النص يتَّضح أولوية
الوافد على الموروث؛ إذ يأتي أرسطو الذي أخذ لقَب الحكيم
الأوَّل في المقدمة، ثم هرمس المثلث بالحكمة وبلينوس ثم
أفلاطون ثم جَالينُوس ثم أبقراط وديمقريطس ثم أبرخس،
أبيقويس، أكسانو قارطيس، أمونيوس، بلطينوس، طاليس،
فيثاغورس، كرسيبوس … إلخ. وبعض الأسماء مجهولة. وقد يكون
البعض منها وهميًّا.
١١ ويبدو هرمس هو نموذج الفلاسفة والأنبياء، يجمع
بين العقل والنقل، صاحب علم سِري مُتواصل. الخالق عدل لا
يظلم، رحيم بخلقه، يتولَّى الكل. ويتفق قول هرمس مع النقل والقياس.
١٢
والموضوع الثاني هو النفس. فهي عند البعض مادية، عند
أبقورس وديموقريطس جسد، وعند أصحاب الأسطوانة ريح مثل
النار، وعند قرطياس دم، وعند أبين ماء، وعند ديمقريطس نار،
وعند فيثاغورس عدد، وعند طاليس تتحرَّك نحو طبيعتها، وعند
دينزكوس توفيق امتزاج الطبائع الأربع. وعند أمونيوس معلم
بطلينوس النفس جسد، وعند أهل الأسطوان لها حركتان، وعند
قلينتس من أصحاب الأسطوان وكرسيبوس جسد. ويرى الأطباء مثل
جَالينُوس وأبقراط أن النفس تخريج أي ائتلاف. وهو رأي
أرجانس وموطوس. وعند قطرنوس الأنفس كثيرة. وعند تاموس أن
قوى النفس مختلفة. وعند البعض الآخر وسط بين المادية
والروحية مثل أرسطوطاليس. فهي ابتداء حركة جسد ذي طبيعة
تسكن فيه قوة الحياة. النفس في الجسد كالبصر في الحسِّ.
ولا تتحرَّك، بل حركتها من الجسد. والفلك السماوي مع
الطبائع جسد خامس. والأجساد التي نرى ينقش عنها الهواء،
والذي لا يتعكَّر جزء من المُتعكر. والشهوة صنع قوَّة من
الطبيعة لا حبس له. ثم غير أرسطو موقفه وجعل الشهوة انقضاء
صُنع طبيعة الحي لا حبس له.
ويمثل أفلاطون الرأي الثالث، أنَّ النفس تعلو على الجسد.
والحسُّ المشترك بين النفس والجسد. والذكر إمساك ما تحسُّ
به النفس. أمَّا العقل والعقول فمكان الفهم والمفهوم.
والبصر نور. وأيدَّه جَالينُوس في ذلك. وعند أكسانوقراطيس
النفس مكان العِلم ولا تأكُل. وعند كرسيبوس أنَّ الموت
فراق بين النفس والجسد، وعند دينزكوس النفس توفيق للألحان،
ونقد أفلاطون في أنَّ العِلم تذكُّر. وعند أنوميدس النفس
ليست جسدًا بل سبب عمله، وعند أمونيوس مكان للأفكار.
١٣
وللوافد اليوناني الأولوية على الوافد الشرقي. فمن الشرق
يأتي آدم في المقدمة وأفلاطون القبطي وديصان ثم زرادشث،
وعبدَة النيران، ثم إبراهيم النبي وفرعون وساجيوس القس
وطلوقوس الكاهن، وبرهمن وبوذا. ويرِد الإبداع إلى مصر بلد
الأديان لا سيَّما أهل حلوان والفيوم والإسكندرية لِما
نزَع إليهم من أصحاب طلوقوس الكاهن بالفيوم وأفلاطون
القبطي بحلوان الذي وصف الله بأنه لا فعل ولا حركة ولا
تغيُّر ولا فناء ولا زوال. وعند مينوس وأصحابه أنَّ الخالق
واحد، فلا يجوز أن يخلق اثنين. والبعض كرِه الكلام وتبرَّم
من المُتعلمين وآثر التصوُّف. ويُخطئ الصابئة أو أصحاب
الشجرة وأصحاب النجوم وأصحاب الطبائع وعبدَة الحيوان
والنيران وأصحاب التوبة وأهل العزم بالفكرة على الأمر
المحجوب عند العامة وأهل الرمال والمياه والحجارة وبين من
ادَّعى أن له خالقًا غير الله أو من زعم أن الخالق أمَر أن
يُعبَد غيره.
١٤ وطالب كالوس أن
يُري الخالق نفسه حتى
يعرفه الخلق ويرَوه كما طالب موسى من قبل. سعى في الأرض
فسادًا. بينما رأى آخرون أنَّ الربوبية مشتركة بين جميع الناس.
١٥
وواضح أيضًا حضور أفريقيا، وأرمينيا والصين ونابلس
وطلوانه بلد بليناس. والموضوع الغالب على الوافد الشرقي هو
النفس. ويرفض الكتاب قول البرهمن أن الله نور وتفضيل البد
عليهم مع أنَّ النور من مصطلحات الإشراق، ويؤيد نقدَهم
لدين الروح المجرد. كما ينقد التصوُّف الهندي، ويرفض
الثنائية الفارسية عند زارادشث وديصان ومرقيون وكأنه كتاب
في علم الكلام. وروح ابن آدم لا تزيد عن الحرارة ولم
يوكلوا شيئًا من أعمالهم فيهلك ولد آدم.
١٦
ويوحي توزيع المقالات الستِّ بنظرية الفيض معكوسًا أكثر
مما تُوحي بنظرية الخلق على النحو الآتي:
١٧
وتتداخل النظريَّتان الخلق والفيض بحيث يصعب الفصل
بينهما. ويبدو ذلك في كتاب التعليل الذي يتضمَّن نظرية
العناصر الأربعة وما ينتُج عنها من حرارة وبرودة ورطوبة
ويُبوسة التي تفسر الطبيعة عند الماديِّين ثم هدمها
بالأشعرية؛ أي بالتدخُّل الإلهي من أجل إفساح المجال
لنظرية الخلق.
١٨ وفي نفس الوقت تظهر العناصر الأربعة في الأرض
مُرتبطة بعالم السماء، المعادن من الأفلاك السبعة، والنفس
في النبات من نفوس الكواكب، وحركة الحيوان من حركة
الأفلاك. في المقالين الثاني والثالث خلق غير عضوي، خلق
زماني. وفي المقالَين الرابع والخامس أجناس خمسة لكلٍّ من
النبات والحيوان. والمقال السادس أسلوب المسائل الطبيعية.
لذلك تبدو أحيانًا أنَّ للعلل الهيولانية الأولوية على
باقي العلل بالرغم مما في العرض من تناقُضات. فنظرية الخلق
ونظرية الفيض تبدوان أحيانًا على التداخُل وأحيانًا على
التماثُل وأحيانًا على الانسجام، ولكن ليس على التقابُل أو
التعارُض وكما يبدو ذلك من بعض العبارات في جوٍّ إشراقي
عامِّي يعتمد على الرؤية بالعَين والتأمُّل في عجائب
المخلوقات كما هو الحال عند الصوفية. وللجمع بين
النظريَّتَين الخلق والفيض، وبين التصوُّرَين الديني
والطبيعي تُصبح العِلَل معلولة. فالعلل لا تفعل بذاتها،
ولكنها معلولة بعِلة أخرى كما هو الحال عند الغزالي. ويميز
الكتاب بين أربعة مفاهيم: العِلة لأي شيء والسبب من أي
شيء، والفعل كيف يكون الشيء، والفاعل بأي شيء يكون
الشيء.
المقالة الأولى
«في الخلق والمخلوق» تعرض نسب بلينوس الحكيم من صُنع
الخيال بناءً على نموذج نسب الأنبياء مثل المسيح في أول
الأناجيل، مع عنصر التشويق في القصة، وصية المؤلف بإخفاء
كتابه عن العوام. ثم يدخل في الموضوع الرئيسي،
عِلة الأشياء كلها،
الأصل الأوَّل والجامع لكلِّ شيءٍ والتفرقة بين العِلة
والسبب من أجل الإعداد لنقد المادية وإثبات الخلق. ثم يكشف
عن القصد من الانتحال وباعِثِه الأساسي، القول في التوحيد
والرد على من قال فيه خلافًا لساجيوس القس إثباتًا لنظرية
الخلق ووصفًا لنعوت الله وأسماء الرب. وأخيرًا يعرض قول
بلينوس في الخالق، اليوناني الذي تأسلَم أو تهوَّد وكأنه
في سِفر التكوين، خلق العالم في الزمان، وثنائية الخالق
والمخلوق، والخلق الإرادي الفعلي وليس الخلق الذِّهني، ثم
الرد على مُنكري الخلق؛ أي الدهريِّين بلُغة العصر، عبدَة
النيران والنجوم والطبائع، والبراهمة وزارادشث وديصان
وكالوس، وكأنه نصٌّ في علم الكلام يُحاجج الفِرَق
المُخالفة المُنكرة لخلق العالم. يستعمِل المؤلِّف لُغة
الأنبياء وكأنه يُبلِّغ رسالة من السماء مبشرًا ونذيرًا في
أسلوب الحوار والإقناع ومُستمرًّا في رسالة السابقين،
ومُمهدًا لرسالة اللاحِقين، بضمير المتكلم المفرد. نكشف عن
بيئة مسيحية وكأن المؤلف قسٌّ كاهن أو عن بيئة شرقية،
ثنائية النور والظلمة.
١٩
والمقالة الثانية «في الآثار العلوية» نعرض لعالم الخلق
وعِلله، علل الأفلاك السبعة ودوران الأفلاك والغيوم
والأمطار والبرْد والثلج والجليد والرعد والبرق وقوس
الغمام والدائرة مع تشخيصٍ للعالم العلوي وكأنه عالم إرادي
عاطفي انفعالي، وإبراز خلق الملائكة وعملها على الأرض كما
هو الحال في الدِّين الشعبي.
٢٠
والمقالة الثالثة «في علل المعادن»، الزئبق والكبريت
والذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والأملاح والزجاج،
وهي ما يَسترعي انتباه العامَّة، مجرَّد رصدٍ دون تجميعها
في محاور رئيسية كالمقالة الأولى مع بعض التكرار، تكرار
الرياح في المقالة الأولى، والأجساد المُذابة في المقالة
الثانية، ووضع النبات والحيوان في مقولةٍ واحدة مختلفة عن
الإنسان، مع أنَّ الحيوان ليس معدنًا. كما تلوح من الإحالة
إلى أسماء الأعلام أو الأماكن. ويغلب عليها الوصف العلمي
البارد دون دلالاتٍ إلهية كبيرة. تكفي العامة الغُربة
والدهشة أمام الطبيعة كي تستدلَّ على الخالق. مع ترك بعض
التساؤلات بلا جواب، فالسؤال يبعَث على التفكير أكثر من الإجابة.
٢١
المقالة الرابعة «في النبات» تبحث أيضًا عن العِلل دون
استعمال اللفظ وتفضيل السؤال بأداة الاستفهام «لِمَ»، وهو
ما سمَّاه الكندي «اللمية» في
بداية نشأة المُصطلحات
الفلسفية مع ظهور بعض المُصطلحات القرآنية مثل «ذوات
الأكمام». وتستعمل المقالة رسمَين توضيحيَّين، الأوَّل
يجمع بين الأفلاك والعناصر، والثاني يؤوِّله تأويلًا
دينيًّا. فالطبيعة لا قوام لها بدون الله على النحو
الآتي:
والمقالة الخامسة «في
الحيوان»، ويغلب عليها الطير بما له من دلالة صوفية كما هو
الحال في «منطق الطير» وحِكمة سليمان بدايةً بخلق الحيوان
والإنسان واتصال الخلق بعضه ببعضٍ مع الحكمة في خلق
تفصيلات أجسام الطيور. وهي التساؤلات التي بنى عليها إخوان
الصفا طُرقهم للدعوة إلى تشيُّعهم مع بعض التكرار مثل: لم
صارت البيضة رطبة؟ ولم صار للطير بيضة؟ وتأتي الأسماك بعد
الطير لنفس الدلالة الصوفية، السباحة في الهواء وفي الماء
كمؤشِّرٍ على سياحة الروح في عوالمها العلوية. والمعادن
مُتصلة بالنبات، والنبات بالبهائم، والبهائم بالإنس،
والإنس بالملائكة على ما يبدو في الرسم التوضيحي
الآتي:
والمقالة السادسة «في
خلق الإنسان» تجمع بين وصف الجسد والنفس. وهي أكثر
المقالات تفصيلًا، تصف الإنسان من أعلى إلى أدنى. ويُلاحَظ
اقتران القرون بالحوافر. ويتعرَّض لعجب الذنب كما هو الحال
في عِلم الكلام، ومنه تبدأ النشأة الثانية، الحشر والبعث
والمعاد. وتُظهر النزعة الإنسانية، الإنسان في قمَّة
الكون، نقطة التقاء بين الطبيعيَّات والالهيَّات. والإنسان
جسم وروح. وهو خالد لأنه من روح الحياة. وتتكرَّر بعض
الموضوعات كما هي العادة في المقالات السابقة مثل القول في
الطعوم، ولِمَ وقعت الأسنان ولم تنبُت. فالإبداع الشعبي
تتكرَّر فيه الأقاويل.
وإذا تعرَّض الملحق الأوَّل لكيفية العثور على الكتاب
كعنصرٍ للتشويق فإنَّ الملحق الثاني «من كتاب طبيعة
الإنسان لنمسيوس أسقف حمص» يُضيف ما نقص في كتاب العِلل
وهو عالم النفس وانفعالاتها، مملوءة بأعلام اليونان، مع
تلخيصٍ للسابق بالحذف والاختصار.
وتظهر التوجيهات الإسلامية لتكشِف عن الباعث الجدَلي
الكلامي على الانتحال بألفاظ عِلم الكلام، التوحيد،
الصفات، الأسماء، الأفعال، ومنهج عِلم الكلام في
المُحاجَّة والجدَل والرد على الفِرَق غير الإسلامية أو
أقوال الأُمم خاصةً تلك التي تُنكر الخلق أو النبوَّة
والمعاد. وتبرز صفات قبل أخرى مثل الخالق، والربوبية
والألوهية تجعل الكتاب أقرب إلى اللاهوت الطبيعي منه إلى
لاهوت الوحي. كما تظهر صفات جديدة مُستمدَّة من القرآن حتى
ولو لم تظهر في علم الكلام الاصطلاحي مثل الممسِك. كما
يتمُّ الدفاع عن التنزيه والتعالي، ونقد التجسيم والتشبيه.
وتتراوَح الصِّفات والأسماء بين الإيجاب والسَّلب كما هو
الحال في عِلم الكلام، إثبات صفات الكمال ونفي صفات
النقْص. الإثبات مثل: أحَد، صمَد، دائم، فرد، عالم، قادر،
واجب، ديَّان، حكيم، لطيف، رحيم، غفَّار. والنفي مثل: لا
إله غيره، لا قبْل له، لا يختلط، لا يتَّصِل. ويعتمد الفكر
كلُّه على القِسمة الجدلية القائمة على التشابُه والاختلاف
كما هو الحال في دليل المُمانَعة. والصفات أربعٌ وعشرون
قبل أن تُصبح سبعةً مُضاعفة عدَّة مرات كما هو الحال في
العقائد الأشعرية. وتكثُر العبارات الإسلامية للإجلال
والتعظيم لله مثل: تبارك وتعالى، تبارك اسمه، تبارك الله
العلي الكبير، تبارك الله وتعالى علوًّا كبيرًا، تبارك
اسمُه وتعالى ذِكره، تبارك الله الواهب، تبارك وتعالى
عمَّا يقولون، تبارك ذِكره، وهي الألقاب حول «تبارك»، أو
عبارات أخرى مثل: تعالى الخالق وجل، الخالق جلَّ وعلا،
فتعالى الله العلي الكبير، عزَّ وجل أو جل، الله عزَّ وجل
تعالى علوًّا كبيرًا، الخالق جل ثناؤه، كل شيء بمشيئته.
كما تظهر التعبيرات الإسلامية مثل بني آدم مع الدعوة
للقارئ بالهداية. تظهر باقي المصطلحات الإسلامية مثل
الظاهر والباطن، الأوَّل والآخر، الشاهد والغائب الخاص
والعام، الدنيا والآخرة لتدلَّ على أن الكتُب أقرب إلى
التأليف المَنحول منه إلى الترجمة.
٢٢ وتبدأ معظم المقالات بالبسملة وتنتهي
بالحمدلة، ولا ينسى من التذكير بضرورة قلَّة القول وكثرة العمل.
٢٣
(٢) الفلاحة النبطية
ومن الطبيعيَّات أيضًا «الفلاحة النبطية» المنسوب إلى
ابن وحشية، وهو نصٌّ بين الترجمة والانتحال والتأليف.
٢٤ والنبط والقلدان والسريان حول العراق منطقة
البصرة، نقطة التقاء الثقافات الشرقية والغربية، وتعني
المنحولة هنا المنسوبة إلى ابن وحشية وليس الموضوعة
المُختلقة مثل رسائل أرسطو والإسكندر ورسائل الإسكندر
وأُمِّه وكتاب التفاحة لسقراط. ويُسميها ابن البيطار
الفلاحة الرومية. فالروم هم النصارى مثل السريان.
وقد يرجع النص إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد؛ أي
أقدم من هوميروس بأربعمائة عام أو يزيد. ويتكوَّن من عدة
نصوصٍ لثلاثة مؤلِّفين: ضغريث، ونيتوشاد الحكيم الصادق،
وقوتامي. وهي طريقة تأليف الكتُب القديمة من أجيالٍ عدَّة
مثل كتُب الشرق المُقدَّسة في الهند والصين، ومثل التوراة
والإنجيل. وتذكر أسماء المؤلفين الثلاثة في أول الفقرات
ربما من المؤلف وربما من المُترجِم. والأسماء في النصِّ
وليس في التعليق. أمَّا المدَّة الزمانية المُفترَضة بين
المؤلِّفين الثلاثة، واحد وعشرون ألف سنة، بين كل مُؤلِّفٍ
وآخر سبعة آلاف، فخُرافة.
٢٥ ويعترف ابن وحشية أنه من أصول كسدانية. وربما
كان المؤلف كلدانيًّا أو نصرانيًّا وأسلم.
لم تكن الترجمة فقط من التراث اليوناني والرومي غربًا،
ومن فارس والهند شرقًا، بل كانت أيضًا من بابل شمالًا. فقد
ترجم العرب التُّراث البابلي. فهناك أيضًا الفلاحة
الرومية. وقد كان للتراث البابلي خاصةً الفلك أثر كبير على
تكوين التوراة مثل كتاب تنكلوشا. ويُعتبر التراث البابلي
أيضًا كجزءٍ من حضارة ما بين النهرين بالرغم من خروج بلاد
النبط خارج النهرين. تفاعل الشرق والغرب عند النبط. وحضرت
فارس والهند شرقًا واليونان غربًا عند الكلدانيين في ثقافة
مُتوسطة جغرافيًّا. كان النبط مُنفتحين على الشرق حتى
خراسان. ويبدو أنَّ الحضارة الزنجية حضارة الجنوب، لم
تتفاعل إلا مؤخرًا بعد انتشار الإسلام في أفريقيا وبداية
ظهور اللغة السواحيلية كلغة التدوين.
٢٦
ولا توجَد ثقافة استوعبَتْ ثقافات الشعوب المجاورة قدر
الثقافة الإسلامية. بل انتسب إليها أصحاب الثقافات
المجاورة لإغناء الثقافة الجديدة. كان الهدَف من التوصية
حفظ تُراث الأمم السابقة وليس القضاء عليها بعد الفتح،
حفاظًا على ثقافات الأمم وعلومهم بدلًا من اندثارها.
فالغاية إظهار العلوم وليس إخفاءها، وتنقيتها من الخرافات.
فالترجمة إثراء الشعب القديم بنشْر تراثه، وإثراء للشعب
الجديد بتحديث تراثه. والمترجِم ذو ثقافة مُزدوَجة بين
الاثنين، يظهر التواصل والتمايز بين الثقافات. ففي نفس
الوقت الذي يتحدَّث فيه النص عن «إقليمنا»، «وزعم قوم من
أسلافنا.» فإنه يواصل النقل من السرياني إلى العربي جمعًا
بين الثقافات الشرقية والغربية. فالمنطقة تُمثل وحدة ثقافية.
٢٧
كان النص نفسه مُترجَمًا قبل ابن وحشية باعترافه. فكانت
مُهمته الاختصار. ثم عدل عن ذلك إلى عرْض الترجمة لنقل
علوم الأمم الأخرى. فهل عرف لغة النصِّ الأوَّل؟ وهل راجع
الترجمة عليه أم أنه اكتفى بالترجمة التي وجدَها؟ من هو
المترجم الأوَّل؟ وإذا كانت العلوم سِرية عند النبط فكيف
عرفها وترجمها أو أعاد كتابتها؟ ويعترِف بأنه أنفق على
الترجمة من ماله الخاص دون الاعتماد على أي مؤسَّسات.
٢٨ وما الفائدة من إبقاء العلوم سرًّا وإلَّا
أصبح الإنسان كالحِمار يحمل أسفارًا؟ إنَّ مهمة الترجمة هي
نقل العلم من ثقافةٍ إلى أخرى، ومن لغة إلى لغة، إثراءً
للثقافة الإنسانية العامة. وفي كل شعْب خاصَّة وعامة، خاصة
تقبل الثقافات، وعامَّة تودُّ الاحتفاظ بها سرًّا.
٢٩ وقصة الترجمة تُبين أن الترجمة همٌّ حضاري،
ووعي بالإثراء المُتبادَل بين ثقافات الشعوب، وأنَّ هناك
قصدًا حضاريًّا عامًّا وراءها ووعيًا تاريخيًّا بتقدُّم
الحضارات.
لم يعرف النص الأصلي إلا تقسيم الأبواب. وأضاف النص
العربي تقسيم الأبواب إلى فصول لبلورة الموضوعات وإبرازها.
فلا فرق بين النص الأصلي والنص المُترجَم، إعادة التعبير
عن المضمون السرياني في لغة عربية جديدة مع استبعاد الجانب
الخُرافي من أجل الإبقاء على النص العلمي.
٣٠ كما يتمُّ تقطيع النص فقرةً فقرة، قصيرة أو
طويلة، لإمكانية هضمِه وتمثُّله بالتعليق. فالتعليق هي
الأسنان. يتضمَّن النص مقدِّماتٍ وخاتمة وتعليقات في
المنتصف حتى يكتمل بناء النص. التعليق هو إعادة كتابة
النص، تأليف غير مباشر، ترجمة حرة، أقرب إلى العرض للنص
قبل الشرح والتلخيص والجامع. وكثير من تعليقات النص تبدو
وكأنها للمُترجِم، هو أسلوب واحد يُقلِّده المُترجم.
المترجم إعادة صياغة وكأنها تكليف غير مباشر.
٣١ ويُحيل النص إلى بعض الكتب القديمة الصحيحة أو
المُنتحَلة ونِسبة البعض منها إلى الأنبياء لإعطائها
مزيدًا من السلطة في الإقناع والانتشار بين الناس.
٣٢
وتكثر عبارات الربط والوصل والتقديم والتذكير والعودة
إلى الموضوع الأصلي بعد الاستطراد عودًا على بدء مما يدلُّ
على التأليف الجماعي وتداخل النص والتعليق، الترجمة
والتألف، النقل والإبداع، سواء كانت هذه العبارات من وضع
المؤلف أو المُترجِم أو القارئ أو الناسخ. فالنص عمَل
جماعي. وهي عبارات وصْل ضرورية خاصةً في أسلوب الإملاء.
وتُضاف بعض الرسوم التوضيحية للشرْح مثل رسوم زراعة
البنفسج. أخذ المؤلف العربي النص الأصلي المُترجَم أو
السرياني القديم وأعاد كتابته باللغة العربية مُتوجهًا إلى
القارئ العربي خاصةً في التعليقات السِّتين. فالنص تأليف
في صورة ترجمة أو ترجمة في صورة تأليف. وكانت الثقافة
النبطية مفتوحةً على الثقافة العربية قبل الإسلام. كما
يظهر الأسلوب الروائي الأدبي في حديث الطبيعة، حديث الشجر
والزراعة، أنْسَنة للطبيعة كما هو الحال في الأسلوب
القرآني: «أيها الإنسان، هل في بستانك هذا أحسن منِّي.»
٣٣ فالكتاب صياغة أدبية لعِلم الفلاحة. ويظهر
الأسلوب الشفاهي، فالرواية مصدر العِلم: «حدَّثني إنسان.»
٣٤
وموضوعه الطب والزراعة والفلك والدين والأساطير، ارتباط
كلِّ شيءٍ بكل شيءٍ في تُراث ما بين النهرَين. كان التقويم
الفلكي القديم بزُحَل والقمر. كما ارتبطتِ الفلاحة بالفلك،
العالم السُّفلي بالعالم العلوي كما هو الحال في الثقافات
القديمة وألواح حمورابي. كانت الزراعة في حضارات ما بين
النهرَين وعند النبط مُزدهرة مثل ازدهار الطب في اليونان.
والفلاحة صنعة الأنبياء عند النبط كالتجارة ورعي الإبل عند
المسيح ومحمد. وكان ارتباط الفلاحة بالأساطير خطوةً نحو
العلم، من النبط إلى المُسلمين. كما ارتبطت الإلهيَّات
بالطبيعيات، والسماء بالأرض، والقوانين الإلهية بقوانين
الزراعة عند الكلدانيين ثُم بعد ذلك عند المسلمين. وهناك
تفاعل بين عالم النفس وعالم الكواكب في التأثير المُتبادل
مما يدلُّ على تداخل العلم والسحر أو العِلم والدين. العلم
الخالص لا ضَير من ترجمته. إن كان الدين سرًّا خاصًّا
فالعلم نفع عام. وتسود نظرية الأخلاط الأربعة كتاب الفلاحة
سواء كان أصلها نبطيًّا أم يونانيًّا.
٣٥ فتصوُّر البابليين رباعي أكثر منه ثنائي كما
هو الحال عند اليونان.
والمنهج المُستعمَل هو التجريب والقياس سواء كان في النص
الأصلي أو في النص المُترجَم. والعرْض مصدر معرفة مثل
الإلهام والتجربة. فلا يكتفي المؤلِّف بالرواية عن
القدماء؛ أي النقل، بل يُجرِّب نفسه. لا فرق إذن بين الوحي
والعقل والطبيعة؛ أي بين النقل والقياس والتجربة.
٣٦
ويُضاف إلى النص أربعون تعليقًا في الجزء الأوَّل،
التعليقات من الخامس حتى العاشر في ظروف ترجمة الكتاب.
ويبدأ كل تعليق بلفظ القول: «قال أبو بكر بن وحشية.» إلَّا
التعليق الأخير في الجزء الأوَّل. والتعقيبات أشبَهُ
بالتعليقات على النصِّ المترجَم التي ستُصبح نوعًا أدبيًّا
مُستقلًّا فيما بعد. التعليق أصغر من النص. بل إنه يقلُّ
شيئًا حتى يتمَّ تعشيق الوافد في الموروث، وإعادة توظيف
الخارج في الداخل. ولمَّا كان الجزء الآخر أقربَ إلى
النيَّات الخالصة دون دخولٍ في الأساطير تقلُّ التعليقات
بل تغيب تمامًا. وتتضمَّن التعليقات الأخيرة تلخيصًا
للكتاب كله بلا خُرافة أو سحر أو دين، سواء كان هذا
التلخيص من المؤلِّف أو المُترجِم أو المُملى عليه أو
الناسخ أو القارئ.
٣٧
ويمكن تصنيف التعليقات الستِّين على مستوياتٍ ثلاثة:
اللفظ والمعنى والشيء؛ أي اللغة والإيضاح والتحقيق، النص
والترجمة والموضوع. فعلى مستوى اللغة يصِف التعليق النسخة
وما فيها من انقطاعٍ مع إعطاء تلخيصٍ للموضوع، وبداية
الكتاب ونهايته.
٣٨ ومشكلة الناسخ والمُملى عليه والمترجِم
والمؤلِف مشكلة النص نفسه وتعدُّد مؤلفيه، النص الأصلي
وترجمة ابن وحشية وكتابه الزيات الحاكي الكتاب عن ابن
وحشية الحاكي عن الأصل، ووجود بياضٍ في كتاب ابن وحشية
إمَّا بسبب النص الأصلي وإمَّا أنَّ ابن وحشية يميل إلى
مذاهب الصوفية ويسلك طريقهم لاستبعاد كتابه المُحرَّم
بالرغم من مُعاداته للتصوُّف والزهد والخلوة. وتأليف قوثا
في سياسة البقر ولكن لم يستطع المُترجم العثور عليه. وترك
الناسِخ فصلًا طويلًا من كلام ابن وحشية ليس شيء من
الفلاحة على ما لاحظ الشيشي واندهاش الناسخ من التعليق
خارج الموضوع وحذفه لأنه دِين والمطلوب العِلم
وحدَه!
كما يشمل التعليق تحديد لغة النبط وتعدُّد لهجاتها طبقًا
للأماكن مما يحتاج إلى جهدٍ كبير في ترجمتها إلى اللغة
العربية. وهي مادة لقاموس تاريخي للغات. لذلك تعدَّدت
التعليقات حول الاسم والمُسمَّى، وأن الترجمة هي إيجاد
أسماء عديدة على مُسمًّى واحد.
٣٩ فاللغة مُتغيرة من عصرٍ إلى عصر، ومن زمان إلى
زمان. وتقارن التعليقات بين الأسماء العربية في مناطق
مختلفة من اليمين والجرامثة وبابل والفرات وأيضًا اللغات
المقارنة مع الهند والصين وفارس والروم واليونان والأرمن
والمصريين والسريان مع اختلاف استعمال الأسماء في كل لغة
عند العامَّة والخاصة. ويتم التعريف بالشيء المُشار إليه
في البيئة المحلية ووصفه حتى ينطبق الاسم على المُسَمَّى،
والبحث عن الخطأ في عدَم إدراك ذلك وإرجاعه إلى الناسخ
الذي هو أقل من المؤلف والمترجِم علمًا. فالرجوع إلى الشيء
نفسه أي إلى المُسمَّيات خير وسيلةٍ لعدَم خلط الأسماء.
٤٠ وقد يتبع شرح المعاني العودة إلى اشتقاق الألفاظ.
٤١
ومن وسائل إيضاح المعنى فكُّ الرموز وقراءة الشفرة. فقد
استعمل النبط أسلوب الرمز مما يحتاج إلى فَهم المعنى
الخفي، وكأنَّ النصَّ نشأ في نِحلة خفية كالإخوان والشيعة،
ومما يمنع الاحتجاج بتعذُّر الفَهم نظرًا لوجود سقْط في
الكلام. فمن عادة النبط عدم الإفصاح عن الكلام، بل يرمزون
رمزًا في حاجة إلى تفكيرٍ كما هو الحال عند الفُرس والهند
والعرب. فالرمز لغة الشرق.
٤٢ وبعد إيضاح المعنى يتمُّ إكماله في تصوُّر
علمي جديد مثل الحديث عن أثر الشمس، وإكمال النص بعِلم
جديد من أجل تقدُّم العِلم والحضارة. ويتم ذلك عن طريق
التحقُّق من الموضوع وصِدقه والاستدراك عليه ومُراجعته
وتحديد المكان الجغرافي والمُراجعة على عالم النبات وهو ما
يُسمِّيه الأصوليُّون تحقيق المناط، في تواضُعٍ علمي
واعترافٍ بعدم المعرفة.
٤٣ ويفسِّر كيف نشأت تسمية الشهور العربية عند
النبط وتشخيصها أوَّلًا في رجالٍ ونساء ونكاح ونسْل كما هو
الحال في الثقافة الشعبية، مُشيرًا إلى نشأتها أيضًا عند
النبط وليس عند الكسدانيين والكنعانيين والعبرانيين
والجرامقة. وتقارن مع قصةٍ مُشابهة عند النصارى والصابئة
حتى أوقعوا بالمسيح، والحُكم على القصَّتَين بالخيال
والكذِب والاستحالة.
٤٤ كما أنَّ قصص تفسير الزلزال عقب السَّيل قصَّة
خرافية لا تاريخية. ويفسر قصة صعود البخار من الأرض
تفسيرًا علميًّا. فللكسدانيين خُرافات كثيرة تُخبئ قوانين
وفوائد لكل خرافة رمز، والرمز وراءه علم، المُهم القضاء
على الخرافة من أجل إبراز العلم.
وتبدو في التعليقات بعض المواقف منها من مدْح النبط
وإبداعهم في الفلاحة، بل وفي كل العلوم.
٤٥ وهم مصدر علوم باقي الشعوب، والتمييز بين الطب
والفلاحة وتبرير عدَم دخول النص في الطبِّ واقتصاره على
الفلاحة. وينقد المؤلف الهند والرهبنة في زمانه والتصدُّق
الهندي والسير عُراة في الهند، ورهبان النصارى والمسلمين
مثلهم. وهم الصوفية الذين يدَّعون الزهد في الدنيا
والتخلِّي عنها وأنهم أولياء الله دون سائر الناس، وأنهم
أعلى درجة من المسلمين وأطيب عيشًا وهم فانون. ويستعمل
الأمثال العاميَّة لتبرير هذا الموقف.
٤٦ وأيها أحسن في العقل، التعب والكد أم الشحاذة؟
وينقد تحريم الكسب لأنَّ الله قدَّر أرزاق العباد واستعمال
آية:
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي
الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.
وينقد انتظار الطعام من السماء والتوكُّل وسكون الجبال
والكهوف ولبس الصوف. فلاحة الأرض ضرورة، وأن يأكل الإنسان
مما تُنبِت يدَيه.
ويظهر في التعليقات موضوع سبق الحضارات كنوع من الشعوبية
الحضارية مع عقد مُقارنات بين النبط وفارس والنصرانية دين
الروم، كما أبان الجاحظ فضل العرب على العجم. والعصبية في
التاريخ، أحد أشكال الصراع بين الشرق والغرب. فقد سبَق
النبط الفُرس ليس لعيبٍ في الفُرس، فهم من أعقل الأمم
وأعدلها، ولكن اعترافًا بالحقِّ لأهله. وينسب الجهلاء الطب
إلى الفرس وتدعيمًا للروم حقدًا على النبط، مع أنه مُشتق
من لفظ نبط، ومعظم النصارى أصولهم نبطية ولكنهم يتملَّقون
الروم لاتفاقهم في الدين معهم. ثم جاء الإسلام وردَّ إلى
النبط حقوقهم. فكانوا من العلماء المُقرَّبين للخلفاء.
ويدلُّ هذا التحليل على عيوب العصبية في التاريخ وجهل
أطباء النصارى، ودوران الدائرة في التاريخ. فما عمِلَه
الفرس مع النبط عمله العرب مع الفرس. هناك إحساس بالتمايُز
الحضاري يظهر في عبارة «فأمَّا أهل بلادنا».
٤٧
وتركيب بعض التعليقات الوافد على الموروث المشاهد في البلدان.
٤٨ ويمدح النص إيمان النبط. فقد كان قوتامي على
مذهب نيوشاد دون أن يُفصح عن ذلك، وهو التوحيد خوفًا من
أهل الزمان. وكان أنوحا قد دعا له وهو ما جاء به الرسول
وأظهره على الأمم فاستخلفهم الله على غيرهم.
٤٩
وقد تمَّ تعشيق الوافد في الموروث عن طريق قصص الأنبياء
خاصةً آدم. فالحضارة النبطية من آدم وإبراهيم. أخت آدم
اسمها نخلة. وآدم أبو البشر نبي القمر مثل آدمي الكنعاني،
ودوناي ربما مثل محمد خاتم الأنبياء، آدمي وأنوما أنبياء
مثل آدم ونوح. ولما ضُرب أنوحا وحُبس أرسل الله عليهم
السيل العظيم الذي أغرق البلاد مثل طوفان نوح.
٥٠
لقد سُمِّي آدم أبو البشر لِما قدَّم لهم من منافع. أخذ
النبوَّة من القمر فيجِب تصديقه كما أخذ محمد الوحي من
الله عن طريق جبريل. كان جيد الاستنباط صحيح الحدْس وافر
العقل جيد الفكر. فاستنبط العلوم والصنائع التي أخبر بها
ووضعها لأهل زمانه فنفع بها الناس. لذلك عظمه الناس
ومدَحوه وسمَّوه «أبونا»، وجعلوه إلى الناس كلهم. وأرسل
الله الطاعون فهلك الكفَّار كما هلك قوم موسى. كما لجأ
أنوحا إلى أرض مصر هربًا، وألقى التابوت في النيل كما
أُلقي موسى طفلًا.
٥١
والربط الجوهري بين الدين الطبيعي ودِين الوحي في
استعمال لفظ الله مرَّة جمعًا ومرة مفردًا، ففي الجمع
تعدُّد الآلهة، كبير الآلهة، إله الآلهة، مثل حكيم الحكماء
وعاقل العقلاء. وهناك آلهة ثلاثة: المُشتري وعطارد والقمر،
آلهة ذوات الأنوار تبتهج لها القلوب، وتفيض الرحمة الإلهية
على أبناء البشر. فلا حرَج من ترجمة نصٍّ به تعدُّد الآلهة
كما كان الأمر عند حنين بن إسحاق في ترجمته «تعبير الرؤيا»
لأرتميدروس حين ترجم آلهة «ملائكة»، وهي الحُجَج التي
تُقال عادةً لعدَم ترجمة أشعار هوميروس وهزيود أو محاورات
أفلاطون. والدين الطبيعي دين توحيد، يقوم على العقل
والفضيلة «واستنباطًا وجدْناه بعقولنا التي وضعتْها فينا
الآلهة.» وكلاهما به عقيدة وشريعة، عبادات
ومعاملات.
ويُعاد كتابة النص كله من المُترجم أو المؤلف الثاني من
منظور الموروث، التوحيد، والحديث عن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له. فالتوحيد ثقافة الشرق القديم كله، وما الإسلام
إلَّا التعبير عن أنقى صورةٍ له. تُعاد قراءة الوافد من
منظور الموروث وبمُصطلحاته وتعبيراته مثل: الله عز وجل،
تبارك وتعالى، طاعة الله جل وعز، رضي الله عز وجل،
التشبُّه بالله عزَّ وجل وبملائكته. كما يتحدَّث النصُّ عن
أولياء الله، وأهل رضا الله المُتمسِّكين بالحبل المُتصل
بالله، النعمة التي يهبُها الله. كما يتحدَّث عن غضب الله
على أهل المعاصي، الخارجين على طاعته، المُنقلبين في سخطه،
الكذَّابين عليه.
٥٢ الله يُصلح جميع الفاسدين برحمته. تبارك الحي
القديم.
ويتمُّ الحديث عن الآلهة في الدين الطبيعي وكأنها الله
في دين الوحي بصفاته وأسمائه وأفعاله. فالآلهة تعلم طبقًا
لصِفة العلم في الله، وكريمة وحكيمة، وفاعلة تُحدِث الشفاء
السريع. الله هو الأوَّل الكريم الإله الحي. والاستعانة
بالله وبالملائكة في الدين الطبيعي مثل الاستعانة بالله في
دين الوحي، وتُعاقِب الآلهة كل مُخرِّب. وقد فضل الله رب
العالمين إقليم بابل ممَّا يدلُّ على أن فكرة اختيار شعبٍ
من الشعوب وتفضيله على غيره ليست فقط في نصوص العهد القديم.
٥٣
ويظهر أسلوب التأليف الإسلامي مثل مخاطبة القارئ،
والتحية له بلفظ السلام في نهاية الفقرات، وظهور بعض
التعبيرات القرآنية مثل الشجرة المباركة، ووصف المؤلِّفين
بأوصاف الأب والرحيم والصادق في جميع الأقاويل. وتظهر
الأساليب القرآنية في توجيه الخطاب للمؤمنين مفردًا أو
جمعًا وأساليب الشرط مثل فاجتنِبوه، فإذا سأل سائل.
فالقرآن كأسلوب تعبير عن الأنواع الأدبية السائدة في
الآداب الشرقية القديمة. وتذكر الشهور العربية، آذار
ونيسان، فالنبط عرَب، ويُقارن النصُّ أحيانًا بين أصنام
العرب وأصنام النبط، فإن الصنم المُسَمَّى نسرا هو الذي
أفاد العرب الكهانة حتى أخبروا بالغَيب وفسَّروا المنامات
قبل شرح أصحابها لها.
٥٤
ويتمُّ تعشيق دِين الطبيعة ودِين الوحي في النبوَّة.
يبدو أن المؤلِّفين الثلاثة للنصِّ أنبياء أو من سُلالتهم؛
إذ يقول قوثامي: «انظروا إلى شفقة أبينا النبي على أبناء
جنسه.» وما الفرق بين الوحي عن طريق الطبيعة والإلهام
والمُناجاة والرؤيا في النوم وبين الوحي عن طريق الأنبياء؟
وآدم أبو الجميع والكل أبناؤه. ويُمثِّل آدم جماع
الدينَين، دين الطبيعة ودين الوحي. وهو ما يُمثله أيضًا
إبراهيم الذي كان إمامًا لأهل زمانه والذي غادَر قومه أيام
ملك طياما المشئوم إلى بابل ثُم إلى مصر. لا فرق بين
الفلاسفة والأنبياء. فكلاهما مدافع عن الحق كالمُتكلمين.
ويقول بعضهم: «أنا مثل الأنبياء» إمَّا لأنهم أنبياء أو
لتأثُّرهم بالثقافات المُحيطة التي يكون الأنبياء في
قلبها.
ويظهر تعليق مُخالفات المترجِم لإكمال الموضوع. فقد
ألَّف كتابًا ضخمًا حكى فيه آراء من فضَّل الفلسفة على
النبوَّة، ومن فضَّل النبوَّة على الفلسفة، ومن سوَّى
بينهما، ومن سوَّى الكاهن بالنبي، ومن فضَّل البحث على
الكاهن ومن سوَّى بينهما، وحدَّ النبوَّة وحدَّ الفلسفة
وحدَّ الكهانة بحيث يسهُل التميز بينهما، ومَن الحكيم ومَن
العالم منها. وقد اقتفى أثر النبط وناقش الصوفية
والمُتكلمين فيتحيَّرون وكأنَّ المسلمين لم يناقشوا
الموضوع من قبل.
٥٥
ومع ذلك يخلو النص من الشواهد النقلية من الكتاب والسنة
أو العلوم الإسلامية النقلية أو العقلية، مع أنه كُتِب في
أوائل القرن الرابع الهجري، حيث كانت هذه العلوم قد نشأت
وتكوَّنت وشاعت مُصطلحاتها ومزاجها باستثناء حالات قليلة
مثل لفظ، تُقدِّمه المعرفة.
٥٦
والسؤال الآن: هل قَصَص الأنبياء كان موجودًا في الآداب
السامية القديمة كحكايات شعبية ثم دخلتْ في الكتُب
السماوية، سواء في الدين الطبيعي أو في دِين الوحي؟ هل
تُعبِّر عن وقائع تاريخية أم روايات أدبية أم تجمَع بين
الاثنين، التاريخ كنواةٍ والأدب كثمرة، التاريخ بداية
والأدب نهاية؟
ويظهر كثير من العبارات الإيمانية من وضْع المُترجِم مثل
«بإذن الله تعالى»، «إن شاء الله تعالى»، «وبالله
التوفيق»، «والله أعلم»، سواء في النص أو في التعليق، مما
يدلُّ على أن النصَّ هو إعادة صياغة وليس مجرَّد ترجمة
بالإضافة إلى البسملات والحمدلات والصلوات في النهاية
وتوقيع العبد المصري الفقير إلى الله.
٥٧