باب المنظوم
(١) الغزل
- (١)
غزل إباحي: ويصح لنا أن نتخذ من عمر بن أبي ربيعة زعيمًا لهذا النوع الذي يجمع إلى وصف المرأة والتشبيب بها، معاني العبث والاستمتاع باللذة المادية مما ينفر منه الأدب الجاهلي، ومما حظره عليه الكثيرون من خلفاء الإسلام وأئمته. وقد كانت مكة والمدينة مسرحًا لهذا النوع في العصر الأموي. وقد شرحنا سبب ذلك في المجلد الأول فراجعه ثمة.
- (٢)
غزل عذري: وهو غزل الحب الصادق، والعواطف المتأججة، والنفس المتألمة المعناة، تلك النفس التي تجد لذتها في الكلف بمن تحب والتعلق بها والشعور بالسعادة في الفناء في حبها، حبًّا يملك عليه لبه ويعذب روحه ويفنى جسمه، كغزل جميل زعيم هذا النوع. وليس أدل على صدق حبه مما أثبتناه عن كتاب الأغاني إذ حاول أبوه أن يصرفه عن حبه وحاجه في ذلك أجمل محاجة، فكان من جميل ما كان مما تجده مفصلًا في هذا الباب.
- (٣)
غزل صناعي: بين هذا وذاك، همه الإجادة في الشعر من حيث هو شعر، لا في الحب من حيث هو حب، ولنا في كثير عزة زعيم لهذا النوع الثالث.
- (٤)
غزل قصصي: خلقه الرواة لأنهم رأوا ميل الناس إلى الغزل وإلى حياة القصف وما يتبع حياة القصف، فنظموا قصائد نحلوها لشعراء لا نستطيع أن نحتمل تبعة القول بوجودهم في الحياة، أو القول بأنهم أشخاص خياليون خلقهم الرواة، أو زادوا من عندهم مقطعات نسبوها لهم وأضافوها إلى شعرهم. وزعيما هذا النوع: قيس بن الملوح وليلاه، وقيس بن ذريح ولبناه.
وإيفاء بما وعدناك به نذكر زعيم كل نوع من هذه الأنواع مع ذكر ترجمته والمختار من شعره.
(١-١) الغزل الإباحي
عمر بن أبي ربيعة
ومن حسن وصفه قوله:
ومن دقة معناه وصواب مصدره قوله:
ومن قصده للحاجة قوله:
ومن استنطاقه الربع قوله:
قال إسحاق: أُنشد جرير هذه الأبيات فقال: إن هذا الذي كنا ندور عليه فأخطأناه.
ومن إنطاقه القلب قوله:
ومن حسن عزائه قوله:
وهذه الأبيات يرويها بعض أهل الحجاز لكثير، ويرويها الكوفيون للكميت بن معروف الأسدي، وذكر بعضها الزبير بن بكار عن ابن عبيدة لكثير في أخباره. ومن حسن غزله في مخاطبة النساء — قال مصعب الزبيري: وقد أجمع أهل بلدنا ممن له علم بالشعر أن هذه الأبيات أغزل ما سمعوا — قوله:
ومن عفة مقاله قوله:
ومن قلة انتقاله قوله:
ومن إثباته الحجة قوله:
ومن ترجيحه الشك في موضع اليقين قوله:
ومن طلاوة اعتذاره قوله:
ومن نهجه العلل قوله:
ومن فتحه الغزل قوله:
ومن عطفه المساءة على العذال قوله:
ومن حسن تفجعه قوله:
ومن تخيله المنازل قوله:
ومن اختصاره الخبر قوله:
قال الزبير حدثني إسحاق الموصلي قال: قلت لأعرابي: ما معنى قول ابن أبي ربيعة:
فقال: قام كما جلس.
ومن صدقه الصفاء قوله:
وقوله:
ومما قدح فيه فأورى قوله:
وقالوا: ومن شعره الذي اعتذر فيه فأبرأ قوله:
ومن تشكيه الذي أشجى فيه قوله:
ومن إقدامه عن خبرة ولم يعتذر بغرة قوله:
ومن أسره النوم قوله:
ومن غمه الطير قوله:
تتغبر من قولهم: غبر فلان، أي لبث.
ومن تحييره ماء الشباب قوله:
ومن تقويله وتسهيله قوله:
وأما ما قاس فيه الهوى فقوله:
ومن عصيانه وإخلائه قوله:
ومن محالفته بسمعه وطرفه قوله:
ومن إبرامه نعت الرسل قوله:
ومن تحذيره قوله:
ومن إعلانه الحب وإسراره قوله:
ومما أبطن فيه وأظهر قوله:
ومما ألح فيه وأسف قوله:
ومن إنكاحه النوم قوله:
ومن جنيه الحديث قوله:
ومن ضربه الحديث ظهره لبطنه قوله:
ومن إذلاله صعب الحديث قوله:
ومن قناعته بالرجاء من الوفاء قوله:
قال الزبير: هذا أحسن من قول كثير:
ومن إعلائه قاتله قوله:
ومن تنفيضه النوم قوله:
ومن إغلاقه رهن منى وإهداره قتلاه قوله:
ومن شعره المشهور قوله:
ومن شعره قوله في فاطمة بنت محمد بن الأشعث الكندية:
وشبب عمر بن أبي ربيعة بزينب بنت موسى الجمحية في قصيدته التي يقول فيها:
وكان سبب ذكره لها أن ابن أبي عتيق ذكرها عنده يومًا فأطراها ووصف من عقلها وأدبها وجمالها ما شغل قلب عمر وأماله إليها، فقال فيها الشعر وشبب بها، فبلغ ذلك ابن أبي عتيق، فلامه فيه وقال له: أتنطق الشعر في ابنة عمي؟ فقال عمر:
وأنشد ابن أبي عتيق قول عمر:
قال: فقال ابن أبي عتيق: أمنا يسخر ابن أبي ربيعة؟ فأي محرم بقى! ثم أتى عمر فقال له: يا عمر، ألم تخبرني أنك ما أتيت حرامًا قط؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قولك:
ما معناه؟ قال: والله لأخبرنك: خرجت أريد المسجد وخرجت زينب تريده، فالتقينا فاتعدنا لبعض الشعاب، فلما توسطنا الشعب أخذتنا السماء، فكرهت أن يرى بثيابها بلل المطر، فيقال لها: ألا استترت بسقائف المسجد إن كنت فيه! فأمرت غلماني فسترونا بكساء خز كان علي، فذلك حين أقول:
فقال له: ابن أبي عتيق: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة!
ومن جيد شعره قوله في زينب بنت موسى:
وقوله فيها أيضًا:
ومن شعر عمر في تشوقه إلى مكة بعد أن خرج منها إلى اليمن قوله:
وقال أيضًا:
ومن شعره قوله:
وقد كان عمر حين أسن حلف ألا يقول بيت شعر إلا أعتق رقبة، فانصرف عمر إلى منزله يحدث نفسه، فجعلت جارية له تكلمه فلا يرد عليها جوابًا، فقالت له: إن لك لأمرًا، وأراك تريد أن تقول شعرًا، فقال:
ثم دعا تسعة من رقيقه فأعتقهم بكل بيت واحدًا.
وله:
وله:
وله:
وفيها يقول:
وله في النوار وقد شغلت قلبه:
اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن حديثه فتشوقن إليه وتمنينه، فقالت سكينة بنت الحسين عليهما السلام: أنا لكن به، فأرسلت إليه رسولًا وواعدته الصورين، وسمت له الليلة والوقت وواعدت صواحباتها، فوافاهن عمر على راحلته، فحدثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن، فقال لهن: والله إني لمحتاج إلى زيارة قبر رسول الله ﷺ والصلاة في مسجده ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئًا، ثم انصرف إلى مكة وقال:
وقال فيها:
وقال في جاريته بغوم:
وكان يهوى حميدة جارية ابن تفاحة؛ وفيها يقول:
وفيها يقول:
وله في هند:
وله:
وله:
بينا عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت إذ رأى عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وكانت من أجمل أهل دهرها، وهي تريد الركن تستلمه، فبهت لما رآها ورأته، وعلمت أنها قد وقعت في نفسه، فبعثت إليه بجارية لها وقالت: قولي له: اتق الله ولا تقل هُجْرًا، فإن هذا مقام لا بد فيه مما رأيت؛ فقال للجارية: أقرئيها السلام وقولي لها: ابن عمك لا يقول إلا خيرًا؛ وقال فيها:
وله:
فلما قرأت الشعر قالت لها: إنه خداع ملق وليس لما شكاه أصل؛ قالت: يا مولاتي، فما عليك من امتحانه؟ قالت: قد أذنت له وما زال حتى ظفر ببغيته! فقولي له: إذا كان المساء فليجلس في موضع كذا وكذا حتى يأتيه رسولي؛ فانصرفت الجارية فأخبرته فتأهب لها، فلما جاءه رسولها مضى معه حتى دخل إليها وقد تهيأت أجمل هيئة، وزينت نفسها ومجلسها وجلست له من وراء ستر، فسلم وجلس، فتركته حتى سكن ثم قالت له: أخبرني عنك يا فاسق! ألست القائل:
ورأى عمر لبابة بنت عبد الله بن العباس امرأة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان تطوف بالبيت فرأى أحسن خلق الله، فكاد عقله يذهب، فسأل عنها فأخبر بنسبها، فنسب بها وقال فيها:
وحجت رملة بنت عبد الله بن خلف الخزاعية فقال فيها:
وقال في الثريا وقد صرمته:
ومن شعره:
وهي قصيدة طويلة مذكورة في شعره.
وله:
وقال:
وقال:
وله أيضًا:
وهو القائل:
وقال أيضًا:
نظر عمر بن أبي ربيعة في الطواف إلى امرأة شريفة فرأى أحسن خلق الله صورة، فذهب عقله عليها وكلمها فلم تجبه؛ فقال فيها:
فبلغها شعره فجزعت منه، فقيل لها: اذكريه لزوجك، فإنه سينكر عليه قوله، فقالت: كلا والله لا أشكوه إلا إلى الله، ثم قالت: اللهم إن كان نوه باسمي ظالمًا فاجعله طعامًا للريح، فضرب الدهر من ضربه؛ ثم إنه غدا يومًا على فرس فهبت ريح فنزل فاستتر بسلمة، فعصفت الريح فخدشه غصن منها، فدمي وورم به ومات من ذلك.
(١-٢) الغزل العذري
جميل
ثم قال له: أنشدنا هزجًا؛ قال: وما الهزج؟ لعله القصير! قال: نعم، فأنشده:
ثم اقتاد راحتله موليًا؛ فقال ابن الأزهر: هذا أشعر أهل الإسلام؛ فقال ابن حسان: نعم والله وأشعر أهل الجاهلية، والله ما لأحد منهم مثل هجائه ولا نسيبه؛ فقال عبد الرحمن ابن الأزهر: صدقت.
قال محمد بن سلام: كان لكثير في النسيب حظ وافر، وجميل مقدم عليه وعلى أصحاب النسيب في النسيب، وكان جميل صادق الصبابة والعشق، ولم يكن كثير بعاشق ولكنه كان يتقول، وكان الناس يستحسنون بين كثير في النسيب، وهو:
ورأيت من يفضل عليه بيت جميل:
قيل إن بثينة واعدت جميلًا أن يلتقيا في بعض المواضع، فأتى لوعدها، وجاء أعرابي يستضيف القوم، فأنزلوه وقروه، فقال لهم: قد رأيت في بطن هذا الوادي ثلاثة نفر متفرقين متوارين في الشجر وأنا خائف عليكم أن يسلبوا بعض إبلكم، فعرفوا أنه جميل وصاحباه، فحرسوا بثينة ومنعوها من الوفاء بوعده، فلما أسفر له الصبح انصرف كئيبًا سيء الظن بها ورجع إلى أهله؛ فجعل نساء الحي يقرعنه بذلك ويقلن له: إنما حصلت منها على الباطل والكذب والغدر، وغيرها أولى بوصلك منها، كما أن غيرك يحظى بها؛ فقال في ذلك:
وقال جميل في وعد بثينة بالتلاقي وتأخرها قصيدة أولها:
ومنها:
ومنها:
وفيه يقول:
وقال في إخلافها إياه هذا الموعد:
فقال أبوها لأخيها: قم بنا، فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها، فانصرفا وتركاهما.
ومن قول جميل:
ومن قوله:
ومنه:
وفيها يقول:
ومن قوله فيها:
وأول هذه القصيدة:
ومنها:
فقال: عد عن هذا؛ فقال جميل:
وطلب ذلك إليه الوليد فقال:
فقال له الوليد: اركب لا حملك الله! وما مدح جميل أحدًا قط.
ومن قول جميل في مراجزة جواس بن قطبة، وكان ذلك بوادي القرى:
ومن قوله يمدح أخواله من جذام:
اجتمع جميل وعمر بن أبي ربيعة بالأبطح، فأنشده جميل قصيدته:
وقال في هجرة هجرته إياها بثينة:
قال الرشيد لإسحاق الموصلي: أنشدني أحسن ما تحب في عتاب محب وهو ظالم متعتب، فأنشده قول جميل:
ومن قوله في زيارة له:
وعذله فيها ابن عمه روق، فقال:
وقال فيها:
ومن قوله فيها:
ومنه:
ومنه:
ومنه:
ومن قوله:
لما قدم جميل من الشأم بلغ بثينة خبره، فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر شوقها إليه ووجدها به، وطلبها للحيلة في لقائه، وواعدته لموضع يلتقيان فيه، فسار إليها وحدثها طويلًا وأخبرها خبره بعدها، وقد كان أهلها رصدوها، فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما، فوثب جميل فانتضى سيفه وشد عليهما، فاتقياه بالحرب، وناشدته بثينة الله إلا انصرف، وقالت له: إن أقمت فضحتني، ولعل الحي يلحقونك، فأبى وقال: أنا مقيم وامضي أنت وليصنعوا ما أحبوا، فلم تزل تناشده حتى انصرف وقال في ذلك، وقد هجرته وانقطع التلاقي بينهما مدة:
وقال:
ورحل إلى مصر فأدركته بها منيته، فزعموا أنه قال حين حضرته الوفاة:
ولما أنشدت بثينة قول جميل قالت:
وقال:
وقال أيضًا:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
وقال أيضًا:
(١-٣) الغزل الصناعي
كثير
وكان قصيرًا، قال الوقاصي: رأيت كثيرًا يطوف بالبيت، فمن حدثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فكذبه. وكان إذا دخل على عبد العزيز بن مروان يقول: طأطئ رأسك لا يصبه السقف. وقال كثير: في أي شيء أعطى هؤلاء الأحوص عشرة آلاف دينار؟ قالوا: في قوله فيهم:
فقال كثير: إنه لضرع قبحه الله! ألا قال كما قلت:
وطلب من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان أرضًا له يقال لها: غُرَّب، وقدم بين يدي طلبه تلك الأبيات:
فقال له: أترغب غربا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: اكتبوها له، ففعلوا.
ونسب كثير لكثرة نسبيه بعزة الضمرية إليها، وعرف بها فقيل: كثير عزة، وهي عزة ابنة حميد بن وقاص. وكان ابتداء عشقه إياها أنه مر بنسوة من بني ضمرة ومعه جلب غنم، فأرسلن إليه عزة وهي صغيرة، فقالت: يقلن لك النسوة: بعنا كبشًا من هذه الغنم وأنسئنا بثمنه إلى أن ترجع، فأعطاها كبشًا، وأعجبته، فلما رجع جاءته امرأة منهن بدارهمه؛ فقال: وأين الصبية التي أخذت مني الكبش؟ قالت: وما تصنع بها وهذه دراهمك؟ قال: لا آخذ دارهمي إلا ممن دفعت الكبش إليها، وخرج وهو يقول:
فكان أول لقائه إياها. ثم قال فيها:
ثم أحبته بعد ذلك عزة أشد من حبة إياها.
قال محمد بن صالح الأسلمي: دخلت عزة على عبد الملك بن مروان وقد عجزت؛ فقال لها: أأنت عزة كثير؟ فقالت: أنا عزة بنت حميد؛ قال: أنت التي يقول لك كثير:
فما الذي أعجبه منك؟ قالت: كلا يا أمير المؤمنين، لقد كنت في عهده أحسن من النار في الليلة القرة. ويروى أنها قالت له: أعجبه مني ما أعجب المسلمين منك حين صيروك خليفة، وكانت له سن سوداء يخفيها، فضحك حتى بدت، فقالت له: هذا الذي أردت أن أبديه؛ فقال لها: هل تروين قوله:
قالت: لا أروي هذا، ولكني أروي قوله:
فأمر بها، فأدخلت على عاتكة بنت يزيد؛ فقالت لها: أرأيت قول كثير:
ما هذا الذي ذكره؟ قالت: قبلة وعدته إياها؛ قالت: أنجزيها وعلي إثمها.
ومما قال فيها:
ومن قوله يمدح عمر بن عبد العزيز:
ومن نسيبه بعزة لما أخرجت إلى مصر:
ومنها:
ومن نسيبه بها:
ومنه:
ومنه:
ومنه:
ومنه:
ومنه:
ومنه:
وله:
وله في مدح عبد الملك بن مروان:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
(١-٤) الغزل القصصي
أخبار قيس بن الملوح (المجنون)٣٢٢
وقال المدائني: المجنون المشهور بالشعر عند الناس صاحب ليلى قيس بن معاذ من بني عامر، ثم من بني عقيل، أحد بني نمير بن عامر بن عقيل، قال: ومنهم رجل آخر يقال له: مهدي بن الملوح من بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
وقال ابن الكلبي: حدثت أن حديث المجنون وشعره وضعه فتى من بني أمية كان يهوى ابنة عم له، وكان يكره أن يظهر ما بينه وبينها، فوضع حديث المجنون وقال الأشعار التي يرويها الناس للمجنون ونسبها إليه.
وعن حماد بن طالوت بن عباد: أنه سأل الأصمعي عنه، فقال: لم يكن مجنونًا، بل كانت به لوثة أحدثها العشق فيه، كان يهوى امرأة من قومه يقال لها ليلى، واسمه قيس ابن معاذ.
وذكر عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه أن اسمه قيس بن معاذ.
وذكر شعيب بن السكن عن يونس النحوي أن اسمه قيس بن الملوح، قال أبو عمرو الشيباني: وحدثني رجل من أهل اليمن أنه رآه ولقيه وسأله عن اسمه ونسبه، فذكر أنه قيس بن الملوح.
وقال الأصمعي: سألت أعرابيًّا من بني عامر بن صعصعة عن المجنون العامري فقال: عن أيهم تسألني؟ فقد كان فينا جماعة رموا بالجنون، فعن أيهم تسأل؟ فقلت: عن الذي كان يشبب بليلى، فقال: كلهم كان يشبب بليلى، قلت: فأنشدني لبعضهم، فأنشدني لمزاحم بن الحارث المجنون:
قلت: فأنشدني لغيره منهم، فأنشدني لمعاذ بن كليب المجنون:
قلت: فأنشدني لغير هذين ممن ذكرت، فأنشدني لمهدي بن الملوح:
قلت له: فأنشدني لمن بقي من هؤلاء، فقال: حسبك! فوالله إن في واحد من هؤلاء لمن يوزن بعقلائكم اليوم.
وقال الجاحظ: ما ترك الناس شعرًا مجهول القائل قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون، ولا شعرًا هذه سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح.
قال أبو الفرج: وأنا أذكر مما وقع إلي من أخباره جملًا مستحسنة، متبرئًا من العهدة فيها، فإن أكثر أشعاره المذكورة في أخباره ينسبها بعض الرواة إلى غيره وينسبها من حكيت عنه إليه، وإذا قدمت هذه الشريطة برئت من عيب طاعن ومتتبع للعيوب.
أخبرني بخبره في شغفه بليلى جماعة من الرواة، ونسخت ما لم أسمعه من الروايات وجمعت ذلك في سياقة خبره ما اتسق ولم يختلف، فإذا اختلف نسبت كل رواية إلى راويها.
فمن أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي، قالا: حدثنا عمر بن شبة عن رجاله وإبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، ونسخت أخباره من رواية خالد بن كلثوم وأبي عمرو الشيباني وابن دأب وهشام بن محمد الكلبي وإسحاق بن الجصاص وغيرهم من الرواة.
قال أبو عمرو الشيباني وأبو عبيدة: كان المجنون يهوى ليلى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وتكنى أم مالك، وهما حينئذ صبيان، فعلق كل واحد منهما صاحبه وهما يرعيان مواشي أهلهما، فلم يزالا كذلك حتى كبرا فحجبت عنه، قال: ويدل على ذلك قوله:
وقال ابن الكلبي: كان سبب عشق المجنون ليلى، أنه أقبل ذات يوم على ناقة له كريمة وعليه حلتان من حلل الملوك، فمر بامرأة من قومه يقال لها: كريمة، وعندها جماعة نسوة يتحدثن، فيهن ليلى، فأعجبهن جماله وكماله، فدعونه إلى النزول والحديث، فنزل وجعل يحدثهن وأمر عبدًا له كان معه فعقر لهن ناقته، وظل يحدثهن بقية يومه، فبينا هو كذلك، إذ طلع عليهم فتى عليه بردة من برد الأعراب يقال له: «منازل» يسوق معزى له، فلما رأينه أقبلن عليه وتركن المجنون، فغضب وخرج من عندهن وأنشأ يقول:
قال: فلما أصبح لبس حلته وركب ناقة له أخرى ومضى متعرضًا لهن، فألفى ليلى قاعدة بفناء بيتها وقد علق حبه بقلبها وهويته، وعندها جويريات يتحدثن معها، فوقف بهن وسلم، فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره؟ فقال:
إي لعمري، فنزل وفعل مثل ما فعله بالأمس، فأرادت أن تعلم، هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت تعرض عن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره، وقد كان علق بقلبه مثل حبها إياه وشغفته واستملحها، فبينا هي تحدثه، إذ أقبل فتى من الحي فدعته وسارته سرارًا طويلًا، ثم قالت له: انصرف، ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وانتقع لونه وشق عليه فعلها، فأنشأت تقول:
فلما سمع البيتين شهق شهقة شديدة وأغمي عليه، فمكث على ذلك ساعة، ونضحوا الماء على وجهه حتى أفاق وتمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه حتى بلغ منه كل مبلغ.
وعن أبي الهيثم العقيلي قال: لما شهر أمر المجنون وليلى وتناشد الناس شعره فيها، خطبها وبذل لها خمسين ناقة حمراء، وخطبها ورد بن محمد العقيلي وبذل لها عشرًا من الإبل وراعيها، فقال أهلها: نحن مخيروها بينكما، فمن اختارت تزوجته، ودخلوا إليها فقالوا: والله لئن لم تختاري وردًا لنمثلن بك، فقال المجنون:
فاختارت وردًا فتزوجته على كره منها.
وقال:
قال أبو الفرج: أنشدني الأخفش عن أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب للمجنون:
وقال:
وقال:
وقال:
وله:
وله:
وروى الأصمعي له قوله:
قال: وهو القائل:
وقال:
وقال:
وقال:
وله:
وبلغ المجنون أن أهل ليلى يريدون نقلها إلى الثقفي فقال:
فلما نقلت ليلى إلى الثقفي قال:
وكان المجنون يسير مع أصحابه فسمع صائحًا يصيح: يا ليلى في ليلة ظلماء أو توهم ذلك، فقال لبعض من معه: أما تسمع هذا الصوت؟ فقال: ما سمعت شيئًا، قال: بلى، والله هاتف يهتف بليلى، ثم أنشأ يقول:
خطب ليلى صاحبة المجنون جماعة من قومها فكرهتهم، فخطبها رجل من ثقيف موسر فرضيته، وكان جميلًا فتزوجها وخرج بها، فقال المجنون في ذلك:
وله:
قيس بن ذريح٤٠٧
من شعر قيس:
وخرج قيس في فتية من قومه واعتل على أبيه بالصيد، فأتى بلاد لبنى، فجعل يتوقع أن يراها أو يرى من يرسل إليها، فاشتغل الفتيان بالصيد، فلما قضوا وطرهم منه رجعوا إليه وهو واقف، فقالوا له: قد عرفنا ما أردت بإخراجنا معك وأنك لم ترد الصيد وإنما أردت لقاء لبنى وقد تعذر عليك، فانصرف الآن؛ فقال:
فأقاموا معه حتى لقيها.
لما ألح ذريح على ابنه قيس في طلاق لبنى فأبى ذلك قيس، طرح ذريح نفسه في الرمضاء وقال: لا والله لا أريم هذا الموضع حتى أموت أو يخليها، فجاءه قومه من كل ناحية فعظموا عليه الأمر وذكروه بالله وقالوا: أتفعل هذا بأبيك وأمك! إن مات شيخك على هذه الحال كنت معينًا عليه وشريكًا في قتله، ففارق لبنى على رغم أنفه وقلة صبره وبكاء منه حتى بكى لهما من حضرهما؛ وأنشأ يقول:
قال: فلما سمعت بذلك لبنى بكت بكاء شديدًا، وأنشأت تقول:
فلما انقضت عدتها وأرادت الشخوص إلى أهلها أتيت براحلة لتحمل عليها، فلما رأى ذلك قيس داخله أمر عظيم واشتد لهفه، وأنشأ يقول:
ثم ارتحلت لبنى، فجعل قيس يقبل موضع رجليها من الأرض وحول خبائها، فلما رأى ذلك قومه أقبلوا على أبيه بالعذل واللوم، فقال ذريح لما رأى حاله تلك: قد جنيت عليك يا بني؛ فقال له قيس: قد كنت أخبرك أني مجنون بها فلم ترض إلا بقتلي، فالله حسبك وحسب أمي. وأقبل قومه يعذلونه في تقبيل التراب، فأنشأ يقول:
وله قصيدة طويلة في تطليقه لبنى يقول فيها:
واجتمع إليه نسوة فأطلن الجلوس عنده وحادثنه وهو ساه عنهن، ثم نادى: يا لبنى، فقلن له: ما لك ويحك؟ فقال: خدرت رجلي ويقال: إن دعاء الإنسان باسم أحب الناس إليه يذهب خدر الرجل، فناديتها لذلك. وقال:
ومرض قيس، فسأل أبوه فتيات الحي أن يعدنه ويحدثنه أو يعلق بعضهن، ففعلن ذلك، ودخل إليه طبيب ليداويه والفتيات معه، فلما اجتمعن عنده جعلن يحادثنه وأطلن السؤال عن سبب علته، فقال:
فقال له الطبيب: إن مما يسليك عنها أن تتذكر ما فيها من المساوئ والمعايب، فإن النفس تنبو حينئذ وتسلو ويخف ما بها.
فلما طال على قيس ما به أشار قومه على أبيه بأن يزوجه امرأة جميلة فلعله يسلو بها عن لبنى، فدعاه إلى ذلك فأباه وقال:
وقال في رحيل لبنى عن وطنها وانتقالها إلى زوجها بالمدينة وهو مقيم في حيها:
وشكا أبو لبنى لمعاوية تعرض قيس لابنته بعد طلاقها، فكتب معاوية إلى الأمير يهدر دمه إن ألم بها، وأن يشتد في ذلك؛ فكتب مروان في ذلك إلى صاحب الماء الذي ينزله أبو لبنى كتابًا وكيدًا، ووجهت لبنى رسولًا إلى قيس تعلمه ما جرى وتحذره؛ وبلغ أباه الخبر، فعاتبه وتجهمه، وقال له: انتهى بك الأمر إلى أن يهدر السلطان دمك؛ فقال:
وقال في إهدار معاوية دمه إن هو زارها:
ولما انصرف الناس من الحج مرض قيس مرضًا شديدًا فلم يأته رسولها عائدًا، فقال:
ومن شعره قوله:
وقوله:
وقالت له لبنى: أنشدني ما قلت في علتك، فأنشدها قوله:
وفيها يقول:
وعاتبته على تزوجه، فحلف أنه لم ينظر إليها ملء عينيه، ثم قال:
فلم يزل معها يحدثها ويشكو إليها حتى أمسى، فانصرفت ووعدته الرجوع إليه من غد فلم ترجع، وشاع خبره، فلم ترسل إليه رسولًا، فكتب هذين البيتين:
وقال ابن أبي عتيق لقيس يومًا: أنشدني أحر ما قلت في لبنى؛ فأنشده:
وقال عبد الملك بن عبد العزيز: أنشدت أبا السائب المخزومي قول قيس:
(١-٥) الشعر السياسي
أوضحنا لك في المجلد الأول ما لاستعمال الشعر من أثر في كثير من الحركات السياسية واستحثاث العزمات وإنهاض الهمم في الانقلابات الاجتماعية، وبينا ميزة استعمال الشعر في الأغراض السياسية في عصر الدولة الأموية، وذكرنا عدة أمثلة تبين ما وصل إليه هذا النوع الطريف، ووعدناك بذكر قصيدة النعمان بن بشير في هذا الباب. وها هي ذي:
النعمان بن بشير٤٣٥
قال أبو الفرج الأصبهاني:
دخل النعمان بن بشير على معاوية لما هجا الأخطل الأنصار، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:
فلما بلغت القصيدة معاوية أمر بدفع الأخطل إليه ليقطع لسانه، فاستجار بيزيد ابن معاوية، فمنعه منه، وأرضى النعمان حتى كف عنه.
وقال عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه: لما ضرب مروان بن الحكم عبد الرحمن ابن حسان الحد، ولم يضرب أخاه حين تهاجيا وتقاذفا، كتب عبد الرحمن إلى النعمان ابن بشير يشكو إليه، فدخل إلى معاوية، وأنشأ يقول:
هوامش
ولد بالمدينة ليلة مات عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وكانت أمه نصرانية، وكان أبوه تاجرًا موسرًا، وعاملًا لرسول الله ﷺ وللخلفاء الثلاثة من بعده، فشب في نعيم وترف، وقال الشعر صغيرًا، وسلك فيه طريق الغزل، ووصف أحوال النساء وتزاورهن ومداعبة بعضهن البعض، وما يعتدن قوله من الكلام، مما يتوقر الشعراء الفحول عن الخوض فيه، ولذلك لم يحفلوا بشعره وعدوه من هذيان خلعاء المدينة، فما زال يعالج الشعر والشعر ينقاد له، حتى ملك ناصيته، وقبض على زمامه، وبز الشعراء، وقال رائيته المشهورة على طريقته المبتكرة وهي التي أولها:
ثم استطار شره في التشبيب بالنساء: من يعرفها ومن لا يعرفها، وتعرض للمحصنات المتعففات من نساء قومه ومن غيرهن، فوقعن منه في بلاء عظيم وصرن يخفن الخروج إلى الحج لأنه كان يتلقاهن بمكة، ويترقب خروجهن للطواف والسعي ويصفهن وهن محرمات. وحلمت عليه رجالات قريش لمكانة نسبه منهم ولترقب توبته وإقلاعه، فلما تمادى في أمره وشبب ببنات السادات والخلفاء، غضب عليه عمر بن عبد العزيز ونفاه إلى دهلك: (وهي جزيرة أمام مدينة مصوع)، ثم رأى ابن أبي ربيعة أن يكفر عن سيئاته بالتوبة والجهاد فعزا في البحر فاحترقت السفينة التي كان فيها واحترق هو أيضًا سنة ٩٣ﻫ، وقد اقتبسنا تصدير بحثنا عنه عن أبي الفرج الأصفهاني، وتجد ترجمته مطولة في الأغاني ج١ ص٦١–٢٤٨ (طبعة دار الكتب المصرية) والشعر والشعراء ص٣٤٨ وابن خلكان (ج١ ص٧٨٣) والدميري (ج١ ص٣٢٦) والعقد الفريد (ج٣ ص١٣٢) وله ديوان مطبوع في ليبزج سنة ١٨٩٣ وفي مصر سنة ١٣١١ ومنه نسختان خطيتان بدار الكتب المصرية.
وكان عند بثينة ما عند جميل، ولما رأت مناضلته عنها زادت شغفًا به، ولكنهما لم يكونا يجتمعان إلا خلسة على موعد، ولم يكن جميل يخلو من الرقباء، لكنهم لم يستطيعوا رميه بريبة. وأخباره معها كثيرة لا يسعها هذا المقام. ولم يزل يجتمع بها سرًا عن أهلها، فألحوا بالشكوى منه إلى العامل، ففر إلى اليمن حتى عزل العامل، وانتجع أهل بثينة الشام، فرحل جميل إليهم، فترصدوه وشكوه إلى عشيرته، فعنفه أهله وهددوه، فانقطع عنها، وأخيرًا لجأ إلى مصر، وعاملها عبد العزيز بن مروان، فأحسن وفادته، ومرض هناك ومات. وكان طويل القامة عريض بين المنكبين جميل الخلقة حسن البزة، توفي سنة ٨٢ﻫ.
ولجميل ديوان شعر كبير كان مشهورًا في أيام ابن خلكان ولم نقف على خبره، ولكن منه أشعارًا مجموعة في كتاب منه نسخة خطية في مكتبة براين.
انظر الكلام على جميل في الأغاني ج٧ ص٧٧ وج١ ص٨٠ وابن خلكان ج١ ص١١٥ وخزانة الأدب ج١ ص١٩١ والشعر والشعراء ص٢٦٠.
واتفق خروجهم إلى مصر في عام الجلاء، فتبعهم على راحلته فزجروه فأبى إلا أن يلحقهم، فتربص له بعضهم في بعض الطريق وقبضوا عليه وجعلوه في جيفة حمار وربطوها عليه فمر به صديقه خندق فأطلقه وألحقه ببلاده. وكان كثير دميمًا قليلًا أحمر أقيشر عظيم الهامة قبيحًا. وأكثر أشعاره في عزة هذه. توفي سنة ١٠٥ﻫ، وأخباره كثيرة تجدها في الأغاني (ج١١ ص٤٦) و(ج٨ ص٢٧) و(ج٧ ص٧٨) والشعر والشعراء (ص٣١٦) وابن خلكان (ج١ ص٤٣٣) والعقد الفريد (ج١ ص١١٥ و٢٠٣) وخزانة الأدب (ج٢ ص٣٨١) وله ديوان شرحه أبو عبد الله الرشيدي منه نسخة خطية في الاسكوريال.