ثالثًا: الوافد والموروث
-
(١)
وهو مدخل ثانٍ لتدوين التاريخ أقل من الحضارات المقارنة، ويكتفي بمصدرين؛ حضارة الأنا وحضارة الآخر، والآخر في الغالب هو الوافد اليوناني.
مثال ذلك «مفاتيح العلوم» للخوارزمي (٣٨٧ﻫ).١ وهي دائرة معارف تجمع بين الموروث والوافد، بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية، بين علوم العرب وعلوم العجم. وداخل الموروث الوافد يوجد تصنيف للعلوم؛ فالحضارة علوم. وداخل العلوم توجد أسماء الأعلام؛ أي العلماء الذين يبنون العلوم، وليس المصنفات كما هو الحال في «الفهرست» لابن النديم، و«تاريخ حكماء الإسلام» للبيهقي. وقد تشير هذه القسمة، العرب والعجم، إلى بعض الشعوبية؛ فقد ساهم في علوم العرب غير العرب مثل سيبويه الذي فاق العرب. كما ساهم في علوم العجم غير العجم من العرب مثل الكندي وابن رشد. والعرب والعجم مسلمون وحَّد الإسلام بينهم، «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى».ويبدو هذه المرة أن الوافد له الأولوية على الموروث، نظرًا لحداثة الوافد والرغبة في تدوينه، وشيوع الموروث في علم الكلام وباقي العلوم الإسلامية، النقلية أو النقلية العقلية في القرن الرابع الهجري.٢ ولما كان الوافد وافدَين؛ الوافد الشرقي والوافد الغربي، فإن للوافد الشرقي الأولوية على الوافد الغربي على عكس ما يُقال عن حضور اليونان المطلق في الحضارة الإسلامية.٣ بل إن أرسطو لم يُذكر إلا مرة واحدة، وأفلاطون لم يُذكر على الإطلاق.ويظهر التقابل بين الموروث والوافد في قسمة العلوم إلى علوم العرب وهي ستة، وعلوم العجم وهي تسعة، لصالح علوم العجم؛ نظرًا لأنها هي التي في حاجة إلى تدوين وليس لأولويتها.٤ فعلوم العجم، اليونانيين وغيرهم، في النهاية هي علوم الوسائل، في حين أن علوم العرب هي علوم الغايات. الأولى علوم الكم والثانية علوم الكيف. الأولى علوم الدنيا والثانية علوم الدين. ولكن من حيث الكم يتساويان.٥علوم العرب هي: الفقه، والكلام، والنحو، والكتابة، والشعر، والعروض، والأخبار، أربعة منها معروفة قبل الإسلام وهي: النحو والكتابة والشعر والعروض، والأخبار، واثنان فقط بعد الإسلام: الفقه والكلام، مما يدل على غلبة الثقافة العربية القديمة قبل أن تنشأ العلوم الإسلامية بفضل الوحي. يدخل أصول الفقه مع الفقه قبل علم الكلام للدلالة على ارتباط العِلمين معًا؛ أصول الفقه وأصول الدين. وتغيب باقي العلوم الإسلامية العقلية النقلية مثل الفلسفة وأصول الفقه والتصوف، وباقي العلوم النقلية مثل القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، وغياب العلوم العقلية الخالصة الرياضية والطبيعية، وكأنها من اختصاص العجم وحدهم. وأكبرها الأخبار ثم الكتابة ثم الفقه والكلام والشعر والعروض، وأصغرها النحو.٦ وتشمل الأخبار قصص الأنبياء تركيبًا للموروث القديم على علم التاريخ.أمَّا علوم العجم فتسعة: الفلسفة، والمنطق، والطب، والأرتماطيقي، والهندسة، وعلوم النجوم، والموسيقى، والحيل، والكيمياء. أكبرها الطب من حيث الكم، وأصغرها المنطق.٧ وهي تشمل الرباعي: الرياضي، الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، ثم المنطق والطب بدل الطبيعيات، والفلسفة بدل الإلهيات، ثم إضافة علمين طبيعيين، الحيل والكيمياء. وتأتي الطبيعيات قبل الرياضيات وبعدها. وعلم الحيل يجمع بين الرياضي والطبيعي. والكيمياء في النهاية دون التفرقة بين العلم والصنعة. وتغيب باقي العلوم الطبيعية كالنبات والحيوان والصيدلة.ويخلو هذا المدخل من أسماء الأعلام وأسماء المصنفات، لا تواريخ حياة ولا أقوال. أقرب إلى إحصاء العلوم عند الفارابي مما قد يدخله أيضًا في تصنيف العلوم لو كان الخوارزمي في زمرة الفلاسفة.
ويغلب على الفقه الموضوعات التقليدية بما في ذلك أسنان الإبل والبقر والخيل والغنم ومقاييس العرب وأوزانها.٨ كما يغلب على الكلام تاريخ الأديان والفِرق غير الإسلامية والنصرانية واليهودية والملل والنحل غير الإسلامية، وأوثان العرب وأصنامهم، ثم أبواب المتكلمين؛ أي قواعد العقائد، وهما طريقتا التأليف في علم الكلام.٩ وفرق النصارى واليهود هي فرق اليهودية العربية وليس الغربية كما نفعل هذه الأيام.١٠ والملل والنحل غير الإسلامية تشمل المذاهب المقصاة من الإسلام، مثل التعطيل والتناسخ، وإنكار المعارف غير الحسية مثل السمنية، وبعض المذاهب النصرانية مثل المرقونية والمنانية، وبعض الفِرَق الفارسية مثل البهافريدية والهرابذة، والسوفسطائيون اليونان، والزنادقة في كل دين وملة. وكلها تيارات وُجدت داخل الثقافة الإسلامية التي استوعبت كل وافد. فالوافد الغربي والوافد الشرقي حاضران كعقائد ضمن علم الكلام. والسريانية جزء من النصرانية؛ أي المسيحية العربية، في علم الكلام.وفي النحو يبرز الخليل بن أحمد كمصدر لغوي؛ فهو أكثرهم ذكرًا من الشافعي في الفقه. كما يُذكر نحويو الكوفة والبصرة أكثر من ذكر الفقهاء المتكلمين.١١ ويظهر تقابل الموروث والوافد بين الخليل واليونان؛ فالنحو منطق العرب، والمنطق لغة اليونان كما لاحظ السيرافي في مناظرته الشهرية مع أبي بشر متى بن يونس.١٢ فالمورث هو حامل الوافد، والوافد محمول على الموروث. والكتاب موضوع عملي.١٣ والشعر والعروض يعرفه العرب من قبل.١٤ والأخبار تضم ما قبل الإسلام وما بعده.١٥ ملوك الفرس واليونان والروم من الوافد، وملوك اليمن وخلفاء المسلمين وملوكهم من الموروث. وتختتم علوم الفقه والنحو بالنوادر منبئة عن ظهور نوع أدبي جديد تجلَّى من قبل عند حنين بن إسحاق، ثم تبلغ الذروة عند ابن هندو والمبشر بن فاتك.١٦أمَّا علوم العجم فتشمل اليونان والفرس والهند والصين؛ أي كل غير العرب. تضم الفلسفة أقسامها وأصنافها وجملها، مما يوحي أيضًا ببداية نوع أدبي جديد هو الأقوال أو الحكم، وهو ما يُشار إليه أيضًا كنوادر في آخر الطب. ويضم المنطق أجزاءه الثمانية. ويضم الأرتماطيقي حساب الهند. والهندسة تضم المقدمات النظرية من أجل تأسيس العلم النظري. والنجوم يجمع بين النظر والصناعة. والموسيقى تجميع من كتب الحكماء. والحيل أيضًا نظر وعمل، علم وتقنية. والكيمياء تضم العقاقير أي الصيدلة.١٧والفرس هم الأكثر ذكرًا من اليونان، ثم يأتي اليونان ثم الروم، ثم إقليدس، ثم هرمس وأرسطوطاليس وفرفوريوس في المرتبة الثانية. ثم تأتي الهند في المرتبة الثالثة في الطب والرياضة ومع أخبار الإسلام أو الحساب والطبقات الاجتماعية في الهند. ثم تأتي الصين في المرتبة الرابعة كمثال للصقع البعيد، بلاد الواقواق، ولصناعة الآلات. وتأتي مصر في المرتبة الخامسة والترك في المرتبة السادسة.١٨ -
(٢)
ويتَّبع أبو سليمان السجستاني (بعد ٣٩١ﻫ) في صوان الحكمة تقسيمها إلى وافد وموروث، وتحت كل منهما أسماء الأعلام.١٩ وقد غلب عليه الوافد أكثر من الموروث؛ إذ يبلغ أسماء الوافد خمسة أضعاف أسماء الموروث.٢٠ فقد كان أبو سليمان ينتمي إلى مجموعة، كما يروي التوحيدي، تشارك في صياغة الفلسفة اليونانية علنًا بعد أن قام بذلك إخوان الصفا سرًّا ومثل مجموعة اليونانيين في القرن الرابع ومعظمهم من النصارى.٢١ كان يحفظ أقوال اليونانيين، ديموقراطيس وأرسطو وأفلاطون.٢٢ وتتلمذ على كبار المترجمين والمؤرخين للفلسفة اليونانية متى بن يونس ويحيى بن عدي؛ فقد حمل النصارى لواء الوافد مرتين في عصر الترجمة الأول في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وفي عصر الترجمة الثاني منذ القرن الماضي وهذا القرن إبان النهضة العربية الحديثة. وكان هناك حرص على جمع المخطوطات اليونانية. وهذا لا يعني أن أبا سليمان كان يوناني الاتجاه، بل إنه كان يمهِّد الطريق لغيره لتوظيف الوافد لصالح الموروث، وإعداد علوم الوسائل من أجل تحقيق علوم الغايات، بإخلاص تام وتجرُّد عن الدنيا؛ فقد كان يعيش على الكفاف. وكان شاعرًا بالإضافة إلى الفيلسوف ومؤرخ الفلسفة.وكما تنقسم الحكمة إلى وافد وموروث ينقسم الوافد إلى فلسفة عامة وطب؛ أي إلى فلسفة وعلم. ويعبران عن رأيين في ظهور الفلسفة؛ الأول الرأي الشائع عند المؤرخين، يونان، ومسلمين، والثاني رأي يحيى النحوي الذي يرى أن الطب شامل للفلسفة والرياضيات والفلك والسياسة؛ فالفلسفة علمية بالضرورة، ولا توجد فلسفة خارج العلم.٢٣ لذلك ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام؛ الأول «أول من عُرف بالحكمة»، وهو رأي الفلسفة العامة. والثاني «رأي آخر في ظهور الفلسفة من تاريخ الأطباء»، والثالث «يحيى النحوي»، صاحب الرأي الثاني نظرًا لأهميته لأنه يروي عن أطباء العرب وهو ما يعادل الموروث. والرأي الثاني له الغلبة كمًّا على الرأي الأول.٢٤ ويمكن القول أن حنين بن إسحاق كان أول المسلمين لتوظيفه الوافد لصالح الموروث، ويحيى النحوي كان آخر اليونانيين لتمثله للوافد. يحتوي الكتاب إذن على قسمين؛ الأول تاريخ الفلسفة يونان ومسلمين، والثاني تاريخ الطب، يونان فحسب. فأبو سليمان مؤلفٌ ثانٍ راوٍ عن المؤلف الأول مما يدل على غلبة الوافد عن طريق الرواية. هناك إذن آراء متعددة في ظهور الفلسفة وليس رأيًا واحدًا مما يدل على أن كتابة التاريخ لا تخضع لمنظور واحد.٢٥والغالب على طريقة عرض الوافد والموروث هو وضع الأسماء قبل أن تنفصل وتصبح هي بمفردها نوعًا أدبيًّا من كتب الطبقات، ومع ذلك تبرز أحيانًا بعض الأقوال كما فعل البيهقي بعد ذلك في «تتمة صوان الحكمة» واقتباس بعض الحكم والوصايا من كتَّاب الفرس أو بعض المحاورات مثل أفلاطون للتعبير عن أفكاره في العلاقة بين الدين وبعض موضوعات النفس والطبقة والإلهيات والأخلاق والسياسة معتمدًا فيها على عرض أفكار اليونان.٢٦ويورد أبو سليمان أسماء ثلاثة عشر طبيبًا يونانيًّا على لسانه، وأسماء مائة وأربعين طبيبًا يونانيًّا آخر على لسان يحيى النحوي؛ أي مائة وثلاثة وخمسين اسمًا يضمون أسماء الفلاسفة صغارًا وكبارًا،٢٧ فلاسفة ورياضيين وعلماء وحكماء وشعراء ومشرعين بألقابهم مثل الحكيم والمعلم الأول والشيخ اليوناني وشراح وأطباء. وتتكرر بعض الأسماء مثل سقراط وفيثاغورس وأفلاطون وأرسطو وأنقسيمانس وأنكساجوراس وزينون؛ فالعلم الغزير ينسي التفرد ويدفع إلى التكرار. وقد استمر هذا التقليد عند المسلمين، الطبيب هو الحكيم، وكما هو الحال في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة؛ فالطب هو الإطار المرجعي للفلسفة والأساس النظري لها.٢٨ويحفظ أبو سليمان الأهمية التقريبية لفلاسفة اليونان: أرسطو ثم الإسكندر ثم جالينوس ثم هوميروس ثم هرمس ثم فيثاغورس ثم أبقراط ثم أفلاطون ثم سقراط ثم ديوجينس ثم سولون، ثم الفلاسفة الصغار الأقل أهمية. وواضح أن أرسطو وصلته بالإسكندر هو الذي ألهب خيال المسلمين النبي القائد والفيلسوف الملك الذي كان على رأس المدينة الفاضلة عند أفلاطون والفارابي. ويأتي الشعراء مثل هوميروس قبل أفلاطون. وأبقراط الطبيب يأتي في المرتبة الثانية بعد جالينوس، فأبقراط هو الطبيب في حين أن جالينوس هو الحكيم. ويأتي فيثاغورس قبل أفلاطون لأنه مؤسس المدرسة. ثم يأتي سقراط مع الأخلاقيين مثل ديوجنس والمشرعين مثل سولون.٢٩ ويُلاحَظ عدم وجود نساء فلاسفة لا في الوافد ولا في الموروث.والغاية من الكتاب إثبات تواريخ الحكماء وأسمائهم وبعض كلامهم وأخلاقهم، الاسم والتاريخ، الشخصية والقول، إعلانًا عن تولد نوعين أدبيين آخرين، أسماء الأعلام عند القفطي والأقوال عند ابن هندو والمبشر بن فاتك، بالرغم مما يغلب على الأقوال من العرض النظري للآراء دون النصوص، الأقوال المباشرة. يريد أبو سليمان هدفين؛ التاريخ، والنكت والنوادر دون الرد على المقالات؛ فقد تم الرد على المقالات في كتب أخرى.٣٠ كانت الغاية حفظ الوافد ونقله بتمامه وكماله وإلا زال وفُقد في ثقافةٍ تحرص على التدوين كما دُوِّن القرآن ثم الحديث.وبالرغم من توالي الأسماء بلا نسق ونظام، والانتقال من موضوع إلى موضوع دون ترتيب إلا أن الفلاسفة يتوالد بعضهم من بعض، الآخر من الأول في منظومة حضارية واحدة مثل أنساب الآلهة والقبائل.٣١ ويوحي هذا التوالي بإمكانية تأسيس فلسفة في التاريخ لم تتبلور بعد. فلا يوجد تاريخ كمي صرف لا يتحول إلى كيف فأخذ سقراط الحكمة عند فيثاغورس فأصبحت هناك مدرسة. طاليس صاحب مدرسة «طبيعية»، وفيثاغورس صاحب مدرسة أخرى (رياضية).٣٢ وهذا التوالي له منعطفات كبرى، خمسة من كبار الحكماء: فيثاغورس، سقراط، أفلاطون، أرسطو، زينون. ويتساوى جميع الفلاسفة في العرض القصير بما في ذلك كبار الفلاسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو؛ فالغاية هو المسح الشامل، الرؤية العامة، البانوراما الكلية، شريط الأحداث، الإحصاء من أجل الاحتواء.٣٣ويعتمد أبو سليمان على مصادر شفاهية ومدونة، روايات وكتب. ويصرِّح أبو سليمان بالمصادر الشفاهية مثل: «سمعت الملك يقول»، «حدثني الأستاذ أبو علي أحمد بن محمد مسكويه».٣٤ ويصرِّح بأنه فتَّش في الكتب. ويقتبس من حنين بن إسحاق من «نوادر الفلاسفة والحكماء»، ويحيى بن عدي والتوحيدي في كتاب «البصائر»، وابن النديم في كتابه الذي جمع فيه التاريخ؛ أي «الفهرست»، وعلي يحيى النحوي الذي يسميه الناس «المحب للتعب». ومن المصادر المترجمة مؤلفات أوزبيوس في الرد على هرقل فيما ناقض الإنجيل. ويشير إلى كتاب «الفصول» لأبقراط، وكتاب «تفضيل لذات النفس» لشهد بن الحسن.٣٥وبعد توالي الأسماء وتوالدها بعضها من بعض، واحدًا تلو الآخر، أرسطو من أفلاطون، وأفلاطون من سقراط، وسقراط من فيثاغورس، وكأننا في سلسلة من الرواة أو الطبقات، تظهر المدرسة الفكرية أو المذاهب أو بلغة المعاصرين البنية.٣٦ وهو ما قد يفسر التكرار؛ إذ يذكر الفيلسوف مرة في التاريخ، ومرة في البنية. هناك تقدُّم في تاريخ الفلسفة اليونانية حتى اكتمالها على يد أرسطو، وهو ما لاحظه ابن رشد بعد ذلك. فإن نيقوماخوس أقدمُ عهدًا من بطليموس. وثاوفرسطس من أصحاب أرسطو خلفه على الكرسي، وكذلك أوديموس.٣٧وقد تكون البنية مذهبًا، وقد تكون منهجًا. فالمنهج التجريبي عند الطبيعيين القائم على المشاهدة والحس هو المسئول عن المذهب الطبيعي. والمنهج العقلي عند الحكماء الخمسة الكبار هو المسئول عن الرؤية العقلية الصورية للعالم. أمَّا جالينوس فقد جمع بين المنطق والتجربة؛ أي بين المذهبين أو المنهجين كما شهد بذلك عليه الإسكندر الأفروديسي. وهو ما فعله أيضًا حنين بن إسحاق،٣٨ وكأن قانون التاريخ يسير من العقل، المادة، إلى رد الفعل، الصورة إلى الجمع بينهما في المادة والصورة، من التجربة إلى العقل إلى الجمع بينهما. ليس السجستاني مؤرخًا مثل القفطي أو ابن أبي أصيبعة، بل هو فيلسوف يؤرخ للفلسفة،٣٩ يعي وحدة عمله، ويذكر بالسابق منها واللاحق، يختصر ويشرح حسب الموقف، ويعود على بدء، ويقدِّم ويؤخِّر من رؤية فلسفية شاملة.٤٠ويبدع أبو سليمان فن رسم السيرة الشخصية للفلاسفة عن طريق رسم عناصر عشر أو بعض منها في شخصية كل فيلسوف وهي:
- (١)
الاسم ومكان الميلاد والعمر ونسبته مثل طاليس الملطي والسرخسي والقمي والحراني والدمشقي والسجزي والبغدادي والأنطاكي والصيمري والنيسابوري، ودينه مثل النصراني، ومذهبه مثل الحنفي أو الصابئي (ثابت بن قرة).
- (٢)
النسب الفعلي مثل حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين أو النسب المعنوي، أفلاطون شريف النسب أو الفكري عن طريق التتلمذ مثل أفلاطون تلميذ سقراط، أرسطو تلميذ أفلاطون، وأرسطو معلم الإسكندر، أو الوضع الاجتماعي مثل القطيطوس غلام سقراط، وذكر المعنى الاشتقاقي للاسم مثل أفلاطون الذي يعني العريض الواسع.
- (٣)
الأهمية والعصر مثل أول من تفلسف في مصر، واستتباب المُلك في اليونان أيام الإسكندر، وأثره في المدرسة التي أنشأها مثل تأسيس أفلاطون الأكاديمية، وأرسطو للوقيوم.
- (٤)
اللقب الذي يدل على المهنة أو الاتجاه الفكري حقيقةً أو مجازًا، مثل أبقراط الطبيب، أو بروس الشاعر، أو أرشميدس المهندس، ديوجانس الكلبي، ديمقراطيس الطبيعي. جالينوس الحكيم (الطبيب).
- (٥)
الأسفار مثل طاليس الذي أتى إلى مصر، ثم رجع إلى اليونان، ثم ذهب إلى مالطة، وأفلاطون الذي أتى إلى مصر، الهجرة في سبيل العلم. واليونان تلاميذ المصريين.
- (٦)
السيرة الشخصية وسماتها مثل سقراط الذي أعرض عن الدنيا، وشجاعة سقراط الذي أعلن خلافه مع اليونانيين في الدين، وأفلاطون الذي عبد ربه والذي سماه أرسطو العقل أو الروحاني.
- (٧)
علاقته بالدولة والأمراء؛ أي بالسلطة السياسية مثل علاقة الكندي بأحمد بن المعتصم، وأرسطو بالإسكندر، والسجستاني بملك سجستان وعيسى الوزير.
- (٨)
فلسفته، مصادرها وسماتها وأساليبها، مثل استدلال طاليس بقول هوميروس، وكذلك اعتماد أرسطو على هوميروس، وتكوين سقراط وفيثاغورس وإقليدس وأرشميدس وأفلاطون مدرسة واحدة. وأرخوطوس من شيعة فيثاغورس. واستعمل أفلاطون الرمز واللغة كراهية اطلاع أحد على أسرار الحكمة ليس من أهلها كما هو الحال في «المضنون به على غير أهله»، وعدم إقدام الكسول عليها، بل العاشق لها، وتشحيذ الطبائع وإفراغ الوسع والجهد للفهم.
- (٩) المؤلفات وشهرتها وتصنيفها مثل تصنيف أرسطو الكتب المنطقية وترتيبه الأبواب الطبيعية والإلهية.٤١ ويُحال إلى بعض الأعمال الجزئية.
- (١٠)
الأقوال المباشرة دون النظريات أو السيرة الشخصية مما ينبئ ببزوغ القول كوحدة للتحليل عند ابن هندو والمبشر بن فاتك.
ويستعمل الموروث مصدرًا لمعرفة الوافد بعد أن تحول موروثًا. فيعتمد أبو سليمان في مصادره عن أرسطو على الفارابي.٤٢ وهو أكبرهم مثل أرسطو اليونان، طبيب وفيلسوف. ويعرض نص رسالته في الأمراض البلغمية والعظام. ويتضح فيها أسلوب إخوان الصفا، فهما من نفس العصر.ويأتي الكندي في المقدمة باعتباره أول الفلاسفة، فيلسوف العرب، بالرغم من أنه رديء اللفظ، قليل الحلاوة، متوسط السيرة، كثير الغارة على حكمة الفلاسفة.٤٣ وبعده أبو جعفر بن بابويه ملك سجستان، الذي كان أبو سليمان زينة مجلسه. وتشبه علاقته بالملك مثل علاقة أرسطو بالإسكندر مع ذكر مؤلفاته واقتباسات منه، ثم مسكويه ومؤلفاته، ثم أبو سليمان نفسه. ثم يأتي المترجمون مثل ثابت بن قرة ويحيى النحوي. ثم يأتي مترجمون آخرون مثل أبي عثمان الدمشقي وهو من متقدمي الأفاضلة، ونقلة كتب الأوائل مثل حنين وابنه وثابت بن قرة مع أخذ نماذج من الأقوال والحِكم التي ترجمها. والفيلسوف أبو الحسن العامري شارح أرسطو مما يدل على الأهمية المتزامنة للمترجمين والفلاسفة. ثم يأتي المترجمون أبو الخير بن سوار، وابن زرعة وحنين بن إسحاق مما يدل على أهمية المترجمين حتى القرن الرابع الهجري.٤٤ وربما يبدو بعض الانتقاء في الموروث. فإذا كان ابن سينا ما زال صغيرًا بالرغم من إبداعه المبكر، وكان الفارابي مجرد راوٍ للوافد فأين الرازي الطبيب؟ - (١)
-
(٣)
ونظرًا لغلبة الوافد على الموروث في «صوان الحكمة» عدل البيهقي (٥٦٥ﻫ) الميزان في «تاريخ حكماء الإسلام» أو «تتمة صوان الحكمة»، حتى لقد ربط المؤرخون والنساخ بينهما وكأنهما كتاب واحد، ونموذج للتأليف الجماعي مثل رسائل إخوان الصفا.٤٥ فلو كان البيهقي بمفرده لكان أدخل في التاريخ طبقًا لأسماء الأعلام، ولكنه «تتمة صوان الحكمة»؛ ومن ثمَّ فإنه يكمل الموروث بعد أن استوفى السجستاني الوافد في «صوان الحكمة». وقد تغير الاسم من «تتمة صوان الحكمة» إلى «تاريخ حكماء الإسلام» في فترة متأخرة. أضاف بعض حكماء خوارزم وخراسان وفارس والعراق وحكماء اليونان.ولا يوجد أحد من الشام وإفريقية والأندلس. ربما بسبب بُعده عن الشام، واندلاع الحروب الصليبية، وانقطاع المشرق عن المغرب، وليس لكساد الحكمة في الشام ومصر نظرًا لازدهارها في الأندلس. ترجم لفلاسفة القرنين الخامس والسادس. بعضهم من الصابئة والمجوس واليهود واليعاقبة والنساطرة داخل الحضارة الإسلامية. فهم مسلمون ثقافةً وليس دينًا. أكثر غير المسلمين من القرن الثالث والرابع؛ أي بعد بداية عصر الترجمة في القرن الثاني.٤٦ لذلك خلا من التعصب نظرًا لوحدة الثقافة وتعددها.والبيهقي محدث وأديب ومؤرخ وليس من الحكماء.٤٧ تعلم بطريقة الحفظ مما ساعد على التراكم التاريخي. لذلك نلمس الأسلوب الأدبي على تقديم الكتاب.٤٨ وقد كان سنيًّا في مجتمع شيعي. وإن ارتباط الوعي التاريخي بالوعي السياسي للمضطهدين لا يعني بالضرورة عدم ظهور الوعي التاريخي لدى غيرهم من الطبقات الاجتماعية.
فمن هم الحكماء الذين يؤرخ لهم البيهقي؟ هم الأطباء الفلاسفة الذين يدرسون البدن والنفس كما هو واضح حتى الآن في الاستعمال الشعبي، أن الحكيم هو الطبيب. لا فرق بين نصارى ومسلمين. فالوحدة الحضارة والثقافة المشتركة يتساوى فيها الجميع. لا فرق بين ديانات وحي وديانات طبيعة، فالوحي هو الطبيعة. لا فرق بين عرب وعجم كما هو الحال عند الخوارزمي؛ فقد ساوى الإسلام بينهم. لا فرق بين عرب ويونان؛ فقد حمل العرب لواء اليونان، وتحول اليونان إلى موروث عربي. لا فرق بين فلاسفة وصوفية ومؤرخين نظرًا لوحدة العمل الحضاري بالرغم من تقسيم العلوم. لا فرق بين فلاسفة وعلماء رياضة وفلك؛ فالعلوم الرياضية جزء من منظومة العلوم الإسلامية، وهناك فلاسفة وصوفية وعلماء وأدباء في آنٍ واحد مثل الخيام. لا فرق بين أفراد وجماعات؛ فرسائل إخوان الصفا عمل فردي وجماعي في آنٍ واحد.
ومع ذلك يظل السؤال: ما مقياس الاختيار؟ ربما كان الفيلسوف معروفًا في عصر المؤرخ ولم يَعد معروفًا في عصر لاحق؛ فالوعي التاريخي يتغير في مضمونه وأشكاله وصوره. لذلك تكثر الأعلام التي قد تكون بلا دلالة لنا باقية في وعينا التاريخي المعاصر. وبعض التراجم لها دلالات قصيرة للغاية لا ترتكز على شيء. وقد تكون الترجمة للنخبة وليس للطبقة المتوسطة أو الدنيا. وقد كان المتكلمون من الحرفيين يعيشون في الأسواق، النجَّار والغزَّال والحدَّاد والإسكافي. وربما كان هناك فلاسفة لم يعرفهم المؤرخ، ولم يعرِّفوا هم أنفسهم أحدًا بوجودهم. وفي مقابل ذلك يوجد تضخيم لبعض الأعلام مثل المغالاة في مدح الخوارزمي.
وتغيب فلسفة التاريخ من مجرد ذكر أسماء الأعلام وكما هو الحال في القواميس المعاصرة. فلا يوجد ترتيب زماني لا يدل على الارتقاء في الزمان ونشأة الوعي التاريخي. والترتيب الأبجدي عفوي عرضي لا يدل على شيء، والترتيب القومي لا يدل إلا على الوعي القومي، وهو ما يغيب عند البيهقي نظرًا لاشتراك الأقوام جميعًا في صنع حضارة واحدة تقوم على التعدد. لذلك كان من الطبيعي أن تكون دراسة العلوم أو المذاهب أو الموضوعات أكثر دلالة على التاريخ وكشفًا عن الوعي التاريخي وهو يدون نفسه.
ورسم صور للفلاسفة ليس تاريخًا موضوعيًّا قاموسيًّا، بل هو تصور لهم، إعادة بناء لوجودهم في الوعي التاريخي. فما عناصر الصورة؟ وما آليات تكونها؟ لا تهم الحقيقة التاريخية للحكماء بل صورهم في أذهان مؤرخيهم كما تعبر عن الوعي الجمعي. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الرازي صائغًا (البيهقي) أو مفتيًا (ابن أبي أصيبعة). كانت غاية البيهقي كتابة مصنف جديد لعدم رضاه عن التأليف في هذا النوع في عصره.٤٩ وتدل الصورة التي يرسمها البيهقي على صور الفلاسفة في عصره. وربما لا تطابق هذه الصورة الواقع التاريخي الذي يصعب معرفته. وقد تتغير هذه الصورة من جيل إلى جيل طبقًا لمراحل الوعي التاريخي المتغيرة. وقد اعتمد البيهقي مثل السجستاني على مصادر شفاهية ومدونة؛ فالمعرفة بالاحتكاك بالناس والسماع منهم لا تقل أهمية عن المعرفة المدونة. كما يصرح باستعماله بعض الوثائق.٥٠ويأتي ابن سينا في مقدمة الفلاسفة لدرجة أنه يعادل كما خمس الكتاب كله، ومما قد يوحي بأن البيهقي سينوي الاتجاه كما سيفعل الشهرزوري فيما بعد في تضميمه فلاسفة الإشراق لأنه إشراقي. ثم يأتي الفارابي وأبو الفرج الطيب بعده؛ فالمفسر والشارح له نفس الأهمية التي للفيلسوف. ثم يأتي عمر الخيام وصورته في التراث، الأديب والمؤرخ والعالم والمتصوف. ثم يأتي ابن زرعة المترجم وابن الهيثم الرياضي؛ فقد ظلت الترجمة مستمرة حتى القرن الرابع موازية للشرح والعرض والتأليف. ثم يأتي النيسابوري والشهرستاني وأبو البركات وعلماء القرن الخامس.٥١ ثم يتوالى الأعلام، يكثر عددها ويقل حجمها.٥٢ ويبلغ مجموع الأعلام في الموروث مائة وعشرة أعلام.ويرسم البيهقي صورة لابن سينا وهو يذم أبا الفرج الجاثليق ويهجن تصانيفه بالرغم من اعترافه بتقدمه في الطب. ويعترض على بعض رسائله.٥٣ ويحكم بأنه تحاسد بين أهل العصر، وأنه استفاد من أبي القاسم وأن ابن سينا كان مؤذيًا مهجنًا. ويروي مشاجرة بين ابن سينا وأبي القاسم الكرماني خرجت على حدود الأدب. اتهمه ابن سينا بقلة عنايته بصناعة المنطق، واتهمه أبو القاسم بالمغالطة والغلط. ويروي دخول ابن سينا على مسكويه بأجزاء من الأخلاق لإصلاح أخلاقه أولًا قبل تقدير مسافة الجوزة. ويرى البيهقي أن الذم والتثريب والتهجين ليس من دأب الحكماء والمبرزين. وقد تكرر نفس الشيء مع البيروني. وكانت عادة ابن سينا سرقة الأضواء والأفكار من غيره ويشكو إلى الحكام. ومع ذلك كان يمدح تلاميذه. ووصف المعصومي أنه بالنسبة إليه كأرسطو بالنسبة لأفلاطون.والوافد قليل جدًّا من الشرق أو من الغرب، من الهند وفارس أو من اليونان والروم. ولا يوجد إلا بمناسبة ذكر المترجمين وهم من الموروث لأنهم عرب وليسوا من الوافد بالرغم من اشتغالهم به. وهناك ثلاثة مواقف منه:- (أ)
الإعجاب بالوافد مثل أبو الفرج بن الطيب الجاثليق، الذي كان عالمًا باللغتين الرومانية واليونانية، وخلق أسطورة نسبه إلى اليونان.
- (ب)
الرد على اليونان مثل النصارى الذين ردوا على أفلاطون وأرسطو قبل المسلمين، ولم يكونوا أتباعًا له ومثل شكوك يحيى النحوي على فروع وأصول من كتاب السماع الطبيعي، وتصنيفه كتابًا في الرد على أفلاطون وأرسطو حتى همَّ النصارى بقتله. كما أورد ابن سينا في إقليدس شكوكًا، وله في الموسيقى مسائل غفل عنها الأولون.
- (جـ) الحياد الموضوعي التاريخي والقيام بالشرح للوافد مثل شرح متى بن يونس لكتب أرسطو، وشرح الفارابي لكتب أرسطو وإقليدس في الموسيقى وطيماوس. وقد بدأ ابن سينا بقراءة كتاب إيساغوجي على الناتالي حتى أحكم عليه المنطق ثم كتب إقليدس ثم المجسطي. فرغ من المنطق والطبيعي والرياضي، ولم يبالغ في الرياضي لأن مَن تذوَّق المعقولات ضن بذهنه في الرياضيات. ثم أقبل على العلم الإلهي دون خوف بفضل الفارابي وشرحه لأغراض ما بعد الطبيعة. وقرأ مع أبي عبيد المجسطي وأملاه المنطق. وصنَّف في جرجان المختصر من المجسطي. ومن مصنفاته غرض قاطيقورياس، والمنطق بالشعر، ومختصر إقليدس. وسأله الفقيه أبو عبيد شرح كتب أرسطو، فابتدأ بطبيعيات الشفاء، وفي المجسطي أورد عشرة أشكال في اختلاف النظر، وأنهى الحيوان والنبات.٥٤ وابن سينا مرجع للبيهقي، ليس فقط كفيلسوف، بل كمصدر لتاريخ الفلسفة. ويذكر البيهقي ثلاثة وعشرين علمًا مترجمين وشراحًا لليونان ومصنفين في موضوعاتهم مباشرة أو اعتمادًا على شرح المسلمين كالفارابي بعد أن تحول الوافد إلى موروثٍ ثانٍ، وبدأ التراكم التاريخي الداخلي. وتُذكر بعض أقوال أرسطو لتنبئ بظهور القول كنوع أدبي جديد.٥٥وإذا كان السجستاني قد رسم صورة شخصية الفيلسوف في عشرة عناصر، فإن البيهقي قد أدمجها في خمس:
- (١) الأهمية والدور والرسالة وسمات الشخصية والعيوب الجسدية؛ فحنين بن إسحاق أول من فسَّر اللغة اليونانية ونقلها إلى السريانية والعربية. ولم يُوجد في هذه الأزمنة بعد الإسكندر أعلم منه باللغتين العربية واليونانية. وثابت بن قرة كان حكيمًا كاملًا في أجزاء علوم الحكمة. وعلي بن الطبري له همة رفيعة وعلم بالإنجيل والطرب. ومتى بن يونس كان حكيمًا نصرانيًّا شارحًا لكتب أرسطو. والفارابي لم يكن قبله أفضل منه في حكماء الإسلام. وإخوان الصفا حكماء اجتمعوا وصنفوا رسائل. ويحيى النحوي من قدماء الحكماء نصرانيًّا فيلسوفًا. والكندي مهندس خاض غمرات العلم. وأبو زيد البلخي من حكماء الإسلام ونصحائه وبلغائه. وأبو الفرج بن الطبيب الجاثليق من حكماء بغداد، حكيم مُلئ أهدابه، دخل بيت الحكمة من أبوابه. والبيروني من أجلاء المهندسين. وأبو سليمان المنطقي حكيم، ويحيى بن عدي حكيم كامل من أفضل تلاميذ الفارابي. وعمر الخيام له باع طويل في علوم الحكمة بعد ابن سينا.٥٦ وهناك ما يقرب من مائة فيلسوف بعد كل منهم هذه العبارات القصيرة التي تبيِّن معرفته باللغات وسبْقه فيها أو بالطب والهندسة والحكمة والنجوم واللغة والأدب والشعر، مع تحديد الدين مثل النصرانية دون أي تمييز. كما يضيف سمات الشخصية والأخلاق الحميدة في حضارة لا تفرق بين العلم والأخلاق، فالسلوك جزء من تعريف الفيلسوف. ويبين أساتذته وطلابه ومدرسته مثل بهمنيار الحكيم تلميذ ابن سينا والمعصومي وكذلك أبو منصور الحسين بن طاهر بن زيلة، والجوزجاني من خواصه. ويتضح أن ابن سينا صاحب مدرسة وأتباع، ولتلاميذه تلاميذ، عمر الخيام ومحمد المروزي. كما تدخل تربيته وتعليمه واكتشافاته وما اشتهر عنه وتدخل وظائفه وصلته بالسلطان مثل أبي الحسن الأبردي طبيب السلطان أو إمام مسجد. وربما تغلب أحيانًا بعض العبارات الإنشائية. وكلهم موضع مدح وإجلال وتقدير!
- (٢) تاريخ الميلاد والوفاة والمكان والنسب والتعليم وسمات الجسد. ونادرًا ما يذكر تاريخ الميلاد والوفاة للفيلسوف، إمَّا لصعوبة تحديده وإمَّا لعدم أهميته. فالفيلسوف نمط مثالي. وقد يذكر أحدهما دون الآخر، الميلاد دون الوفاة أو الوفاة دون الميلاد. كما يصحح البيهقي أحيانًا التواريخ، ويبين أخطاء المؤرخين والنساخ فيها. وبالنسبة لكبار الفلاسفة مثل ابن سينا يكون تاريخ الميلاد بالدقة مع طالعه، وكذلك تاريخ وفاته وولادة أقربائه ووفاتهم. وقد يتحول التاريخ إلى أسطورة كما هو الحال في ولادة الأنبياء ووفاتهم. وتذكر أسماء الأب والأم والأخوة والأخوات.٥٧ وقد تتحدد التواريخ ببعضها البعض؛ فالفلاسفة عائلة واحدة ونسب فكري واحد وتتحدد المسافات الزمنية في الميلاد أو الوفاة بينهم. ويذكر أعمار لفلاسفة يمكن استنباط الميلاد والوفاة منهما. وربما تكفي الحياة ومعالمها الرئيسية؛ أي السيرة الشخصية. ويذكر المكان، مكان الولادة والوفاة والدفن، وأمكنة الإقامة والرحلات.٥٨ كما يذكر النسب من ناحية الأب أو الابن كما هو الحال في العادات القبلية.٥٩
- (٣) العصر والسلطة والأهواء والنوادر وحياة الفيلسوف ومآسيه. فالفيلسوف ابن عصره. تعامل مع السلطة فيها. وتنتابه أحيانًا أهواء البشر بالرغم من حكمته. وتتعرض حياته للأزمات، لحظات الفرح والحزن، والمكسب والخسارة والتي تصل إلى حد المآسي. وقد عمل الكثير منهم في عصر المأمون والمعتصم. وخدم آخرون الملوك السامانية وأمراءها. ويعطي ابن سينا المثل على ذلك؛ فقد كان دائم الارتباط بالسلاطين حتى استوزر، ومولع بمصاحبة الحكام. وربما يكون أول من شرع خدمة الملوك بالرغم من وجود الفارابي في بلاط سيف الدولة الحمداني بحلب، وتعليم الكندي للمعتصم الفلسفة الأولى في بغداد. حرق المكتبة التي أطلعه عليها الأمير نوح بن منصور حتى لا يطَّلع عليها أحد غيره استعدادًا لمؤامرة الصمت على مصادر «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات». وكان شغوفًا بالخمر، شبقًا للجماع. وكان البعض يعلم نشرًا للحكمة والبعض الآخر أجرًا، البعض له القدرة على قراءة الطالع. ولكن الفارابي رفض الهدايا، ونسج الثياب للأكل من عمل يده. وللفارابي نادرته أنه أضحك وأبكى وأنام بموسيقاه، ونقد بائع تمر لأنه أجاب بالكم على سؤال كيفي! وابن الهيثم عرض له إسهال، وعرف أنه سيموت.٦٠ وتحولت حياة بعض الفلاسفة إلى مآسٍ بسبب تمسكهم بحرية الفكر مما سبب اضطهاد رجال الدين والسلاطين لهم. مثال ذلك ما حدث لحنين بن إسحاق. كان نصرانيًّا، وتفل في صورة عيسى لأنها أقنوم لا يجوِّزه الشرع والعقل. والله منزَّه عن الصورة والهيئة، فحُبس وترك الدين وانشغل بالعلوم. وقد همَّت النصارى بقتل يحيى بن عدي لأنه نقد أفلاطون وأرسطو. واضطُهد كثير من الفلاسفة بسبب جهل السلاطين وبطشهم، مثل عدم نجاح الطبيب دانيال في شفاء أمراض السلطان.٦١ وأُحرق محمد بن أحمد البيهقي لاتهامه بالباطنية من العامة معلقًا «ولا قدر من القدر ولا تأخير لأجل.» وقد ثارت الجند على ابن سينا وحبسته وطالبت بقتله، واضطهد الحكام بأمر الله ابن الهيثم لاعتراضه على قياسه للنيل. وصُلب أبو المعالي عبد الله بن محمد الميانجي لشطحاته الصوفية واتهام السلطان له كما حدث للحلاج. وحرق السلطان أبا حاتم المظفر الأسفزاري لعمله ميزان أرشميدس الذي يكشف الغش والعيار. وارتبط محمد المروزي بالسلطان، ثم لفظه السلطان. وارتبط محمد الأيلاقي بالسلطان ثم قتله. وأُحرقت تصانيف عمر الساوي وبيته.٦٢ واضطُهد فلاسفة آخرون لشجاعتهم مثل قتل اللصوص للفارابي دفاعًا عن نفسه بعد أن رفض اللصوص أخذ المتاع. وهي نفس قصته قتل المتنبي كنمط مثالي لموت الشجعان. والبعض لقي من المآسي على طريقة الوجوديين المعاصرين؛ فالوجود مأساة مثل اكتشاف الرازي زيف صناعة الكيمياء فعمي، ووقع أبو الخير بن بهنام من على دابته فمات.٦٣ وكف بصر أبي العباس اللوكري في شيخوخته. وطلب أبو سعيد الأرموي مالًا كثيرًا لتأديب الملك حتى يذهب بعد ذلك للعلم ومات، وحصل غيره على المال. وحزن أبو الحسن الأبريسمي من حسد الناس له فمات. وأصاب أبا البركات البغدادي الجذام وعمي بعد أن نجا من القتل وحسن إسلامه. وأصاب علي بن شاهك الجدري وعمي. ومات ناصر الهرمزدي في داره رافضًا دعوة السلطان. واستولى على محمود الخوارزمي نوع من السويداء فذبح نفسه بالقلم.٦٤ ويمكن أن يتحول ذلك كله إلى موضعات درامية حديثة.
- (٤) المؤلفات المصنفات. ويذكر البيهقي بعض مؤلفات حوالي سبعين فيلسوفًا الصحيح منها والمنسوب إليه. وتتناول موضوعات الطب وعلم أحكام النجوم والحكمة والإلهيات والهندسة وتاريخ الأديان والأخلاق والفقه والمنطق واللغة والأديان، مما يدل على العلم الموسوعي للفيلسوف، نموذج ابن سينا. تجمع المصنفات بين العلوم النظرية والتطبيقية؛ أي التقنية بلغة العصر الحديث. وهناك تصانيف في موضوعات غير مألوفة مثل كتاب أبي الخير بن بهنام في تدبير المشايخ. ونظرًا لأهمية بعض المصنفات يبدأ البيهقي بها دون باقي عناصر رسم الشخصية كما فعل مع محمد الشهرستاني. هو مجرد رصد كما هو الحال في المكتبات الحديثة من أجل إعطاء المعلومات الأولية عن الفيلسوف ومؤلفاته للمبتدئين في العلم. ويحكم البيهقي على بعض هذه المؤلفات بالقوة أو الضعف، يقيم بعضها، ويعلي من شأن مؤلفات ابن سينا التي تقوم على اتفاق الشرع والعقل. وقد كُتبت بعض المؤلفات للدفاع عن البعض مثل أبي البركات البغدادي أو الهجوم على البعض الآخر.٦٥
- (٥) الأقوال والكلمات والحِكم والفوائد. وهي وحدة التحليل كنوع أدبي يبقي على القول دون القائل، والنص دون المؤلف. وهي جمل قصيرة من جوامع الكلم يسهل استذكارها واستدعاؤها واستعمالها في الحياة اليومية كنبراس للسلوك الفاضل، وما أكثرها. وهي الأبقى بعد أن ينسى الناس أصحابها والمؤلفات التي انتُزعت منها. وهي الأقوال المأثورة المتناثرة التي تركها الفيلسوف تخلده من بعده وتنقش على قبره. ألَّف فيها الفارابي وابن هندو والمبشر بن فاتك.٦٦ والعجيب أن ابن سينا لا تُروى عنه أقوال وحِكم وهو أكبر الفلاسفة ذكرًا. تجمع بين الدين والأخلاق في صورة الحكمة الخالدة. وتتنوع موضوعات الأقوال في الطب الوقائي والاستغناء عن الطب بنظام الطعام والشراب وعدم الإكثار من النكاح.
وفي الصحة العقلية رجحان العقل وحسن القول والسيطرة على الانفعالات، والتحكم في الأهواء، والحذر من الدنيا والمرأة والسلطان ومباهج الحياة، وضرورة القناعة والكد في طلب العلم، والصدق واحترام العلماء، ومعرفة النفس طريقًا إلى معرفة الخالق، والاقتصار في التأليف وفي العلوم أصولها وفروعها، وتعلم التقسيم والتحليل والتهديد والبرهان. وفي العلاقات الاجتماعية رفض الزيف والمدح والنفاق ونقد الكذب والحقد، وضرورة النصيحة والمشورة، والإنصاف والعدل والكرم والاعتذار عن الذنب. وفي التاريخ والعصرية، لكل زمان علم والانشغال بالزمان. وفي السعادة الدنيوية والأخروية مثل الشوق إلى الحي القيوم والعرش والكرسي والقلم واللوح المحفوظ، وضرورة التحرر من سجن البدن.
- (١)
- (د) واستمر التقابل بين الوافد والموروث حتى القرن السابع الهجري في «نزهة الأرواح وروضة الأفراح» للشهرزوري (٦٨٧ﻫ).٦٧ والتمييز بين الوافد والموروث ليس مجرد إجراء بل هو تمييز فعلي. فلما كتب أبو سليمان صوان الحكمة في الوافد أكمله البيهقي في الموروث. كما قسَّم الشهرزوري «نزهة الأرواح» إلى مجلدين؛ الأول في الوافد والثاني في الموروث. وبالرغم مما يبدو في العنوان الأصلي من لفظ تاريخ وتطور في الزمان بين المتقدمين والمتأخرين وأنه معروف باسم «تاريخ الحكماء» إلا أن التاريخ هنا أقرب إلى القراءة منه إلى سرد أسماء الأعلام. ومِنْ ثَمَّ فهو أكثر كتب التدوين اتجاهًا نحو القراءة كما يبدو في النصف الأول من العنوان «نزهة الأرواح وروضة الأفراح»، وبالتالي يصبح أهم تاريخ حامل للدلالات؛ فهو تاريخ إشراقي، صاحبه حكيم إشراقي من تلاميذ السهروردي مؤسس حكمة الإشراق. يجمع بين التاريخ والتطور الزماني للوافد والموروث وفي نفس الوقت يكتشف البنية المشتركة بين الاثنين، بنية الإشراق والفلسفة الخالدة. فكلهم مدرسة واحدة لا فرق بين وافد وموروث وفيلسوف وفيلسوف. لذلك يفرق بين الصناعة مثال الطب والشعر، والعلم وهي الحكمة. الأولى مهنة والثاني رسالة. الأولى تاريخ والثاني بنية. وقد يكون التشيع أحد أسباب بلورة الوعي التاريخي باعتباره معارضة سياسية؛ فالوعي التاريخي ابن الوعي السياسي. وكثيرًا ما تم التدوين في جماعات المعارضة السرية والعزل السياسي كما تم تدوين التوراة أثناء الأسر البابلي، حفاظًا على التراث الشفاهي من الضياع، وتمسكًا بالهوية الحضارية. التدوين نوع من إثبات الأنا ضد الآخر، وإثبات الذات ضد الغير تمسكًا بالهوية، وصراعًا من أجل البقاء. لم تنتهِ الفلسفة الإسلامية بعد ابن رشد كما يُرجِع البعض بل استمرت في إيران وازدهرت عند الشيعة بعد أفولها عند أهل السنة عند صدر الدين الشيرازي وغيره. وبالرغم من أن الاقتصار في الكتابة حكمة إلا أن الإسهاب هو عادة القدماء وبعض المحدثين.٦٨
ويحيل الكتاب إلى مصادر أصلية، نصوص الحكماء وأنفسها للعامري والغزالي والبلخي وابن هندو وإخوان الصفا والكندي، وبعض كتب تاريخ الحكمة مثل ابن النديم، وبعض كتب التاريخ مثل المسعودي وابن العربي والمقدسي من الموروث وفورفويوس من الوافد.٦٩ وتظهر نصوص الوافد أقل بكثير من نصوص الموروث. وتأتي نصوص أرسطو في المقدمة مثل إقليدس ثم أفلوطين ونيقلاوس (نقل ابن زرعة) وهرمس الثالث وأفلاطون وأبرقلس وألينوس وبطليموس وأرسخوطس.٧٠ والقرآن والحديث أيضًا من ضمن المصادر.٧١ وتذكر النصوص الأصلية في الموروث لستة وثلاثين علمًا أكثر من الوافد (عشرة أعلام). تأتي نصوص ابن سينا في المقدمة ثم السهروردي ثم ابن الخمار ثم مسكويه والرازي ثم الجوزجاني والبيروني والسجستاني ثم أبو زيد البلخي.٧٢ والطوسي والمعصومي الخازن ملك يزد، ثم سبعة عشر علمًا كلٌّ منهم مرة واحدة.والحكماء شعراء، وشعرهم لا يقل شواهدَ عن حكمتهم. يذكر سبعة عشر حكيمًا شاعرًا، واثنان مجهولان. في مقدمتهم السهروردي ثم عمر الخيام وابن الشبل ثم الفارابي ثم أبو النفيس ثم ابن هندو ثم الرازي الفيلسوف والرازي الطبيب ثم البستي ثم الكندي ثم الميانخي، وأبو سليمان السجستاني، وابن زرعة وأبو سهل النيسابوري وابن الداعي، والمعصومي وأبو البركات.٧٣ والكل بالعربية باستثناء شاعر واحد، الميانخي، له بيتان بالفارسية. ولا يُذكر من الوافد حكماء شعراء إلا واحد هو سقراط!وكثير من الأقوال مستمدة من «مختار الحكم ومحاسن الكلم» للمبشر بن فاتك، فالكل ينقل عن الكل لأنه مشروع حضاري واحد، وليس سرقة فرد من فرد. العمل الجماعي في مشروع مشترك شيء، والعمل الفردي بناءً على الملكية الفردية شيء آخر. وأحيانًا يتم اقتباس نص طويل مع الإحالة إلى المصدر كما هو الحال في الدراسات الحديثة.٧٤ وأحيانًا تطغى الأقوال المباشرة دون عروض نظرية أو نقد وتقييم على عكس البيروني مع الهند. وربما يكون البيروني أفضل تاريخيًّا لأنه يذكر مصادره. وتغيب الأخبار والأقوال في الجزء الثاني في الموروث الإسلامي الأقل حجمًا من الوافد وأقرب إلى التاريخ منه إلى التأريخ. ولا يذكر أعلام الشيعة السابقين مثل حميد الدين الكرماني. وله مصادر أخرى وروايات شفاهية لم تُدوَّن. وأحيانًا يكون الموروث مصدرًا للوافد وحاملًا له مثل روايات أبي معشر عن الهرامسة، وابن مسرة عن أنبادقليس، وأبو سليمان عن أرسطو.٧٥ وقد تكون الروايات عن الموروث مثل رواية البيهقي عن الساوي والشهرستاني والسرخسي، وللبغدادي عن ابن سوار عن البيروني وابن سينا، ونقد ما يُروى عن أبي نصر.٧٦ وقد تكون الرواية من مصدر واحد.٧٧ويوجد في كل اسم علم الأخبار والآداب، والسيرة والأقوال بداية للتمايز بين السيرة والقول لصالح القول كما هو الحال في الأناجيل الأربعة وفي الأحاديث النبوية.٧٨ وقد يكون ذلك صريحًا بقسمين متمايزين وعنوانين مستقلين. وغالبًا ما تكون الأقوال أكبر حجمًا من الأخبار مما يدل على أن وحدة الفكر الأولى هي القول. وهذا هو حال هرمس الهرامسة وأسقليبيوس وسقراط وأفلاطون وهوميروس وسولون وبطليموس وجالينوس. وفي حالة ديوجانس تُذكر الأقوال من خلال الحكايات.٧٩ وتتساوى الرواية مع الأقوال في حالة فيثاغورس وأرسطاطاليس وزينون الأكبر بن طالوطاغورس.٨٠ وأبقراط وحده هو الذي يخل فيه التوازن لصالح الرواية.٨١ وقد يكون ذلك بطريقة ضمنية في حالة شيث ولقمان، وأنبادقليس وثاوفرسطس، وأوديموس، وديموقريطس، وأبرقلس، والإسكندر الأفروديسي وزرادشت، ومهاردجيس، وماسوليوس.٨٢ أمَّا في إقليدس فتتساوى السيرة والأقوال.٨٣ أمَّا أنكساجوراس الملطي وآدابه فهي رواية خالصة. أمَّا آداب طاطو فتحتوي على الأقوال وحدها دون الأخبار إيذانًا باستقلال الأقوال، وكذلك أيسخيلوس وقابس السقراطي وأرسطيس وفلوطرخس وستيراس وتامسطيوس والإسكندر.وينقسم الكتاب إلى قسمين؛ الأول الحكماء القدماء وحكماء الفرس واليونان، والثاني الحكماء والمتأخرون من الإسلاميين. الأول الوافد الغربي والشرقي والثاني الموروث باعتباره امتدادًا للوافد. فواضح أولوية الوافد على الموروث كيفًا وكمًّا. فالوافد هو الأصل والموروث هو الفرع، والوافد يبلغ حوالي مرتين ونصف الموروث.٨٤ وقبل القسمين هناك مقدمة عن نشأة العلم بالشواهد، القرآن والحديث، وفصل «في ابتداء أحوال الفلسفة»، مجرد تاريخ موضوعي لليونان دون قراءة، مجرد ثبت بالأسماء قبل تأويلها وإدراك دلالتها.أمَّا من حيث الأماكن فالموروث له الصدارة على الوافد كيفًا وكمًّا، وذلك لتفاعل الاثنين داخل البيئة الجغرافية الإسلامية. فالأولوية المطلقة للشام ومصر، ثم بغداد ونيسابور ثم الهند، ثم بابل مع ساموس، ثم فارس مع صقلية، ثم فو، ثم بخارى وخراسان ورملة الشام وسوريا مع ملطية، ثم أذربيجان وخوارزم وجوزجان ومرو وهمذان مع تراقيا ورودس وفرغامس وقسطنطينية واللوقيوم، وأخيرًا البصرة والري وسجستان وطوس والعراق وفلسطين ومراغة وممفيس ومنف وهراة وحران وحمص وساميا مع أفسيس وأمانيا والبحر الرومي وبيرون وديلوس وسيراقوستا وفينيقيا اللاتينية وميتا بونثا.٨٥ويتصدر الوافد الموروث كيفًا وكمًّا من حيث أسماء الأعلام، كثرة كبار الوافد على كبار الموروث، في حين كثرة صغار الموروث على صغار الوافد. فيأتي أرسطو ثم أفلاطون ثم سقراط في المقدمة على الإطلاق قبل الإسكندر في مقابل الشهرزوري، وفيثاغورس قبل ابن سينا، وجالينوس وأبقراط وطاليس قبل الرسول والمسيح.٨٦ ويتوارى الإسكندر إلى المرتبة الرابعة من تسع عشرة مرتبة. وأحيانًا يطغى التاريخ الخالص على أخبار الوافد مثل وصف جغرافية اليونان كما هو الحال في الدراسات الحديثة، ووصف لغة يونان، وذكر المعنى الاشتقاقي لكلمة يونان وترجمتها نقلًا صوتيًّا إلى إغريق.والوافد من حيث الكم له الأولوية على الموروث من حيث المساحة، في حين أن الموروث له الأولوية على الوافد من حيث عدد أسماء الأعلام. الوافد نصف الموروث من حيث العدد، ولكنه أكبر من حيث الحجم. يأتي الإسكندر في المقدمة قبل سقراط وفيثاغورس وهرمس الهرامسة وأفلاطون وأرسطو وجالينوس وديوجانس … إلخ في ثماني مراتب من سبع عشرة مرتبة. ولا يأتي أرسطو إلا في المرتبة الخامسة. وأول الوافد وهو الإسكندر ضعف أول الموروث وهو السهروردي. والإسكندر في المرتبة الأولى ثلاثة أضعاف أرسطو في المرتبة السادسة، مما يدل على أولوية حكماء الإشراق على فلاسفة الطبيعة. وعماد الإشراقيين بعد الإسكندر سقراط وفيثاغورس وهرمس وأفلاطون.٨٧ومن حيث أسماء الأمم والقبائل يتصدر الوافد الغربي أيضًا على الموروث. فيأتي اليونانيون والروم في المقدمة، ويتعادل المشاءون والفرس من الوافد الشرقي. ويتعادل المقدونيون والكلدانيون، والبطالسة مع الترك والحنفاء والمتكلمين والمعتزلة وإخوان التجريد.٨٨أمَّا الموروث فإن الصدارة فيه تأتي للشهرزوري، المؤلف نفسه ثم ابن سينا ثم الرسول ثم المسيح ثم السهروردي أستاذه ثم أبو سليمان السجستاني، ثم الشهرستاني ولقمان، ثم إبراهيم والمسعودي، ثم الفارابي وعمر الخيام … إلخ، التسع مراتب الأولى من أربع عشرة مرتبة. ويدخل الأنبياء بمفردهم مثل الرسول والمسيح أو مع الحكماء مثل لقمان والشهرستاني، إبراهيم والمسعودي. داود مع يحيى النحوي ويحيى بن عدي والبيروني والقفطي. وسليمان مع حنين بن إسحاق وإسحاق بن حنين وأبو معشر والحسن البصري وخوارزم شاه والمعتضد والرازي (فخر الدين) والمسعودي والبيهقي.٨٩ فالأنبياء أيضًا من زعماء الإشراق. ولا فرق بين الملوك مثل خوارزم شاه والمعتضد والمأمون وعلاء الدولة، والخلفاء مثل معاوية، والسلاطين مثل صلاح الدين وغياث الدين، والأمراء مثل نوح بن منصور، وبين الحكماء، مترجمين وفلاسفةً وصوفية. ولا فرق بين الأفراد والجماعات مثل إخوان الصفا وبني موسى بن شاكر.والموروث من حيث مساحة أسماء الأعلام الصدارة فيه للسهروردي، ثم لقمان الحكيم ثم ابن سينا، المراتب الثلاثة الأولى، وهم حكماء الإشراق من عشر مراتب.٩٠ أمَّا من حيث الأسماء والقبائل فيتأخر الموروث عن الوافد كثيرًا. ولا يظهر الفلاسفة إلا في المرتبة السابعة من مراتبَ تسعٍ، ثم الأولياء وإخوان التجريد والترك والحنفاء والمتكلمون والمعتزلة، ثم أصحاب الكهف والباطنية والبرامكة وبنو أمية والصوفية، والعباسيون، والكرامية، والمسلمون.٩١ كما تدل كثرة أسماء الأماكن الجغرافية على الموروث ومحلية الفكر.أمَّا الجناح الشرقي فهو بين الوافد والموروث، هو وافد لأنه من فارس والهند وبابل ومصر وكنعان، وهو موروث لأنه تحول من خلال الترجمة إلى موروث. كما أن الحضارة الإسلامية وريثة الحضارات الشرقية ومعبرة عنها ومطورة لها في إحدى مراحلها. وتظهر فارس في صورة فلاسفتها مثل زرادشت وبازماك وبهمنيار بن المرزبان، وملوكها مثل: دارا أو كسرى ونمرود بن كورش. كما تظهر الهند في صورة فلاسفتها وملوكها أيضًا مثل كشتاسب وسابور وسنجر. وتظهر بابل في صيغة ملكها نبختنصر وفيلسوفها هرمس البابلي كما تظهر مصر وملكها أماسيس.٩٢أمَّا أسماء الأمم والقبائل فيأتي الفرس في المقدمة ثم الصابئة والعرب، ثم الكلدانيون، ثم المصريون وبنو إسرائيل ثم البراهمة والنصارى والهرامسة ثم الترك والحنفاء والعبرانيون ثم البابليون والحواريون والروس والعجم والمجوس.٩٣ولكل شعب خصائصه تبدو في علومه كما هو الحال في علم اجتماع المعرفة في الغرب الحديث. الموسيقى عند اليونان والهندسة في مصر والحساب في فينيقيا والطبائع في الشام على عكس ما هو شائع من بداية كل شيء باليونان. وينشأ تدوين العلوم بعد نشأتها عند كل الشعوب، الصين والهند وفارس ومصر واليونان والأندلس عند ملوك الطوائف. ولا فرق بين كسرى أنوشروان والمأمون وهارون الرشيد وشرلمان في حب العلم وتشجيع العلماء، وحدة حضارية واحدة قديمة. لذلك نشأت صناعة الورق عند القدماء مع التدوين. فالتدوين مهنة وصناعة.٩٤ والحكماء إمَّا هنود مثل البراهمة الذين ينكرون النبوات، وإمَّا عرب وهم أقلية يقولون بالطبع بالإضافة إلى خاطرات الفكر وربما بالنبوات، وإمَّا يونان وهم الروم، قدماء ومتأخرين. والمتأخرون مشاءون ورواقيون وإسلاميون. فالفلسفة الإسلامية امتداد للفلسفة اليونانية في عصر متأخر.٩٥وتُرسم الشخصية (٨٦ شخصية) بالعناصر الرئيسية المكونة لملامحها مع تجاوز السيرة والاسم والنَّسب والمولد والوفاة والحياة والسيرة إلى الاتجاه الفكري والأعمال والأقوال. ومع ذلك فهي سيرة باهتة خالية من القراءة والتأويل على عكس قراءة أعلام الوافد. فالمسلمون يستأنفون حضارة اليونان، وحكماء الإسلام هم امتداد لحكماء اليونان، والمتأخرون بالنسبة إلى المتقدمين. وليس لكل الفلاسفة ميلاد أو وفاة، إنما العمر والحياة والعصر يكفيان. فليس الزمان متقطعًا في لحظات، بل ديمومة في حياة. وبالرغم من تعدد الثقافات والديانات داخل الحضارة الإسلامية، إلا أنه أحيانًا تُذكر ملة الفيلسوف، الحرانية الصابئة، أو اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، سواء إذا بقي على دينه أو تحول إلى الإسلام.٩٦وواضح أن ابن سينا مدرسة بمفرده له تلاميذ عدة.٩٧ وله أصدقاء كثيرون. وكان أبو سليمان المنطقي السجستاني مدرسة بأكملها، حلقة مفكرين. والإخوان أنفسهم مدرسة، تُذكر كجماعة وأحيانًا يُذكر أفرادها مستقلين مثل العوفي.٩٨ وقد تُذكر مع حياته المأساة الشخصية التي مرَّ بها مثل الإصابة بالعمى أو الأصفهاني الذي يصل إلى حد الاتهام بالكفر، والقتل مثل السهروردي واختلاف الناس في طريقة قتله، منْع الطعام عنه وهو سجين، الخنق، السيف، الحرق.٩٩ وهناك نوادر نمطية تُقال في كل فيلسوف مثل قصة مداواة ابن هندو لمن ينكر الطبيعة بوضع كتاب الطب تحت رأسه.١٠٠ وهناك حياة الفيلسوف وسمات الشخصية مثل الإنفاق على طلاب العلم،١٠١ وله شهرة مثل أبي النفيس.وتُذكر مؤلفات الفيلسوف كلها أو بعضها، والبعض منها له عناوين إبداعية مثل «الأمد الأقصى»، «الإبانة عن علل الزمان».١٠٢ وقد تكون المؤلفات شروحًا على الموروث أو على الوافد.١٠٣ ومعظمها للجمع بين الحكمة والشريعة. وقد تكون المؤلفات بالفارسية.١٠٤ وتُذكر آراء الفيلسوف ونظرياته.١٠٥ ويذكر اتجاهه الإسلامي الذي يؤثِر الموروث على الوافد.١٠٦ فالتوجه الإسلامي نحو الطب باعتباره علم الأبدان حتى يجعل علم الأديان ممكنًا. والتوجه نحو الفلك مدفوع بآيات النظر في السماء والكواكب والنجوم. والتوجه القرآني نحو النفس هو الذي دفع إلى تأسيس علم النفس الخلقي. ويظهر الاتجاه إذا كان الحكيم متكلمًا كالشهرستاني الذي جمع بين الحكمة والشريعة، عكس البيهقي، اعتمادًا على الغزالي. - (أ)