شرحنا لك في المجلد الأول ما كانت عليه الكتابة في عصر العباسيين من جودة اللفظ،
ومتانة الأسلوب، وجلاء المعنى، ووضوح القصد وبساطته. ووعدناك بذكر طرف من رسائل القوم
في ذلك العصر الزاهي الزاهر؛ وإليك ما وعدناك به:
(١) مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد: هذا ما تراجع فيه المهدي ووزراؤه وما دار بينهم
من تدبير الرأي في حرب خراسان أيام تحاملت عليهم العمال وأعنفت، فحملتهم الدالة وما
تقدم لهم من المكانة على أن نكثوا بيعتهم، ونقضوا موثقهم، وطردوا العمال، والتووا
بما عليهم من الخراج؛ وحمل المهدي ما يحب من مصلحتهم ويكره من عنتهم على أن أقال
عثرتهم، واغتفر زلتهم، واحتمل دالتهم، تطولا بالفضل واتساعًا بالعفو، وأخذًا بالحجة
ورفقًا بالسياسة؛ ولذلك لم يزل مذ حلمه الله أعباء الخلافة وقلده أمور الرعية
رفيقًا بمدار سلطانه، بصيرًا بأهل زمانه، باسطًا للمعدلة في رعيته، تسكن إلى كنفه
وتأنس بعفوه وتثق بحلمه؛ فإذا وقعت الأقضية اللازمة والحقوق الواجبة، فليس عنده
هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة، أثرة للحق وقيامًا بالعدل وأخذًا بالحزم؛ فدعا أهل
خراسان الاغترار بحلمه والثقة بعفوه أن كسروا
١ الخراج وطردوا العمال وسألوا ما ليس لهم من الحق، ثم خلطوا احتجاجًا
باعتذار، وخصومة بإقرار، وتنصلًا باعتلال؛ فلما انتهى ذلك إلى المهدي خرج إلى مجلس
خلائه وبعث إلى نفر من لحمته ووزرائه، فأعلمهم الحال واستنصحهم للرعية، ثم أمر
الموالي بالابتداء، وقال للعباس بن محمد: أي عم! تعقب قولنا وكن حكمًا بيننا؛ وأرسل
إلى ولديه موسى وهارون، فأحضرهما الأمر وشاركهما في الرأي، وأمر محمد بن
٢ الليث بحفظ مراجعتهم، وإثبات مقالتهم في كتاب.
فقال سلام
٣ صاحب المظالم: أيها المهدي، إن في كل أمر غاية، ولكل قوم صناعة؛
استفرغت رأيهم، واستغرقت أشغالهم، واستنفدت أعمارهم، وذهبوا بها وذهبت بهم، وعرفوا
بها وعرفت بهم؛ ولهذه الأمور التي جعلتنا فيها غاية، وطلبت معونتنا عليها أقوام من
أبناء الحرب وساسة الأمور وقادة الجنود وفرسان الهزاهز
٤ وإخوان التجارب، وأبطال الوقائع؛ الذين رشحتهم سجالها، وفيأتهم ظلالها،
وعضتهم شدائدها، وقرمتهم نواجذها؛ فلو عجمت ما قبلهم، وكشفت ما عندهم؛ لوجدت نظائر
تؤيد أمرك، وتجارب توافق نظرك، وأحاديث تقوي قلبك؛ فأما نحن معاشر عمالك، وأصحاب
دواوينك، فحسن بنا وكثير منا أن نقوم بثقل ما حملتنا من عملك، واستودعتنا من
أمانتك، وشغلتنا به من إمضاء عدلك، وإنفاذ حكمك، وإظهار حقك.
فأجابه المهدي: إن في كل قوم حكمة، ولكل زمان سياسة، وفي كل حال تدبيرًا يبطل
الآخر الأول، ونحن أعلم بزماننا وتدبير سلطاننا.
قال: نعم أيها المهدي، أنت متبع الرأي، وثيق العقدة، قوي المنة،
٥ بليغ الفطنة، معصوم النية، محضور الروية، مؤيد البديهة، موفق العزيمة،
معان بالظفر، مهدي إلى الخير؛ إن هممت نفى عزمك مواقع الظن، وإن اجتمعت صدع فعلك
ملتبس الشك؛ فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك، وقل ينطق الله بالحق لسانك؛ فإن جنودك
جمة، وخزائنك عامرة، ونفسك سخية، وأمرك نافذ.
فأجابه المهدي: إن المشاورة والمناظرة بابا رحمة، ومفتاحا بركة؛ لا يهلك عليهما
رأي، ولا يتغيل
٦ معهما حزم، فأشيروا برأيكم، وقولوا بما يحضركم؛ فإني من ورائكم، وتوفيق
الله من وراء ذلك.
قال الربيع: أيها المهدي، إن تصاريف وجوه الرأي كثيرة، وإن الإشارة ببعض
معاريض
٧ القول يسيرة؛ ولكن خراسان أرض بعيدة المسافة، متراخية الشقة، متفاوتة
السبيل؛ فإذا ارتأيت من محكم التدبير، ومبرم التقدير، ولباب الصواب، رأيًا قد أحكمه
نظرك، وقلبه تدبيرك، فليس وراءه مذهب طاعن، ولا دونه معلق لخصومة عائب؛ ثم أجبت
البرد به، وانطوت الرسل عليه، كان بالحرى ألا يصل إليهم محكمه إلا وقد حدث منهم ما
ينقضه؛ فما أيسر أن ترجع إليك الرسل، وترد عليك الكتب بحقائق أخبارهم، وشوارد
آثارهم، ومصادر أمورهم؛ فتحدث رأيًا غيره وتبتدع تدبيرًا سواه؛ وقد انفرجت الحلق،
وتحللت العقد، واسترخى الحقاب،
٨ وامتد الزمان، ثم لعلما موقع الآخرة كمصدر الأولى؛ ولكن الرأي لك أيها
المهدي — وفقك الله — أن تصرف إجالة النظر، وتقليب الفكر، فيما جمعتنا له،
واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم، والحيل في أمرهم، إلى الطلب لرجل ذي دين فاضل،
وعقل كامل، وورع واسع، ليس موصوفًا بهوى في سواك، ولا متهمًا في أثرة عليك، ولا
ظنينًا
٩ على دخلة مكروهة، ولا منسوبًا إلى بدعة محذورة؛ فيقدح في ملكك،
ويربض
١٠ الأمور لغيرك؛ ثم تسند إليه أمورهم، وتفوض إليه حربهم، وتأمره في عهدك
ووصيتك إياه بلزوم أمرك ما لزمه الحزم، وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي عند استحالة
الأمور، واشتداد الأحوال التي ينقض أمر الغائب عنها، ويثبت رأي الشاهد لها؛ فإنه
إذا فعل ذلك فواثب أمرهم من قريب، وسقط عنه ما يأتي من بعيد، تمت الحيلة وقويت
المكيدة، ونفذ العمل وأحد النظر، إن شاء الله.
قال الفضل بن العباس: أيها المهدي، إن ولي الأمور وسائس الحروب ربما نحى جنوده،
وفرق أمواله في غير ما ضيق أمر حزبه، ولا ضغطة حال اضطرته؛ فيقعد عند الحاجة إليها،
وبعد التفرقة لها عديمًا منها فاقدًا لها، لا يثق بقوة، ولا يصول بعدة، ولا يفزع
إلى ثقة؛ فالرأي لك أيها المهدي — وفقك الله — أن تعفي خزائنك من الإنفاق للأموال،
وجنودك من مكابدة الأسفار، ومقارعة الأخطار، وتغرير القتال، ولا تسرع للقوم في
الإجابة إلى ما يطلبون، والعطاء لما يسألون؛ فيفسد عليك أدبهم، وتجرئ من رعيتك
غيرهم؛ ولكن اغزهم بالحيلة، وقاتلهم بالمكيدة، وصارعهم باللين، وخاتلهم بالرفق،
وأبرق
١١ لهم بالقول، وأرعد نحوهم بالفعل؛ وابعث البعوث،
١٢ وجند الجنود، وكتب الكتائب، واعقد الألوية، وانصب الرايات، وأظهر أنك
موجه إليهم الجيوش مع أحنق قوادك عليهم، وأسوئهم أثرًا فيهم؛ ثم ادسس الرسل، وابثث
الكتب، وضع بعضهم على طمع من وعدك، وبعضًا على خوف من وعيدك؛ وأوقد بذلك وأشباهه
نيران التحاسد فيهم، واغرس أشجار التنافس بينهم، حتى تملأ القلوب من الوحشة، وتنطوي
الصدور على البغضة، ويدخل كلًّا من كل الحذرُ والهيبة؛ فإن مرام الظفر بالغيلة،
والقتال بالحيلة، والمناصبة بالكتب، والمكايدة بالرسل، والمقارعة بالكلام اللطيف
المدخل في القلوب، القوي الموقع من النفوس، المعقود بالحجج، الموصول بالحيل، المبني
على اللين الذي يستميل القلوب؛ ويسترق العقول والآراء، ويستميل الأهواء، ويستدعي
المواتاة، أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح؛ كما أن الوالي الذي يستنزل
طاعة رعيته بالحيل، ويفرق كلمة عدوه بالمكايدة، أحكم عملًا وألطف منظرًا وأحسن
سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال، والإتلاف للأموال والتغرير
والخطار.
١٣
وليعلم المهدي أنه إن وجه لقتالهم رجلًا لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة، تخرج عن
حال شديدة، وتقدم على أسفار ضيقة، وأموال متفرقة، وقواد غششة؛ إن ائتمنهم استنفدوا
ما له، وإن استنصحهم كانوا عليه لا له.
قال المهدي: هذا رأي قد أسفر نوره، وأبرق ضوءه، وتمثل صوابه للعيون، ومجد حقه في
القلوب، ولكن فوق كل ذي علم عليم؛ ثم نظر إلى ابنه علي فقال: ما تقول؟
قال علي: أيها المهدي، إن أهل خراسان لم يخلعوا عن طاعتك، ولم ينصبوا من دونك
أحدًا يقدح في تغيير ملكك، ويربض الأمور لفساد دولتك؛ ولو فعلوا لكان الخطب أيسر،
والشأن أصغر والحال أدل، لأن الله مع حقه الذي لا يخذله، وعند موعده الذي لا يخلفه،
ولكنهم قوم من رعيتك، وطائفة من شيعتك الذين جعلك الله عليهم واليًا، وجعل العدل
بينك وبينهم حاكمًا، طلبوا حقًّا، وسألوا إنصافًا، فإن أجبت إلى دعوتهم
ونفست
١٤ عنهم قبل أن يتلاحم منهم حال، أو يحدث من عندهم فتق، أطعت أمر الرب،
وأطفأت نائرة
١٥ الحرب، ووفرت خزائن المال، وطرحت تغرير القتال، وحمل الناس محمل ذلك
على طبيعة جودك، وسجية حلمك، وإسجاح
١٦ خليقتك، ومعدلة نظرك، فأمنت أن تنسب إلى ضعف، وأن يكون ذلك فيما بقي
دربة؛ وإن منعتهم ما طلبوا ولم تجبهم إلى ما سألوا، اعتدلت بك وبهم الحال، وساويتهم
في ميدان الخطاب؛ فما أرب المهدي أن يعمد إلى طائفة من رعيته، مقرين بمملكته،
مذعنين لطاعته، لا يخرجون أنفسهم عن قدرته، ولا يبرئونها من عبوديته، فيملكهم
أنفسهم ويخلع نفسه عنهم، ويقف على الحيل معهم، ثم يجازيهم السوء في حد المنازعة
ومضمار المخاطرة؛ أيريد المهدي — وفقه الله — الأموال؟ فلعمري لا ينالها ولا يظفر
بها إلا بإنفاق أكثر منها، مما يطلب منهم وأضعاف ما يدعي قبلهم، ولو نالها فحملت
إليه، أو وضعت بخرائطها
١٧ بين يديه، ثم تجافى لهم عنها وطال عليهم بها، لكان مما إليه ينسب وبه
يعرف من الجود الذي طبعه الله عليه، وجعل قرة عينه ونهمة نفسه فيه.
فإن قال المهدي: هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمالنا،
وتحامل ولاتنا؛ فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود، وأنطقوا لسان
الإرجاف
١٨ وفتحوا باب المعصية، وكسروا قيد الفتنة، فقد ينبغي لهم أن أجعلهم
نكالًا لغيرهم وعظة لسواهم؛ فيعلم المهدي أنه لو أتى بهم مغلولين في الحديد، مقرنين
في الأصفاد؛ ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه، ولإقالة عثرتهم صفحه؛ واستبقاهم لما هم فيه
من حزبه، أو لمن بإزائهم من عدوه، لما كان بدعًا من رأيه، ولا مستنكرًا من نظره،
لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوًا، وأشدها وقعًا، وأصدقها صولة؛ وأنه
لا يتعاظمه عفو، ولا يتكاءده
١٩ صفح، وإن عظم الذنب وجل الخطب، فالرأي للمهدي — وفقه الله تعالى — أن
يحل عقدة الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم، وأن يذكر أولى حالاتهم وضيعة
عيالاتهم، برًّا بهم وتوسعًا لهم؛ فإنهم إخوان دولته، وأركان دعوته، وأساس حقه
الذين بعزتهم يصول، وبحجتهم يقول، وإنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطه، وتعرضوا
له من معاصيه، وانطووا فيه عن إجابته، ومثله في قلة ما غير ذلك من رأيه فيهم، أو
نقل من حاله لهم، أو تغير من نعمته بهم، كمثل رجلين أخوين متناصرين متآزرين، أصاب
أحدهما خبل عارض، ولهو حادث، فنهض إلى أخيه بالأذى، وتحامل عليه بالمكروه، فلم يزدد
أخوه إلا رقة له ولطفًا به، واحتيالًا لمداواة مرضه ومراجعة حاله؛ عطفًا عليه
وبرًّا به ومرحمة له.
فقال المهدي: أما علي فقد كوى سمت اللبان، وفض القلوب في أهل خراسان، ولكل نبأ
مستقر، ثم قال: ما ترى يا أبا محمد؟ يعني موسى ابنه.
فقال موسى: أيها المهدي، لا تسكن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم، وأنت
ترى الدماء تسيل من خلل فعلهم؛ الحال من القوم ينادي بمضمرة شر، وخفية حقد؛ قد
جعلوا المعاذير عليها سترا، واتخذوا العلل من دونها حجابا؛ رجاء أن يدفعوا الأيام
بالتأخير، والأمور بالتطويل؛ فيكسروا حيل المهدي فيهم، ويفنوا جنوده عنهم حتى
يتلاحم أمرهم، وتتلاحق مادتهم، وتستفحل حربهم، وتستمر الأمور بهم؛ والمهدي من قولهم
في حال غرة ولباس أمنة، قد فتر لها وأنس بها وسكن إليها؛ ولولا ما اجتمعت به
قلوبهم، وبردت عليه جلودهم من المناصبة بالقتال، والإضمار للقراع عن داعية ضلال، أو
شيطان فساد، لرهبوا عواقب أخبار الولاة، وغب سكون الأمور؛ فليشدد المهدي — وفقه
الله — أزره لهم ويكتب كتائبه نحوهم، وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم، وليوقن
أنه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم إلا كانت دربة إلى فسادهم، وقوة على معصيتهم،
وداعية إلى عودتهم؛ وسببًا لفساد من بحضرته من الجنود، ومن ببابه من الوفود، الذين
إن أقرهم وتلك العادة، وأجراهم على ذلك الأرب، ولم يبرح في فتق حادث وخلاف حاضر؛ لا
يصلح عليه دين، ولا تستقيم به دنيا؛ وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة، واستمرار
الدربة، لم يصل إلى ذلك إلا بالعقوبة المفرطة، والمئونة الشديدة، والرأي للمهدي —
وفقه الله — ألا يقيل عثرتهم، ولا يقبل معذرتهم، حتى تطأهم الجيوش، وتأخذهم السيوف،
ويستحر
٢٠ بهم القتل، ويحدق بهم الموت، ويحيط بهم البلاء، ويطبق عليهم الذل؛ فإن
فعل المهدي بهم ذلك، كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم، وهزيمة لكل بادرة شر منهم،
واحتمال المهدي مئونة غزوتهم هذه يضع عنه غزوات كثيرة، ونفقات عظيمة.
قال المهدي: قد قال القوم فاحكم يا أبا الفضل.
فقال العباس بن محمد: أيها المهدي: أما الموالي فأخذوا بفروع الرأي، وسلكوا جنبات
الصواب، وتعدوا أمورًا قصر بنظرهم عنها أنه لم تأت تجاربهم عليها.
وأما الفضل فأشار بالأموال ألا تنفق، والجنود ألا تفرق، وبألا يعطي القوم ما
طلبوا، ولا يبذل لهم ما سألوا، وجاء بأمر بين ذلك استصغارًا لأمرهم واستهانة
بحربهم؛ وإنما يهيج جسيمات الأمور صغارها.
وأما علي فأشار باللين وإفراط الرفق، وإذا جرد الوالي لمن غمط
٢١ أمره وسفه حقه، اللين بحتًا والخير محضًا، لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب
عن لينه، ولا بشر يحبسهم إلى خيره، فقد ملَّكهم الخلع لعذرهم
٢٢ ووسع لهم الفرجة لثنى أعناقهم؛ فإن أجابوا دعوته وقبلوا لينه من غير
خوف اضطرهم ولا شدة، فنزوة
٢٣ في رءوسهم يستدعون بها البلاء إلى أنفسهم، ويستصرخون بها رأي المهدي
فيهم؛ وإن لم يقبلوا دعوته ويسرعوا لإجابته باللين المحض والخير الصراح، فذلك ما
عليه الظن بهم والرأي فيهم، وما قد يشبه أن يكون من مثلهم، لأن الله تعالى خلق
الجنة وجعل فيها من النعيم المقيم والملك الكبير ما لا يخطر على قلب بشر ولا تدركه
الفكر ولا تعلمه نفس؛ ثم دعا الناس إليها ورغبهم فيها، فلولا أنه خلق نارًا جعلها
لهم رحمة يسوقهم بها إلى الجنة، لما أجابوا لا قبلوا.
وأما موسى فأشار بأن يعصبوا
٢٤ بشدة لا لين فيها، وأن يرموا بشر لا خير معه، وإذا أضمر الوالي لمن
فارق طاعته، وخالف جماعته، الخوف مفردًا، والشر مجردًا، ليس معهما طمع ولا لين
يثنيهم، اشتدت الأمور بهم، وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين: إما أن تدخلهم الحمية
من الشدة، والأنفة من الذلة، والامتعاض من القهر؛ فيدعهم ذلك إلى التمادي في
الخلاف، والاستبسال في القتال، والاستسلام للموت؛ وإما أن ينقادوا بالكره، ويذعنوا
بالقهر على بغضة لازمة، وعدواة باقية، تورث النفاق وتعقب الشقاق؛ فإذا أمكنتهم
فرصة، أو ثابت لهم قدرة، أو قويت لهم حال؛ عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشد مما
كان.
وقال في قول الفضل: أيها المهدي، أكفى دليل، وأوضح برهان، وأبين خبر بان؛ قد أجمع
رأيه وحزم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم، وتوجيه البعوث نحوهم، مع إعطائهم
ما سألوا من الحق، وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل.
قال المهدي: ذلك رأى.
قال هارون: ما خلطت الشدة أيها المهدي باللين، وانتظم أمر الدنيا بالدين، فصارت
الشدة أمر فطام
٢٥ لما تكره، وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب؛ ولكن أرى غير ذلك.
قال المهدي: لقد قلت قولًا بديعًا، خالفت فيه أهل بيتك جميعًا؛ والمرء مؤتمن بما
قال، وظنين
٢٦ بما ادعى حتى يأتي ببينة عادلة، وحجة ظاهرة، فاخرج عما قلت.
قال هارون: أيها المهدي، إن الحرب خدعة، والأعاجم قوم مكرة؛ وربما اعتدلت الحال
بهم، واتفقت الأهواء منهم؛ فكان باطن ما يسرون على ظاهر ما يعلنون، وربما افترقت
الحالان، وخالف القلب اللسان، فانطوى القلب على محجوبة تبطن، واستسر بمدخولة لا
تعلن؛ والطبيب الرفيق بطبه، البصير بأمره، العالم بمقدم يده وموضع ميسمه؛
٢٧ لا يتعجل بالدواء، حتى يقع على معرفة الداء، فالرأي للمهدي — وفقه الله
— أن يفر باطن أمرهم فر
٢٨ المسنة، ويمخض ظاهر حالهم مخض السقاء بمتابعة الكتب، ومظاهرة الرسل،
وموالاة العيون، حتى تهتك حجب عيونهم، وتكشف أغطية أمورهم؛ فإن انفرجت الحال، وأفضت
الأمور به إلى تغيير حال أو داعية ضلال، اشتملت الأهواء عليه، وانقاد الرجال إليه،
وامتدت الأعناق نحوه بدين يعتقدونه، وإثم يستحلونه، عصبهم بشدة لا لين فيها، ورماهم
بعقوبة لا عفو معها، وإن انفرجت العيون، واهتصرت الستور، ورفعت الحجب، والحال فيهم
مريعة، والأمور بهم معتدلة في أرزاق يطلبونها، وأعمال ينكرونها، وظلامات يدعونها،
وحقوق يسألونها، بماتة
٢٩ سابقتهم، ودالة مناصحتهم؛ فالرأي للمهدي — وفقه الله — أن يتسع لهم بما
طلبوا، ويتجلى لهم عما كرهوا، ويشعب من أمرهم ما صدعوا، ويرتق من فتقهم ما قطعوا،
ويولي عليهم من أحبوا؛ ويداوي بذلك مرض قلوبهم، وفساد أمورهم؛ فإنما المهدي وأمته،
وسواد أهل مملكته، بمنزلة الطبيب الرفيق، والوالد الشفيق، والراعي المجرب الذي
يحتال لمرابض غنمه، وضوال رعيته، حتى يبرئ المريضة من داء علتها ويرد الصحيحة إلى
أنس جماعتها؛ ثم إن خرسان بخاصة الدين لهم دالة محمولة، وماتة مقبولة، ووسيلة
معروفة، وحقوق واجبة؛ لأنهم أيدي دولته، وسيوف دعوته، وأنصار حقه، وأعوان عدله؛
فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم، ولا المؤاخذة لهم، ولا التوغير
٣٠ بهم، ولا المكافأة بإساءتهم، لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى،
ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ، أحزم في الرأي، وأصح في التدبير من التأخير
لها والتهاون بها، حتى يلتئم قليلها بكثيرها، وتجتمع أطرافها إلى جمهورها.
قال المهدي: ما زال هارون يقع وقع الحيا حتى خرج خروج القدح من الماء، وانسل
انسلال السيف فيما ادعى، فدعوا ما سبق موسى فيه أنه هو الرأي، وثنى بعده هارون،
ولكن من لأعنة الخيل وسياسة الحرب وقادة الناس إن أمعن بهم اللجاج، وأفرط بهم
الدالة؟
قال صالح: لسنا نبلغ أيها المهدي بدوام البحث وطول الفكر أدنى فراسة رأيك، وبعض
لحظات نظرك؛ وليس ينفض عنك من بيوتات العرب ورجال العجم ذو دين فاضل، ورأى كامل،
وتدبير قوي؛ تقلده حربك، وتستودعه جندك، ممن يحتمل الأمانة العظيمة، ويضطلع
بالأعباء الثقيلة؛ وأنت بحمد الله ميمون النقيبة،
٣١ مبارك العزيمة، مخبور التجارب، محمود العواقب، معصوم العزم؛ فليس يقع
اختيارك، ولا يقف نظرك على أحد توليه أمرك، وتسند إليه ثغرك، إلا أراك الله ما تحب،
وجمع لك منه ما تريد.
قال المهدي: إني لأرجو ذلك لقديم عادة الله فيه، وحسن معونته عليه؛ ولكن أحب
الموافقة على الرأي، والاعتبار للمشاورة في الأمر المهم.
قال محمد بن الليث: أهل خراسان أيها المهدي، قوم ذوو عزة ومنعة، وشياطين خدعة؛
زروع الحمية فيهم ثابتة، وملابس الأنفة عليهم ظاهرة؛ فالروية عنهم عازبة،
٣٢ والعجلة فيهم حاضرة؛ تسبق سيولهم مطرهم، وسيوفهم عذلهم،
٣٣ لأنهم بين سفلة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم، وبين رؤساء لا يلجمون
إلا بشدة، ولا يفطمون إلا بالمر؛ وإن ولي المهدي عليهم وضيعًا لم تنقد له العظماء،
وإن ولي أمرهم شريفًا تحامل على الضعفاء؛ وإن أخر المهدي أمرهم، ودافع حربهم، حتى
يصيب لنفسه من حشمه ومواليه، أو بني عمه أو بني أبيه؛ ناصحًا يتفق عليه أمرهم، وثقة
تجتمع له أملاؤهم بلا أنفة تلزمهم، ولا حمية تدخلهم، ولا مصيبة تنفرهم؛ تنفست
الأيام بهم، وتراخت الحال بأمرهم؛ فدخل بذلك من الفساد الكبير، والضياع العظيم، ما
لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جد، ولا يستصلحه وإن جهد، إلا بعد دهر طويل وشر
كبير؛ وليس المهدي — وفقه الله — فاطمًا عاداتهم، ولا قارعًا صفاتهم، بمثل أحد
رجلين لا ثالث لهما، ولا عدل في ذلك بهما: أحدهما لسان ناطق موصول بسمعك، ويد ممثلة
لعينك، وصخرة لا تزعزع، وبهمة لا يثنى؛ وبازل لا يفزعه صوت الجلجل، نقي العرض، نزيه
النفس، جليل الخطر، قد اتضعت الدنيا عن قدره، وسما نحو الآخرة بهمته، فجعل الغرض
الأقصى لعينه نصبًا، والغرض الأدنى لقدمه موطئًا؛ فليس يقبل عملًا، ولا يتعدى
أملًا؛ وهو رأس مواليك، وأنصح بني أبيك؛ رجل قد غذي بلطيف كرامتك، ونبت في ظل
دولتك، ونشأ على قوائم أدبك؛ فإن قلدته أمرهم، وحملته ثقلهم، وأسندت إليه ثغرهم؛
كان قفلًا فتحه أمرك، وبابًا أغلقه نهيك؛ فجعل العدل عليه وعليهم أميرًا، والإنصاف
بينه وبينهم حاكمًا؛ وإذا حكم النصفة وسلك المعدلة، فأعطاهم ما لهم وأخذ منهم ما
عليهم، غرس في الذي لك بين صدورهم، وأسكن لك في السويداء داخل قلوبهم، طاعة راسخة،
باسقة الفروع، متماثلة في حواشي عوامهم، متمكنة من قلوب خواصهم؛ فلا يبقى فيهم ريب
إلا نفوه، ولا يلزمهم حق إلا أدوه؛ وهذا أحدهما.
والآخر عود من غيضتك؛ ونبعة من أرومتك، فتي السن كهل الحلم راجح العقل محمود
الصرامة مأمون الخلاف؛ يجرد فيهم سيفه، ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون، وعلى حسب
ما يستوجبون؛ وهو فلان أيها المهدي؛ فسلطه — أعزك الله — عليهم، ووجهه بالجيوش
إليهم، ولا تمنعك ضراعة
٣٤ سنه، وحداثة مولده؛ فإن الحلم والثقة مع الحداثة، خير من الشك والجهل
مع الكهولة؛ وإنما أحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه، واختصكم به من مكارم
الأخلاق، ومحامد الفعال، ومحاسن الأمور، وصواب التدبير، وصرامة الأنفس؛ كفراخ
عتاق
٣٥ الطير المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب، والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب؛
فالحلم والعلم والعزم والحزم والجود والتؤدة والرفق ثابت في صدوركم، مزروع في
قلوبكم، مستحكم لكم، متكامل عندكم، بطبائع لازمة، وغرائز ثابتة.
قال معاوية بن عبد الله: إفتاء أهل بيتك أيها المهدي في الحلم على ما ذكر. وأهل
خراسان في حال عز على ما وصف، ولكن إن ولى المهدي عليهم رجلًا ليس بقديم الذكر في
الجنود، ولا بنبيه الصوت في الحروب، ولا بطويل التجربة للأمور، ولا بمعروف السياسة
للجيوش والهيبة في الأعداء؛ دخل ذلك أمران عظيمان وخطران مهولان، أحدهما: أن
الأعداء يغتمزونها منه ويحتقرونها فيه، ويجترئون بها عليه في النهوض به والمقارعة
له، والخلاف عليه، قبل الاختبار لأمره، والتكشف لحاله والعلم بطباعه. والأمر الآخر:
أن الجنود التي يقود والجيوش التي يسوس إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة، ولم
يعرفوه بالصيت والهيبة، انكسرت شجاعتهم، وماتت نجدتهم، واستأخرت طاعتهم إلى حين
اختبارهم، ووقوع معرفتهم؛ وربما وقع البوار قبل الاختبار؛ وبباب المهدي — وفقه الله
— رجل مهيب نبيه حنيك صيت؛ له نسب زاك وصوت عال، قد قاد الجيوش وساس الحروب، وتألف
أهل خراسان، واجتمعوا عليه بالمقة، ووثقوا به كل الثقة؛ فلو ولاه المهدي أمرهم،
لكفاه الله شرهم.
قال المهدي: جانبت قصد الرمية، وأبيت إلا عصبية؛ إذ رأي الحدث من أهل بيتنا، كرأي
عشرة حلماء من غيرنا؛ ولكن أين تركتم ولي العهد.
قالوا: لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده، ونسيج وحده؛ ومن الدين وأهله، بحيث
يقصر القول عن أدنى فضله؛ ولكن وجدنا الله عز وجل حجب عن خلقه، وستر من دون عباده
علم ما تختلف به الأيام، ومعرفة ما تجري عليه المقادير، من حوادث الأمور وريب
المنون المخترمة لخوالي القرون ومواضي الملوك، فكرهنا شسوعه
٣٦ عن محلة الملك ودار السلطان ومقر الإمامة والولاية وموضع المدائن
والخزائن، ومستقر الجنود ومعدن الجود؛ ومجمع الأموال التي جعلها الله قطبًا لدار
الملك ومصيدة لقلوب الناس ومثابة لإخوان الطمع وثوار الفتن، ودواعي البدع وفرسان
الضلال وأبناء الموت. وقلنا: إن وجه المهدي ولي عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد
حدث بجنود الرسل من قبله، لم يستطع المهدي أن يعقبهم بغيره إلا أن ينهد إليهم
بنفسه؛ وهذا خطر عظيم وهول شديد، إن تنفست الأيام بمقامه، واستدارت الحال بإمامه،
حتى يقع عوض لا يستغنى عنه، أو يحدث أمر لا بد منه، صار ما بعده مما هو أعظم هولًا
وأجل خطرًا له تبعًا وبه متصلًا.
قال المهدي: الخطب أيسر مما تذهبون إليه، وعلى غير ما تصفون الأمر عليه؛ نحن أهل
البيت نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور، على سابق من العلم ومحتوم من الأمر؛ قد
أنبأت به الكتب، ونبأت عليه الرسل؛ وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا؛ وتكامل بحذافيره
عندنا؛ فبه ندبر وعلى الله نتوكل. إنه لا بد لولي عهدي وولي عهد عقبي بعدي أن يقود
إلى خراسان البعوث، ويتوجه نحوها بالجنود.
أما الأول فإنه يقدم إليهم رسله، ويعمل فيهم حيله؛ ثم يخرج نشطًا إليهم حنقًا
عليهم، يريد ألا يدع أحدًا من إخوان الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال، إلا توطأه
بحر القتل، وألبسه قناع القهر، وقلده طوق الذل؛ ولا أحدًا من الذين عملوا في قص
جناح الفتنة، وإخماد نار البدعة، ونصرة ولاة الحق، إلا أجرى عليهم ديم فضله، وجداول
نهله؛ فإذا خرج مزمعًا به مجمعًا عليه، لم يسر إلا قليلًا حتى تأتيه أن قد عملت
حيله، وكدحت
٣٧ كتبه ونفذت مكايده؛ فهدأت نافرة القلوب، ووقعت
٣٨ طائرة الأهواء، واجتمع عليه المختلفون بالرضا؛ فيميل نظرًا لهم، وبرًّا بهم، وتعطفًا
عليهم، إلى عدو قد
أخاف سبيلهم، وقطع طريقهم، ومنع حجاجهم بيت الله الحرام، وسلب تجارهم رزق الله
الحلال.
وأما الآخر فإنه يوجه إليهم، ثم تعتقد له الحجة عليهم، بإعطاء ما يطلبون، وبذل ما
يسألون؛ فإذا سمحت الفرق بقراباتها له، وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه؛ فأصغت إليه
الأفئدة، واجتمعت له الكلمة؛ وقدمت عليه الوفود قصد لأول ناحية نجعت بطاعتها وألقت
بأزمتها؛ فألبسها جناح نعمته، وأنزلها ظل كرامته، وخصها بعظيم حبائه؛ ثم عم الجماعة
بالمعدلة، وتعطف عليهم بالرحمة؛ فلا تبقى فيهم ناحية دانية ولا فرقة قاصية، إلا
دخلت عليها بركته، ووصلت إليها منفعته؛ فأغنى فقيرها، وجبر كسيرها، ورفع وضيعها،
وزاد رفيعها ما خلا ناحيتين؛ ناحية يغلب عليها الشقاء، وتستميلهم الأهواء، فتستخف
بدعوته، وتبطئ عن إجابته، وتتثاقل عن حقه، فتكون آخر من يبعث وأبطأ من يوجه؛ فيصطلي
عليها موجدة ويبتغي لها علة، لا يلبث أن يجد بحق يلزمهم وأمر يجب عليهم، فتستلحمهم
الجيوش، وتأكلهم السيوف، ويستحر بهم القتل، ويحيط بهم الأسر، ويفنيهم التتبع؛ حتى
يخرب البلاد، ويوتم الأولاد؛ وناحية لا يبسط لهم أمانًا، ولا يقبل لهم عهدًا ولا
يجعل لهم ذمة؛ لأنهم أول من فتح باب الفرقة، وتدرع جلباب الفتنة، وربض في شق العصا؛
ولكنه يقتل أعلامهم، ويأسر قوادهم؛ ويطلب هرابهم في لجج البحار، وقلل الجبال، وخمل
الأودية، وبطون الأرض، تقتيلًا وتغليلًا وتنكيلًا؛ حتى يدع الديار خرابا، والنساء
أيامى؛ وهذا أمر لا نعرف له في كتبنا وقتا، ولا نصحح منه غير ما قلنا
تفسيرا.
وأما موسى ولي عهدي فهذا أوان توجهه إلى خراسان، وحلوله بجرجان؛ وما قضى الله له
من الشخوص إليها، والمقام فيها، خير للمسلمين مغبة، وله بإذن الله عاقبة من المقام،
بحيث يغمر في لجج بحورنا، ومدافع سيولنا، ومجامع أمواجنا؛ فيتصاغر عظيم فضله،
ويتذأب،
٣٩ مشرق نوره، وتقلل كثير ما هو كائن منه؛ فمن يصحبه من الوزراء ويختار له
من الناس.
قال محمد بن الليث: أيها المهدي: إن ولي عهدك أصبح لأمتك وأهل ملتك علما، قد تثنت
نحوه أعناقها، ومدت سمته أبصارها؛ وقد كان لقرب داره منك، ومحل جواره لك، عطل الحال
غفل الأمر واسع العذر؛ فأما إذا انفرد بنفسه وخلا بنظره وصار إلى تدبيره، فإن من
شأن العامة أن تتفقد
٤٠ مخارج رأيه، وتستنصت لمواقع آثاره، وتسأل عن حوادث أحواله في بره
ومرحمته وإقساطه ومعدلته وتدبيره وسياسته ووزرائه وأصحابه؛ ثم يكون ما سيق إليهم
أغلب الأشياء عليهم وأملك
٤١ الأمور بهم وألزمها لقلوبهم، وأشدها استمالة لرأيهم وعطفًا لأهوائهم؛
فلا يفتأ المهدي — وفقه الله — ناظرًا له فيما يقوي عمد مملكته، ويسدد أركان
ولايته، ويستجمع رضا أمته بأمر هو أزين لحاله وأظهر لجماله، وأفضل مغبة لأمره؛ وأجل
موقعًا في قلوب رعيته، وأحمد حالًا في نفوس أهل ملته؛ ولا أدفع مع ذلك باستجماع
الأهواء له، وأبلغ في استعطاف القلوب عليه، من مرحمة تظهر من فعله، ومعدلة تنتشر عن
أثره ومحبة للخير وأهله، وأن يختار المهدي — وفقه الله — من خيار أهل كل بلدة،
وفقهاء أهل كل مصر؛ أقوامًا تسكن إليهم العامة إذا ذكروا، وتأنس الرعية بهم إذا
وصفوا؛ ثم تسهل لهم عمارة سبل الإحسان وفتح باب المعروف، كما قد كان فتح له وسهل
عليه.
قال المهدي: صدقت ونصحت، ثم بعث في ابنه موسى فقال: أي بني، إنك قد أصبحت
لسمت
٤٢ وجوه العامة نصبًا، ولمثنى أعطاف
٤٣ الرعية غاية؛ فحسنتك شاملة، وإساءتك نائية، وأمرك ظاهر؛ فعليك بتقوى
الله وطاعته، فاحتمل سخط الناس فيهما، ولا تطلب رضاهم بخلافهما؛ فإن الله عز وجل
كافيك من أسخطه عليك إيثارك رضاه، وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من سواه.
ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمان فترة من رسله، وبقايا من صفوة خلقه وخبايا لنصرة
حقه، يجدد حبل الإسلام بدعواهم، ويشيد أركان الدين بنصرتهم؛ ويتخذ لأولياء دينه
أنصارا، وعلى إقامة عدله أعوانا؛ يسدون الخلل ويقيمون الميل، ويدفعون عن الأرض
الفساد؛ وإن أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا، وسيوف دعوتنا الذين نستدفع المكاره
بطاعتهم، ونستصرف نزول العظائم بمناصحتهم؛ وندافع ريب الزمان بعزائمهم، ونزاحم ركن
الدهر ببصائرهم؛ فهم عماد الأرض إذا أرجفت كنفها،
٤٤ وخوف الأعداء إذا برزت صفحتها، وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها؛ قد
مضت لهم وقائع صادقات، ومواطن صالحات؛ أخمدت نيران الفتن، وقسمت دواعي البدع، وأذلت
رقاب الجبارين ولم ينفكوا كذلك ما جروا مع ريح دولتنا، وأقاموا في ظل دعوتنا،
واعتصموا بحبل طاعتنا؛ التي أعز الله بها ذلتهم ورفع بها ضعتهم؛ وجعلهم بها أربابًا
في أقطار الأرض، وملوكًا على رقاب العالمين بعد لباس الذل، وقناع الخوف، وإطباق
البلاء ومحالفة الأسى، وجهد البأس والضر؛ فظاهر عليهم لباس كرامتك، وأنزلهم في
حدائق نعمتك؛ ثم اعرف له حق طاعتهم، ووسيلة دالتهم، وماتة سابقتهم، وحرمة مناصحتهم؛
بالإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، والإثابة لمحسنهم، والإقالة لمسيئهم.
أي بني، ثم عليك العامة فاستدع رضاها بالعدل عليها، واستجلب مودتها بالإنصاف لها؛
وتحسن بذلك لربك، وتوثق به في عين رعيتك، واجعل عمال العذر وولاة الحجج مقدمة بين
عملك، ونصفة منك لرعيتك، وذلك أن تأمر قاضي كل بلد، وخيار أهل كل مصر، أن يختاروا
لأنفسهم رجلًا توليه أمرهم، وتجعل العدل حاكمًا بينه وبينهم؛ فإن أحسن حمدت، وإن
أساء عذرت. هؤلاء عمال العذر وولاة الحجج، فلا يسقطن عليك ما في ذلك إذا انتشر في
الآفاق، وسبق إلى الأسماع، من انعقاد ألسنة المرجفين، وكبت قلوب الحاسدين، وإطفاء
نيران الحروب، وسلامة عواقب الأمور؛ ولا ينفكن في ظل كرامتك نازلًا، وبعرا حبلك
متعلقًا رجلان: أحدهما كريمة
٤٥ من كرائم رجالات العرب، وأعلام بيوتات الشرف؛ له أدب فاضل، وحلم راجح،
ودين صحيح. والآخر له دين غير مغموز،
٤٦ وموضع غير مدخول، بصير بتقليب الكلام وتصريف الرأي وإنحاء العرب ووضع
الكتب، عالم بحالات الحروب وتصاريف الخطوب؛ يضع آدابًا نافعة وآثارًا باقية، من
محاسنك وتحسين أمرك وتحلية ذكرك؛ فتستشيره في حربك، وتدخله في أمرك؛ فرجل أصبته
كذلك فهو يأوي إلى محلتي، ويرعى في خصرة جناني؛ ولا تدع أن تختار لك من فقهاء
البلدان، وخيار الأمصار، أقوامًا يكونون جيرانك وسمارك، وأهل مشاورتك فيما تورد،
وأصحاب مناظرتك فيما تصدر. فسر على بركة الله، أصحبك الله من عونه وتوفيقه دليلًا
يهدي إلى الصواب قلبك، وهاديًا ينطق بالخير لسانك. وكتب في شهر ربيع الآخر سنة
سبعين ومائة ببغداد.
(٢) رسالة أبي الربيع محمد بن الليث التي كتبها للرشيد إلى قسطنطين ملك
الروم
من عبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى قسطنطين عظيم الروم: سلام على من
اتبع الهدى، فإني أحمد الله الذي لا شريك معه، ولا ولد له، ولا إله غيره، الذي
تعالى عن شبه المحدودين بعظمته، واحتجب دون المخلوقين بعزته، فليست الأبصار بمدركة
له، ولا الأوهام بواقعة عليه، انفرادًا عن الأشياء أن يشبهها، وتعاليًا أن يشبهه
شيء منها، وهو الواحد القهار، الذي ارتفع عن مبالغ صفات القائلين، ومذاهب لغات
العالمين، وفكر الملائكة المقربين، فليس كمثله شيء، وله كل شيء، وهو على كل شيء
قدير.
أما بعد، فإن الله جل ثناؤه وتباركت أسماؤه، قال لنبيه ﷺ فيما أنزل من
آيات الوحي إليه: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ. فرأى أمير المؤمنين من أحسن قوله وأفضل فعله، أن
يكون إلى سبيل ربه داعيًا، وبرسوله ﷺ متأسيًا، ولقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ
إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ موافقًا. وكنت من كتب الله المنزلة،
وآياته المفسرة، وخلقه الكثير بحيث رجا أمير المؤمنين استماعك لموعظته؛ وانتفاعك
بمجادلته انتفاع بشر كثير وخلق عظيم قد بؤت بأوزارهم مع وزرك، واحتملت من آثامهم
إلى إثمك، فأحب أن يدعوك ومن رجا أن ينتفع بدعوته معك، إلى كلمة سواء بيننا وبينكم
ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله؛
فإن توليتم عن ذلك رغبة عنه، أو تركتموه زهادة فيه، فاشهدوا بأنا مسلمون. واستمعوا
ما أمير المؤمنين واصف لكم، ومحتج به إن شاء الله عليكم، بقلوب شاهدة وآذان واعية،
ثم اتبعوا أحسن ما تستمعون. ولا قوة إلا بالله.
فإن الله عز وجل يقول فيما أنزل من كتابه واقتص على عباده: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ ۖ
وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ. إن الله تبارك اسمه وتعالى
جده، وصف فيما أنزل من آياته، وشرح من بيناته، الأمم الماضية، والقرون الخالية،
والملل المتفرقة، الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى لا برهان لهم بها، ولا حجة لهم
فيها، فقال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ
وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ
مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ
انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن
يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ
وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلًا * لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن
يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ.
قالت العرب الذين يعبدون الملائكة وأهل الكتاب الذين يقولون ثالث ثلاثة بأيتما
آية يا محمد تزعم أن الله إله واحد؛ فأنزل الله عز وجل في ذلك آية تشهد لها العقول،
وتؤمن بها القلوب، وتعرفها الألباب، فلا تستطيع لها ردًّا، ولا تطيق لها جحدًا، ذكر
فيها اتصال خلقه واتفاق صنعه، ليوقن الجاهلون من العرب والضالون من أهل الكتاب، أن
إله السماء والأرض، وما بينهما من الهواء والخلق، واحد لا شريك له، خالق لا شيء
معه، فقال:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ. فتفكر في تفسير هذه الآية من كلام
الرب عز وجل، وما أوضح فيها من بيان الخلق، فإنه ما من مفكر ينظر فيما ذكر الله
فيها مما بين السماء والأرض، إلا رأى من اتصال بعض ذلك ببعض، مثل ما رأى في تدبيره
نفسه، وعرف من اتصال خلقه، فيما بين ذوائب شئون رأسه إلى أطراف أنامل قدمه. وفي ذلك
أوضح آية وأبين دلالة، على أن الذي خلقه وصنعه إله واحد لا إله معه، ولا من شيء
ابتدعه، ولا على مثال صنعه. قد ترون بعيونكم وتعلمون بعقولكم، أن الله عز وجل خلق
للأنام الأرض، وجعلها موصولة بالخلق، فليس يدحوها إلا لهم، ولا يديمها إلا معهم،
وجعل ذلك الخلق متصلًا بالنبت، لا يقوم إلا به، ولا يصلح إلا عليه. وجعل ذلك النبت
الذي جعله متاعًا لكم ومعاشًا لأنعامكم، متصلًا بالماء الذي ينزل من السماء بقدر
معلوم، لمعاش مقسوم؛ فليس ينجم النبت إلا به ولا يحيا إلا عنه. وجعل السحاب الذي
يبسطه كيف يشاء متصلًا بالريح المسخرة في جو السماء تثيره من حيث لا تعلمون، وتسوقه
وأنتم تنظرون؛ كما قال عز وجل:
وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ
الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ
فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ كَذَٰلِكَ النُّشُورُ
ووصل الرياح التي يصرفها في جو السماء بما يؤثر في خلق الهواء من الأزمنة التي لا
تثبت الهواجر إلا بثباتها، ولا يزول عنه برد إلا بزوالها؛ ولولا ذلك لظل راكدًا
بالحر المميت، أو ماثلًا
٤٧ بالبرد القاتل. ووصل الأزمنة التي جعلها متصرفة متلونة بمسير الشمس
والقمر الدائبين لكم المختلفين بالليل والنهار عليكم. وجعل مسيرهما الذي لا تعرفون
عدد السنين إلا به، ولا مواقع الحساب إلا من قبله، متصلًا بدوران الفلك الذي فيه
يسبحان، وبه يأفلان؛ ووصل مسير الفلك بالسماء للناظرين سواء. فهذا خلق الله عز وجل،
ما فيه تباين ولا تزايل ولا تفاوت؛ كما قال سبحانه وتعالى:
مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ. ولو كان لله شريك
أو معه ظهير عليه، يمسك منه ما يرسل، ويرسل منه ما يمسك، أو يؤخر شيئًا من ذلك عن
وقت زمانه، أو يعجله قبل مجيء إبانه، لتفاوت الخلق، ولتباين الصنع، ولفسدت السموات
والأرض، وذهب كل إله بما خلق، كما قال عز وجل — وكذب المبطلين:
بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا
اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ
كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ
اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ.
والعجب: كيف يصف مخلوق ربه، أو يجعل معه إلهًا غيره، وهو يرى فيما ذكر الله من
هذه الأشياء صنعة ظاهرة، وحكمة بالغة، وتأليفًا متفقًا، وتدبيرًا متصلًا، من السماء
والأرض، لا يقوم بعضه إلا ببعض، متجليًا بين يديه، ماثلًا نصب عينيه، يناديه إلى
صانعه، ويدله على خالقه، ويشهد له على وحدانيته، ويهديه إلى ربوبيته، فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ. حقًّا ما
كرر هؤلاء الجاهلون بربهم الضالون عن أنفسهم، في خلق الله النظر، ولا رجعوا كما قال
الله عز وجل الفكر. ولو أعملوا فكرهم وأجهدوا نظرهم، فيما تسمع آذانهم وترى
أبصارهم، من حوادث حالات الخلق، وعجائب طبقات الصنع، لوجدوا في أقرب ما يرون
بأعينهم: من التأليف لتركيب خلقهم، والأثر في التدبير بصنعهم، ما يدلهم على توحيد
ربهم، ويقف بهم على انفراده بخلقهم. فإنهم يرون في أنفسهم بأعينهم ويجدون بقلوبهم،
أنها مخلوقة صنعة بعد صنعة، ومحولة طبقة عن طبقة، ومنقولة حالًا إلى حال: سلالة من
طين، ثم نطفة من ماء مهين، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظمًا، كساه الله عز وجل لحمًا،
ونفخ فيه روحًا، فإذا هو خلق آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين، الذي خلق في قرار
مكين، من ماء قليل ضعيف ذليل، خلقًا صوره بتخطيط، وقدره بتركيب، وألفه بأجزاء
متفقة، وأعضاء متصلة، من قدم إلى ساق إلى فخذ إلى ما فوق ذلك: من مفاصل ما يعلن أو
عجائب ما يبطن، ليعلم الجاهلون ويوقن الجاحدون، أن الذي صنع ذلك وخلقه ودبره وقدره
وهيأ ظاهره وباطنه إله واحد لا شريك معه. فلا يذهبن ذكر هذا صفحًا عنكم، ولا تسقط
حكمته جهلًا عليكم؛ وفكروا في آيات الرسل وبينات النذر، فإن في ذلك فكرًا للمبصرين،
وبصرًا للمعتبرين، وذكرى للعابدين، والحمد لله رب العالمين.
وأمير المؤمنين واصف لكم، ومقتص من ذلك إن شاء الله عليكم، ما فيه شهادات واضحات،
وعلامات بينات؛ ومبتدئ بذكر آيات نبينا
ﷺ فيما أنزل الله منها في الوحي
إليه، فإنه ما أحد يقرع بآيات النبوة قلبه، ويحصن ببينات الهدى عقله، إلا قادته حتى
يؤمن بمحمد
ﷺ، لا يجد إلى إنكار ما جاء به من الحق سبيلًا. فأردت أن تكونوا
على علم ومعرفة ويقين وثقة من أمر محمد
ﷺ وحقه، وما أنزل إليه من ربه عز
وجل. فأحضر كتاب أمير المؤمنين فهمك، وألق إلى ما هو واصف إن شاء الله سمعتك. إن
الله عز وجل اصطفى الإسلام لنفسه، واختار له رسلًا من خلقه، وابتعث كل رسول بلسان
قومه، ليبين لهم ما يتبعون، ويعلمهم ما يجهلون: من توحيد الرب وشرائع الحق:
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
ۚ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا. فلم تزل رسل الله قائمة بأمره،
متوالية على حقه، في مواضي الدهور، وخوالي القرون، وطبقات الزمان، يصدق آخرهم بنبوة
أولهم، ويصدق أولهم قول آخرهم؛ ومفاتح دعوتهم واحدة لا تختلف، ومجامع ملتهم ملتئمة
لا تفترق، حتى تناهت الولاية والوراثة التي بنى عيسى عليه السلام عليها وبشر بها،
إلى النبي الأمي الذي انتخبه الله لوحيه، واختاره بعلمه؛ فلم يزل ينقله بالآباء
الأخاير، والأمهات الطواهر، أمة فأمة، وقرنًا فقرنًا، حتى استخرجه الله في خير
أوان، وأفضل زمان من أثبت محاتد
٤٨ أرومات
٤٩ البرية أصلًا، وأعلى ذوائب نبعات
٥٠ العرب فرعًا، وأطيب منابت أعياض
٥١ قريش مغرسًا، وأرفع ذرى مجد بني هاشم سمكًا: محمد
ﷺ خيرها عند
الله وخلقه نفسًا، على حين أوحشت الأرض من أهل الإسلام والإيمان، وامتلأت الآفاق من
عبدة الأصنام والأوثان، واشتغلت البدع في الدين وأطبقت الظلم على الناس أجمعين؛
وصار الحق رسمًا عافيًا، خلقًا باليًا، ميتًا وسط أموات، ما إن يحسون للهدى صوتًا
يسمعونه، ولا للدين أثرًا يتبعونه. فلم يزل
ﷺ قائمًا بأمر الله الذي أنزل
إليه، يدعوهم إلى توحيد الرب عز وجل، ويحذرهم عقوبات الشرك، ويجادلهم بنور البرهان،
وآيات القرآن، وعلامات الإسلام، صابرًا على الأذى، محتملًا للمكروه.
قد ألهمه الله عز وجل أنه مظهر دينه، ومعز تمكينه، وعاصمه ومستخلفه في الأرض، فليس يثنيه
ريب، ولا
يلويه هيب، ولا يعنيه أذى؛ حتى إذا قهرت البينات ألبابهم، وبهرت الآيات أبصارهم، وخصم
نور الحق
حجتهم، فلم
٥٢ تمتنع القلوب من المعرفة بدون صدقه، ولم تجد العقول سبيلًا إلى دفع حقه. وهم على ذلك
مكذبون بأفواههم، وجاحدون بأقوالهم؛ كما قال الله عز وجل العليم بما يسرون، الخابر بما
يعلنون:
فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ
يَجْحَدُونَ بغيًا وعداوة، وحسدًا ولجاجة، افترض الله عليه قتالهم، وأمره أن يجرد السيف
لهم، وهم في عصابة يسيرة، وعدة قليلة، مستضعفين مستذلين، يخافون أن يتخطفهم العرب، وتداعى
٥٣ عليهم الأمم، وتستحملهم
٥٤ الحروب، فآواهم في كنفه، وأيدهم بنصره، وأنذرهم بمقدمة من الرعب، ومشغلة من الحق، وجنود
من الملائكة، حتى هزم كثيرًا من المشركين بقلتهم، وغلب قوة الجنود بضعفهم، إنجازًا لوعده،
وتصديقًا
لقوله:
وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فأحسن النظر وقلب الفكر
في حالات النبي
ﷺ من الوحي قائمًا لله، لتجد لمذاهب فكرك وتصاريف نظرك، مضطربًا واسعًا،
ومعتمدًا نافعًا، وشعوبًا جمة، كلها خير يدعوك إلى نفسه، وبيان ينكشف لك عن محضه. وأخبر
أمير
المؤمنين ما كنت قائلًا لو لم تكن البعثة للنبي
ﷺ بلغتك، ولم تكن الأنباء بأموره تقررت قبلك؛
ثم قامت الحجة بالاجتماع عندك، وقالت الجماعة المختلفة لك: إنه نجم بين ظهراني مثل هذه
الضلالات
المستأصلة، والجماعات المستأسدة،
٥٥ التي ذكر أمير المؤمنين: من قبائل العرب، وجماهير الأمم، وصناديد الملوك، ناجم قد نصب
لها وغرى بها، يجهل أحلامها، ويكفر أسلافها، ويفرق ألافها، ويلعن آباءها، ويضلل أديانها،
وينادي
بشهاب الحق بينها، ويجهر بكلمة الإخلاص إلى من تراخى عنها، حتى حميت العرب، وأنفت العجم،
وغضبت
الملوك، وهو على حال ندائه بالحق ودعائه إليه، وحيدًا فريدًا، لا يحفل بهم غضبًا، ولا
يرهب عنتًا،
يقول الله عز وجل:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ أكنت تقول فيما تجري الأقاويل به وتقع الآراء عليه، إلا أنه أحد رجلين: إما
كاذب يجهل ما يفعل ويعمى عما يقول، وقد دعا الحتف إلى نفسه، وأذن الله لقومه في قتله،
فليست الأيام
بمادة ولا الحال بثابتة له إلا ريثما تستلحمه
٥٦ أسبابهم، وينهض به حلماؤهم، غضبًا لربهم، وأنفة لدينهم، وحمية لأصنامهم، وحسدًا من عند
أنفسهم. وإما صادق بصير بموضع قدمه ومرمى نبله، قد تكفل الله عز وجل بحفظه، وصحبه بعزه،
وجعله في
حرزه، وعصمه من الخلق، فليست الوحشة بواصلة مع صحبة الله إليه، ولا الهيبة بداخلة مع
عصمة الله
عليه، ولا سيوف الأعداء بمأذون لها فيه. ثم إن
٥٧ آيتكم يا أهل الكتاب لو قيل لكم: إن الرجل الذي يدعي العصمة وينتحل المنعة، قد نجمت
الأمور به على ما قال، وسلمت الحال له فيما ادعى، حتى نصب لعمارات
٥٨ العرب، وجماعات الأمم، يقاتل بمن طاوعه من خالفه، وبمن تابعه من عانده، جادًّا مشمرًا،
محتسبًا واثقًا بموعود الله ونصره، لا تأخذه لومة لائم في ربه، ولا يوجد لديه غميزة
٥٩ في دينه، ولا يلفته خذلان خاذل عن حقه، حتى أعز الله دينه، وأظهر تمكينه، وانقادت
الأهواء له، واجتمعت الفرق عليه، ألم يكن ذلك حقه يقينًا عندكم، ودعوته ثبوتًا فيكم،
حتى تقول
الجماعة من حلمائكم وأهل الحنكة من ذوي آرائكم: ما كان الرجل، إذا كان وحيدًا فريدًا
قليلًا ضعيفًا
ذليلًا معروفًا بالعقل منسوبًا إلى الفضل، ليجترئ أن يقول: إن الله عز وجل أوحى إليه
فيما أنزل من
الكتاب عليه أن يعصمه من العرب جميعًا ويمنعه من الأمم طرًّا، حتى يبلغ رسالات ربه، ويظهره
على
الدين كله، ويدخل الناس أفواجًا في دينه، إلا وهو على ثقة من أمره، ويقين من حاله.
فسبحان الله! يا أهل الكتاب ما أبين حق النبي
ﷺ لمن طلبه، وأسهله لمن قصده
له. واستعملوا في طلبه ألبابكم، وارفعوا
٦٠ … أبصاركم، تنظروا بعون الله إليه، وتقفوا إن شاء الله عليه؛ فإن
علامات نبوته وآيات رسالته، ظاهرة لا تخفى على من طلبها، جمة لا يحصى عددها، منها
خواص تعرفها العرب، وعوام لا تدفعها الأمم؛ فأما الخواص المعروفة لدينا، المعلومة
عندنا، التي أخذتها الأبناء عن الآباء، وقبلها الأتباع عن الأسلاف، فأمور قد كثرت
البينات فيها، وتداولت الشهادات عليها، وثبتت الحجج بها، وتراخت الأيام ببعضها، حتى
رأيناها عيانًا، وقبلناه إيقانًا؛ فهي أظهر فينا من الشمس، وأبين لدينا من النهار؛
ولكن غيبت الأزمان عنكم أمرها، ولم ينقل الآباء إليكم علمها، وما لا يدرك إلا
بالسمع موضوع الحجة عن العقل، فليس أمر المؤمنين بمجاج لكم، ولا قاصد إليكم من
قبلها. وأما الآيات العوام والدلالات الظاهرة في آفاق الأرضين، القاطعة لحجج
المبطلين، التي لا تنكر عقول الأمم وجوب حقها، ولا تدفع ألباب الأعداء صحة أمرها،
فسيولجها أمير المؤمنين مسالك أسماعكم، ويعيد بها حجة الله في أعناقكم، من وجوه جمة
وأبواب كثيرة، إن شاء الله: منها أنه لم تزل الشياطين، فيما خلا من فترات الرسل
وندرات النذر، تصعد إلى سماء الدنيا، وتنصت للملأ الأعلى فتسترق السمع وتحتفظ
العلم، وتنزل به إلى كل أفاك أثيم، يبنون أكاذيبهم على واضح صدقه، وينفقون أباطيلهم
بحسب حقه، خلطًا للباطل فيه، وثبوتها
٦١ للعباد عليه. فلما بعث الله محمدًا
ﷺ وأنزل آيات القرآن عليه،
حرست السماء بالنجوم، ورميت الشياطين بالشهب، وانقطعت الأباطيل، واضمحلت الأكاذيب،
وخلص الوحي، فبطلت الكهان، وضلت السحار، وكذبت الأحلام، وتحيرت الشياطين، فكانت آية
بينة، وعلامة واضحة، وحجة بالغة، تبهر قرائح العقول، وتخرق حجب الغيوب، فلا يقوم مع
ضيائها ظلمة، ولا يثبت عند محكمها شبهة، ولا يقيم معها في محمد
ﷺ شك، لا من
أصحابه خاصة ولا ممن جاء بعده عامة. وإنما جعلها الله عز وجل آية باقية في
الغابرين، وحراسة ثابتة من الشياطين، لأن الله جل وعلا جعل نبينا
ﷺ آخر
النبيين؛ فليس باعثًا بعده نبيًّا يكذب أقاويل الكهنة، ويقطع أخابير الجنة.
وستقول، فيما يذهب إليه الظن ويقع عليه الرأي، أنت ومن عقل من أمتك وأهل ملتك:
هذه آية حاسمة وحجة قاطعة بينة قائمة، مستعلية لأمرها، مستغنية بنفسها، لا تحتاج
إلى ما قبلها، ولا يتكل على ما بعدها، إن أقرت العقول بما تقول، أو قامت البينة على
ما تدعي، بلى؛ ثم تقول: وأنى لك بالبينة، ولسنا نقر بكتابك، ولا نؤمن برسولك، ولا
نقبل قولك فيما قد سبقنا وإياك زمانه، وحجبت الغيوب عنا وعنك علمه؛ فأرجع إليكم إن
قلتم ذلك؛ فإن وجدان القضاة قبل طلب البينات.
وليس يجعل أمير المؤمنين فيما ينازعك ويحاجك فيه حاكمًا غير عقلك، ولا قاضيًا سوى
نفسك؛ ولكنه يذكرك الله الذي إليه معادك وعليه حسابك، لما جعلت التفهم لمسألته من
بالك، وركبت حدودها في جوابك، عادلًا بالقسط، قاضيًا بالحق، قائلًا بالصدق ولو على
نفسك، ناظرًا بالأثرة لدينك؛ فلقد وفق الله لك آية، وأهدى إليك بينة، لا تستطيع
دفعها لحجبها من عقلك، ولا حجابًا لنورها دون بصرك، فلا تدفع الآية بقولك، والبينة
بلسانك، جحدًا بقطع وصول الحجج إليك، ويد
٦٢ تغلق أبواب الفهم عنك؛ فإن اللسان لك مداول حيث شئت، ومنقاد تصرفه فيما
هويت؛ ولكن انصب نفسك للفهم وأنت شهيد، وأرد الحق وقبوله فيما تريد. فإذا تصورت
البينات مجسدة في قلبك، وتبينت الحجج ممثلة لنظرك، قد أضاء صوابها لك وقرع حقها
قلبك، فاجعل القول بها شعارًا للسان به متصلًا. وافهم المسألة فهمك الله الحق،
وجنبك الجحد، ما تقول أنت ومن قبلك في رجل كان يتيمًا ضعيفًا أجيرًا ساهيًا لاهيًا
عائلًا خاملًا، لم
٦٣ يتل كتابًا، ولم يتعلم خطًّا، ولم يك في محلة علم، ولا إرث ملك، ولا
معدن أدب، ولا بيت نبوة، فتراقت الأيام به، واتصلت الحال بأمره، حتى خرج إلى العرب
عامة والقبائل كافة، وحيدًا طريدًا شريدًا، مخذولًا مجهولًا، مجفوًّا مرميًّا
بالعقوق لآلهتهم، مقذوفًا بالكذب على أصنامهم، منسوبًا إلى الهجر لأديانهم، وهم
مجمعون على دعوة العصبية، وحمية الجاهلية، متعادون متباغون، مختلفة أهواؤهم، متفرقة
أملاؤهم، يتسافكون الدماء، ويتناوحون النساء، ويستحلون الحرم، لا تمنعهم ألفة، ولا
تعصمهم دعوة، [ولا] يحجزهم بر، فألف قلوبهم، وجمع شتيتها، حتى تناصرت القلوب،
وتواصلت النفوس، وترافدت الأيدي؛ ثم اجتمعت الكلمة، واتفقت الأفئدة، حتى صار غاية
لملقى رحالهم، ونهاية لمنتجع أسفارهم، وصاروا له حزبًا متفقين، وجندًا مطيعين، بلا
دنيا بسطها لهم، ولا أموال أفاضها بينهم، ولا سلطان له عليهم، ولا ملك سلف لآبائهم
فيهم، ولا نباهة كانت له بين ظهرانيهم.
أتقول إنه [ما] قال ذلك كله إلا بوحي عظيم، وتنزيل كريم، وحكمة بالغة! فإن قلت ذلك
فقد أقررت أن
محمدًا ﷺ رسول، وتركت ما كنت تقول إنه لم يدركه ولم يبلغه إلا بعقل سديد، ونظر بعيد، ورفق
لطيف، ورأي وثيق، استبى به عقول الرجال، واستمال عليه أفئدة العوام. فإن قلتم فأنا سائلكم
بإلهكم
الذي تعبدون، ودينكم الذي تنتحلون، لما صدقتم أنفسكم وتجنبتم الهوى عنكم: أتؤمن قلوبكم،
وتقر
عقولكم، ويحتمل نظركم، أن محمدًا ﷺ الذي وصفتموه بكمال العقل، وبيان الفضل، ورفق التدبير،
كان يقول لرجالات العرب، وجماعات الأمم، [و] دهاة قريش: إن من آيات نبوتي، ودلالات رسالتي،
وعلامات
زماني، أن الشياطين ترمى بنجوم السماء، ولم تك ترمى بها فيما خلا؛ ثم يجعل ذلك كتابًا
يقرأ، وقرآنًا
يتلى، وهو كاذب فيما تلا، ومبطل فيما ادعى، إبطالًا تدركه عيون الناظرين، وكذبًا يظهر
لجميع
العالمين! سبحان الله! أرأيتم أن لو كان فيما قال من الكاذبين، وعلى ما ادعى من الآثمين،
ثم حاول
إبعاد القلوب، وإنغال الصدور، وإنفار النفوس، وتفريق الجموع، أكان يزيد على ذلك!
فيا أهل الكتاب لا يحملنكم الإلف لدينكم على اللعب بتوحيدكم! فلعمر الله لئن
تداركتم أنفسكم وناصحتم نظركم لتعلمن أن محمدًا
ﷺ لو حاول الكذب أو رام
الإفك، لما كان يترك جميع الأرض، وما يغيب عن بعض الخلق ويظهر لبعض، ويقصد للسماء
المتصلة بالبصر، البارزة للنظر، التي لا تخفى على بشر، ولا تغيب عن أحد، فيدعي فيها
كذبًا ظاهرًا، وإفكًا بارزًا مكشوفًا، لا يبقى صغير ولا كبير ولا ذكر ولا أنثى، إلا
عرف أنه إفك وزور، وكذب وغرور، ولا سيما إذا كان يلقى ذلك إلى أقوام أكثرهم أعراب،
ليس بينهم وبين السماء حجاب؛ إنما يراعون الكواكب ويتفقدون الغيوم، فأبعد عهد آخرهم
بها تفقده لها ونظره إليها، ساعة أو ساعتين، أو ليلة أو ليلتين. لعمر الله لو عثرت
العرب من أمر النبي
ﷺ على كذب لكان أول من يواثبه به ويجادل فيه أعداؤه من
قريش عامة، وحساده من جيرته خاصة، ونظراؤه من أهل بيته دنية الذين كانوا
يستعيرونه
٦٤ لكل طريق، ويقعدون له على كل سبيل، ويتساءلون من أمره عن كل ذي حادث،
فيتعلقون بالحروف المشكلة، والآيات المشتبهة، جدلًا وخصومة بها، وطعنًا وإلحادًا
ومنازعة فيها، حتى لقد وصفهم الله بفعلهم، وأخبر عن ذلك من أمرهم، فقال عز وجل:
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ وما كان الله عز وجل
ليقول ذلك ولا لأحد أن يقوله على الله في أمرهم إلا عن خصومة شديدة، ومنازعة بليغة،
ومجادلة معروفة. فأحسن النظر لنفسك، ولا تهلكن شفقة على ملكك؛ فايم الله لئن قلت إن
النجوم شيء كانت العرب تراه بعيونها وتعرفه بقلوبها، فما كان محمد
ﷺ، وهو
عارف بها غير جاهل لها، ليقول فيها إلا حقًّا، وينتحل فيها إلا صدقًا، لقد ثبتت
فروع كلامك فيها على أسه، ووصلت آخر قولك له بأوله، ثبوتًا على ما ذكرت من عقده،
ولزومًا لما فرطت من نظره، ولكنك لا تجد مع الإقرار بذلك بدًّا من التصديق برسالته،
ولا مذهبًا عن الإيمان بنبوته.
ولئن زعمت أنه ادعى أمر النجوم كذبًا وانتحلها باطلًا، عارفًا كان بها أم جاهلًا،
لقد نسبته من الخطأ الذي لا يعمى عن بصره إلى ما يخطئ فيه بشر، فأكذبت نفسك، وتركت
قولك: إنه لم يكن التأليف لقلوب العرب والجمع لشتيت القبائل، إلا برأي سديد، وعقل
أصيل، ورفق بالغ، إلى أحد أمرين لا تجد لكلامك وجهًا تذهب إليه غيرهما، ولا محملًا
تضعه عليه سواهما: إما أن تقول: إنه ألف قلوب العرب، وفرق جموع الأمم بتنزيل الوحي،
فتؤمن أنه نبي؛ وإما أن تقول: فعل ذلك بجهل؛ وهذا قول لا يقبل. كيف يصفه أحد من
الجاحدين به المكذبين له بغباوة، أو يرمونه بجهالة، وهم يجوزون به حدود الأنبياء،
ويرفعونه فوق أمور العلماء، ويتخطون به مراتب الحكماء، ومنازل الناس تكثيرًا لعلمه،
وتسديدًا لعقله، وتثبيتًا لفضله، فيما لا يقدر الخلق عليه ولا تهتدي الألسن إليه؛
حتى لقد نحلوه فعل الرب الذي لا يقدر عليه الخلق في وجوه كثيرة وأنحاء جمة: من ذلك
أنه إذا قالت البقايا من أمتنا: كان محمد ﷺ يخبرنا بالغيوب قبل ظهورها، ويصف
الأمور قبل حلولها، ويتجاوز [ما يكون] في زمانه من ذلك إلى ما يكون في زماننا غيبًا
أطلعه الله عز وجل عليه، أضافوا ذلك علمًا إليه، فقالوا: كان أعلم الناس بمواقع
النجوم، وأبصرهم بمنازل البروج، وأنظرهم في دقائق الحساب. كيف ولم يكن الحجاز دار
نجوم ولا محل حساب ولا معدن أدب! بل كيف والمنجم يقيس ويخطئ، ويشك فيما يدعي، وهو
أخو صواب لا شك فيه، وفارس صدق لا قياس معه.
ومن ذلك أنه إذا قالت العلماء من المسلمين: كان نبينا ﷺ [عليمًا] بباطن
أخبار النبيين، وخفي قصص القرون الأولين، قالوا: كان أحيا الناس قلبًا، وأوسعهم
سربًا، وأسرعهم أخذًا، يتتبع ذلك ويحبه، وقد رواه وعلمه. سبحان الله! أولا يعلمون
أن المتعلم معروف المعلم، متفاوت الحالات، متنقل الطبقات، وأنه ما أحد يؤدب صغيرًا
أو يطلب العلم كبيرًا، إلا وله درجات في علمه، وتارات في أخذه، ومنازل في تعلمه،
تارة تلميذ، وتارة مقارب، وأخرى حاذق؛ وبكل ذلك موصوف من أهله، معروف عند قومه،
ظاهر لجيرته، مستفيض في عشيرته، لا يجهل أمره، ولا يخفى ذكره، ولا ينسى عند مواضع
الحاجة إليه، وتارات الاحتجاج به عليه. ولو كان ذلك معروفًا فيهم، أو موجودًا
لديهم، أو ظاهرًا عندهم، لما أمره الله عز وجل أن يحتج عليهم ويقول في ذلك لهم: لقد
لبثت فيكم عمرًا من قبله، لا أتلو قرآنًا، ولا أدعي وحيًا، أفلا تعقلون!
وايم الله! لو كانوا يعقلون أو ينظرون، لعلموا أن معلمه على غير الملة التي
يعرفون، لأنه لهم من المخالفين، وعليهم من الطاعنين، يذكر فضائح قولهم، ومعايب
أمرهم، ومخازي أسلافهم، وعوائر أديانهم؛ وإنه لو كان معلمه نصرانيًا لدعاه إلى
النصرانية، أو يهوديًّا لدعاه إلى اليهودية، أو مجوسيًّا لدعاه إلى المجوسة. ولو لم
يكن له معلم لما وقع على الحقيقة هداية من تلقاء نفسه ومعرفة بقوة عقله. ولو كان
معلمه الشيطان لما دعاه إلى عبادة الرحمن، ولا أمره بهجر الأوثان، وكسر الأصنام،
وصلة الأرحام، والإصلاح في الأرض؛ كيف [و] كان الشيطان يصد الناس عن سبيله، ويزهدهم
في دينه، وينهاهم عن طاعته، ويخرجهم من عبادته، ويدخلهم في مساخطه، ويحملهم على
معاصيه! إنه إذن لرحيم بهم، ناظر لهم، شفيق عليهم، كأنه هو المبعوث إليهم؛ كلا! ما
كان لنقذهم من حبائله، ويخلصهم من مصايده، ويخرجهم من ولايته وطاعته وسلطانه وخدعه
وفتنته وحزبه، إلى غير ذلك من أمره. وما كان لينهي العرب أن يقتلوا أنفسهم،
ويتناوحوا حرمهم، ويؤذوا ذريتهم، ولا ليقول لهم: لم تعبدون نحيت الحجارة التي جعلها
الله لكم عارا، وتذرون عبادة الرب الذي خلقكم أطوارا! هيهات! لقد ذهبتم بالشيطان
الرجيم إلى صراط العزيز الحكيم، فقلتم قولًا تنكره العقول، وتدفعه القلوب، وتستوحش
منه النفوس. ألا تسمعون إلى قول الله عز وجل: فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ. فما كان الشيطان ليرضى للعرب باللعنة والبكم والعمى
والصمم؛ فاتق الله ولا تكن من الجاحدين.
ومنها أنه إذا قالت الفقهاء والحكماء: أتانا محمد
ﷺ بكلام لم تسمع الآذان
بمثله، ولم تقع القلوب على لغته، له رونق كحباب الماء، وزبرج يعلو ولا يعلى وعجائب
لا تبلى ولا تفنى، وجدة لا تتغير، (قالوا): كان محمد
ﷺ أبلغهم قولًا،
وأحسنهم وصفًا. فيا سبحان الله! ألا يعلمون أن لو كان القرآن كلامًا للعباد لما
أقرت الأعداء من
٦٥ … بفضله، ولا عجزت القبائل طرًّا من مثله، وهو يناديهم في الكتاب
ويتحداهم في الوحي، بصوت رفيع، ونداء سميع، فيقول: هاتوا سورة من مثله إن كنتم
صادقين، وهم فرسان الكلام، وإخوان البلاغة، وأبناء الخطب، وأهل عداوة له وبغي عليه،
فتستحسر الأبصار، وتثقل الأسماع، وتنعقد الألسن، وتخرس الخطباء، وتعجز البلغاء،
وتحار الشعراء، وتستسلم الكهان. ثم لقد قايست البصراء بالكلام والعلماء بالمنطق،
بين ما بأيدينا من كلام النبي
ﷺ وما جاء به من كلام الوحي، فإذا بينهما بون
بعيد وتفاوت شديد، ليس بشبه له ولا مدان ولا قريب. وكذلك ينبغي لكلام الرب عز وجل
أن يعلو كلام الخلق، وألا يشبه قول العباد في تأليفه وأحاديثه ومعانيه وجميع ما
فيه؛ لأن الله عز وجل لا يشبهه شيء، من ذلك أنه إذا قال المسلمون: كان محمد
ﷺ يرى ماضي أسلافنا وصلح آبائنا من العجائب العظام، والآيات الكبار، ما هو
جديد عندنا، بَيِّنٌ قِبلنا فلم يعف أثره، ولم يدرس خبره، ولم يتقادم عهده: من شجرة
ناداها فأقبلت ثم أمرها فرجعت، ومن نحو بعير تظلم، وذئب تكلم، وأشباه لذلك كثيرة،
ونظائر له عجيبة، قالوا: كان محمد
ﷺ كاهنًا حاذقًا، وساحرًا ماهرًا، يشبه
بالخيال، ويأخذ بالأبصار. كيف والجموع الكثيرة تصدر عن الأطعمة اليسيرة والمياه
القليلة، شباعًا رواء، أيكون ذلك والسحر سواء! والأخذ بالعيون لا يجري في البطون!
ولو كانو ينظرون لدينهم وينصفون من أنفسهم، لعلموا أن أمر الساحر يدور على إفك
وغرور، وأن لمحمد
ﷺ آثارًا قائمة، ومنافع دائمة. ثم لو كانت الكهانة والسحر
يبلغان مثل هذا من الأمر، لبطلت آيات الكتب، وعلامات الرسل، ولعلت الشبهة، وسقطت
الحجة، وكذبت النبوة، ولبطل ما كان [يفعله]
٦٦ عيسى عليه السلام: من إبرائه الأكمه والأبرص وإحيائه الموتى. فلا يكونن
التقليد للرجال مبلغ علمك، ولا القبول لدعواهم بلا بينة.
ومن ذلك [أنه] إذا قالت البصراء من أمتنا والعلماء بملتنا: كان النبي ﷺ
أميًّا لا يحسن الكتاب وحافظًا لا ينسى القرآن، وقلما يجتمع العقل السديد والحفظ
السريع والنسيان البطيء، قالوا: كان أخط الناس يدًا، وأذكاهم حفظًا، كان يكتب
بالنهار، ويدرس بالليل.
ولعمر الله أن لو كانت الحال كما يقولون والأمر كما يصفون، لما خفيت الصحف له،
ولا اكتتمت الدارسة عليه، ولما كان يطيق سترها عن أهله، ولا حجابها دون قومه. وكيف
تؤمن القلوب وتقر العقول أن رجلًا كبيرًا حمل علمًا كثيرًا وحكمًا جماء: من آيات
متشابهة، وسور متوالية، وهو صاحب أسفار مترامية،
٦٧ وأخو حرب دائمة، لا يبطئ لفظه، ولا يسقط حفظه! لولا
٦٨ أن الله عز وجل كفاه أن يحرك به لسانه، وضمن له جمعه وقرآنه، فقال عز
وجل:
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ فلم يكن يسقط واوًا
ولا ألفًا، ولا ينسى كلمةً ولا حرفًا. ما أبين هذا وأعجبه! وأعجب منه المنكر
له.
وأما قولهم في الخط وإكثارهم في الكتاب، فإن الله عز وجل جعله أميًّا ليثبت حجته،
ويصدق مقالته، ولئلا يشك المبطلون في أمره، ويقولون: تعلمه من غيره؛ فإنه قد قال
ذلك بطائن من منافقة العرب وطوائف من كفرة العجم، فنطقت [به] الأعداء من جيرته،
والحسدة من عشيرته، الذين بلغوا [ما بلغوا]
٦٩ من مجادلة حقه، ومخاصمة ربه، كفاة لمن قرب، ووكلاء لمن بعد، فيما لم
تكن العرب واقعة عليه، ولا الأمم مهتدية إليه؛ لأنهم
٧٠ قد أحاطوا من علم خبره، وخفي أثره، بما كان عن غيرهم محتجبًا، ومن
سواهم مكتتمًا. وقالوا: لو كان محمد
ﷺ يتعلم من بشر أو يختلف إلى أحد، لما
خفي عنا ولسقط
٧١ علينا. وحقًّا لو كان محمد
ﷺ يختلف إلى أحد صغيرًا، أو يتعلم من
بشر كبيرًا، لعرف ذلك أترابه المختلفون معه ورفقاؤه والمقتدون، ولما جهل ذلك من
حوله من جيرته نصرة، ولا من معه من أهل بيته دنية، الذين عليهم يورد ومن قبلهم
يصدر، ولكان شائعًا عند حشم معلمه وجيرة موضعه الذين كان يختلف إليهم، ويتأدب بين
ظهرانيهم. ولو كانوا بذلك عالمين، أو فيه من أمره شاكين، ثم بلغهم وتقرر قبلهم أنه
يقول: إن الله عز وجل أوحى إليه، فيما أنزل من الكتاب عليه:
وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ
إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ لخاصمه منهم من كفر، ولكفر به منهم
من آمن. ثم يدعي ذلك قرآنا، وينتحله وحيًا؟ أما كان يرهب أن ينتشر في الأقربين،
ويخرج إلى الأبعدين، فتبطل حجته، وتنقض دعوته، وتسقط نبوته، وينفر أصحابه الذين لم
يصبروا
٧٢ معه في المجاهدة أنفسهم، ويبذلوا عند الشدائد مهجهم، وينفقوا فيه على
الحاجة أموالهم، مناصبين لأهل الشرق والغرب والعجم وكل الأمم، وهم قليلون مستضعفون
عائلون جائعون، لا طلبًا لدنيا ولا طعمًا في منال، إلا لما تعقبوا من قوله، وعرفوا
من صدقه. ولولا أنه أخبرهم ووعدهم أن يغلب كسرى وقيصر لهم، فصدقوا بقوله، وآمنوا
بوعده، حتى قويت البصائر، وصرمت العزائم، وقويت النيات، فنشطت النفوس، وشجعت
القلوب، وحملت الأبدان، لما وقع لهم طمع فيه، ولا ذهب لهم وهل
٧٣ إليه. فكن من ذلك على يقين لا يخلجه شك، ومعرفة لا يخلطها ريب، إن شاء
الله.
ومن ذلك أنه إذا قال المسلمون: ما من فعال محمود، ولا مقال معروف، ولا خلق كريم،
ولا أدب فاضل، إلا وقد أدب الله عز وجل به محمدًا
ﷺ وأنزله في الكتاب إليه،
فكان يأمر بالمكارم، ويحض على المحامد، ويعمل بالمحاسن التي ليس فيها مدخل لشبهة
طاعن، ولا معلق لحجة قائل، ولا مغمز لبصيرة عائب، ولا موضع لخصومة بشر، في وعد أو
عهد، أو حل أو عقد، أو مقال أو فعال، أو غير ذلك من الأمور — قالوا: أمور حمل عليها
نفسه، ودعاه إليه عقله، وصبر عليها، لما أمل ورجا فيها. سبحان الله! وما أمل بها
وارتجى منها؟ إن قالوا: الدنيا، فلقد أكذبهم إدباره عنها، حيث أمكنته القدرة منها،
وأعثرته الحال عليها. وإن قالوا: حب الأثرة، فقد جعل نفسه للمسلمين أسوة: في سهامهم
وقصاصهم، وحدودهم وحقوقهم، وغير ذلك من أمورهم. وإن قالوا: الملك، فلقد كان أشد
الناس لربه تواضعًا، وأعظمهم في جنبه تصاغرًا، ما إن أكل متكئًا قط إلا مرة، ثم قعد
كهيئة الفزع لها النادم عليها، فقال: «اللهم إني عبدك ورسولك.» وإن قالوا: النعيم،
فمن كان أيبس منه معاشًا، وأخشن رياشًا، وأغلظ مأكلًا! وكيف يذوق العيش أو يجد لذيذ
النعيم، من حرم السكر والخمر، ونهى عن الديباج والقز، وكان أكثر دهره صائمًا، وأطول
ليله قائمًا! فإن قالوا: طلب الصوت
٧٤ ورغب في الدين، فذلك ما لم يطلبه أحد في حب الصوت والتماس الحمد لما
صبر مغاضب قومه، وملاوم أهله، وشتائم العرب وتوعد العجم، واستهزاء قريش؛ يرمونه
بالعقوق، ويقذفونه بالجنون، ويبهتونه بالسحر، وليس يدري ما يهجم به الأمر.
٧٥
أم يقولون طلب تأثيل الملك لقومه، وأراد توطئة الولاية لأقاربه فيكف يطلب لقومه
ما قد زهد فيه لنفسه! أم كيف يطلب لهم عز الملك وقد أوطأهم الذل ثم القتل. لعمر
الله أن لو أراد الملك لأقاربه، وأراد طلب السلطان لذوي رحمه، لوكد لهم عقدًا لا
يحل، ولأبرم لهم أمرًا لا ينقض، ولأثل لهم في عنفوان أمره ملكًا لا يخرج من أيديهم،
ولا يبرح
٧٦ أبدًا فيهم، امتثالًا لصنيعكم واحتذاء على مثالكم؛ مع أقاويل جمة
ونظائر كثيرة، لا يستقيم لهم معها أن يقولوا إن محمدًا
ﷺ غلب العرب وقهر
العجم؛ أو قال في أمر السلطان والنجوم بكذب.
فإن قلتم إن محمدًا
ﷺ كان في قوة عقله وبيان فضله، على ما قلنا وقلتم
وصدقنا به نحن وأنتم، ولكن هفت العلماء وزلت الحكماء وأخطأت القلوب؛ فقد يعلم أمير
المؤمنين — وأنتم بذلك من العالمين — أن خطأ قلوب العلماء كخطأ دائرة الرحا، ليست
العلماء بمخطئة إلا المرة والثنتين، كما لا تخطئ الرحا إلا الحبة والحبتين. ومثل
الذي نسبتم إلى النبي
ﷺ من الخطأ عندكم والجهل في أنفسكم، كثير لا يحصيه
أحد، ولا يبلغه عدد. وأمير المؤمنين واصف بعضه لكم، ومورد ما حضر كتابه إن شاء الله
لكم. وايم الله على ذلك لو قالت العلماء من المسلمين هبوا محمدًا
ﷺ كان في
أمر النجوم من المخطئين، فكيف أخطأت العرب وهفت الأمم في ترك مجادلته ورفض منازعته،
وكيف لم تقل العلماء من إفتائه
٧٧ والحكماء من حكمائهم، توبيخًا منهم له، وتعييرًا لمن آمن معه: هذا أمر
واضح الأكاذيب وأبطل الأباطيل؛ فلا يثبت مع قولهم إيمان، ولا يقيم على شرحهم إنسان.
فإن قلت: فلعل ذلك قد كان، ولكنه درج على طول الأزمان، فكيف إذن صدقت العرب بنبوته،
ولم تكفر القبائل برسالته، وهم يسمعون كذبًا لا ينفع معه صدق كان قبله، وباطلًا لا
يعصم معه حق حدث بعده، وإن قلتم: أدخلهم بالقهر وضبطهم بالقتل وأكرههم بالسيف، فما
بال القليل من المسلمين الذين قهرهم الكثير من المشركين، ما بالهم آمنوا وصدقوا،
وصبروا وصابروا، وجدوا وجاهدوا، كيف لم تنكسر عزائمهم، وتهن بصائرهم، ويرجعوا إلى
دينهم، ويهربوا عن توحيدهم! كلا! لو كان الأمر على ما تقول، لارفض القوم عن الرسول،
ولكان
ﷺ أول مقتول أو مخذول. فأحسن النظر فيما تذهب الأهواء برأيك إليه من
آيات النبي
ﷺ. وإن جمحت الدعوى بكم، فقائل: قد مالت به الأهواء في الباطل،
فقال: إنه إلا يكن الأنبياء ذكرت النجوم في صحفها بينت الحكماء منها ذكرًا في
كتبها، فجعلت المنقض من الكواكب بين الأعوام، دليلًا على أمر يحدث تلك الأيام، ولا
ما هذا الاختلاق يلط به الجاهل للفساق.
٧٨ ما إن وضعت الحكماء ذلك في الكتب، إلا ليالي ملئت السماء من الشهب.
وبالله لو ادعيتم غير ذلك فكان حقًّا، وكانت القالة منكم صدقًا، لما كانت الدعوى
بناقضة لآية النجوم حجة، ولا مدخلة على أحد فيها شبهة؛ لأن رميًا يقع فرط السنين من
الكواكب، لا يبطل رجمًا قد ملأ السماء من كل جانب. ثم لو لم تكن النجوم آية
دامغة،
٧٩ وحجة بالغة، ودلالة قاهرة، وعلامة باهرة، وأمارة ظاهرة، وشهادة قاطعة،
وبينة عادلة، وداعية قائمة، تبطل أظانين المشركين، وتردع أقاويل المنافقين، لما كان
النبي
ﷺ ليعظم أمرها، ولا ليكرر في آي القرآن ذكرها، رهبة لمناهضة أحياء
العرب، ومعرفة بمجادلة إخوان الكتب، الذين لو وجدوا فيما كتب به إليه أمير المؤمنين
من أمر النجوم واحتج [به] عليك من ذكر الرجوم، موقعًا لظن أو معلمًا بطعن أو مغمزًا
لقول، لناصبوه إذن بالمجادلة، وكاشفوه بالمنازعة، وجاهروه بالقول الذي لا يستطيع له
ردًّا، ولا يطيق له جحدًا، ولكنها آية ملأت الأقطار كثرة، وحسرت الأبصار قوة، قد
وجلت العقول، وولهت القلوب، وملأت النفوس جزعًا ووجعًا، وفزعًا شغلهم عن الأولاد،
وأذهلهم عن البلاد، حتى بلغ المؤمنين وتقرر عند فقهاء المسلمين أن الله عز وجل، لما
ملأ السماء حرسًا، وأحدث لها رصدًا، وخلق فيها شهبًا، ذكرت العقلاء من العرب، وقعات
الله عز وجل في الكتب، بقوم نوح وعاد وثمود، وأشباههم من مؤلفي تلك الجنود، الذين
كانوا أشد بطشًا، وأكثر جمعًا، فانفرجت أيديهم عن كرائم أموالهم، وأرسلت أنفسهم
متائن عقدهم. وإن أهل الطائف لما فعلوا ذلك بأموالهم، وأجمعوا فيه الخروج إلى
فقرائهم، قام فيهم رجل منهم ذو سن وعقل فقال: يا معشر العرب، لا تهلكوا أنفسكم قبل
أن تهلكوا، ولا تخرجوا من أموالكم قبل أن تخرجوا، تفقدوا مواقع نجوم السماء، وكواكب
بدور الدجى، فإن كانت النجوم التي حدث الرمي بها والنجوم التي أخليتم الأموال لها،
هي لبروج الشمس والقمر ومسال
٨٠ الحيوان والشجر، فهي جوائح الاستئصال، المتلفة الأنفس والأموال؛ وإن
كانت النجوم التي حدث القذف بها، إنما هي نجوم خلقت اليوم، فليست المعرفة بواقعة
على مبتداها، ولا الأبصار بلاحقة منتهاها، فأمسكوا العقد
٨١ عليكم والأموال، فإنه أمر يحدث في إحدى هذه الليال.
فإن قلت: وكيف وقعت الأمور في هذا الرجل كالعيان، وصارت المقالة منه كوعي الآذان،
أنبأك أمير المؤمنين أن أوعية الفقه من المسلمين، الذين حملوا إلينا سنن الدين، هم
أدوا ذلك إلينا، وأبقوه فخرًا
٨٢ … علينا، فما إن ينفك منهم مفتخر يقول: أبونا الذي حبس على العرب
الأموال والعقد، فما إن يدفع القول في ذلك منا أحد. هيهات ما كانت العرب لتقر عند
الفخار، إلا بطول هو أبين فيها من ضوء النهار. فافهم ما كتب به أمير المؤمنين في
هذا إليك، ولا يكن التعلل فيها بالشبهات أوثق ما لديك؛ فإنه قل حجة إلا وإلى جنبها
شبهة تخيل للعقول، وتعرض للقلوب، وتجلجل في الصدور؛ فلا يثبت مع تخليها، ولا يقيم
لتعرضها بشر إلا من وزن الحق والباطل بميزان عادل، لا يميل إلى تفريط، ولا ينحط في
تقصير. وقد جعل الله عز وجل العقول موازين للأمور، فزنوا ما سمعتم من حجج كلام الرب
عز وجل بما تنفون به الشبهة عن الحق، ولا تميلوا اللسان، فتخسروا الميزان. وسيعلل
أمير المؤمنين إن شاء الله بما جاء عن ذكر ما كتب به إليكم من أمر النجوم والرجوم
والشهب في القرآن والرواية والكتب؛ فألطفوا النظر في صحة معانيه، ونحوا الهوى عن
شبهة ما
٨٣ وقعت فيه: قال الله عز وجل:
وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا
لِّلشَّيَاطِينِ وقال:
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي
السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ *
وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ وقال:
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ. وإن شطب عن الحق شاطب، أو
ذهب إلى الباطل ذاهب، لا يعرف مذاهب كلام العرب، ولا وجوه معاني الكتب، ولا تفسير
آي القرآن، فقال: إنما جعلت الكواكب والمصابيح حفظًا من الله عز وجل للسماء،
ورجومًا للشياطين من قبل أن يبعث الله محمدًا
ﷺ بالدين.
فإن في آيات القرآن ما فيه بيان مما يبطل دعواه التي لا بينة عليها، ويكذب مقالته
التي لا شهود لها؛ فقالت الجن — فجعل الله تبارك وتعالى قولها وحيًا — وبه منها
صدقًا:
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ
حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. ألا ترون أنها كانت الجن لمست السماء فلم
تجدها ملئت حرسًا شديدًا وشهبا، وقعدت الشياطين منها مقاعد للسمع فلم تجد شهبًا ولا
رصدا، أوَلا
٨٤ يسمعون إلى ما يحقق ذلك ويسدده ويصدقه ويشهد له من قول الله تعالى:
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ
* تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ مع
قول الجن أيام حرست السماء ورميت الشياطين:
وَأَنَّا لَا
نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ
رَشَدًا. فإذا أعملتم في ذلك فكركم، وقلبتم فيه نظركم، فكنتم على برهان
يقين، ونور مستبين، من استطاعة الجن للاستماع، وقدرة الشياطين عيسأل يعطى ومن يطلب
يجد ومنلى الاستراق، وإمكان السماء للقعود في تلك الحال الأولى، ففكروا في الحال
الأخرى حيث حرست الآيات أن تعارض باطلًا بحق، ومنعت الشياطين أن تنزل بصدق، وامتنعت
السماء أن يصعد إليها شيطان؛ فقال الله عز وجل:
وَمَا
تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا
يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ
لَمَعْزُولُونَ. قالت الجن:
وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ
شِهَابًا رَّصَدًا إن في قولهم الآن لأعظم نور وبيان. وأبين من ذلك لكم
وأصح لمن عقل إن شاء الله منكم، إخبار الله عز وجل حين جعلت الكواكب حفظًا من كل
شيطان مارد، أنهم
لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ
الْأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا ۖ
وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ مع إخباره في الحال الأولى أنهم يسمعون
ويقعدون وينزلون ويستطيعون ويتلون على ملك سليمان، فكن لهذا من الحافظين، وفيه من
المفكرين.
ومن آيات النبي ﷺ أنه لما نفرت القبائل من أعلام الشرك بجموعها، وتداعت
القادة من صناديد الكفر بأتباعها حذرًا على عير لها أقبلت من الشام بصنوف رغائب
أموال عظام، فكانت العير والنفير طائفتين: طائفة ذات عدة كثيرة وشوكة شديدة، وطائفة
ذات أموال رغيبة ورجال قليلة وفرصة ممكنة، أخرج الله عز وجل نبيه ﷺ ووعده
ومن معه من المسلمين إحداهما، فكره المؤمنون جموع المشركين، وأراد الله عز وجل أن
يقطع دابر الكافرين، ويشيد بذلك أركان الدين، فلما تراءت الفئتان، وتناوشت الفرسان،
وتلاقى الناس، وقبل ذلك ما قال الله عز وجل: سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ قبض النبي ﷺ قبضة [من تراب]
حثاها في وجوههم، فلم يتناه دون مناخرهم وعيونهم، فانصرفوا منهزمين بلا كثير قتال
من المسلمين. يا أهل الكتاب، فأيتما آية أعظم حجة وأوضح بينة وأقهر غلبة من هذه
التي لو صدرت الأمور بلا تحقيق لها، لانفضت الجموع من المسلمين كفارًا بها. أبشارة
الله المسلمين بإمداد الملائكة المقربين، وهزيمة نفير المشركين، التي نجمت الأمور
عليها، وتناهت الحال بهم إليها. أم قبضة من تراب يسير، ما ملأ المناخر من عدد
كثير.
فلئن قلتم: إن هذه آيات بينات، وعلامات واضحات، ولكنا [لا] نقر لكم بها ولا نؤمن
بقولكم فيها.
أفتؤمنون أن محمدًا
ﷺ مع ما نسبتموه من الفضل إليه، كان يختلقها كذبًا من
تلقاء نفسه، ثم يدعيها وحيًا من عند ربه، وهو لا يدري لعل الأمور [تقع] بخلاف ما
يقول، فيظهر كذبه، ويرفضُّ تبعه. وإن تزعم
٨٥ أن أصحابه كانوا كثيرًا أقوياء، نشاطًا جلداء، فكان على معرفة بقوتهم
ويقين من غلبتهم؛ فقد قال الله عز وجل:
وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ
الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ
بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ
يَنظُرُونَ. ولم يكن الرسول ولا غيره ليخبر أصحابه من أمورهم بما
يجهلون من أنفسهم، ثم يدعي ذلك تنزيلًا من ربهم. هذا لا تقبله الآراء، ولا تقر به
الحكماء، ولا يحده النظر.
أم تقولون: إنما أراد محمد
ﷺ ببشارته لهم وإخباره ما أخبرهم من هزيمة الله
عدوهم، أن يشجع جبنهم ويقوي ضعفهم، فكيف إذا لم يبق
٨٦ لما كان يرى من كثرة المشركين وقوتهم، وضعف المسلمين وقلتهم، بظهور
الأنباء على خلاف قوله، وأن يحتال
٨٧ الخبر على غير ظنه، فيقع ظفر يكذب نبوته، ويقطع حجته، ويكون له ما
بعده! وكيف إذا لم ينسب الأمر إلى نفسه وينحي الخبر عن ربه، ليكون الخطر أصغر
والشأن أيسر، إن جرت الأقدار بما يحذر، أو وقعت الأمور على ما يكره. ولكنه أثبته في
كتاب مسطور، ورق منشور. فعل لعمر الله يدل على النبوة التي كان بها واثقًا، ويهدي
إلى الوحي الذي كان إليه ساكنًا.
وإن عرض لنظرك، أو وقع في خلدك، أن الله عز وجل عود محمدًا
ﷺ الغلبة
وأجراه على المنعة، فكان يجري على عادة قد عرفها، ويسلك جادة قد خبرها؛ فلقد كانت
الهزيمة في أول وقعة أوقعها الله، ثم لقد دالت الحرب فيما
٨٨ بعد سجالًا فيما بينه وبينهم: تارة عليه لهم، وأخرى له عليهم. فناصحوا
الله عز وجل في نظركم، وقلبوا فيما يقول أمير المؤمنين فكركم. فلعمر الله ما كان
النبي
ﷺ ليقول لملوك المشركين: إن الله هزمكم برمية من تراب وهو يعلم أنه
عنده من الكاذبين. فأحضر كتابي هذا فهمك، واصبر له وإن خصمك؛ فإن هذه آية عظيمة،
وحجة بليغة، وبينة عجيبة، في غلبة العرب.
وأعجب من هذه وألطف، وأكثر منها وأعظم، الآية في غلبة العجم. واستمع: أمر الله
نبيه
ﷺ أن يقول للمؤمنين — وكانوا كما قال الله عز وجل قليلًا مستضعفين: إن
قبائل العرب ستتحزب عليكم، وإن الله سيهزمهم لكم، وحيًا أنزله في الكتاب، فقال:
جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ
الْأَحْزَابِ؛ فكان أصحاب رسول الله
ﷺ بعد ما نزل هذا القول
عليه بدهور طويلة وسنين كثيرة، محبوسين محصورين في حومة الموت وعسكر الخوف وخندق
القهر وذل الحصر، سوادهم الأعم وجلهم الأعظم حفاة عراة عالة، إخوان دير، وأصحاب
وبر، لا قوة بهم، ولا منعة لهم، ولا أسلحة عندهم، ولا عدة معهم، قد أحدقت العرب
بعسكرهم وأحاطت القبائل بخندقهم، وسالت الأحزاب تصديقًا لحتم الله عليهم، تريد أن
تزلزل أقدامهم وتهريق دماءهم؛ فكان المؤمنون كما وصف الله عز وجل من سوء الحال،
وضيق المآل، وشدة الكظاظ؛
٨٩ فإن الله قد وصف لهم حالهم، وأذكرهم فعلهم؛ ولم يكن النبي
ﷺ
ليصف لهم عن الله ما يجهلون، ولا ليذكرهم من أمره ما لا يعرفون؛ حذارًا أن تنكسر
عزائمهم وتتغير بصائرهم، فتنهزم أفئدتهم وتموت نجدتهم، وتختلف كلمتهم؛ فقال الله عز
وجل:
إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ
وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ
بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ
وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا حتى قالت طائفة منهم لأهل المدينة:
يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ
فَارْجِعُوا وقالت طائفة أخرى: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة، فأذن
لنا. يقول الله تعالى:
وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ
إِلَّا فِرَارًا. فبينا هم على تلك الحال قد أجمعت العرب بتفريقهم في
الجبال، وتقسيمهم بالقداح، وأخذهم بالأيدي، إذ قال لهم الرسول
ﷺ، فيما
ينبئهم به من علم الغيوب، ويبشرهم به من أمر الفتوح: «إن الله سينصركم على جمع
الروم ويغلب لكم جنود فارس فيهزم لكم جنودهم ويورثكم قصورهم ويستخلفكم في الأرض من
بعدهم ويبدلكم من بعد خوفكم أمنًا.» وعدًا صدقه الكتاب، وبشارة نطق بها الوحي،
فقال:
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ
لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي
لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا.
فقال أقوام وأناس ارتابوا حين تضايقت
الحال، وتزلزلت الأقدام، وطارت القلوب، ودارت العيون، وأشرف الموت: ما وعدنا الله
ورسوله إلا غرورًا أيعدنا هزيمة جموع الأحزاب، وفتح قصور الشأم، وغلبة جنود كسرى،
وقد سالت القبائل علينا من كل جانب، وأحدق الموت بنا من كل مكان، فبقينا في مسغبة
من الجوع، ومجهدة من الخوف، وضنك من الحال، مقهورين مقموعين.
٩٠ وقالت الخاصة من المؤمنين حين عاينوا الجموع من المشركين. وذكروا ما
خبرهم الله من تحزبهم عليهم ومسيرهم إليهم:
هَٰذَا مَا
وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ
إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا. فبينا أصحاب النبي
ﷺ في مضايق
تلك الحال، وشدة ذلك الخصال،
٩١ وعموم تلك البلايا الباهظة، والأمور الفادحة، التي قد أخذ بأنفاسهم
غمها، وبلغ مجهودهم كربها، رافعين إلى الله عز وجل أيديهم، يقلبون في السماء
أعينهم، إذ أرسل الله على تلك الجنود الكثيفة والجموع العظيمة والأحزاب المقتدرة،
ريحًا من الأرض وجنودًا من السماء، فقطعت الأبنية، وطيرت الأمتعة، وسفت التراب في
العيون، وقذفت الرعب في القلوب، فولوا مدبرين، وخرجوا منهزمين، لا يلوي والد على
ولد، ولا مولود على أحد. أمر صدق الله فيه قوله، وأنجز به وعده، وهزم الأحزاب وحده،
وذكر المؤمنين نعمته فيهم، وعرفهم منته بهم، فقال:
اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا
* إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ
وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ
بِاللهِ الظُّنُونَا. وقال عز وجل:
وَرَدَّ اللهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ما كان
الله عز وجل ليقتص على المسلمين في أنفسهم، إلا ما قد رأوه بأعينهم.
لولا أن هذا ما لا ينكره عقلك ولا يدفعه نظرك، لما جادلتك بالكتاب، ولا نازعتك
بالتنزيل. وإني لأترك من آيات النبي
ﷺ وعلامات الوحي، ما هو أعظم من هذا
وأبين وأجل وأوضح. ولكن ليس لي أن أحاجك من آيات القرآن، إلا بما عليه شاهد من
برهان، ومخبر من بيان؛ لا يستطيع عقلك ردًّا له ولا قلبك جحدًا له. وكيف ينبسط
لسانك أو يجترئ قلبك أن يقول: إن محمدًا
ﷺ أخبر أصحابه بالكذب وهم يعلمون،
فاقتص عليهم من أمورهم ما لا يعرفون! لا! ما يسوغ لك ولا يجمل بك، ولا يقبل منك أن
محمدًا
ﷺ يقوله من تلقاء نفسه؛ كيف! أما كان يخاف أن يكذبه أصحابه، وتنتقل
أحواله، وتنتقض أموره! لعمر الله لو وصفت بهذا من لا يعرف بفضل ولا ينسب إلى عقل،
لما كان سائغًا لك ولا جائزًا منك، فكيف تصف به من يرفع عن الناس قدره، ويفضل عليهم
عقله! وتقر أنك لم تر في الدنيا أحدًا صنع [ما صنع] وبلغ ما بلغ! فأيتما آية فيما
اقتص عليك أمير المؤمنين أعظم أو بينة أعجب: أمَا كان يتلى على المؤمنين في الكتاب
من اجتماع قبائل الأحزاب بجنود عظيمة قبل اجتماعهم بسنين كثيرة، أم ما كان
٩٢ ينادي به القرآن من الهزيمة لهم وينطق به الوحي من الفتح عليهم، أم قول
النبي
ﷺ لأصحابه: «إن الله عز وجل يؤمن خوفكم ويعز نصركم على الأمم» وهو على
تلك الحال ثم نجمت الأمور على ما قال، أم عسكران مطابقان وجيشان متقابلان، باتت
الريح تحوس
٩٣ أحدهما حتى انهزموا، وبات الآخرون منها في عافية وغفلة حتى أصبحوا؟
فأحسن النظر في أمرك، والتثبت في دينك إن شاء الله.
واعلم أن من أعظم الآيات وأبين الدلالات، على نبوة محمد
ﷺ وحقه، وأن ليس
يتقول شيئًا من تلقاء نفسه، أنه قال في عنفوان أمره: «إن الله عز وجل سيظهر ديني
على الدين كله» وجاء مع ذلك بأثرة عن ربه، في كتاب مخطوط وتنزيل محفوظ. فأي أمريه
لك
٩٤ أدل، أو أيهما عندك أعجب، إذ كنت بنبوته مصدقًا، ولرسالته محققًا:
الخبر الذي أخبره، أم الفعل الذي صدقه؟ لئن نظرت بعقلك وقلت في نفسك: كيف ترقت إلى
هذا نيته وارتفعت نحوه همته، أم كيف امتدت إليه بطنته وقويت عليه رويته؟ بل كيف
دعته إليه نفسه، وشجعه عليه قلبه، ودخل فيه طمعه، وطاوعه فيه لسانه، وهو يذكر جنود
كسرى، وجموع الروم، وملوك الترك، وملوك الشرك، وقيول اليمن، وصناديد الأمم؟ إن هذا
لعجب، ولا سيما إذا لم يكن في إرث ملك قاهر، ولا كنف عز غالب، ولا معدن علم
سالف.
ولئن أعدت النظر وكررت، فقلت: كيف وافق خبره أثره، وكيف صدق فعله قوله، حتى غلب
الشرق والغرب! إن هذا لعجب! وأعجب من هذا أمر يدلك أمير المؤمنين عليه، ويهديك إن
شاء الله إليه: لو قلت لأهل مملكتك ومن قبلك من أمتك: هل بلغكم أو تقرر قبلكم، أنه
كان في الدهر الأول، والعصر الخالي، أحد مثل محمد ﷺ بدأت الأمور به مثل حاله
من الوحدة والضعف والذلة والقلة، وصدرت الحال به كفعاله في الغلبة والمنعة، والقهر
والظهور، وغير ذلك؟ لقالوا لا.
ثم أنت لا تؤمن بمقالته، ولا تقر برسالته، إلفًا لدينك، وضنًّا بملكك، وطمعًا في
قليل من الدنيا قد نعاه الله إليك، ورغبة في صبابة عيش غير باقية في يديك؛ فهذا
عجب. وأعجب من هذا أمر يقفك أمير المؤمنين على نور حقه، ويوضح لك إن شاء الله بيان
أمره: أصبحت العرب طرًّا والأمم جميعًا في محمد ﷺ ثلاثة لا رابع لهم ولا
مخرج للحق من بينهم: رجل مصدق به من المؤمنين، ورجل مكذب به من الكافرين، ورجل شاك
فيه من المنافقين.
فأما الشاك فلما قيل له: أخرجت نفسك من الحق، وأبرأتها من الصواب، وأقررت عليها
بالخطأ، لقولك: لا بد أن يكون الحق في التصديق أو التكذيب، ولست على واحد منهما،
اعتزل عنها.
وأما المكذب فلما قيل له: أنت منكر والمنكر ليس بمدع، ومن لم يدع لم يلزمه بينة
ولا يسأل عن حجة، اتبع صاحبه. وايم الله على ذلك، لو سئل هذا المدعي عن بينته وكشف
حجته، فقيل له: من أين عرف قلبك، وأيقنت نفسك إيقانًا لا يخالجه شك، ومعرفة لا
يشوبها ريب ولا ينازعها شبهة، أن محمدًا ﷺ ليس برسول، لما دري ما يقول؛ لأنه
لا يستطيع أن يتقول على الرسل، ولا أن يتكذب على الكتب، فيقول: قد أخبر الله فيها
أنه لا يبعث نبيًّا، ولا ينزل وحيًا في كتاب مسطور، بعد التوراة والإنجيل والزبور.
بل قد يجد أهل الكتاب في أقاويل رسلهم وأخابير كتبهم، أن الله تبارك وتعالى ينزل
كتابًا جديدًا أو كلامًا حديثًا، بعد خراب بيت المقدس في آخر الزمان، ولم ينزل بعد
ذلك كتابًا إلا القرآن.
وأما الرجل المصدق بمحمد ﷺ فقيل له: أما أنت فقد ادعيت، والمدعي يسأل عن
الحجة ويقبل منه البينة، فما بينتك ومن يشهد لك؟ فقال: ألم تقولوا: إن الحق لا يخرج
من بيننا، ولا بد أن يكون مع بعضنا؟ قالوا بلى! قال: فأية بينة أحق وأعدل، وأي شهود
أزكى وأفضل من شهادتكم بسقوط صاحبَيَّ وثبوت الحق من بعدهما في يدي؟ قالوا: إن
الأمر لكما تقول، ولكن البينة أشفى للصدور؛ فأقام بينة من الكتاب، وشهودًا من
الوحي، وآيات سوى ذلك عظامًا، وبينات عوام، من كلام لا يقدر عليه الخلق، وصدق لا
يكون إلا من قبل الرب، شبيهًا بما أورده أمير المؤمنين عليكم، وكتب به في صدر كتابه
هذا إليكم، مما قد تشهد له قلوب الأمم، ويزكيه فعال العرب.
فلما أقام بينته، وثبتت حجته، ووجب حقه، وقضى به له، قيل له: وكيف توسعت الأمور
عليك، وضاقت المقالة لك، أن تقول: إن الله لا يبعث نبيًّا بعد محمد
ﷺ ولا
وحيًا ينزل غير القرآن، فأبطلت الكتب المحدثة، وأكذبت الوثيقة، ولم تترك وحيًا غير
القرآن، ولم يجز للنصارى أن تقول: لا نبي بعد عيسى عليه السلام، ولا كتاب خلف
الإنجيل؛ وعن ذلك من أخبار الكتب ما قلنا كل متنبئ
٩٥ بعد نبينا كذاب، فشاعت وجازت الحجة، ووضح العذر. وأما النصارى فيجدون
في أواخر كتبهم، وأقاويل رسلهم، أن الله عز وجل، يبعث نبيًّا حديثًا، وينزل كتابًا
جديدًا، فليس لهم أن يكذبوا نبينا
ﷺ ولا أن يردوا كتابنا.
فهؤلاء الثلاثة. أما الشاك فسقط، وأما المنكر فبطل، وأما المصدق فثبت ثبوتًا ليس
فيه مدخل شبهة، ولا موضع لحجة، ولا معلق لمنازعة. وذلك أن المنكر لوجوب حقه، والشاك
في ثبوت صدقه، لا يجد بدًّا من أن ينحي الصدق عن الخلق، ويخلي الدنيا من الحق، وهذا
قول المكذبين بربهم، الشاكين في بعثهم، فأحسن النظر في معانيه ينكشف لك عما فيه، إن
شاء الله.
ومن أبين آياته وأدل علاماته ﷺ ووسع له فيما صدر إليه: أنه لما أخبرت
النصارى واليهود أنهم لم يجدوا محمدًا ﷺ في التوراة والإنجيل موصوفًا
مكتوبًا، تجمعت العلماء منهم، وتدارست الكتب فيما بينهم؛ فلما نظروا إلى اسمه
وعاينوه بنعته، وكانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ويستفتحون بذكره على من سواهم،
[كفرت] طائفة حسدًا من عند أنفسها، وجحدًا من بعد ما تبين لها، وآمنت طائفة،
تصديقًا بكتابها، وخوفًا من ربها.
فلعمر الله لو [لا] أن الذين آمنوا بحقه وصدقوا بأمره، رأوا صفته عيانًا، وقبلوا
نعته إيقانًا، لما فارقوا أديانهم، ولا جادلوا إخوانهم، حتى وقفوهم على اسمه ونسبه،
وصفته وعلامته، وهم علماء بني إسرائيل، وحملة الإنجيل: من أهل الكتاب الذين احتج
الله عز وجل بهم على العرب، فقال عز وجل:
أَوَلَمْ يَكُن
لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. ولعمر
الله إنها لآية عظيمة، وحجة بليغة، ذكرها الله في كتابه، وجعلها على العرب من
بيناته، فقال لهم:
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ
إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ
يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ
رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا. يقولون: وعدنا أن
يرسل رسولًا، فقد أرسله، وحقق قوله، وصدق وعده. واحتج النبي
ﷺ بذلك وذكره.
ولم يكن النبي
ﷺ ليجادل ويحتج في أمرهم بكذب وباطل، ولم يكن ليقول للنصارى
واليهود، فيما ذكر الله من صدق الموعود: إنه في التوراة والإنجيل مكتوب موجود، إلا
وهو من ذلك على حق يقين، ونور مستبين. وكيف كان يستشهد من التوراة والإنجيل بكذب،
ويتقول عليهم الباطل، مع حرصه على تصديق أهل الكتاب ليستدعي به إيمان أحياء العرب.
أما كان يعلم أنه إذا قال لهم: إنه موجود في مثاني كتبهم، وسمي على أفواه رسلهم،
فلم يجدوا خبره يقينًا، ولا وصفه مستبينًا، أنهم سيدبرون عنه إدبارًا، تزداد به
العرب نفارًا، إلا أن يقولوا خطأ من علمه، وهواء من خبره، فكيف لم يخط إذن في كتبهم
حرفًا غيره، ولم يخالف منها شيئًا سواه، سبحان الله! لقد أكثر المؤمنون العجب من
ذهاب الأساقفة بكم، فأنتم إن تنكر ما يقولون لكم، مما ليس لذي لب أن يأذن له أن
يؤمن به، ولا أن ينبذ إليه سمعه،
٩٦ يقولون: إن أنبياء الله ورسله، المبعوثين بالرحمة إلى خلقه، لطفت
النبوة منهم، ووقعت الأخبار المنزلة عليهم، على صغائر الأمور، وغوامض الخطوب، فسار
الناس عليها، وأشاروا لهم إلى طلبها، فهي مكررة في مثاني كتبهم، وبطون صحفهم،
وأقاويل رسلهم، وتركوا من كلام الله النبأ العظيم، والأمر الكبير، والذكر الحكيم،
الذي ملك آفاق الأرضين، واستفاض على جميع العالمين، لم يذكروه بخير يأتمرون به، ولا
بشر ينتهون عنه؛ كلا! ما ترك الله على هذا خلقه، ولا بهذا وصف تبارك وتعالى نفسه؛
إنه لأرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين.
ولئن رجعت إلى قلبك، لتقولن في نفسك: لعمر الله لو كان هذا الأمر الذي طلع طلوع
الشمس، وامتد امتداد النهار فبلغ مشارق الأرض ومغارها، وسهول الآفاق وحزونتها،
حقًّا وصدقًا وعدلًا، لبشرت الكتب به، وتنبأت الرسل عليه، ودعت النذر إليه، تزيينًا
له وترغيبًا فيه، وأمرًا به. ولو كان ضلالة وجهالة وعماية، لتقدموا في التحذير منه،
والتزهيد فيه، والتثبيط عنه؛ فيدعو ذلك إلى أن تنظروا
٩٧ إلى كتب الأنبياء وأقاويل الرسل. فايم الله لئن طلبت لتجدن، ولئن اجتهت
لتوفقن، وما الصواب بممنوع، ولا الخير بمحظور. ولقد كانت العلماء بالكتب والبصراء
بالتأويل تجده، ولكنها كانت تكتمه بتحريف كلام الكتب عن مواضعه، وصرف تأويل الحكم
إلى أشباهه، حسدًا من عند أنفسهم وبغيًا بعد ما تبين لهم. ثم لقد اقتديتم بهم
وجريتم معهم وأخذتم عنهم، بلا حجة لكم، ولا قوة معكم إلا الاقتداء بالآباء والاتباع
للآثار. فاتق الله في نفسك، واتهم الرجال على دينك، ولا تجعل النظر إلى غيرك من ذوي
الشك في القلوب، والفسخ في
٩٨ … والتهم في التعطيل، الذين لعلهم يعرض لآرائهم ويقع في أوهامهم أن
يقولوا: فلعل ما يتلو عليكم أمير المؤمنين من آيات القرآن، ويقرع لكم من حجج الوحي
شيء زيد في المصاحف بعد النبي
ﷺ. وهذا ما لا يحتمله عقل صحيح ولا نظر قوي،
وذاك الشاك في شهادات الرجال، متفقة من بلدان وأمصار مختلفة، وشعوب وقبائل متفرقة،
ليس يدعوهم إلى ما شهدوا دين، ولا يحملهم على ما اتفقوا عليه دنيا، لا يستقيم له أن
يؤمن
٩٩ بما لم تدركه جوارحه وتحيط به حواسه؛ لإسقاطه حجة الإجماع وإبطاله
شهادة العوام. واتفاق المختلفين دلالة واضحة. فهو سائلكم عن الحجة في الإنجيل
والبينة على التوراة، شكًّا في الرب وتكذيبًا بالرسل، فما كنت قائله له أو مجيبه به
في كتابكم، فأجبه بمثله في كتابنا وإن كانت الأحوال منها غير معتدلة ولا مؤتلفة ولا
مرتفقة ولا واحدة، تعتدل حالاهما، ويتفق أمرهما، من كتابكم ما لم تنزل به الملائكة
وحيًا كالقرآن، ولم يشافه المسيح به أصحابه باللسان، إنما كان فعلًا أثبت من بعده،
ولم يكن الفعال موضوعًا بعده.
١٠٠ وليس يكتب أمير المؤمنين بهذا إليكم شكًّا فيه، ولا يورده عليكم مرية
به.
ولقد علم أمير المؤمنين أن كتب الله عز وجل محفوظة، وأن حججه مخزونة، لا يزاد
فيها على تقادم عهد، ولا ينتقص منها على تقارب دهر، وأن ذلك ثبت في الإنجيل من بعد
عيسى عليه السلام، وأنه قال لمن اجتمع إليه من الحواريين: «بالوحي أكلمكم، والأمثال
أضرب لكم.» فأمثاله المضروبة كلام، وكلامه الرائع وحي. ولكن ما بال الشك يُنفى عن
كتابكم، بحجة الاجتماع عليه عندكم، وهو على ما وصف أمير المؤمنين لكم، وسيان في
تنزيل كتابنا، وقد أدرك شهادة دينه، إما ما قربا
١٠١ من عهده ومعاينة وحيه واجتماع على حفظه، هذا حكم مختلف.
فقل للذين يشكون فيه ويرتابون به: أوقعوا أوهامكم على حالات الأوقات التي تعرفون
وقوعها
١٠٢ بطبقات الرجال الذين يتهمون.
فإن قالوا: أما طبقات الرجال التابعين، وحالات زمان أمير المؤمنين، فذلك ما لا
يسوغ الأقاويل فيه، ولا تدخل الشبهة عليه، لانتشار القرآن وامتداد الزمان وكثرة
الحملة لآياته فيهم، والحفظة للسانه منهم؛ ولكن الدين الذي نزل به القرآن، وقبض
النبي ﷺ بين أظهرهم. وكيف بوقوع تهمة أو دخول شبهة، على أقوام [لبث] النبي
ﷺ عشرين حجة فيهم يتلو كتاب الله عز وجل في كل عام عليهم، حتى حملوه في
صدورهم، وحفظوه في قلوبهم، وكرر في آذانهم مسموعًا، وأمر على أبصارهم مكتوبًا، وجرى
على ألسنتهم متلوًا، وجمعه كثير منهم محفوظًا؛ ثم توارثوه فيهم وتداولوه فيما
بينهم، حتى أدوه إلينا، وأوفوا به عندنا، من مواضع متفاوتة، وأصناف وأجناس متباينة،
على كلمة واحدة!
فإن قالوا: اتفقت الرجال على الزيادة فيه وأمكنت الحال من الحمل عليه، فليعلموا
أن المؤمنين المخلصين ليسوا في الزيادة متهمين، وأن المنافقين الملحدين ليسوا على
ذلك بقادرين. وكيف يقدر القليل من المنافقين على مخالفة الجمع من المؤمنين، بعد ما
حفظته قلوبهم، ووعته أسماعهم، ثم تكتتم القدرة لهم وتستتر الزيادة منهم! هذا ما لا
يقدر عليه منافق، ولا يطيقه مشرك ولا فاسق. وايم الله أن لو قدرت اليهود على
الزيادة في الإنجيل، لأفسدوا كتابكم وغيروا دينكم؛ ولو جعل الله المنافقين على
الزيادة في كتابه قادرين، لبدلوا ديننا وغيروا حالنا. ولو كانوا لذلك مقرنين وعلى
ذلك مقتدرين، لكان الذي كتب به أمير المؤمنين إليكم، وأورده من حجج الله عليكم،
أولى ما تلقون، ورأس ما تقترفون. فلا تلقين إلى ما قاله [المضل] سمعك، ولا تنصت
الدهر إليه ذهنك، فإنه اتخذ الشك في كتابنا ذريعة إلى الإخلال بكتابك، وسلمًا إلى
الشك في دينك
١٠٣ وعلة في الطعن على ملتك؛ ولكن قل يا ولي الشيطان: أنى وقع لك إيمان
بأنك من ولد فلان؟ أتقول: شهدت الجيرة، واجتمعت العشيرة، واتفق المختلفون، فذهب
الشك، وزال الريب، ووقع الإيقان، من غير العيان؟ صدقت. فما بال الشك فيما اجتمعت
العامة على القول به، واتفقت الجماعة في الشهادة عليه من آيات الكتب وبينات الرسل!
وإن ذهب بهذا عن أمره، وباعده
١٠٤ عن شبهه، فنؤمن أنه من نطفة خلق، ومن رحم خرج، فإن جحدوا بي ألا يؤمن
بما لا يرى، فقل: أرأيت لو كنت سميعًا أعمى، أكنت تؤمن بشيء مما في الدنيا: من سماء
أو هواء، أو بحر أو سبع، أو أرض أو جبل، أو شبه ذلك مما لم يدركه العيان ولم يقبله
إلا عن الناس؟ فإن قال نعم، فقل: فهل لك إلا بالاجتماع الكفر بالرب،
١٠٥ وما لدائه دواء غير الصلب. فاتق الله إذ كنت إمامًا وقائدًا لأهل ملكك،
لا تقدهم إلى النار فتحمل أوزارهم مع وزرك.
فإن من أبين آيات الوحي، وأدل علامات النبي
ﷺ أنه لا يبتدع في الدين أمرًا
من تلقاء نفسه، ولا يتقدم في الأمور بين يدي ربه. والله أظهر فيما أنزل من الكتاب
أمورًا كان يحسبها
ﷺ مستورة، فقالت تأديبًا له، وإخبارًا لمن آمن من
بعده:
١٠٦وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ
عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ
مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن
تَخْشَاهُ. وقال:
عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ *
أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ
* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ *
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ
* وَأَمَّا مَن جَاءَكَ
يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنتَ عَنْهُ
تَلَهَّىٰ * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ. وقال تعالى:
وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ
إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ
الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا
نَصِيرًا. وقال له حين صرف قلبه عن بيت المقدس إلى البلد الحرام حين
سكنت القلوب إليها، وأنست النفوس بها:
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن
وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ. وكانت القبلة التي صرفه الله إليها وأمره بها
عظيمة على المنافقين واقعة بخلاف الكافرين، كبيرة
١٠٧ إلا على الذين هدى الله من المؤمنين؛ فإنهم قالوا: إذا اختلفت القبلتان
وافترقت الجهتان، كانت الطاعة فيهما واحدة لا اختلاف فيها ولا افتراق عليها. وكيف
تختلف الطاعة من رجل بنى بأمر الله عز وجل ثم هدم بوحي الله.
فإن قلت: إن الله حوله عن أفضل القبلتين وأقوم الجهتين، فلا سواء في الفضل البين
والخير السر: قبلة سلط الله عليها الكافرين ولم يمنعها من الظالمين، وقبلة منعها
بجنود من عنده، وعصمها بغير ما حول من خلقه ولا حرمة يدعيها أحد ممن فيها؛ فأرسل
طيرًا أبابيل ترمي الأعداء بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول. فإن تقل: هذا خبر
ننكره، وقول لا نعرفه؛ فبأي حديث بعد هذا تؤمن، وتشهد لله عز وجل أنه من قبله،
وأنتم تعلمون أنه أنزل الله عز وجل سورة الفيل على قوم أدركه منهم بشر كثير.
فإن قلت: إن محمدًا
ﷺ خبرهم بما عاينوه وأدركوا خلافه، نقل: إنه أراد أن
يفرقهم عنه ويوحشهم منه، وأحب أن يرموه بالكذب، ويقذفوه بالحمق، ويصموه بالجنون،
ويظنون
١٠٨ به الظنون، كلا! ما كان نبي ولا غير نبي ليجاهد أقوامًا بخلاف ما رأت
أبصارهم وشاهدت آباؤهم، فيخبرهم بخلاف ما شهدوا، وتكذيب ما عاينوا. فلا تكونن في
هذا من الممترين، ولا بأمر الفيل من المكذبين.
فلعمر الله لو كان من أمر النبي ﷺ ما تلحد أنت وقومك إليه لما قام معه
رجلان ولا اختلف فيه سيفان. وإن فيما صنع الله عز وجل بالفيل وأتباعه، دلالة على
قبلة الله وأنبيائه. فاتق الله! فقد شرح أمير المؤمنين علامات النبي ﷺ وكشف
الأغطية لك عن النور بآيات الوحي. فإن مالت الأهواء بك، وغلبت الأساقفة عليك، وحضرك
الرؤساء الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى بلا حجة عندهم، ولا سلطان أتاهم فقل:
أنبؤني عما اجتمعت عليه النصرانية وذهبت إليه بهم المعاني من تشقيق الكلام وتصريف
الكتب: أحروف تتعسفونها، أم لغة تعرفونها؟ فإن قالوا: إنهم بغير لغة يتكلمون، فهم
إذن قوم يلعبون. وإن قالوا: إنهم يتكلمون بلغة معروفة ومعان معلومة، فقل: أخبروني
عن قولكم: أب وابن، أهما ما تعترف العقول من المنطق ويقع في القلوب من المعنى أم
لا؟ فإن قالوا: لا ليس ذلك بالذي تذهب أوهام العباد إليه، ولا بالذي تقع الحقائق في
الآباء والأبناء عليه، إنما هو كقول الله عز وجل في التوراة لإسرائيل: «بكرى» لا
يعني ولادة الرحم؛ وكقول المسيح عليه السلام للحواريين: «أنتم إخوتي» لا يعني أخوة
النسب. فذلك قول لا يجدون معه بدًّا من أن ينسبوا عيسى عليه السلام عبدًا. وإن
قالوا: بل هو ما تجري به ألسن العباد، ويقع في قلوب الخلق من الولادة المعروفة
والأبوة المعلومة، فليخبرونا متى كان الأب والدًا، والابن مولودًا: أقبل الولادة أم
بعدها؟ فإن قالوا: قبلها، رجعوا عن القول الأول بتثبيت الأبوة. إلا أن ذلك ليس
بالشيء الذي تذهب إليه الأوهام، ولا بالمعنى الذي يقع في قلوب الأنام.
ولا بد إذا سقطت الولادة المعروفة وبطلت الأبوة الموجودة، أن يقولوا: إن الأب
والابن اسمان علقا على غير معنى، ونسبان أضيفا إلى غير حق؛ فيقرون أن عيسى عليه
السلام خلق مثلهم، وأنهم يتكلمون بغير لغة أحد منهم. وإن قالوا: إنما كان الابن
مولودًا والأب والدًا بعد الولادة، فقد أقروا بأن الابن حدث مخلوق وعبد مربوب،
لقولهم إنه لم يكن حتى ولد، ولم يولد حتى خلق. وقل لمن يقول الزور العظيم، ويقذف
بالإفك المبين: أليس الأب أبًا على حياله ولم يزل، والابن ابنًا نجل، وروح القدس
كذلك؟ فإن قالوا: نعم، فقد أقروا بأنهم ثلاثة متباينة، وقعت عليهم ثلاثة أسماء
متفاوتة، وتركوا قولهم: إنهم ثلاثة أصلهم واحد.
وإن قالوا: الأب والابن وروح القدس واحد، ولكن بعضه أب وبعضه ابن وبعضه روح
القدس، فقد دخلوا في التحديد الذي هو عيب عندهم، وقالوا في التبعيض بما هو كفر
قبلهم. وإن قالوا: ليس مبعضًا، ولا مجزأً، ولا محدودًا، ولا ثلاثة متباينين، فإذًا
هم قوم يلعبون: يقولون: الأب ابن، والابن أب، والوالد مولود، والمولود والد،
والكبير صغير، والصغير كبير، والقليل كثير، والكثير قليل. وهذا من أبين المحال
وأخلف المقال. وليس من المنطق ما لا يوجد في لغة عرب ولا عجم، ولا لسان أمة من
الأمم. وإنما أرسل الله عز وجل كل نبي بلسان قومه ليبين لهم، فيضل الله الظالمين.
ولولا ذلك لما فهمت الأمم مذاهب أقاويل الرسل ولا معاني أحاديث الكتب. فلا تطع
الذين يلعبون بأنفسهم، ويتكلمون بغير لغتهم، ويقولون: الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة؛
وهذا محال في مجاري المقال، ومعاني الفعال.
لعمر الله لئن اتهمت عقول الأساقفة على دينك، واهتممت بالنظر في توحيدك، لتعلمن
أن الواحد لا يكون ثلاثة وأن الثلاثة لا تكون واحدًا، إلا على وجه ما له ثان يقول
به، ولا منه مخرج تستريح إليه. فألق نحوه سمعك، وأنصت إليه فهمك؛ فإن أمير المؤمنين
واصفه لك، وليس واقعًا إلا على المخلوقين، ولا لازمًا غير المحدودين، ولا داخلًا
على رب العالمين: وهو أن يكون الشيء أصله واحد وأجزاؤه كثيرة، من نحو الإنسان، وهو
أصل يجمعه اسم، وله أجزاء تلزمها أسماء؛ فليس الجزء بالأصل، ولا الأصل بالجزء، ولكن
الجزء بعض الأصل. فإذا أردت الجزء، قلت يد الإنسان وسمع الإنسان. ولولا أنه محدود
مخلوق مجزأ مبعض لما جاز هذا القول فيه ولا دخل هذا المثل عليه؛ وكذلك الشمس: الأصل
واحد، وهي شمس، والأجزاء كثيرة وهو عين الشمس وضوء الشمس وشعاع الشمس ودقيقها
وغليظها وحرورها وأعلاها وأسفلها وأشباه ذلك.
فلئن قلت سميت كل جزء من الأجزاء على حياله إنسانًا، وكل جزء من الشمس دون أصله
شمسًا، ونسبت فعل الأصل إلى بعض أجزائه، وتركت أن تنسب الأصل فاعلًا ببعض الأجزاء،
كما تقول: بسط الإنسان بيده، ومشى برجله، ونظر بعينه، ثم ضربت ذلك لله عز وجل مثلًا
وجعلت الله له قياسًا، فقلت: الأصل واحد، وهو الله عز وجل، والأجزاء كثيرة وهي أب
وابن وروح القدس، وكل جزء منها إله على حياله ورب دون غيره، لم تجد بدًّا أن تلحق
اليد والعين والنفس بالأب والابن وروح القدس، فتكثر آلهتك، وتحدد ربك، وتترك قولك:
إن الله ليس محدودًا ولا مجزأ ولا مبعضًا؛ إلا أن يكون إنما تريد مذاهب الأسماء
فتقول: المعنى واحد، وهو الله عز وجل، والأسماء أب وابن وروح القدس. فإن كنت تقول
هذا وكنت إنما تعبد أسماء، فما تجد بدًّا من أن تعبد الأسماء كلها وتقول: إنها آلهة
على حيالها، حتى تقول باسم ارحمني، وبثان اغفر لي. فاتقوا الله يأهل الكتاب؛ فإن
الله عز وجل ليس بأب ولا ابن ولا اسم، ولكن له الأسماء الحسنى فادعوه بها، وذروا
الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون.
فإن أشارت الأساقفة إلى بعض الإنسان باليد والرجل وأشباه ذلك وقالوا ليس إنسانًا،
فقل لا، ولكنه للإنسان، وقل هو إنسان بكماله. وكذلك إن أشاروا إلى بعض الشمس
فقالوا: أليس هذا الشمس طالعًا، فقل لا، ولكنه بعضها، ولو كانت الأسماء التي تقع
أبصاركم عليها وتشير أيديكم إليها من الشمس والسماء والهواء شمسًا وهواء وسماء
لكانت الشمس والهواء والسماء أكثر مما يبلغه الإحصاء. ولو قصدت بالإجابة لمسالك هذه
الأودية، لبطلت الحجج الداحضة وانقطعت الأقاويل المناقضة. وسل من قبلك من أساقف
أمتك وشماسة أهل ملتك الذين يزعمون أن عيسى المسيح، ويرفعونه أن يكون عبدًا: على أي
شيء وقع اسم المسيح من عيسى: على الروح أم الجسد أم على كليهما؟ فإن قالوا: وقع على
الروح نفسه، لأن الروح إله دون غيره، فقد أقروا بأن إلههم يأكل ويشرب، ويمشي ويركب،
لأنهم يجدون ذلك من فعل عيسى مبينًا قبلهم، موصوفًا عندهم. فإن قالوا: وقع اسم
المسيح على الجسد بعينه، فكان الجسد هو المسيح إذن دون غيره، والمسيح إذن مخلوق
عندهم، والإله إنسان إذن مثلهم، فلم يعبدون المخلوق ويدعون من خلقه وبرأه. وإن
قالوا: وقع الاسم على الروح والجسد جميعًا، فلن يجدوا مخرجًا ولا بدًّا ولا محيصًا،
إذا أوقعوا الاسم عليهما، من أن يضيفوا الأعمال إليهما، فيقولوا: إن الجسد المخلوق
هو خلقهم، وإن الروح الخالقة قد ماتت قبلهم، وذلك لما يجدون من ذكر موت عيسى عليه
السلام في الكتب عندهم وفي الإنجيل الذي قبلهم. وسل من قبلك عن الأب والابن، فقل
أيهما أعظم وأيهما أصغر؛ فإن قالوا: الأب أعظم والابن أصغر، فقد جعلوهما متباينين.
وإن قالوا: هما واحد وكلاهما عظيم، وليس الأب بأعظم من الابن، ولا الابن بأصغر من
الأب، فقد نقض حينئذ جوابهم، وأكذب المسيح عليه السلام كلامهم، حيث يقول: «لو
كنتم
١٠٩ تحبونني لفرحتم حيث أذهب إلى إلهي فإن إلهي أعظم مني» فلم يقل أعظم
مني، إلا وهو مقر بأنه أصغر منه. وسلهم عن قول المسيح:
١١٠ «أنا أذهب إلى إلهي وإلهكم»، فقل: من هذا الإله الذي ذهب عيسى إليه
ﷺ: إله في السماء متباين منه منقطع عنه؟ فهما إذن اثنان متباينان، أم إله
كان به متصلًا وكانا جميعًا واحدًا؟ فكيف إذن يجوز له أن يقول إذن أذهب إليه! إلا
أن يقولوا: إن بعضه ذهب إلى بعض! وهذا مما لا يجوز عندهم في صفة الرب عز
وجل.
وسل من قبلك: أخرج المسيح من بطن أمه مريم بكماله حتى كان البطن منه فارغًا وكان
هو منه بكماله خارجًا؟ فإن قالوا: نعم، فقد انكسر قولهم: إن الله بكل مكان. وإن
قالوا: لم يخرج المسيح ولم يخل البطن، فقد كذبوا إذن في قولهم: إنه قد خرج، وأقروا
أنه قد ولد. فتعالى الله عما يصفون، وتنزه عما يشركون. وسلهم لم هبط عيسى إلى بطن
مريم، وتجسد باللحم والدم؛ فإن قالوا: ليمحق الخطايا من الأرض ويربط الشيطان عن
الخلق، فقل: كيف إذن لم يربطه عن نفسه! وكيف جلاباه
١١١ من اليهود بصلبه! ولم سلط على أهل دينه يتبعون في كل شعب ويقتلون بكل
واد!
وقل للذين يقولون: إن الخالق في كل مكان من السماء والأرض وغير ذلك: أيهما أعظم:
المحيط المشتمل، أم المحاط المشتمل عليه كما يقولون؟ تعالى الله عما يشركون. فإن
قالوا: إنما التحم بعضه دون بعض، فقد حدوا وبعضوا ونقصوا وانتقصوا، وإما قالوا فلن
يجدوا بدًّا من أن يقولوا: إن بعض المسيح الذي جعلوه ربهم، وهو إله عندهم، ميت بعضه
جيفة، وإن بعضه حي طيب؛ لأنهم زعموا أنه التحم بجسد حي فيه روح، فلا بد إذن أن يدخل
عليه ما يدخل على الأجسام الحية من الخوف والفزع والفرح والعطش وأشباه ذلك، وهو
عندهم كفر عظيم وإفك مبين، فاتق عقوبة الله ربك، ولا تمش مكبًا على وجهك، ولكن اطلب
والتمس وابحث؛ فقد قال عيسى عليه السلام في الإنجيل: «من
١١٢ سأل أعطي ومن طلب وجد ومن استفتح فتح له».
اجمع العلماء والبصراء [الذين] عندك، والأساقفة والرهبان الذين قبلك، فقل: لأي
شيء نسبتم المسيح إلهًا وجعلتموه ربًّا؟ ونجد الله سماه في الكتاب ابنًا، وقد
تجدونه قال: «إني أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم أيضًا.» وهذا كلام يحتمل وجهين
أحدهما أولى به، وقول لا يحتمل إلا وجهًا وهو الربوبية. أم كيف تنظرون إلى كلامه:
«أذهب إلى أبي وأبيكم» فتفردونها في نفسه وقد قالها فيه وفي غيره!
فاتق الله وكن من القائمين بالحق، الموحدين للرب. إن أمير المؤمنين قد ضرب لك
أمثالًا جمة، وصرف إليك مسائل كثيرة، وبين لك من آيات النبي ﷺ وعلامات الوحي
قليلًا من كثير، واضحًا من تفسير، لا تمتنع العقول من التصديق به، ولا القلوب من
الإقرار به.
وسيذكر لك أمير المؤمنين من علامات النبي ﷺ في التوراة والإنجيل، ما يكتفى
به، إن شاء الله، وباليسير منه؛ لأن كتب الله عز وجل محفوظة، وحججه محروسة، لا يزاد
فيها ولا ينقص منها. وإذا وجدت فيها كلمة تدلك على حق وتهديك إلى رشد، فلست واجدًا
أخرى تصدك عنه وتشككك فيه، إذا تلي ذلك بالحق ووضع على الصدق. ولكن ضلت اليهود
والنصارى بتحريف تأويل الكلام، وتصريف تفسير الكتب. وأمير المؤمنين يسأل الله
العصمة والتوفيق.
من ذلك ما قد شهد به عيسى عليه السلام عندكم وبينه في الإنجيل لكم، إذ قال
للحواريين:
١١٣ «أنا أذهب وسيأتيكم البارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما
يقول كما يقال له، وهو يشهد علي وأنتم تشهدون لأنكم معي من قبل الناس بالخطيئة، وكل
شيء أعد الله لكم يخبركم به.» وترجمة البارقليط: أحمد. هذا ما لا شك ولا مرية فيه،
وهو الذي يخبر بما وعد الله المؤمنين وصالحي الحواريين في القرآن؛ ولستم تجدون ذلك
في التوراة ولا في الإنجيل.
ومن ذلك قول أشعيا
١١٤ النبي عليه السلام: «قيل لي: اقم بطارا ما ترى بخبري؟
١١٥ قال: أرى راكبين بعيرين مقبلين أحدهما يقول لصاحبه: سقطت بابل
وأصنامها
١١٦ المنحوتة.» ولسنا نعلم نبيًّا ركب بعد موسى
ﷺ بعيرًا إلا محمدًا
ﷺ كثيرًا.
ومن ذلك قول دواد عليه السلام:
١١٧ «اللهم ابعث جاعل السنة كي يعلم الناس أنهم بشر» يقول: كي يتبين الناس
أن عيسى عليه السلام إنسان. ولسنا نعلم نبيًّا وضع سنة تنسب إليه إلا محمدًا
ﷺ. أما عيسى فإنه نصب سنة موسى عليه السلام.
ومن ذلك قول حبقوق
١١٨ المتنبئ في زمان دانيال: «جاء الله من السماء
١١٩ والقديس من جبال فاران، وامتلأت السماء من تحميد أحمد وتقديسه، ومسح
الأرض بيمينه، وملك رقاب الأمم.» وقال أيضًا:
١٢٠ «تضيء لنوره الأرض، وتُحمل خيله في البحر.» فإلى من ينحو هذا القول،
وإلى أين يذهب بهذا المعنى؟ لئن ذهب به إلى غير الذي [تحمل]
١٢١ خيله في البحر، وبدأ من جبال فاران أمره، وغلب على الأرض
ومسحها،
١٢٢ وملك رقاب الأمم كلها، لقد تركتم الحق وأنتم تعلمون.
ومن ذلك قول داود عليه السلام في الزبور:
١٢٣ «صدقوا وسبحوا الرب تسبيحًا حديثًا سبحوا الذي هلله
١٢٤ الصالحون. ليفرح إسرائيل بخالقه ويتوب صهيون من أجل أن الله اصطفى له
أمته، وأعطاه النصر وسدد الصالحين بالكرامة، يسبحونه على مضاجعهم، ويكبرون الله
بأصوات عالية، بأيديهم سيوف ذات شفرتين، لينتقم الله من الأمم الذين لا يعبدونه، ثم
يقيد ملوكهم بالقيود وأشرافهم بالأغلال.» فأيتما أمة يكبرون الله بأصوات وأذان
الصلوات الدائمة وعلى كل شرف وعند كل حرب، وأيتما أمة كانت سيوفها ذات شفرتين إلا
أمة محمد
ﷺ!
ومن ذلك قول
١٢٥ أشعيا: «سبحوا الرب تسبيحًا حديثًا، ويسبحه من آفاق الأرض فرح
١٢٦ يكون في بني فيار.» وبنو فيار قريش أهل فاران الذي نزل فيه القرآن.
وأيتما أمة تسبح من آفاق الأرض إلا أمة محمد
ﷺ. عبدي أكدي.
١٢٧
ومن ذلك قول أشعيا:
١٢٨ «عبدي الذي وجب به حبي الذي بشرت به نفسي أفيض عليه روحي، يوصي الأمم
بالوصايا، لا يضحك ولا يسمع صوته في الأسواق، ويفتح العيون العور، ويسمع الآذان
الصم، ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيه لا أعطي غيره، أحمد يحمد الله حمدًا حديثًا،
تهليله يأتي من أقصى الأرض، يجوز الماء بشدة أمواجه، ويفرح
١٢٩ وكورها، سكانها يحمدون الله على كل شرف، ويكبرونه على كل
رابية.»
ومن ذلك قول داود
١٣٠ عليه السلام في المزمور الخامس والأربعين،
١٣١ يقول الله عز وجل لمحمد في الزبور: «انصبت رحمتي على شفتيك من أجل ذلك
باركتك
١٣٢ الدهر، تقلد السيف على الأمم، أيها الجبار على الأمم بالقتل والأسر
والسباء بهاك وحمدك أحمد تغلب البر منك كلمة الحق وذللت لك الأشياء سيفك بجسمه
يمينك ونبالك مسمومة وتسقط عند الأمم.» فأي نبي كان على الأمم جبارًا ولهم بإذن
الله قتالًا إلا نبينا
ﷺ.
ومن ذلك في آخر التوراة:
١٣٣ «جاء الله تبارك وتعالى من سيناء وأشرف من ساعير واستبان واستعلن من
جبال فاران، وجاء عن يمينه ربوات القديسين.» وتفسير هذا أن الله عز وجل أنزل
التوراة على موسى في طور سيناء، وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام في جبل ساعير
وهو جبل بالشام، وأنزل القرآن على محمد
ﷺ في جبال فاران وهي بلاد مكة. وأنتم
تجدون ذلك في كتبكم مكررًا وتعرفونه جميعًا بلغتكم.
ومن ذلك قول الله عز وجل لموسى عليه السلام:
١٣٤ «سأقيم لهم من إخوتهم مثلك أجعل كلامي على فهمه ولا يتكلم إلا بما آمره
به.» فمن إخوة بني إسرائيل إلا بنو إسماعيل! أما تعلم أن لو كان الله عز وجل يعني
أحدًا منهم لقال لهم: أقيم لكم نبيًّا منكم!
فإن قلتم إنما قال من إخوتكم، وهو يريد من أنفسكم، فهب أمير المؤمنين قبل هذا
الخلف منكم ووسع في هذا المجال لكم، فكيف تصنعون بقول الله عز وجل في التوراة: «مثل
موسى في بني إسرائيل لا يقوم» فهل تجدون من هذا مخرجًا، ومن الإيمان أن المعنى وقع
على محمد ﷺ بدًّا.
ألا تسمع قول الله عز وجل: «أجعل كلامي على فمه كي يعنى به، أمي لا يقرأ ولا
يكتب.»
أوليس قد أمر عيسى عليه السلام حوارييه أن يقولوا في صلواتهم:
١٣٥ «يا أبانا الذي في السماء تقدس اسمك.» كيف صار عيسى دونهم ابنًا، وصار
له دونهم أبًا،
١٣٦ وهم يقولون: يا أبانا! أم كيف لم يجعل سليمان بن داود إلهًا وقد قال
الله عز وجل لداود: «يولد لك غلام يسمى لي وأسمى له»! ولم لا يجعلون إسرائيل إلهًا
وقد قال الله عز وجل له: «أنت بكري»! بل لم لا يسمعون المؤمنين عامة والحواريين
خاصة [آلهة]، وقد قال المسيح للحواريين: أنتم إخوتي، وقد قال الإنجيل:
١٣٧ «أعط كل من آمن بي سلطانًا يدعى له.» وإن كان هؤلاء كلهم للمسيح إخوة
أفلا تجعلونهم كلهم آلهة! وكيف يقولون: إن عيسى ابن الله، وهو يقول في مواضع جمة
وأماكن كثيرة إنه ابن الإنسان! فكيف يكون ابن الإنسان ابن الله؟ ومتى كان ذلك؟ لئن
قالوا: إن عيسى لم يزل ابن الإنسان، لقد جعلوا مع الله إنسانًا قديمًا وجعلوا الله
إنسانًا حديثًا، وجعلوا المسيح ابن الله لم يزل، وابن الإنسان فيما حدث. وهذه أمور
متناقضة، وحجج داحضة، وأقاويل فاحشة.
فإن قالوا: إنما نعبد المسيح لأنه رفع إلى السماء، فليعبدوا الملائكة فإنهم في
السماء قبله، وإدريس فقد رفعه الله وغيره. وإن كانوا يعبدون المسيح لأنه لم يخلق من
ذكر، فآدم وحواء لم يخلقا من ذكر ولا أنثى، ولم يقعا من غم الرحم وضيق البطن وحال
الصبا فيما [وقع] فيه المسيح.
وإن قالوا: إنما نعبد عيسى لأنه أحيا الموتى، فما أحيا حزقيل
١٣٨ أكثر، وما كان من اليسع تلميذ إلياس أعجب؛ لأنه أحيا الموتى بعد مئتين
من السنين. وإن طلبتم ذلك في سير الملوك عند قصة اليسع أصبتموه، إن شاء
الله.
وإن كانوا إنما يعبدون المسيح من أجل الأسقام التي أبرأ والعجائب التي أرى،
فعجائب موسى أعجب وآياته أعظم. أين ما ذكرت لك من [عجائب] عيسى من عجائب موسى: من
انقلاب البحر له، وسلوك الجيش معه! أم أين ذلك من حجر يضربه فينفجر بعيون الماء،
ويحمله معه حيث شاء! بل أين تلك وهذه وغير هذه من الآيات من حبس يوشع
الشمس
١٣٩ ثلاث ساعات! وكل ما صنع موسى وعيسى وغيرهما بإذن الله وأمره وقدره
وقضائه. فاتق الله وكن من القائلين بالحق، الموحدين للرب، ولا تقل على عيسى ما لم
يقل؛ فإنكم لا تجدونه قال لكم في شيء من كتبكم: اعبدوني فإني ربكم. تعالى الله عما
يقول الظالمون، ويذهب إليه الجاحدون.
وإن أمير المؤمنين قد أحب أن ينصح لك، في أولى داريك بك وأهم شأنيك لك، فدعاك إلى
الإسلام وأمرك بالإيمان الذي به تدخل الجنة وتنجو من النار. فإن قبلت فحظك أصبت،
ونفسك أحرزت، ولك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم. وإن رددت نصيحة أمير المؤمنين فيما
فيه الحظ في آخرتك، فإن أمير المؤمنين ينصح لك فيما فيه الصلاح في عاجلتك: من إعطاء
الجزية التي يحقن الله بها دماءكم ويحرم بها سباءكم، ويجعلها قوامًا لمعاشكم،
وصلاحًا لبلادكم، وتوفيرًا لأموالكم، وأمنًا لجنابكم، وسعة لسربكم،
١٤٠ وبركة على فقرائكم، وغنى لأهل الحاجة والفاقة والمسكنة منكم.
ولن يذكر أمير المؤمنين في الجزية لكم من حلول الأمن فيكم، وعموم العافية إياكم،
واستقامة البركة عليكم، وكف أيدي المسلمين عنكم، وبسطها على الأعداء منكم، شيئًا
إلا وفي قليل ما كان من أشباه ذلك أيام تلك الفدية التي كان الله أجرى نعمتها لكم
على يده، وفتح بركتها عليكم من قبله، ما يدلكم على صدق أمير المؤمنين فيما يذكر،
ويشهد له على حقه فيما يقول إن شاء الله. فقد تعلمون أن الله قد أدخل على كل طرف من
أطرافكم، وصنف من أصنافكم، بتلك الفدية، أمورًا عظيمة البركة، واسعة المنفعة، في
أمور غير واحدة: منها: أن قادة جنودكم وساسة حربكم، كانوا بعد وقوع أمرها واستحكام
عقدها، فراغًا لمحاربة أعدائكم ومناصبة من ناوأكم، بين أن يستعجموهم
١٤١ في بلادهم وينزلوا عليهم في ديارهم، ولا يرهبون تعقب بشر إن ساروا في
أرضهم، ولا يتخوفون طرادًا إن اجتمعوا لقتالهم أن يقيموا في خفض ودعة، وأمن وسعة،
مع الأزواج والأولاد والعيال والأوطان والرباع والمحال، وهم اليوم يترقبون الجيوش
من كل شعب ويتخوفون الحتوف في كل وقت، لا يهدأ
١٤٢ لهم جأش، ولا يسكن لهم فزع، ولا ينام لهم ليل، ولا يأمن فيهم حال، قد
قطعت الهموم دابرهم، وأضمرت المخاوف جنوبهم، واستأصلت الجنود أموالهم.
ومنها: أن أهل الحراثة وإخوان العمارة، في بلادك وأطراف أرضك، كانوا سراعًا إلى
عمارة أرضهم وإصلاح ما تحت أيديهم، فيما لا قوام لهم ولا لمعاشهم إلا به، ولا بقاء
لدينهم إلا معه؛ قد أمنوا الجيوش ومعرتها، والجنود وبادرتها، وانتشروا للعمارة،
وابتكروا في الزراعة، فارقوا رءوس الجبال وإقحام الغياض، وراحوا في أوساط أوطانهم
وظلال محالهم، يشققون الأنهار، ويغرسون الأشجار، ويفجرون العيون، حتى نمت الأموال،
واخضرت الحال، وأخصب الجناب؛ وأصبحوا اليوم عن الزراعة ممسكين، وللحراثة تاركين،
وبغيرها مشتغلين في إصلاح آلات الهرب، وإحراز العيال في الحصون، ورم القلاع للجلاء،
وتحريش الحصون للبلاء، قد انتقلوا عن منابت البر وكرائم الأرض، ومجاري المياه، إلى
أوشال الجبال، وأشجار الغياض، وبطون الأودية؛ فليس يبلغون من عمارة بلادهم، ولزوم
أوطانهم، [و] من تناول ثمارهم وقوام معاشهم مثل ما كانوا يبلغون، ولا ينالون من خفض
العيش وطيب الأمن ولذة الدعة، قريبًا مما كانوا ينالون.
ومنها: أن إخوان التجارات، وأصحاب الأموال وأهل الظلف والحافر، كانوا يتناولون ما
شارفهم من بلادنا
١٤٣ وما قاربهم من أسواقنا، فينفِّقون تجاراتهم ويغلون بضائعهم، فتعظم
الأرباح وتضعف الأثمان. وكانت الباعة من تجار المسلمين وغيرهم من الذميين،
يتناولونهم للبيع لهم ويتناولونهم للشراء منهم، فعمت البركة وسهلت المنفعة، حتى
نالت الرعاء في جبالها وأقتالها،
١٤٤ والنساء في غزولهن وعمل أيديهن فضلًا عن غيرهن.
ومنها: أنك ومن قبلك من ذوي العبادة والزهادة والتأله والنسك والنيات، كنتم على
عافية من أيام الرضا بالحرب، وسلامة من أوزار الحض على قتال الخوف؛ قد نجوتم من
معصية المسيح في الدنيا التي نهاكم عنها، والأمور التي أمركم بها، من نحو
قوله:
١٤٥ «من لطم خدك الأيمن فأمكنه من الأيسر، ومن انتزع قميصك فأعطه كساءك،
ومن لطمك فاغفر له، ومن شتمك فأعرض عنه.»
ومنها: أن من بأقاصي بلادك ونواحي حوزتك، قد ذاقوا تلك الأيام من لذة الخفض، ودعة
الحال، وحلاوة الأمن، ورفاهية العيش، وسعة العافية من سباء أزواجهم، وهيض أولادهم،
وحطم معاشهم، وأسر رجالهم، وغنيمة بقرهم وغنمهم، وإفساد شجرهم وثمارهم، وإجلاء عن
مساكنهم وأوطانهم، ما لم يكن لهم رأي يعرفه، ولا ظن يبلغه، ولا طمع يقاربه، ولا أمل
يذهب إليه. وما قد عرفت الخاصة من بطارقتكم، والعامة من أهل ملتكم به: من رأفتكم
بهم، ورحمتكم لهم، وشفقتكم عليهم، وأثرتكم إياهم، وبركة ولايتكم ملكهم، ومنفعة
سياستكم أمرهم، ما قد ازدادوا لكم به محبة، وفي بقائكم رغبة، ولأمركم طاعة، وعلى
ملككم شفقة، وفيما نابكم نصيحة؛ مع ما قد ازددتم بذلك من الهيبة في صدور الأعداء،
والشرف في قلوب النظراء، والعظم في عيون الأمم، حتى أقروا لكم بقوة عزائم العقول،
وفضل سياسة الأمور، وصحة تدبير الملك، وصدق النية، ولطف الحيلة التي جعلوا نسبة
عملكم بها، ومحل رأيكم فيها؛ على أنكم نظرتم لضعفائكم حتى قووا، ولفقرائكم حتى
استغنوا، ولقرائكم حتى بينوا وحيو وقووا المسلمين
١٤٦ من أيام الحروب وأوزار القتال، ومعصية المسيح عليه السلام، ولأعدائكم
الأبعدين وجيرتكم الأقربين، حتى كنتم من فراغكم لهم، واشتغالكم من أمركم بها ما
أوطأتموه لحر سحر
١٤٧ القتل، وذل الأسر وغلبة القهر، والإذعان والاستسلام. وإما كفيتموهم
بالصلح، واستوثقتم منهم بالرهن.
فإذا ذكرت ما كان من هذا وأشباهه وأمثاله في الفدية، فاعلموا أن أمثاله وأضعافه
مقيم معكم في الجزية، فلا يكون لك رأي غيرها ولا أمر سواها؛ فلقد أكثر أمير
المؤمنين العجب من أمركم، وأطال تقليب الفكرة في بعضكم، فظن أن إخراجكم من جميع ما
كنتم فيه إلى خلافه مما أصبحتم عليه من انتظار وقعات الحروب، وصولات الجنود وأكل
الحدود، وتوقع الجلاء والسباء والقتل، والأسر والحصر، شيئًا اختدعكم الله عز وجل
فيه عن أنفسكم وكيدًا استدرككم به لما علم من قلوبكم.
ألا إن أعجب عذركم وأفظعه كان عند أمير المؤمنين إذ بلغه جرأتكم على الله عز وجل
في نقض عهده، واستخفافكم بحقه في خفر ذمته، وتهاونكم بما كان منكم، وأنتم تعلمون أن
مواثيق العهود ونذور الأيمان الذي وضعه الله عز وجل حرمًا بين ظهراني خلقه، وأمانًا
أفاضه في عباده، لتسكن إليه نفوسهم، وتطمئن به قلوبهم، وليتعاملوا به فيما بينهم،
ويقيموا به من دنياهم ودينهم؛ فما من ملك من الملوك ولا أمة من الأمم، تبيح حمى
الله عز وجل، تهاونًا به وجرأة عليه، إلا أجرى الله عليهم دائرة من دول الأعداء،
وأنزل عليهم عذابًا من السماء. وقد رجا أمير المؤمنين أن يجري الله نقمته منكم
بأيدي المسلمين، بعد إذ كان اعتقد عهدكم، وأخذ ميثاقكم بالأيمان المغلظة، والعهود
الموكدة، التي قد اعتقدها في رقابكم، وحملها على ظهوركم، فأشهدتم الله لها على
أنفسكم، وتسامع بها من حولكم، وحكم بها بطارقتكم وأساقفتكم. فلا الله اتقيتم، ولا
من الناس استحييتم، نكثًا للعهد، وبغضًا للمسلمين، وخترًا بالأمانة، وإباحة للحمى.
فتوقعوا العقوبة، وانتظروا الغيب؛ فلقد وثق أمير المؤمنين أن من عذاب الله ما هو
حال إن شاء الله بكم.
ومن أسباب ما يريد الله من الانتقام منكم، ما قد أزمع أمير المؤمنين وعزم عليه،
وقذف الله في قلبه: من الإرادة والنية والرغبة في إيطاء الجيوش بلادكم، واستباء
المقاتلة أرضكم، والتفرغ لكم من كل شغل، والإيثار لجهادكم على كل عمل، حتى تؤمنوا
بالله وأنتم طائعون أو كارهون، وتؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، فكونوا على عدة
من الجزية، ويقين من الانتجاع الذي لا طاقة لكم إن شاء الله به، ولا صبر لكم بإذن
الله عليه؛ فإن جنود أمير المؤمنين فارغة كثيرة، وخزائنه عامرة وافرة، ونفسه سخية
بالإنفاق، ويده مطلقة بالبذل، والمسلمون نشاط إليكم، منقلبون عليكم، قد عودهم الله
في لقائكم عادة يرجون انتظار مثلها، وأبلاهم في قتالكم بلاء من أمثالها، إن شاء
الله.
وكتاب أمير المؤمنين نذيره بين يدي جنوده، ومقدمه إن شاء الله من جيوشه، إلا أن
تؤدوا الجزية عن التي دعاك أمير المؤمنين إليها، وحداك ومن قِبلك عليها، رحمة
للضعفاء الذين لا ترحمهم، وتوجعا للمساكين مما لا توجع منه لهم من الجلاء والسباء
والقتل والأسر والقهر، وقساوة من قلوبكم، وأثرة لأنفسكم، واعتصامًا بخواصكم، وإجلاء
لعوامكم الضعفاء الفقراء المساكين الذين لا تمنعونهم بقوة، ولا تدفعون عنهم بحيلة،
ولا تراقبون في الرحمة لهم والتعطف عليهم، أدبَ المسيح إياكم، وقوله في
الكتاب
١٤٨ لكم: «طوبى للذين يرحمون الناس؛ فإن أولئك أصفياء الله ونور بني
آدم.»
وايم الله لو يعلم من قِبلك من المساكين والزراعين والفقراء والضعفاء والعملة
بأيديهم، ما لهم عند أمير المؤمنين لتحدروا عليه وأقبلوا إليه، من إيوائهم،
وإنزالهم الأرض الواسعة، وإمكانهم من مسايل المياه السائحة، والعدل عليهم بما لا
تبلغه أنت ولا تقاربه، رفقًا بهم ونظرًا لهم وإحسانًا إليهم، مع تخليته إياهم
وأديانهم، لا يكرههم على خلافها ولا يجبرهم على غيرها، لاختاروا قرب أمير المؤمنين
على قربك، وجواره على جوارك، ولأنقذوا
١٤٩ أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأزواجهم وعيالاتهم، مما يحل بهم في كل عام
ويلقون من كل غزاة. فاتق الله واقبل ما عرض عليك من الجزية، ولا يمنعنك ما
فيه
١٥٠ الحظ لك ولأهل مملكتك. ونحن على رجاء أن الله لا يؤخر ذلك منكم ويدفعه
عنكم، إلا ليجعله على يد أهل بيت النبوة والرحمة، ولأهل الوراثة فيهم للكتاب
والحكمة، الذين لا يدخل عليكم في الإذعان [لهم] وأداء الجزية إليهم حمية ولا نقيصة
ولا عار، والذين يفون لكم بما يعقدون، ويتبعون فعلهم ما يقولون.
ثم أمير المؤمنين بخاصة لما جعل الله عليه رأيه وفيه نظره من البر والرحمة
والإقساط والوفاء بالعقود والعهود والشروط، نظرًا لدينه وخوفًا من ربه، ولما قذف
الله في قلبه وقلوب المسلمين من المحبة والطاعة والأثرة، ولما جعلهم الله عليه من
اجتماع الكلمة، واتفاق الأفئدة، والنصائح في السر والعلانية، وما عوده الله ممن نصب
له بمجاذبة ورماه بمكايدة، وعراه بحيلة: من النصر العزيز، والفتح القريب، والظفر
المبين. فابذل من الجزية ماشئت، وسم منها ما هويت. واعلم أن أمير المؤمنين ليس
يحذوك عليها لحاجة به إليها ولا للمسلمين، ولكن طاعة لربه وأثرة لحقه، وليجعلها
سببًا لما يريد أن يجري فيما بينه وبينكم. وإنه إنما كان قبول المهدي — رحمه الله —
الفدية منكم، بطلبة أمير المؤمنين كانت إليه، والحاجة كانت فيها عليه؛
١٥١ ولم يكن من رغبة فيها، ولا حاجة إليها، ولا استعظام لها، ولقد كان يعطي
في المجلس الواحد مرارًا أمثالها، ولكن ذلك كان رأي أمير المؤمنين يومئذ فيكم. فأما
اليوم إذ استبان له غدركم ونقضكم ونكثكم واستخفافكم بدينكم وجرأتكم على ربكم، فليس
بين أمير المؤمنين وبينكم، إلا الإسلام أو الحرب المجلية، إن شاء الله. ولا حول
بأمير المؤمنين ولا قوة إلا بالله؛ عليه يتوكل وبه يثق وإياه يستعين. والسلام على
من اتبع الهدى.