باب المنثور
(١) نصوص كتب الأمين والمأمون
١
نص كتاب الأمين إلى المأمون؛ وهو الكتاب الذي أشرنا إليه في الجزء الأول: إذا ورد عليك كتاب أخيك — أعاذه الله من فقدك — عند حلول ما لا مردَّ له ولا مدفع، مما قد أخلف وتناسخ الأمم الخالية، والقرون الماضية، بما عزَّاك الله به. واعلم أن الله جلَّ ثناؤه، قد اختار لأمير المؤمنين أفضل الدارين، وأجزل الحظين، فقبضه الله طاهرًا زاكيًا، قد شكر سعيه، وغفر ذنبه، إن شاء الله. فقُم في أمرك قيام ذي الحزم والعزم، والناظرِ لأخيه ونفسه، وسلطانه وعامة المسلمين. وإياك أن يغلب عليك الجزع، فإنه يُحبط الأجر، ويُعقِب الوزر، وصلوات الله على أمير المؤمنين حيًّا وميتًا، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وخذ البيعة على من قبلك، من قوادك وجندك، وخاصتك وعامتك، لأخيك ثم لنفسك، ثم للقاسم ابن أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها لك أمير المؤمنين: من نسخها له وإثباتها، فإنك مقلَّد من ذاك، ما قلَّدك اللهُ وخليفتُه.
وأَعْلِمْ مَن قِبَلك رأيى في صلاحهم، وسدِّ خَلَّتهم، والتوسعة عليهم؛ فمن أنكرتَه عند بيعته، أو اتهمتَه على طاعته، فابعث إليَّ برأسه مع خبره. وإياك وإقالته، فإنَّ النار أولى به. واكتب إلى عمال ثغورك، وأمراء أجنادك، بما طرقك من المصيبة بأمير المؤمنين؛ وأَعْلِمهم أن الله لم يرضَ الدنيا له ثوابًا، حتى قبضه إلى روحه وراحته وجنته، مغبوطًا محمودًا، قائدًا لجميع خلفائه إلى الجنة إن شاء الله، ومُرْهم أن يأخذوا البيعة على أجنادهم، وخواصهم وعوامهم، على مثل ما أمرتك به، من أخذها على من قِبَلك؛ وأوعز إليهم في ضبط ثُغُورهم، والقوة على عدوهم، إنِّي متفقِّد حالاتهم، ولامٌّ شعثهم، وموسِّع عليهم، ولا آنٍ في تقوية أجنادي وأنصاري. ولتكن كتبك إليهم كتبًا عامة لتُقرأ عليهم، فإن ذلك ما يسكِّنهم، ويبسط أملهم. واعمل بما نأمر به لمن حضرك، أو نأى عنك من أجنادك على حسب ما ترى وتشاهد. فإن أخاك يعرف حسن اختيارك، وصحة رأيك، وبُعد نظرك، وهو يستحفظ الله لك، ويسأله أن يشدَّ بك عضده، ويجمع بك أمره، إنَّه لطيف لما يشاء. وكتب بكر بن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنة ١٩٢ﻫ.
٢
وهذا كتاب محمد الأمين إلى أخيه صالح:
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا ورد عليك كتابي هذا، عند وقوع ما قد سبق في علم الله، ونفذ من قضائه، في خلفائه وأوليائه، وجرت به سنته في الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقربين، فقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. فاحمدوا الله على ما صار إليه أمير المؤمنين، من عظيم ثوابه ومرافقة أنبيائه، صلوات الله عليهم، إنا إليه راجعون؛ وإياه نسأل أن يحسن الخلافة على أمة نبيه محمد ﷺ. وقد كان لهم عصمة وكهفًا، وبهم رءوفًا رحيمًا.
فشمِّر في أمرك، وإياك أن تُلقي بيديك، فإن أخاك قد اختارك لما استنهضك له، وهو متفقِّد مواقع فقدانك، فحقِّق ظنَّه، ونسأل الله التوفيق. وخذ البيعة على من قِبَلك، من ولد أمير المؤمنين، وأهل بيته ومواليه وخاصته وعامته لمحمد أمير المؤمنين، ثم لعبد الله ابن أمير المؤمنين، ثم للقاسم ابن أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها أمير المؤمنين — صلوات الله عليه — من فسخها على القاسم أو إثباتها. فإن السعادة واليُمن في الأخذ بعهده والمُضي على مناهجه.
وأَعْلِم مَن قِبَلك من الخاصة والعامة رأيي في استصلاحهم، وردِّ مظالمهم، وتفقُّد حالاتهم، وأداء أرزاقهم، وأعطياتهم عليهم. فإن شغَب شاغب، أو نعَر ناعر، فاسطُ به سطوةً تجعله نكالًا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين. واضمم إلى الميمون ابن الميمون الفضل بن الربيع ولد أمير المؤمنين وخدمه وأهله؛ ومُرْه بالمسير معهم فيمن معه، وجنده ورابطته؛ وصيِّر إلى عبد الله بن مالك أمر العسكر وأحداثه، فإنه ثقةٌ على ما يلي، مقبولٌ عند العامة؛ واضمم إليه جميع جد الشُّرَط، من الروابط وغيرهم، إلى من معه من جنده؛ ومُرْه بالجدِّ والتيقظ، وتقديم الحزم في أمره كله، ليله ونهاره. فإن أهل العداوة والنفاق لهذا السلطان يغتنمون مثل حلول هذه المصيبة؛ وأَقِرَّ حاتم بن هرثمة على ما هو عليه، ومُرْه بحراسة ما يحفظ به قصور أمير المؤمنين، فإنه ممن لا يُعرف إلا بالطاعة، ولا يدين إلا بها، بمعاقد من الله، مما قدَّم له من حال أبيه المحمود عند الخلفاء؛ ومُرِ الخدم بإحضار روابطهم، مَن يُسَدُّ بهم وبأجنادهم مواضع الخلل من عسكرك، فإنهم حدٌّ من حدودك؛ وصيِّر مقدِّمتك إلى أسد بن يزيد بن مزيد، وساقتك إلى يحيى بن معاذ، فيمن معه من الجنود، ومُرْهما بمناوبتك في كل ليلة.
والزمِ الطريقَ الأعظم، ولا تَعْدُوَنَّ المراحل، فإن ذلك أرفق بك؛ ومُرْ أسد بن يزيد، أن يتخيَّر رجلًا من أهل بيته أو قواده، فيصير إلى مقدِّمته، ثم يصير أمامه، لتهيئة المنازل، أو بعض الطريق، فإن لم يَحضرك في عسكرك بعض من سميتُ، فاختر لمواضعهم مَن تثق بطاعته، ونصيحته وهيبته، عند العوام؛ فإن ذلك لن يُعْوِزك، من قوادك وأنصارك، إن شاء الله.
وإياك أن تُنفِذ رأيًا، أو تُبرم أمرًا، إلا برأي شيخك، وبقية آبائك، الفضل بن الربيع، وأَقْرِر جميع الخدم على ما في أيديهم من الأموال والسلاح والخزائن وغير ذلك؛ ولا تُخرِجنَّ أحدًا منهم، من ضمن ما يلي، إلى أن تقدم عليَّ. وقد أوصيت بكر بن المعتمر بما سيبلِّغكه؛ واعمل في ذلك بقدر ما تشاهد وترى. وإن أمرتَ لأهل العسكر بعطاء أو رزق فليكن الفضل بن الربيع المتولي لإعطائهم، على دواوين يتخذها لنفسه، بمحضر من أصحاب الدواوين؛ فإن الفضل بن الربيع لم يزل مثل ذلك لمهمات الأمور. وأَنفِذْ إليَّ عند وصول كتابي هذا إليك إسماعيلَ بن صَبِيح، وبكر بن المعتمر، على مركبيهما من البريد؛ ولا يكون لك عُرجة ولا مهلة، بموضعك الذي أنت فيه، حتى تُوَجِّه إليَّ بعسكرك بما فيه من الأموال والخزائن إن شاء الله. أخوك يستدفع الله عنك، ويسأله لك حسن التأييد برحمته. وكتب بكر بن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنة ١٩٢ﻫ.
(٢) القول بخلق القرآن
وهاك مثلًا مما كتبه المأمون إلى ولاته في الأخذ بمذهبه في القول بخلق القرآن، وهو ما أرسله إلى عالمه إسحاق بن إبراهيم وما يرويه لنا الطبري مما حصل.
أما بعد، فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم، ومواريث النبوة التي أورثهم، وأثر العلم الذي استودعهم، والعمل بالحق في رعيتهم، والتشمير لطاعة الله فيهم؛ والله يسأل أميرُ المؤمنين، أن يوفِّقه لعزيمة الرشد وصريمته، والإقساط فيما ولَّاه الله من رعيَّته، برحمته ومِنَّته؛ وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر، من حشو الرعية، وسِفْلة العامة، ممن لا نظر له ولا روية، ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه، في جميع الأقطار والآفاق، أهلُ جهالة بالله وعمًى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به، ونُكوبٍ عن واضحات أعلامه وواجب سبيله، وقصورٍ أن يقدُروا الله حق قدره، ويعرفوه كُنه معرفته، ويفرِّقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم، ونقص عقولهم، وجفائهم عن التفكر والتذكر؛ وذلك أنهم ساوَوا بين الله تبارك وتعالى، وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين، واتفقوا غير متعاجمين، على أنه قديمٌ أوَّل، لم يخلقه الله، ويُحدثه ويخترعه، وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه، الذي جعله لما في الصدور شفاء، وللمؤمنين رحمةً وهدى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا. فكل ما جعله الله فقد خلقه، وقال: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. وقال عز وجل: كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ. فأخبر أنه قَصصٌ لأمور أحدثه بعدها، وتلا به متقدِّمها، وقال: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وكل مُحكم مفصَّل، فله محكم مفصَّل، والله محكم كتابه ومفصِّله، فهو خالقه ومبتدعه؛ ثم هم الذين جادلوا بالباطل، فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنَّة، وفي كل فصل من كتاب الله قصصٌ من تلاوته، مبطل قولهم، ومكذِّب دعواهم، يردُّ عليهم قولهم ونِحلتَهم، ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة، وأن مَن سواهم أهل الباطل والكفر والفُرقة؛ فاستطالوا بذلك على الناس، وغرُّوا به الجهال، حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب، والتخشُّع لغير الله، والتقشُّف لغير الدين إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيئ آرائهم، تزيُّنًا بذلك عندهم، وتصنُّعًا للرياسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم، فقُبِلتْ بتزكيتهم لهم شهادتُهم، ونفذت أحكام الكتاب بهم، على دَغَل دينهم، ونَغَل أديمهم، وفساد نيَّاتهم ويقينهم؛ وكان ذلك غايتهم التي إليها جَرَوْا، وإياها طلبوا في متابعتهم، والكذب على مولاهم، وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب، ألا يقولوا على الله إلا الحق، ودرسوا ما فيه، أولئك الذين أصمَّهم الله، وأعمى أبصارهم، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة، ورءوس الضلالة، المنقوصون من التوحيد حظًّا، والمخسوسون من الإيمان نصيبًا، وأوعية الجهالة وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه، من أهل دين الله، وأحقُّ مَن يتهم في صدقه، وتطرح شهادته، ولا يوثق بقوله ولا عمله، فإنه لا عمل إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام، وإخلاص التوحيد؛ ومن عَمِي عن رشده وحظه، من أهل الإيمان بالله وبتوحيده، كان عما سوى ذلك من عمله، والقصد في شهادته، أعمى وأضل سبيلًا.
وَلَعَمْر أمير المؤمنين، إن أحجى الناس بالكذب في قوله، وتخرص الباطل في شهادته مَن كذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله حقيقة معرفته، وأن أولاهم برد شهادته، في حكم الله ودينه مَن رد شهادة الله على كتابه، وبَهَتَ حق الله بباطله، فاجمعْ مَن بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون، في خلق الله القرآن وإحداثه، وأَعْلِمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلَّده الله، واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه، وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقرُّوا بذلك، ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة، فمُرْهم بنص مَن يَحضرهم من الشهود على الناس، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة من لم يُقِرَّ أنه مخلوق مُحدَث ولم يره، والامتناع من توقيعها عنده؛ واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك، عن قضاة أهل عملك في مسألتهم، والأمر لهم بمثل ذلك، ثم أَشْرِف عليهم، وتفقَّد آثارهم، حتى لا تُنفَذ أحكام الله، إلا بشهادة أهل البصائر في الدين، والإخلاص للتوحيد؛ واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله. وكتب في شهر ربيع الأول سنة ٢١٨ﻫ.
وكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر، منهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم مُستملي يزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وزهير بن حرب أبو خيثمة، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي، فأُشخِصوا إليه، فامتحنهم، وسألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعًا أن القرآن مخلوق، فأشخصهم إلى مدينة السلام، وأحضرهم إسحاق بن إبراهيم دارَه، فشهَّر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث، فأقرُّوا بمثل ما أجابوا به المأمون فخلَّى سبيلهم، وكان ما فعل إسحاق بن إبراهيم من ذلك بأمر المأمون.
أما بعد، فإن من حق الله على خلفائه في أرضه، وأُمنائه على عباده، الذين ارتضاهم لإقامة دينه، وحمَّلهم رعاية خلقه، وإمضاء حكمه وسننه، والائتمام بعدله في بريَّته، أن يجهدوا لله أنفسَهم، وينصحوا له فيما استحفظهم وقلَّدهم، ويَدُلُّوا عليه — تبارك اسمه وتعالى — بفضل العلم الذي أودعهم، والمعرفة التي جعلها فيهم، ويهدوا إليه من زاغ عنه، ويردوا من أدبر عن أمره، وينهجوا لرعاياهم سَمْت نجاتهم، ويَقِفوهم على حدود إيمانهم، وسبيل فوزهم وعصمتهم، ويكشفوا لهم عن مُغطَّيات أمورهم، ومشتبهاتها عليهم، بما يدفعون الريب عنهم، ويعود بالضياء والبيِّنة على كافتهم؛ وأن يؤثروا ذلك من إرشادهم وتبصيرهم، إذ كان جامعًا لفنون مصانعهم، ومنتظمًا لحظوظ عاجلتهم وآجلتهم، ويتذكروا أن الله مُرصدٌ من مساءلتهم عما حُمِّلوه، ومجازاتهم بما أسلفوه، وقدموا عنده؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله وحده، وحسبه الله وكفى به. ومما بيَّنه أمير المؤمنين بروِيَّته، وطالَعه بفكره، فتبيَّن عظيم خطره، وجليل ما يرجع في الدين من وَكَفِهِ وضرره ما ينال المسلمون بينهم من القول في القرآن الذي جعله الله إمامًا لهم، وأثرًا من رسول الله وصفيِّه محمد ﷺ باقيًا لهم، واشتباهه على كثير منهم، حتى حسُن عندهم، وتزيَّن في عقولهم، ألا يكون مخلوقًا، فتعرَّضوا بذلك لدفع خلق الله، الذي بان به عن خلقه، وتفرَّد بجلالته من ابتداع الأشياء كلها بحكمته، وإنشائها بقدرته، والتقدم عليها بأوَّليته، التي لا يُبلَغ أولاها، ولا يدرك مداها، وكان كل شيء دونه، خلقًا من خلقه، وحدثًا هو المُحدِث له، وإن كان القرآن ناطقًا به، ودالًّا عليه، وقاطعًا للاختلاف فيه، وضاهَوْا به قول النصارى، في ادعائهم في عيسى ابن مريم أنه ليس بمخلوق، إذ كان كلمةَ الله، والله عز وجل يقول: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا. وتأويل ذلك: إنا خلقناه، كما قال جل جلاله: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا. وقال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ. فسوى عز وجل بين القرآن وبين هذه الخلائق، التي ذكرها في شِيَة الصنعة، وأخبر أنه جاعله وحده، فقال: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ. فقال ذلك على إحاطة اللوح بالقرآن، ولا يحاط إلا بمخلوق، وقال لنبيه ﷺ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. وقال: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ. وقال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ. وأخبر عن قوم ذمهم بكذبهم، أنهم قالوا: مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ. ثم أكذبهم على لسان رسوله، فقال لرسوله: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى. فسمى الله تعالى القرآن قرآنا وذكرًا، وإيمانًا ونورًا وهدى ومباركًا وعربيًّا وقصصًا، فقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ. وقال: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وقال: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ. وقال: لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ. فجعل له أولًا وآخرًا، ودلَّ عليه، أنه محدود مخلوق، وقد عظَّم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن؛ الثَّلْم في دينهم، والحَرَج في أمانتهم، وسهَّلوا السبيل لعدو الإسلام، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على قلوبهم حتى عرفوا، ووصفوا خلق الله وفعله بالصفة التي هي لله وحده وشبَّهوه به، والإشباه أولى بخلقه، وليس يرى أمير المؤمنين، لمن قال بهذه المقالة حظًّا في الدين، ولا نصيبًا من الإيمان واليقين، ولا يرى أن يُحِلَّ أحدًا منهم محل الثقة في أمانة ولا عدالة ولا شهادة، ولا صِدْق في قول ولا حكاية، ولا تولية لشيء من أمر الرعية؛ وإن ظهر قصد بعضهم، وعُرف بالسداد مُسدَّد فيهم، فإن الفروع مردودة إلى أصولها، ومحمولة في الحمد والذم عليها، ومَن كان جاهلًا بأمر دينه، الذي أمره الله به، من وحدانيته، فهو بما سواه أعظم جهلًا، وعن الرشد في غيره أعمى وأضل سبيلًا.
فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحاق القاضي كتابَ أمير المؤمنين، بما كتب به إليك، وانصصهما عن علمهما في القرآن، وأَعْلِمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين، إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده، وأنه لا توحيد لمن لم يُقِرَّ بأن القرآن مخلوق، فإن قالا بقول أمير المؤمنين في ذلك فتقدَّم إليهما في امتحان مَن يَحضُر مجالسهما، بالشهادات على الحقوق، ونصهم عن قولهم في القرآن، فمن لم يقل منهم إنه مخلوق، أبطلا شهادته، ولم يقطعا حكمًا بقوله، وإن ثبت عفافه بالقصد والسداد في أمره، وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة، وأشرف عليهم إشرافًا يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته، ويمنع المرتاب من إغفال دينه، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله.
ثم لننظر ما حصل بعد ذلك مما يرويه لنا الطبري قال: فأحضر إسحاق بن إبراهيم لذلك جماعة من الفقهاء والحكَّام والمحدِّثين، وأحضر أبا حسان الزيادي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن أبي مقاتل، والفضل بن غانم، والذيال بن الهيثم، وسجادة، والقواريري، وأحمد بن حنبل، وقتيبة، وسعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن الهرش، وابن علية الأكبر، ويحيى بن عبد الرحمن العمري، وشيخًا آخر من ولد عمر بن الخطاب، كان قاضي الرقة وأبا نصر التمَّار وأبا معمر القطيعي، ومحمد بن حاتم بن ميمون، ومحمد بن نوح المضروب، وابن الفرخان، وجماعة منهم النضر بن شميل، وابن علي بن عاصم، وأبو العوام البزاز، وابن شجاع، وعبد الرحمن بن إسحاق؛ فأُدخِلوا جميعًا على إسحاق، فقرأ عليهم كتاب المأمون هذا مرتين، حتى فهموه، ثم قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال: قد عرَّفت مقالتي لأمير المؤمنين غير مرة. قال: فقد تجدَّد من كتاب أمير المؤمنين ما قد ترى. فقال: أقول القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء. قال: ما القرآن شيء؟ قال: هو شيء. قال: فمخلوق؟ قال: ليس بخالق. قال: ليس أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: ما أُحسنُ غيرَ ما قلتُ لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه، وليس عندي غير ما قلتُ لك. فأخذ إسحاق بن إبراهيم رقعة كانت بين يديه، فقرأها عليه، ووَقَفَه عليها، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله أحدًا فردًا لم يكن قبله شيء، ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه، في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه. قال: نعم، وقد كنتُ أضرب الناس على دون هذا. فقال للكاتب: اكتب ما قال.
ثم قال لعلي بن أبي مقاتل: ما تقول يا علي؟ قال: قد سمَّعتُ كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة، وما عندي غير ما سمع. فامتحنه بالرقعة، فأقرَّ بما فيها، ثم قال: القرآن مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا. قال: هو كلام الله وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا. فقال للكاتب: اكتب مقالته.
ثم قال للذيال نحوًا من مقالته لعلي بن أبي مقاتل، فقال له مثل ذلك، ثم قال لأبي حسان الزيادي: ما عندك؟ قال: سَلْ عما شئت. فقرأ عليه الرُّقعة، ووَقَفه عليها فأقرَّ بما فيها. ثم قال: من لم يقل هذا القول فهو كافر. فقال: القرآن مخلوق هو؟ قال: القرآن كلام الله، والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا، وبسببه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلَّده الله أمرنا، فصار يُقيم حَجَّنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته إمامة، وإن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا. قال: القرآن مخلوق هو؟ فأعاد عليه أبو حسان مقالته، قال: إن هذه مقالة أمير المؤمنين. قال: قد تكون مقالة أمير المؤمنين ولا يأمر بها الناس، ولا يدعوهم إليها، وإن أخبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول قلتُ ما أمرتني به، فإنك الثقة، المأمون عليه فيما أبلغتني عنه من شيء، فإن أبلغتني عنه بشيء صرتُ إليه. قال: ما أمرني أن أبلِّغك شيئًا. قال علي بن أبي مقاتل: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله ﷺ في الفرائض والمواريث، ولم يحملوا الناس عليها. قال له أبو حسان: ما عندي إلا السمع والطاعة، فمرني آتمر. قال: ما أمرني أن آمرك، وإنما أمرني أن أمتحنك.
ثم عاد إلى أحمد بن حنبل، فقال له: ما تقول في القرآن؟ قال: هو كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله لا أزيد عليها. فامتحنه بما في الرقعة، فلما أتى إلى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وأمسك عن لا يُشْبهه شيءٌ من خلقه، في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه؛ فاعترض عليه ابن البكَّاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إنه يقول: سميعٌ من أُذن، بصيرٌ من عَيْن. فقال إسحاق لأحمد بن حنبل: ما معنى قوله سميع بصير؟ قال: هو كما وصف نفسه. قال: فما معناه؟ قال: لا أدري، هو كما وصف نفسه. ثم دعا بهم رجلًا رجلًا كلهم يقول: القرآن كلام الله، إلا هؤلاء النفر: قتيبة، وعبيد الله بن محمد بن الحسن، وابن علية الأكبر، وابن البكَّاء، وعبد المنعم بن إدريس بن بنت وهب بن منبه، والمظفر ابن مرجا، ورجلًا ضريرًا ليس من أهل الفقه، ولا يُعرف بشيء منه إلا أنه دُسَّ في ذلك الموضع، ورجلًا من ولد عمر بن الخطاب قاضي الرقة، وابن الأحمر، فأما ابن البكاء الأكبر فإنه قال: القرآن مجعول لقول الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، والقرآن مُحدَث لقوله: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ. قال له إسحاق: فالمجعول مخلوق؟ قال: نعم. قال: فالقرآن مخلوق؟ قال: لا أقول مخلوق ولكنه مجعول. فكتب مقالته، فلما فرغ من امتحان القوم وكتب مقالاتهم اعترض ابن البكاء الأصغر فقال: أصلحك الله! إن هذين القاضيين أئمة، فلو أمرتهما فأعادا الكلام! قال له إسحاق: هما مَن يقوم بحجة أمير المؤمنين. قال: فلو أمرتهما أن يُسمِعانا مقالتهما لِنحكي ذلك عنهما! قال له إسحاق: إن شهدتَ عندهما بشهادة فستعلم مقالتهما إن شاء الله. فكتب مقالة القوم رجلًا رجلًا ووُجِّهت إلى المأمون، فمكث القوم تسعة أيام ثم دعا بهم. وقد ورد كتاب المأمون، جوابُ كتاب إسحاق بن إبراهيم في أمرهم. وهاك هو ما نجعله ختامًا لكلمتنا.
•••
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغ أميرَ المؤمنين كتابُك جوابُ كتابه، كان إليك فيما ذهب إليه مُتصنِّعة أهل القبلة، ومُلتمِسو الرياسة فيما ليسوا له بأهل من أهل الملة، من القول في القرآن، وأمرك به أمير المؤمنين، من امتحانهم، وتكشيف أحوالهم، وإحلالهم محالهم، تذكر إحضارك جعفر بن عيسى، وعبد الرحمن بن إسحاق، عند ورود كتاب أمير المؤمنين، مع من أحضرت ممن كان يُنسب إلى الفقه، ويُعرف بالجلوس للحديث، ويَنْصِب نفسه للفُتيا بمدينة السلام، وقراءتك عليهم جميعًا كتاب أمير المؤمنين، ومسألتك إياهم عن اعتقادهم في القرآن، والدلالة لهم على حظهم، وإطباقهم على نفي التشبيه، واختلافهم في القرآن، وأمرك من لم يقل منهم إنه مخلوق بالإمساك عن الحديث والفتوى، في السر والعلانية، وتقدُّمك إلى السندي، وعباس مولى أمير المؤمنين بما تقدَّمت به فيهم إلى القاضيَيْن بمثل ما مثَّل لك أمير المؤمنين، من امتحان مَن يَحضُر مجالسهما من الشهود، وبث الكتب إلى القضاة في النواحي من عملك بالقدوم عليك، لتحملهم وتمتحنهم على ما حدَّه أمير المؤمنين، وتثبيتك في آخر الكتاب أسماء من حضر ومقالاتهم، وفهم أمير المؤمنين ما اقتصصت؛ وأمير المؤمنين يحمد الله كثيرًا كما هو أهله، ويسأله أن يصلي على عبده ورسوله محمد ﷺ، ويرغب إلى الله في التوفيق لطاعته، وحسن المعونة، على صالح نيته برحمته.
وقد تدبَّر أمير المؤمنين ما كتبتَ به من أسماء من سألتَ عن القرآن، وما رجع إليك فيه كل امرئ منهم، وما شرحت من مقالتهم؛ فأما ما قال المغرور بشر بن الوليد في نفي التشبيه، وما أمسك عنه من أن القرآن مخلوق، وادعى مِن تركِهِ الكلام في ذلك واستعهاده أمير المؤمنين، فقد كَذَبَ بشرٌ في ذلك وكفر، وقال الزور والمنكر، ولم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه في ذلك، ولا في غيره، عهدٌ ولا نظر أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص والقول بأن القرآن مخلوق، فادعُ به إليك، وأعلمه ما أعلمك به أمير المؤمنين من ذلك، وانصصه عن قوله في القرآن، واستَتِبْه منه، فإن أمير المؤمنين يرى أن تستتبب من قال بمقالته إذ كانت تلك المقالة الكفر الصراح والشرك المحض عند أمير المؤمنين، فإن تاب منها فأشهر أمره، وأمسك عنه، وإن أصرَّ على شركه، ودفع أن يكون القرآن مخلوقًا بكفره وإلحاده، فاضرب عنقه، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه، إن شاء الله، وكذلك إبراهيم بن المهدي فامتحنه بمثل ما تمتحن به بشرًا، فإنه كان يقول بقوله، وقد بلغت أمير المؤمنين عنه بوالغ، فإن قال إن القرآن مخلوق، فأشهر أمره واكشفه، وإلا فاضرب عنقه، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه إن شاء الله.
وأما علي بن أبي مقاتل فقل له: ألستَ القائل لأمير المؤمنين إنك تحلِّل وتحرِّم والمكلِّم له بمثل ما كلَّمته به، مما لم يذهب عنه ذكره؟! وأما الذيال بن الهيثم، فأعلمه أنه كان في الطعام الذي كان يسرقه في الأنبار، وفيما يستولي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العباس ما يشغله، وأنه لو كان مقتفيًا آثار سلفه، وسالكًا مناهجهم، ومحتذيًا سبيلهم، لما خرج إلى الشرك بعد إيمانه. وأمَّا أحمد بن يزيد المعروف بأبي العوام، وقوله إنه لا يُحسن الجواب في القرآن، فأَعْلِمه أنه صبي في عقله، لا في سنه، جاهل، وأنه إن كان لا يُحسن الجواب في القرآن فسيحسنه، إذا أخذه التأديب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك إن شاء الله.
وأما أحمد بن حنبل، وما تكتب عنه، فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة، وسبيله فيها، واستدلَّ على جهله، وآفته بها؛ وأما الفضل بن غانم، فأعلمه أنه لم يخفَ على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة، وما شجر بينه وبين المطلب بن عبد الله في ذلك، فإنه مَن كان شأنه شأنه، وكانت رغبته في الدينار والدرهم رغبته، فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعًا فيهما، وإيثارًا لعاجل نفعهما، وإنه مع ذلك القائل لعلي بن هشام ما قال، والمخالِف له فيما خالفه فيه، فما الذي حال به عن ذلك، ونقله إلى غيره؟ وأما الزيادي، فأَعْلِمه أنه كان منتحلًا لأول دعي كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله ﷺ، وكان جديرًا أن يسلك مسلكه فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد، أو يكون مولى لأحد من الناس — وذكر أنه إنما نُسب إلى زياد لأمر من الأمور — وأما المعروف بأبي نصر التمار، فإن أمير المؤمنين شبَّه خساسة عقله بخساسة متجره؛ وأما الفضل بن الفرخان، فأَعْلِمه أنه حاول بالقول الذي قاله في القرآن أخذ الودائع التي أودعها إياه عبد الرحمن بن إسحاق وغيره، تربُّصًا بمن استودعه، وطمعًا في الاستكثار لما صار في يده، ولا سبيل عليه عن تقادم عهده، وتطاول الأيام به، فقل لعبد الرحمن بن إسحاق: لا جزاك الله خيرًا عن تقويتك مثل هذا، وائتمانك إياه، وهو معتقد للشرك، منسلخ من التوحيد.
وأما محمد بن حاتم، وابن نوح، والمعروف بأبي مَعْمر، فأَعْلِمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا، عن الوقوف على التوحيد، وأن أمير المؤمنين لو لم يستحلَّ محاربتهم في الله ومجاهدتهم، إلا لإربائهم، وما نزل به كتاب الله في أمثالهم، لاستحل ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركًا، وصاروا للنصارى مثلًا؛ وأما أحمد بن شجاع، فأَعْلِمه أنك صاحبه بالأمس، والمستخرج منه ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بن هشام، وأنه ممن الدينارُ والدرهمُ دينُهُ؛ وأما سَعْدَوَيْه الواسطي فقل له: قبَّح الله رجلًا بلغ به التصنُّع للحديث، والتزين به، والحرص على طلب الرياسة فيه، أن يتمنى وقت المحنة فيقول بالتقرب بها: متى يُمتحن فيجلس للحديث. وأما المعروف بسَجَّادة، وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس من أهل الحديث، وأهل الفقه، القولَ بأن القرآن مخلوق، فأَعْلِمه أنه في شغله بإعداد النوى، وحكِّه لإصلاح سجادته، وبالودائع التي دفعها إليه علي بن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد وألهاه، ثم سَلْه عما كان يوسف بن أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، يقولانه إن كان شاهَدهما وجالَسهما؛ وأما القواريري ففيما تكشَّف من أحواله، وقبوله الرشا والمصانعات ما أبان عن مذهبه، وسوء طريقته، وسخافة عقله ودينه، وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أنه يتولى لجعفر بن عيسى الحسني مسائله، فتقدم إلى جعفر بن عيسى في رفضه، وترك الثقة به، والاستنامة إليه.
وأما يحيى بن عبد الرحمن العمري، فإن كان من ولد عمر بن الخطاب فجوابه معروف؛ وأما محمد بن الحسن بن علي بن عاصم فإنه لو كان مقتديًا بمن مضى من سلفه لم ينتحل النِّحلة التي حَكَيتَ عنه، وإنه بعدُ صبيٌّ يحتاج إلى تعلُّم، وقد كان أمير المؤمنين وجَّه إليك المعروف بأبي مُسْهِر، بعد أن نصَّه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن، فجمجم عنها، ولجلج فيها، حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف، فأقر ذميمًا، فانصصه عن إقراره، فإن كان مقيمًا عليه فأَشْهِر ذلك وأَظْهِره إن شاء الله؛ ومَن لم يرجع عن شركه ممن سمَّيتَ لأمير المؤمنين في كتابك، وذكره أميرُ المؤمنين لك، أو أمسك عن ذكره في كتابه هذا، ولم يقل إن القرآن مخلوق، بعد بشر بن الوليد، وإبراهيم بن المهدي، فاحملهم أجمعين، موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين مع من يقوم بحفظهم، وحراستهم في طريقهم، حتى يؤديهم إلى عسكر أمير المؤمنين، ويسلِّمهم إلى مَن يُؤمَر بتسليمهم إليه، لينُصَّهم أميرُ المؤمنين، فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعًا على السيف إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله؛ وقد أنفذ أمير المؤمنين كتابه هذا في خريطة بندارية، ولم ينظر به اجتماع الكتب الخرائطية معجِّلًا به، تقربًا إلى الله عز وجل بما أصدر من الحكم، ورجاء ما اعتمد، وإدراك ما أمل، من جزيل ثواب الله عليه، فأَنْفِذْ لما أتاك من أمر أمير المؤمنين، وعجِّل إجابة أمير المؤمنين بما يكون منك في خريطة بندارية مفردة عن سائر الخرائط، لتعرِّفَ أميرَ المؤمنين ما يعملونه إن شاء الله. وكتب سنة ٢١٨ﻫ.
(٣) عهد طاهر بن الحسين
قال ابن طيفور: ولما عَهِد طاهر بن الحسين إلى عبد الله ابنه هذا العهد، تنازعه الناس وكتبوه وتدارسوه، وشاع أمره حتى بلغ المأمون، فدعا به وقرئ عليه، وقال: ما أبقى أبو الطيب شيئًا من الدين والدنيا، والتدبير والرأي، وإصلاح المُلك والرعية، وحفظ البيعة، وطاعة الخلفاء، وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه، وأوصى به، وتقدَّم فيه. وأمر أن يُكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال. ولما كان هذا العهد من الوثائق التاريخية التي لها قيمتها العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية آثرنا ذكره على ما فيه من طول رغبة منا في ألا يخلو كتابنا من هذا الأثر العظيم القيمة والخطر، وهاكه: عليك بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته ومزايلة سخطه، وحفظ رعيتك، والزم ما ألبسك الله في العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسئول عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله وينجيك يوم القيامة من عذابه وأليم عقابه، فإن الله قد أحسن إليك، وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذب عنهم، والدفع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم، وإدخال الراحة عليهم في معايشهم، ومُؤاخِذكَ بما فرض عليك من ذلك، ومُوقِفك عليه، ومُسائِلك عنه، ومُثِيبك عليه بما قدَّمت وأخَّرت، ففرِّغ لذلك فكرك وعقلك وبصرك ورويَّتك، ولا يُذهِلك عنه ذهل، ولا يشغلك عنه شغل، فإنه رأس أمرك ومِلاك شأنك، وأول ما يوفقك الله به لرشدك، وليكن أولَ ما تُلزِم به نفسك وتُنسَب إليه فِعالك، المواظبةُ على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس قِبَلك في مواقيتها على سننها في إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله فيها، وترتَّلْ في قراءتك، وتمكَّنْ في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولْتَصْدُقْ فيها لربك نيتك، واحضض عليها جماعةَ مَن معك وتحت يدك، وادأب عليها فإنها — كما قال الله — تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ثم أتبع ذلك الأخذ بسنن رسول الله ﷺ، والمثابرة على خلائقه، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده. وإذا ورد عليك أمر فاستعِنْ عليه باستخارة الله وتقواه، ولزوم ما أنزل الله في كتابه، من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وائتمام ما جاءت به الآثار عن النبي ﷺ، ثم قم فيه بما يحقُّ لله عليك، ولا تَمِلَّ عن العدل فيما أحببت أو كرهت، لقريب من الناس أو بعيد، وآثِرِ الفقه وأهله، والدين وحملته، وكتاب الله والعاملين به، فإن أفضل ما تزيَّن به المرءُ الفقه في دين الله، والطلب له والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب به إلى الله، فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها، وبها مع توفيق الله تزداد العبادُ معرفةً بالله — عز وجل — وإجلالًا له ودَرْكًا للدرجات العلى في المعاد، مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك والهيبة لسلطانك، والأنَسَة بك والثقة بعدلك. وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فليس شيء أبينَ نفعًا ولا أحضر أمنًا ولا أجمع فضلًا من القصد، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق منقاد إلى السعادة، وقِوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، فآثره في دنياك كلها، ولا تُقصِّر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة، والسنن المعروفة ومعالم الرشد، فلا غاية للاستكثار من البر والسعي له، إذا كان يُطلبُ به وجهُ الله ومرضاته، ومرافقة أوليائه، في دار كرامته.
واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصِّن من الذنوب، وأنك لن تحوط نفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك، بأفضل منه، فأتِهِ، واهتدِ به تتم أمورك، وتَزِد مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك، وأَحسِن الظنَّ بالله عز وجل تستقِم لك رعيتك، والتمِسْ الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدِمْ به النعمة عليك، ولا تُنهِض أحدًا من الناس، فيما تولِّيه من عملك، قبل تكشُّف أمره بالتهمة، فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم مأثمٌ، واجعل من شأنك، حُسنَ الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم، وارفضه عنهم، يُعِنْكَ ذلك على اصطناعهم ورياضتهم، ولا يجدنَّ عدو الله الشيطان في أمرك مغمزًا، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وَهْنك فيُدخِل عليك من الغم، في سوء الظن، ما يُنغِّص عليك لذاذة عيشك، واعلم أنك تجد بحسن الظن، قوة وراحة، وتَكْفَى به ما أحببتَ كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك، والاستقامة في الأمور كلها لك.
ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك، والرأفة برعيتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية، والنظر فيما يقيمها ويصلحها، بل لتكن المباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية، والنظر في حوائجهم، وحمل مئوناتهم، آثَرَ عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين، وأحيا للسنة. وأخلِصْ نيَّتك في جميع هذا، وتفرَّد بتقويم نفسك، تفرُّد مَن يعلم أنه مسئول عما صنع، ومجزيٌّ بما أحسن، فإن الله جعل الدين حرزًا وعزًّا، ورفع من اتبعه وعزَّزه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه، نهج الدين، وطريقة الهدى، وأَقِم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم، وما استحقوه، ولا تُعطِّل ذلك ولا تَهَاون به، ولا تؤخِّر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك في ذلك، لما يُفسِد عليك حسنَ ظنك، واعزِمْ على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانِبِ الشُّبه والبدعات، يسلَمْ لك دينك، وتَقُم لك مروءتك، وإذا عاهدت عهدًا فَفِ به، وإذا وعدت الخير فأنجِزْه، واقبلِ الحسنة، وادفع بها، وأغمِضْ عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدُدْ لسانك عن قول الكذب والزور، وأَبْغِض أهله، وأَقصِ أهل النميمة، فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها، تقريب الكذوب، والجرأة على الكذب، لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها، لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحبٌ ولا يستقيم لمطيعها أمرٌ. وأَحِبَّ أهلَ الصدق والصلاح، وأَعِنْ الأشراف بالحق، وواصلِ الضعفاء، وصِلِ الرحم، وابتغِ بذلك وجه الله، وعزة أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة، واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرِفْ عنهما رأيك، وأظهِرْ من ذلك لرعيتك، وأنعِمْ بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم، وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى، واملِكْ نفسك عند الغضب، وآثِرِ الوقار والحلم.
وإياك والحِدَّة والطيش والغرور فيما أنت بسبيله، وإياك أن تقول إنِّي مسلطٌ أفعل ما أشاء؛ فإن ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي، وقِلَّة اليقين بالله وحده لا شريك له. وأخلِصْ لله وحده النية فيه، واليقين به، واعلم أن الملك لله، يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغيُّر النعمة، وحلول النقمة، إلى أحدٍ أسرع منه، إلى حَمَلة النعمة، من أصحاب السلطان، والمبسوط لهم في الدولة، إذا كفروا بنعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله من فضله. ودَعْ عنك شَرَهَ نفسك، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدَّخر وتكنز، البرَّ والتقوى، والمعدلة، واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم، والتفقد لأمورهم، والحفظ لدمائهم، والإغاثة لملهوفهم، واعلم أن الأموال إذا كثُرت وذُخِرت في الخزائن، لا تُثمر، وإذا كانت في إصلاح الرعية، وإعطاء حقوقهم، وكفِّ المئونة عنهم، نَمَتْ ورَبَتْ، وصَلَحَتْ به العامة، وتزيَّنتَ به الولاة، وطاب به الزمان، واعتُقِد فيه العز والمنفعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفِّر منه على أولياء أمير المؤمنين قِبَلك حقوقهم، وأوفِ رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهَّد بما يُصلِح أمورهم ومعايشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرَّت النعمة عليك، واستوجبتَ المزيد من الله، وكنت بذلك على جِباية خراجك، وجَمعِ أموال رعيتك وعملك أقدرَ، وكان الجميع لما شَمِلهم من عدلك وإحسانك أسلسَ لطاعتك، وأطيبَ نفسًا بكل ما أردت، فاجهَدْ نفسك، فيما حدَّدتُ لك في هذا الباب، ولْتَعْظُمْ حِسبتُك فيه، فإنما يبقى من المال، ما أُنفِق في سبيل حقه.
واعرِفْ للشاكرين شكرهم، وأثبهم عليه، وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة، فتتهاون بما يحقُّ عليك، فإن التهاون يوجب التفريط، والتفريط يورث البوار. وليكن عملك لله، وفيه تبارك وتعالى، وارجُ الثواب، فإن الله قد أسبغَ عليك نعمته في الدنيا، وأظهرَ لديك فضله، فاعتصِمْ بالشكر، وعليه فاعتمد، يَزِدْكَ اللهُ خيرًا وإحسانًا؛ فإن الله يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين، وقضاء الحق فيما حمل من النِّعم. والبسْ من العافية والكرامة، ولا تحتقرنَّ ذنبًا، ولا تمالئنَّ حاسدًا، ولا ترحمنَّ فاجرًا، ولا تصِلَنَّ كفورًا، ولا تداهننَّ عدوًّا، ولا تصدِّقنَّ نمامًا، ولا تأمننَّ غدارًا، ولا توالينَّ فاسقًا، ولا تتبعنَّ غاويًا، ولا تحمدنَّ مرائيًا، ولا تحقرن إنسانًا، ولا تردنَّ سائلًا فقيرًا، ولا تجيبنَّ باطلًا، ولا تلاحظنَّ مضحكًا، ولا تخلفنَّ وعدًا، ولا تذهبنَّ فخرًا، ولا تظهرنَّ غضبًا، ولا تأتيَنَّ بذخًا، ولا تمشينَّ مرحًا، ولا تركبنَّ سفهًا، ولا تفرطنَّ في طلب الآخرة، ولا تدفع الأيام عِيانًا، ولا تغمضنَّ عن الظالم رهبةً منه، أو مخافةً، ولا تطلبنَّ ثواب الآخرة في الدنيا، وأكثِرْ مشاورة الفقهاء، واستعمِلْ نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة، ولا تُدخِلنَّ في مشورتك أهل الدقة والبخل، ولا تسمعنَّ لهم قولًا، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادًا لما استقبلتَ في أمر رعيتك من الشُّحِّ، واعلم أنك إذا كنت حريصًا، كنت كثير الأخذ، قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقِمْ لك أمرُك إلا قليلًا، فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك بالكفِّ عن أموالهم، وتَرْكِ الجور عليهم، ويدوم صفاء أوليائك لك، بالإفضال عليهم، وحسن العطية لهم. فاجتنب الشحَّ، واعلم أنه أول ما عصى به الإنسان ربه، وأن العاصي بمنزلة خزي، وهو قول الله عز وجل: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. فسهِّل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظًّا ونصيبًا، وأيقِنْ أن الجود من أفضل أعمال العباد، فأَعدِدْهُ لنفسك خُلُقًا، وارضَ به عملًا ومذهبًا.
وتفقَّدْ أمور الجند في دواوينهم، ومكاتبهم، وأدرِرْ عليهم أرزاقهم، ووسِّع عليهم في معايشهم، ليُذهِبَ بذلك الله فاقتهم، ويقوِّم لك أمرهم، ويزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك، خُلُوصًا وانشراحًا، وحَسْبُ ذي سلطان من السعادة، أن يكون على جنده ورعيته، رحمة في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته، وشفقته وبره وتوسعته، فزايلْ مكروه إحدى البليَّتَيْن، باستشعار تكملة الباب الآخر ولزوم العمل به، تلْقَ — إن شاء الله — نجاحًا وصلاحًا وفلاحًا.
واعلم أن القضاء من الله، بالمكان الذي ليس مثله شيء من الأمور؛ لأنه ميزان الله الذي تعتدل عليه الأحوال في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلُحُ الرعية، وتُؤَمَّنُ السُّبل، وينتصِفُ المظلوم، ويأخذُ الناس حقوقهم، وتحسنُ المعيشة، ويؤدَّى حق الطاعة، ويَرزقُ اللهُ العافية والسلامة، ويقومُ الدين، وتجري السنن والشرائع، وعلى مجاريها يُنتجز الحق والعدل في القضاء. واشتدَّ في أمر الله وتورَّعْ عن النُّطف، وامضِ لإقامة الحدود، وأقللِ العجلة، وابعِدْ من الضجر والقلق، واقنَعْ بالقِسم، ولتَسْكُنْ ريحُكَ، ويقرَّ جَدُّك، وانتفِعْ بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدُدْ في منطقك، وأنصِفِ الخصم، وَقِفْ عند الشبهة، وأبلِغْ في الحجة.
ولا يأخُذْكَ في أحدٍ من رعيتك محاباة ولا مجاملة، ولا لوم لائم. وتثبَّتْ وتأنِّ، وراقِبْ وانظرْ، وتدبَّرْ وتفكَّرْ، واعتبِرْ وتواضَعْ لربِّك، وارأفْ بجميع الرعية، وسلِّطِ الحقَّ على نفسك، ولا تسرعنَّ إلى سفك دم، فإن الدماء من الله بمكان عظيم انتهاكًا لها بغير حقها، وانظر هذا الخَراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزًّا ورفعة، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوِّه وعدوهم كبتًا وغيظًا، ولأهل الكفر من معاهدتهم ذلًّا وصغارًا، فوزِّعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية، والعموم فيه، ولا تدفعنَّ منه شيئًا عن شريف لشرفه، وعن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا أحد من خاصتك، فلا تأخذنَّ منه، فوق الاحتمال له، ولا تكلفنَّ أمرًا فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مُرِّ الحق، فإن ذلك أجمعُ لألفتهم، وأَلزَمُ لرضى العامة. واعلم أنك جُعلتَ بولايتك خازنًا وحافظًا، وراعيًا، وإنما سُمي أهل عملك رعيتك، لأنك راعيهم، وقَيِّمهم، تأخذ منهم ما أعطوك، من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم، وتقويم أودهم. فاستعمِلْ عليهم في كُوَر عملك، ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل، والعلم بالسياسة والعفاف، ووسِّع عليهم في الرزق، فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلَّدت وأُسنِد إليك، ولا يشغلنَّك عنه شاغل، ولا يصرفنَّك عنه صارف، فإنك متى آثرته، وقمت فيه بالوجب، استدعيتَ به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في عملك، واستجررتَ به المحبة من رعيتك، وأعنتَ على الصلاح، فدرَّتِ الخيرات ببلدك، وفشَتِ العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، وكَثُر خراجك، وتوفَّرت أموالك، وقَويتَ بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة، بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنتَ محمود السياسة، مرضيَّ العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها، ذا عدل وقوة، وآلة وعدة، فنافِسْ في هذا، ولا تقدِّم عليه شيئًا، تُحمَد مغبة أمرك، إن شاء الله.
واجعَلْ في كل كورة من عملك أمينًا، يخبرك أخبار عمَّالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله، مُعاين لأمره كله، وإن أردت أن تأمره بأمر، فانظر في عواقب ما أردتَ من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع، والنصح والصنع فأمضِهِ، وإلا فتوقَّفْ عنه، وراجِعْ أهل البصر والعلم، ثم خُذْ فيه عدَّته، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أمره، قد واتاه على ما يهوى، فقوَّاه على ذلك وأعجبه، وإن لم ينظر في عواقبه أهلَكَهُ، ونُقِضَ عليه أمره، فاستعمِلِ الحزم في كل ما أردتَ، وباشِرْهُ بعد عون الله بالقوة، وأكثِرْ استخارة ربك، في جميع أمورك، وافْرَغْ من عمل يومك، ولا تؤخِّره لغدك، وأكْثِرْ مباشرته بنفسك، فإن لغدٍ أمورًا وحوادث تُلهيك عن عمل يومك الذي أخَّرت، واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخَّرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فشغَلَكَ ذلك حتى تُعرِضَ عنه، فإذا أمضيتَ لكل يومٍ عمله، أرحتَ نفسك وبدنك، وأحكمتَ أمور سلطانك. وانظُرْ أحرار الناس وذوي الشرف منهم، ثم استيقن صفاء طويتهم، وتهذيب مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على أمرك، فاستخلِصْهم، وأحسِنْ إليهم، وتعاهَدْ أهل البيوتات ممَّن قد دخلتْ عليهم الحاجةُ، فاحتمل مئونتهم وأصلِح حالهم، حتى لا يجدوا لخلتهم مسًّا، وأفرِدْ نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك، والمحتَقَر الذي لا علم له بطلب حقه، فاسأل عنه أخفى مسألة، ووكِّل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومُرْهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك، لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم، وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقًا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزَّه الله في العطف عليهم والصلة لهم، ليُصلح الله بذلك عيشهم، ويرزقك به بركة وزيادة، وأَجْرِ للأمراء من بيت المال، وقدِّم حملة القرآن منهم، والحافظين لأكثره، في الجِراية على غيرهم، وانْصُب لمرضى المسلمين دُورًا تُئويهم، وقُوَّامًا يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم، ما لم يُؤدِّ ذلك إلى سَرَف في بيت المال، واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم، وأفضل أمانيهم لم يرضِهِم ذلك، ولم تطِبْ أنفسهم، دون رفع حوائجهم إلى وُلاتهم؛ طمعًا في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما برم المتصفِّح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه، ويشغَل فكره وذهنه، ومنها ما يناله به مئونة ومشقة، وليس مَن يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل، كالذي يستقبل ما يقربه إلى الله، ويلتمس رحمته به.
وأَكثِر الإذن للناس عليك، وأبْرِزْ لهم وجهك، وسكِّنْ لهم أحراسك، واخفِضْ لهم جناحك، وأظهِرْ لهم بِشْرك، ولِنْ لهم في المسألة والمنطق، واعطِفْ عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيتَ فأعطِ بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر، غير مكدِّر ولا منَّان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله. واعتبِرْ بما ترى من أمور الدنيا، ومن مضى من قبلك، من أهل السلطان والرياسة، في القرون الخالية والأمم البائدة، ثم اعتصِمْ في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته، والعمل بشريعته وسنته وإقامة دينه وكتابه، واجتنِبْ ما فارق ذلك وخالفه، ودعا إلى سخط الله، واعرف ما تجمع عمَّالك من الأموال، ويُنفقون منها، ولا تجمع حرامًا، ولا تنفق إسرافًا. وأكثِرْ مجالسة العلماء، ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها، وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك مَن إذا رأى عيبًا فيك لم تمنعه هَيبتك من إنهاء ذلك إليك، في سِرٍّ، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومُظاهريك، وانظر عمالك الذين بحضرتك، وكتَّابك، فوَقِّتْ لكل رجل منهم في كل يوم وقتًا يدخل عليك فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمَّالك وأَمْرِ كورك ورعيتك، ثم فرِّغ لما يُورده عليك من ذلك سمعك وبصرك، وفهمك وعقلك، وكرِّر النظر إليه والتدبير له، فما كان موافقًا للحزم والحق فامضِهِ واستخر الله فيه، وما كان مخالفًا لذلك فاصرِفْهُ إلى التثبت فيه والمسألة عنه، ولا تمنُن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعنَّ المعروف إلا على ذلك، وتفهَّم كتابي إليك، وأكثِرِ النظر فيه، والعمل به، واستعِنْ بالله على جميع أمورك واستخِرْه، فإن الله مع الصلاح وأهله، وليكن أعظم سيرتك، وأفضل رغبتك، ما كان لله رضًا، ولدينه نظامًا، ولأهله عزًّا وتمكينًا، وللذمة والملة عدلًا وصلاحًا. وأنا أسأل الله أن يُحسن عونك وتوفيقك، ورشدك وكلاءك، وأن ينزل عليك فضله ورحمته، بتمام فضله عليك، وكرامته لك، حتى يجعلك أفضل أمثالك نصيبًا، وأوفرهم حظًّا، وأسناهم ذكرًا وأمرًا، وأن يهلك عدوك ومن ناوأك وبغى عليك، ويرزقك من رعيتك العافية، ويحجز الشيطان عنك ووساوسه، حتى يستعلي أمرك بالعز والقوة والتوفيق، إنه قريب مجيب.
(٤) رسالة الخميس
من عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين، إلى المبايعين على الحق، والناصرين للدين، من أهل خراسان وغيرهم من أهل الإسلام: سلام عليكم، فإن أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله.
ومن البيان الشاهد ما أخبر الله عز وجل به من إنشائه الخلق، وحدوثه بعد أن لم يكن مترقِيًا في النماء، وثباته إلى أجله في البقاء، ثم مَحارِه مُنقضِيًا إلى غاية الفناء. ولو لم يكن له مُفتتَحُ عددٍ ولا مُنقطَع أمدٍ، ما ازداد بنشوء، ولا تحيَّفه نقصان، ولا تفاوَت على الأزمان؛ لأن ما لا حدَّ له ولا نهاية، غير ممكن الاحتمال للنقص والزيادة. ثم ما يوجد عليه منفعته من ثبات بعضه لبعض، وقوام كل شيء منه بما يَسَّر له، في بدء استمداده إلى منتهى نفاده؛ كما احتجَّ الله عز وجل على خلقه، فقال: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا. وقال عز وجل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وكل ما تقدم من الأخبار عن آيات الله عز وجل ودلالاته في سمواته التي بنى، وأطباق الأرض التي دحا، وآثار صنعه فيما برأ وذرأ، ثابتٌ في فطر العقول، حتى يُسخِّر أولي الزيغ ما يُدخِلون على أنفسهم من الشبهة فيما يجعلون له من الأضداد والأنداد. جلَّ عمَّا يُشركون. ولولا توحُّده بالتدبير، عن كل معين وظهير، لكان الشركاء جُدراء أن تختلف بهم إرادتهم فيما يَخلقون، ولم يكن التخلف في إثباته وإزالته ليخلو من أحد وَجهيه، وأيهما كان فيه فالعجز والنقص مما أتاه وبرَّأه. جلَّ البديع خالق الخلق ومالك الأمر عن ذلك وتعالى علوًّا كبيرًا؛ كما قال سبحانه: مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. ثم من عظيم نعمة الله عز وجل على خلقه افتقاده إياهم، وأنه يسدِّدهم ويدلُّهم على منافعهم، ويجنِّبهم مضارَّهم، ويهديهم لما فيه صلاحهم، ويرغِّبهم في المحافظة على التمسك بدين الله عز وجل الذي جعله عصمة لهم وحاجزًا بينهم.
ولولا ما تقدَّم به من تلافيهم واستدراكهم بفضل رحمته، لاجتاحهم التلف، لقصور معرفتهم عن التأتي لأقواتهم ومعايشهم، ولم يكونوا ليقتصروا على حظوظهم وأقسامهم عما بنوا عليه من الجمع والرغبة، ولَتَهالكوا ببغي بعضهم على بعض، وعدوان قويِّهم على ضعيفهم، ولكنه بعد تعريفه إياهم مُلْك قدرته وجلالة عزته، بعث إليهم أنبياءه ورسله مبشِّرين ومنذرين، بالآيات التي لا تنالها أيدي المخلوقين؛ فرضوا بما قُسِطَ بينهم، وارتدعوا عن التباغي والتظالم، لما وُعدوا من الثواب الجسيم وخُوِّفوا من العقاب الأليم؛ ولم يكونوا لِيُطيعوا أمرًا لآمرٍ ولا نهيًا لناهٍ، إلا بحجةٍ يتبيَّن بها الحق على من خالفه من المبطلين، وتخويفٍ يتَّقون به مقارفة ما حُرِّم عليهم، ورجاءٍ يتجشَّمون له مئونة ما تُعُبِّدوا به. فافتتح الله عز وجل بأبيهم آدم — عليه السلام — فعلَّمه الأسماء كلها، وأمر الملائكة بالسجود له — كما اقتصَّ في وحيه المنزَّل — وكرَّم ولده وفضَّلهم، فقال جل وعز: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا. وجعل ما فَطَرهم عليه من العطف على ذراريهم وأبنائهم سببًا لما أراد من بقائهم وتناسلهم، وما اختصَّهم به من العلم والفهم حجَّة عليهم، ليمتحِنَ طاعتهم، ويبلُوَهُم أيهم أحسن عملًا.
ولم تَزَل رسل الله عز وجل إلى خلقه تترى بالنور الساطع، والبرهان القاطع، لا يجدون لما يُورِدون عليهم من الحق القاهر مردًّا ولا مدفعًا؛ لقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ. فلم يجد المكذِّبون مساغًا إلى دفع ما أُقيم عليهم من لازم الحجة، إلا المعاندة والمجاحدة. وكان أنبياء الله — صلوات الله عليهم — يُبعثون في أعصار الحِقب، نُذُرًا للأمم، حتى ختمهم الله عز وجل بالنبي الأمي محمد ﷺ، فبعثه فردًا وحيدًا لا عاضد له ولا رافد، إلى قوم يعبدون أصنامًا بُكمًا، وحجارة صمًّا، فكذَّب به القومُ الذين بُعث فيهم أولَ ما دعاهم، ورامه ملوك أقطار البلاد بتوجيه الأجناد، ومُرافِدة القوة والعتاد وبغي الغوائل، ونصب الحبائل، وهو يدعو إلى سبيل ربه بما أمره به، إذ يقول تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. ثم جاهَد بمن أطاعه مَن عصاه، وبمن اتبعه مَن خالفه، حتى أعزَّ الله كلمته، وأظهر دعوته، وأكمل لعباده دينهم الذي ارتضى لهم. فلما اختار الله له ما لديه، واختصه بما عنده: من النعيم المقيم، والجزاء الكريم، بعد استقامة الدين ودخول الناس فيه أفواجًا، خلفه، إذ ختم به الأنبياء، بالبررة النجباء من أدانيه ولُحْمته، لإقامة الشرائع المفترضة، وإنفاذ حكم الله المنزَّل، واقتفاء السنة المأثورة وحِفظًا له في قرابته ومجيبي دعوته، وإتمامًا لما أوجب له من الفضيلة، وقريب الوسيلة، وانجازًا لما وعده من إظهار ما بعثه به، من دينه الذي اصطفاه وارتضاه. وكان اختيار أولي الفضل من لُحْمته وعصبته لإرث خلافته، ومن عظيم الزُّلَف التي رَغِب إلى الله فيها أنبياؤه، وبما اقتص في منزل وحيه، واختص — تبارك وتعالى — نبيه ﷺ بما أمره به من مسألة أمته تصيير مودته في القربى جزاءه ممن تبعه على الرسالة، وهداه من الضلالة؛ فكانت فضيلتهم عزيمة من الله عز وجل دون طلب رسول الله ﷺ؛ ألزمه تأديته إلى خلقه وألزمهم أداءه، فقال عز وجل: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ. ودلَّ بما أخبر به وأظهره من تطهيره إياهم وإذهابه الرجس عنهم، على اصطفائه لهم؛ فقال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا. وكان مما أوجب لهم به حق الوراثة في محكم تنزيله قوله تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ. ثم قرن طاعتهم بطاعته، فقال: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ. وأحلَّهم من النباهة والصيت بالمحل الذي أعلى به أمرهم ورفع به ذكرهم، لما أحب من النبيين في الدلالة عليهم، والهداية إليهم، فإنه يقول عز وجل: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
ولو كان الأئمة المقلَّدون أَمْرَ عباده خاملةً أنسابهم، متقطعة أسبابهم، غير مخصوصين بفضيلة يرونهم بها دون غيرهم، لم تعد طَلِبَتُهم عقْدَ الخلافة لهم، وأن تكون من المفترضات على كافة الأمة، أو على بعض دون بعض؛ فإن كان لأهل الشرق والغرب من ذوي النقص والكمال أن يختاروا لأنفسهم، فليس في اجتماع آرائهم مع تفرُّقهم واختلافهم طمعٌ آخرَ أيامِ الدهر. وإن كان إلى خاصة دون عامة، فستحتاج العامة من طلب معرفة تلك الحال إلى مثل ما احتاجوا إليه في أئمتهم، إذ لم يكن أهل الارتياب والطلب من أعلام الآفاق ليتواطئوا على اتفاق، لنفاد آجالهم قبل بلوغهم غاية الاجتهاد في الفحص والتكشيف، وحاجتهم إلى اختبار البلدان، وتمحيص أولي الفضائل بالامتحان، وما هو حاق عليهم من الشبه في اختيارهم، والاختلاف فيمن عسوا أن يجتبوه ويقدِّموه، حتى تتهالك الرعية بتظالمها بينها، ويطرق من يليها من الأمم إياها؛ إذ لا ذائد عنها ولا محامِيَ. فإذا ألزمت الأمَّة الحاجة إلى نصب الحكام لإقامة الدين، وتقسيط الحقوق من المسلمين، ومجاهدة عدوهم من المشركين، لم يكن لهم في الإمام عليهم مجازٌ إلى التخلص من حقه إليهم، ولا ريب عند المعرفة برأفة الله ورحمته، ولطفه وحكمه، في دفعه عن عباده ما لم يجعل في حيلتهم له وُسعًا، ولا في حيلتهم له دركًا، وكفايته إياهم ما يعجزهم من البحث والتنقيب عن ولاة أمرهم، بنَصْبه إياهم، وما رفعهم إليه من الدرجة التي أعلاها وأسناها، إذ وَصَل نسبَهُم برسول الله ﷺ، وافترض مودتهم على خلقه، ولم يَشِنهم جهلهُم للغرض الذي لَزِمهم له، ولم يَجِب عليهم فرضٌ في معرفة من سواهم.
- أما الأولى: من اللواتي خصَّكم الله بهنَّ؛ فما تقدَّم لأسلافكم من نُصرة أهل بيت النبي، والقائمين بميراثه من آباء أمير المؤمنين.
- وأما الثانية: فما آثركم الله به من نُصرته في دعوته الثانية.
- وأما الثالثة: فما تقدَّمتم به من صحة ضمائركم، ومحض مُناصحتكم.
وأما الثلاث اللواتي هنَّ لكم ولغيركم:
فمنهنَّ ما أكَّد الله لأمير المؤمنين في أعناق المسلمين: من العهد الذي أخذ إصرَهُ، وألهمهم الوفاء به والتمسُّك بوثائق عصمته، عند محاولة المخلوع ما حاول من الإعلان بالردة، والتمس من تبديل معالم الدين وتَعْفية آثاره، فلم يُلْفِ الرعية سدًى مهملين، لا جامع لأمرهم، ولا ضامَّ لنثرهم.
ومنهن ما أفادكم الله وإياهم من العِبَر، عند حلول الغِيَر بمَنْ غدر وختر، تذكرةً لأولي النُّهى، وحجة بالغة على من أدبر وتولَّى، ليهتدي متحيِّر ويتَّعِظ مُزدَجِر، وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ. ومنهن اجتماع أهل الفضل من المسلمين: ممن لم يكن له نَصْر ولا أَزْر في الدعوة الأولى على المشايعة في الدعوة الثانية؛ فأصبح دعاة أمير المؤمنين من أهل الحرمين والمِصْرَيْن ومدينة السلام والمشرق والمغرب ممن غار أو أنجد من المتمسكين بذممهم الموفين بنذورهم، من إخوانكم؛ وإن كان الله قد قدَّمكم في الأمرَيْن جميعًا بتفوق حالكم على غيركم، يعتدُّون من معاضدتكم ومكانفتكم بما جعله الله عز وجل ألفةً لكم ومودة بينكم، يبيد بها ما كان الشيطان يَنزِغ به بين أهل التباعد في الأنساب، والتنائي في الأوطان من إيقاع العداوة والبغضاء، والانطواء على الأحقاد والدِّمَن، وطلب تقديم الإِحَن، وصار أهل السمو إلى الدرجة العليا والاعتصام بالعروة الوثقى من أولياء أمير المؤمنين وشيعته، منشرحةً صدورهم بمكانفته، مُنبسطة أيديهم بمعاونته على حقه، منفسحة آمالهم في إذكاء ناره على عدوه والإثخان في بلاده وافتتاح ممتنِع حصونه، بما جمعهم الله عليه من الألفة، ورفع عنهم من الحميَّة والعصبية؛ راجين عودتهم إلى أحسن ما مضى عليه سَلَفُهم، في عهد نبيه ﷺ، من سلامة الصدور، وصلاح ذات البَيْن، واجتماع القوى على مجاهدة من شاقَّهم؛ قد أفرد الله عنهم نُفْرة التحارب والتجاذب، وجعل ما كان يسعى به بعضهم من الإعداد لبعض، زيادة في ريحهم، وحدًّا في شوكتهم، لائتلافهم في دولة أمير المؤمنين المحدودة المؤيَّدة بصدق الضمائر، ونفاذ البصائر. وإلى الله يرغب أمير المؤمنين في إعانته على صالح نيته، وتبليغه منتهى سُؤله وغاية هِمَّته، في إعزاز دينه وإذلال من صدَّ عن سبيله؛ إنه سميع قريب.
واحذروا معشر شيعة أمير المؤمنين من استمراء الطراءة، والركون إلى راحة الدَّعة ما قد رأيتم وباله عاد على أهله، وأورثتْهم عواقبُه طول الندم والحسرة؛ فإنكم قد كنتم في حال المراقبة لعدوكم، والخوف لبائقته متيقظين متحفظين لما كان يرومكم به من خَتْله وحِيَله، ثم أفضيتم إلى الحج وقد جَهَدكم السعي ومسَّكم النصب، وسيُلقي الشيطان في أمانيكم أن قد اكتفيتم بسالف ما قاسيتم، ويجد من ضعف العزائم معينًا داعيًا إلى اغتنام الخفض، والإخلاد إلى الأرض، ما لم تعتصموا بما عاينتم من الاعتبار، وتمتثلوا مواضي الآثار فيمن سلف من القرون الخالية، وما أفضت به إليه العزة من زوال النعم ووقوع الغِيَر، فإن جميع ما خوَّلكم الله وأفادكم مرتهنٌ بما ألزمكم من حِياطته واستنمائه؛ فقد وجبتْ عليكم الحجة بما حضَّكم الله عليه، وعظمت عليكم المنة بما هداكم إليه، وأراكم من آياته ومُثُلاته فيمن خلا قبلكم ما فيه أبلغُ الإعذار والإنذار لكم، ومن اجتمع له اقتناء صواب من تقدمه إلى ما ينبعث من نفسه، فكأنه قد اختُبر بالتجربة، مع استمداده بما يستفيد، ويستزيد ما يفتح لبَّه ورأيه، وأيقِنُوا أنكم لن تصلوا إلى مَن سواكم، ممن هو أعسر طاعةً عليكم وأعذر بمعصيتكم، حتى تبدءوا باستصلاح أنفسكم، وأنه لن يرجى لكم القوة على مجاهدة عدوكم حتى تقوَوْا على مجاهدة أهوائكم، فإن على كل امرئ ريبةً من أمره، وغِطاء من غَيْبه، لا يكشفه إلا صحة المعرفة، والإذعان بالنَّصفة؛ فهناك يُؤمَن عليه الجهل والمعاندة، وإذا أُمِنت هاتان الخلَّتان انسدت بإذن الله ثُلَم الآفات، وفُتوق المكاره، فإنه لا يُخاف الضلال على من اهتدى، ولا اعتماد الجور على من انتصف من هوى.
واعلموا أن أمير المؤمنين متفقد من تثقيفكم وتقويمكم على صالح الأدب ومحمود السيرة، ما لا يتفقَّد به مَن سواكم؛ فإنه إن كان يُوجِب على نفسه استصلاح الرعية وحملهم على ما فيه رشدهم وقوامهم، لما يلزمه من فضل العناية بالأخص والأولى فالأولى، فإنَّ في أخلائكم من التقديم في التأديب والتعهد، وجوهًا من الضرر؛ منها: أنكم أَوْلى بحسن الطاعة وسرعة الإجابة، للطف محلكم وقرب مكانكم عند أمير المؤمنين.
ومنها: أنكم يأنس بكم المؤتمُّون، ويقتدي بكم التابعون؛ فمتى قصَّرتم وأخللتم، اقتفى أثركم مَن نُصِبتم له أعلامًا، ثم لم يكن لكم أن تزروا عليه، ولا أن تأخذوا فوق يده، بل كان قمينًا أن يكون يسومكم الرضا بمثل ما سمعتموه، ثم تجري هذه العادة في الطبقات، حتى يطَّرد السياق، إلى أن يستفيض الفساد في حشو الناس وعامتهم، فلا تُغني قوة ولا حزم ولا شدة، إلا العجز والإضاعة؛ ثم يجد الأعداء مساغًا إلى الطعن والعيب، فلا يملكون أن يرهقوكم ويستولي عليكم الفشل؛ فإن الأيدي إنما تُبْسَط بنفاذ العزائم، والعزائم إنما تنفذ بثبات الحجة، والحجة إنما تثبت إذا كانت عن الحق. وإذا أُضيع أول هذه الرسوم، التي رسم لكم أمير المؤمنين، تَبِعته تواليه وشَفَعته لواحقه، ووجد العدو الملاحظ مكان العورة، مطمعًا في إهمال ما كان يُعِدُّ له من الغرة، ويتوفَّق به من مناهزة الفرصة، وليكن ما تُفيضون فيه وتعدُّونه ظهيرًا على طاعن إن طعن في دولتكم، ما ألهم الله أمير المؤمنين: من شمول رعيته بالعدل، وفرش الأمر في مضمراتها ومنقلبها، ورفع به عنهم من سير الجود، وبسط به يده من إثابة أهل البلاء، وتغمُّد الجرائم لأولي الزلل، والإبلاغ في دعاء من عاند وشاقَّ إلى التوبة والإنابة، وإقالة العثرة بعد القدرة، والحقن لمباح الدماء، فلم تعلموه صَبَرَ محملًا، ولا هَتَكَ لأحدٍ ممن أظفره الله به سِترًا، ولا وَقَفَهُ على عورة. ثم تولى الله أمير المؤمنين، في حروبه شرقًا وغربًا، التي أغناه الله عن الإطناب في وصف صُنع الله لكم فيها، لاستفاضة أخبارها في دهمائكم، مع ما أحب من مطالعته إياكم ببالغ أدبه وشافي عطفه، أن يتنكَّب من الإسهاب، في غير ما صمد له ورأى من تقريع أسماعكم وأذهانكم، لوعي ما التمس أن تَعُوه من تبصيركم حظكم، وتنبيهكم على رشدكم. وحَسْبُ أمير المؤمنين في نفسه وفيكم الله، وكفى به مبينًا.
واستديموا معشر المسلمين سابغ النعمة بحمد مُولِيها والمتطوِّل بها. وقد تَروْنَ ما كنتم فيه قبلها وما آلت إليه حالُ من سُلِبها؛ ثم يُعْقب الندامة حين لا مُستعتَب ولا نظرة يمكن فيها استقالة الفارط بتقصير ولا هفوة زلل. وثِقُوا من رعاية أمير المؤمنين محمودَ آثاركم، وما مضى من بلاء كل امرئ منكم، بما تطمئنون إليه وتتوقَّعون عادته، بأسنَى ما ترتفع إليه آمالُكم وتسمو إليه هممكم، إلى ما يدخر الله لمن تمسَّك بهداه، واعتصم بتقواه، وجاهِدْ عن حقه، وافيًا بأمر عهده من جزيل ثوابه وكريم مآبه، إلى الدار التي هي أكبر درجات، وأكبر تفضيلًا.
أَحَبَّ أمير المؤمنين أن يتعهدكم بعظةٍ تنبِّهكم على حظكم، وتُثْبت من بصائركم، وتقطع من طمع الشيطان وحزبه فيكم، لِما يجب عليه من إرشادكم، ويرجو من تأدية حق الله عز وجل فيكم، ولِما يرى من اتصالكم بحبله، وما يشمله من الصنيع فيما ولَّاكم الله به، وتولَّاه لكم.
وأمير المؤمنين يسأل الله الذي دلَّ على الدعاء تطولًا، وتكفَّل بالإجابة حتمًا، فقال عز وجل: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، أن يجمع على رضاه أُلفتكم، وأن يصل على الطاعة حَبْلكم، وأن يمتِّعكم بأحسن ما أودعكم من مِنَنِهِ، ويوزِعَكم عليها من شكره، ما يواصل لكم مزيده، وأن يكفيكم كيد الكافرين، وحسد الباغين، ويحفظ أمير المؤمنين فيكم بأفضل ما حُفِظ به إمامُ هدًى في أوليائه وشيعته، ويَحمِل عنه ثقل ما حمله منكم. وبالله يستعين أمير المؤمنين، على ما ينوي من جزائكم بالحسنى، وحملِكم على الطريقة المثلى، وبه يرضى ناصرًا ووليًّا، وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيرًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كل ذنبٍ يا أمير المؤمنين وإن عَظُم صغيرٌ في جَنْب عفوك، وكل زلل وإن جلَّ حقيرٌ عند صفحك. وذلك الذي عوَّدك الله؛ فأطال مدَّتك، وتمَّم نعمتك، وأدام بك الخير، ورفع بك الشر.
هذه رُقعة الوالِهِ التي ترجوك في الحياة لنوائب الدهر، وفي الممات لجميل الذكر، فإن رأيتَ أن ترحم ضعفي، واستكانتي، وقلة حيلتي، وأن تصل رحمي، وتحتسب فيما جعلك الله له طالبًا وفيه راغبًا فافعل، وتذكَّر مَن لو كان حيًّا لكان شفيعي إليك.
وصلتْ رقعتُكِ يا أمَّاه، أحاطكِ الله وتولَّاكِ بالرعاية. وقفتُ عليها وساءني — شهد الله — جميعُ ما أوضحتِ فيها، لكنَّ الأقدار نافذة، والأحكام جارية، والأمور متصرِّفة، والمخلوقون في قبضتها، لا يقدرون على دفاعها، والدنيا كلها إلى شتات، وكل حي إلى ممات، والغدر والبغي حتفُ الإنسان، والمكر راجع إلى صاحبه. وقد أمرتُ بردِّ جميع ما أُخِذ لك، ولم تفقدي ممن مضى إلى رحمة الله إلا وجهه. وأنا بعد ذلك لك على أكثر مما تختارين؛ والسلام.
(٥) أحمد بن يوسف٦
رسالة ممتعة لأحمد بن يوسف ذكرها ابن طيفور في اختيار المنظوم والمنثور وهي: أما بعد، فالحمد لله القاهر القادر، الخالق الرازق، فاطِر السموات والأرض، الذي أحاط بكل شيء علمًا، ونطق به خُبْرًا، وأتقنه حكمة وعلمًا، وألَّف بين مختلَفه ومتَّفَقه، ليدلَّ بقوام بعضه على بعض، على اتصال تدبير مشيئته ومبتدعه، وأنه أحدٌ صمد، لا ضد له ولا ند، إذ قدَّر له حاجته ثم شدَّها ببلاغها إلى الغاية التي جعلها، فقال جل وعز: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ، وحكى عن نجيِّه موسى عليه السلام: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ، وقال الله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا، ثم لم يكلِّف العباد مِن شكره كفاء نعمته، بل رضيَ منهم باليسير، وقَبِل منهم العفو، وجعل طاعتهم إياه عائدةً عليهم بجزيل الحظ في دينهم ودنياهم؛ لغناه عن عبادتهم، واتساع قدرته بالتطول عليهم، مفتتحًا وخاتمًا، وبادئًا وعائدًا.
والحمد لله الذي اصطفى محمدًا ﷺ، نبيًّا لرسالته، وأتمنه على وحيه، وأنزل عليه كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فأدَّى إلى خلقه الرسالة، واستنقذهم من الضلالة، وصَدَع بأمر ربه وجاهد في سبيله، ونصح لأمته حتى أتاه اليقين من ربه، بعد استنارة الحق، وظهور الحجة، فصلَّى الله عليه بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، قد تلافى من الهلكه، وجمع الأُلفة بعد الفُرقة، وأوضح الهدى بعد الدروس، ومعالم الرشد بعد الطموس، وكان بالمؤمنين رحيمًا.
والحمد لله الذي قفَّى على آثار المرسلين، والأئمة الراشدين، الهاديَ التقيَّ، الطاهرَ الزكيَّ، الإمامَ المأمون أمير المؤمنين، أعزَّ الله نصره، فسدَّ ثُلْمتهم، ورأبَ صَدْعهم، وقلَّده خلافتهم، وجعله لكافة المسلمين غِياثًا ورحمة، وجعل ما ألهمه من العدل والإحسان إليهم، منَّة عليه ورحمة ذَخَرها له، دون الخلفاء قبله، فيما أظهر من فضل زمانه على الأزمنة، وسياسة مَن تقدَّمه، ومنح الرعية من عطفه ونظره، ما لا يحمل عنهم أو به، ولا يؤدي عنهم شكره، إلا هو لا شريك له؛ وأحسنَ الله جزاء أمير المؤمنين ومثوبته، على صلة رحم رسول الله ﷺ، التي هي رحمه وقرابته، واختياره لولاية عهده الأمير الرضي علي بن موسى — حفظه الله — حين أحمد سيرته، ورضي محبَّته، وعرف استقلاله، بما قلَّده في هديه، ودينه ووفائه، بما أكَّد الله به عليه، من عهد أمير المؤمنين — أيَّده الله — في اعتيامه مَن أزره وأساه بما شفع رأيه، وأنفذ تدبيره، حين همَّ لاستصلاح ما استرعاه الله، من أمور عباده، لما انتقى القائم بدعوته، ورئيس شريعته، الأمير ذا الرياستين — رحمه الله — فاتخذه مكاتفًا ظهيرًا ووزيرًا دون من سواه، فاتَّبع منهاج أمير المؤمنين — أيده الله — وسار بسيرته، شرقًا وغربًا، وغورًا ونجدًا، موفيًا بعهده، قائمًا بدعوته، مقتفيًا لأثره وسنته، فحسم الله به الأدواء، وقمع به الأعداء، من عتاة الأمم، وطواغيت الشرك، وأباد على يده، أهل الشقاق والنفاق، في كل أفق وطرف، بجدِّ أمير المؤمنين — أعزه الله — وبركة سياسته ودولته، ونُجْح سعي من قام بنصرة من قام بحقه، وأنار برهانه، حتى توفَّاه الله عز وجل حين بلغ همته وغايته، وحُتِّم أجله، وانقطعت مدته، سعيدًا حميدًا، شهيدًا فقيدًا، عند إمامه أكرمه الله، وعند الخاصة والعامة، وكان من إجلال أمير المؤمنين، الحادث الذي نزل به، فأحيا آثاره، بوصف محاسنه، في مشاهده ومجامعه، وترحُّمه عليه عند ذكره، وحِفظه في لُحْمته، وأهل حُرمته، وفيمن كان يحمد الله على طاعته ونصيحته، ما أتمَّ به نعمته، عندنا وعندكم معشر الشيعة، فقد أصبح أمره بكم متصلًا، وموقعه من جماعتكم متمكنًا، يقبضكم ما قبضه، ويبسطكم ما بسطه من لومة المصيبة، وحسن العُقبى، وقد علِمتم معشر أهل الحجا والنُّهى، والطاعة لله عز وجل وخليفته، وذوي الغباء والبلاء في دعوته من أهل خراسان وغيرهم ممن حضر ممن امتحن الله قلبه بوفاء العهد والاستبصار في حق أمير المؤمنين — أبقاه الله — والمجاهدة دونه، والصبر على مواطن الصدق واللأواء، والذبِّ عن البَيْضة والحريم، والمتحمِّلين للنَّصَب، والمصائب التي انجلت، حتى كأن لم تكن، وبقي أجرها على الله عز وجل ومحمود ذكرها شائعًا في الناس.
إن نِعَم الله قد جلَّت ولَطُفت، وخَصَّت وعَمَّت، وعلت وسمَقَت، وتمَّت ودامت، حتى قصَّرنا عن موازينها، والإحاطة بأدائها، فإذا لم يكن لنا معشر إخواننا سببٌ إلى مكافأة بلائه بالعمل، فنحن جدراء أن نجتهد في القول، ونُطْنِب في الوصف إن شاء الله جلَّ وعزَّ، فقد جعل ذكرَ النعم من أسباب الشكر، وقد جدَّد لنا أمير المؤمنين — أيده الله — من الحياة والكرامة، وجزيل الحيطة، وسَنِيِّ الرتبة التي قُرئ بها عليكم كتابه ما يستغرق جهدنا، ويستفرغ وُسعنا، فنرغب إلى الله عز وجل ولي الرغبة، ومؤتي السؤل والطلبة، في إعانتنا على تأدية ما وجب له، فيما منحنا من فوائده ونحله، ثم نسترفِدكم ونستعينكم على شكره، وإمدادنا بما بلغته طاقتكم في السعي له، فقد آدَنَا ثقل ما حَمَّلنا، وثقل ما طَوَّقنا، وعظُمت فاقتنا إلى استعمال القوي من الأنفس والحامَّة، والخاصَّة والعامَّة، في جزاء ما جلَّل أمير المؤمنين فينا من سُنَنه، وشملنا من تالد أياديه وطارفها، وقديمها وحديثها، وكيف يوجد إلى موازاة أمير المؤمنين سبيل ببذل جهد، أو بلوغ حشد، فإنما نقتدي بهداه، ونعشو بنوره في ديننا، وليس عَجْزُنا عن أن نجزي حقه، بواضع عنا مئونة الدُّءُوب في التحري لتأديته، فإن الله عز وجل قد أخبر بفضائل الشكر ومناقبه، وجعله من أسمائه: وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ، وقد قال تعالى: مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا، وقال تعالى: إِن تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ.
ولولا أن الله عز وجل رضيه لنفسه، لأجللناه عن التسمية؛ إذ كان أكثر ما نستعمله، ونعرفه في مكافأة مَن منَّ وتطوَّل، ثم ثنَّى بذكر فضله في العباد، فإن الله تبارك وتعالى افتتح أول ما علَّم خلقه بالحمد، وجعله بدء كتابه، وخاتمة دعوة أهل جنته، فقال عز وجل: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وخلق الله السموات والأرض، ومن برأ وذرأ في الحياة ليبلوَ عباده بشكره، وأعدَّ الجنة في الآخرة لمن شكره، والنار لمن كَفَره، وقال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، وقال الله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ؛ فجمل التقوى واقعةً، والشكر مرجوًّا ليدل على ارتفاع رتبته، وعلوِّ درجته عنده، وقال لنجيِّه موسى عليه السلام: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ.
ثم تتابعت كُتب أمير المؤمنين — أكرمه الله — بعد مصاب الأمير ذي الرياستين، بما لا يقارب التفضيل، والإطلاق والتفويض الذي كنتم سمعتم به وبلغكم، فلم يكن يرى وراءه مجاراة، ولا فوقه مَصْعدًا، حتى جدَّد لنا من كرامته، ما قد قُرئ عليكم في كتابه، فبلَغ بنا ما لم تكن الهِمم تبلغه، والأماني لِتُحيط به، لولا ما منحنا الله عز وجل من الترقِّي في الفضل، إلى ما تنحسر من دونه الأبصار، وتنقطع دونه الآمال، وإنما اقتصصناه وذكرنا ما أبلانا واصطنع عندنا من بلائه بدعائنا إلى الله عز وجل وإلى طاعته بالعدل والإحسان إلى رعيته والنظر بالصفح، والأخذ بالفضل، والأمر بالمعروف، وصلة المروءة بالوفاء بالعهد، والشكر للمنن، ورعاية الأخلاق المحمودة، وإحظاء أهلها، وإقامة سوقها، حتى تنافسوها وتشاحُّوا فيها، وصارت هي الذرائع إليه، والوسائل عنده، فلو تأمَّل متأمِّلُ أهلِ الزلفة، والأثرة لديه، لوجد الأخص فالأخص، والأعلى قدرًا عنده هو الأفضل دينًا ومروءة، فلو لم يكن في الحُظوة عنده إلا إيجابها لصاحبها صحة المحبة، والنزاهة عن كل ظِنَّة، لكان فيها أعظم الغبطة، وأعدل الشهادة والدلالة. وسنقصُّ عليكم بما أخبرناكم عنه ما لا سبيل إلى جحده وإنكاره، بوضوح معالمه ومنائره؛ أَوَلَيْسَ المجاهد عن دين الله، والمحامي عن بيضة المسلمين، والمواتي لأغلظ عدوهم شوكة، وأخوفهم عداوة، والمُنْجِح في بلادهم، بمن كان لا يرام، ولا يحاول لاستصعابه وشدة مقاساته، حتى أذعن جيغويه بالعبودية له، ثم أباح حريمه حين تمرد عليه، حتى بلغ السبي إلى ولده، وحاربونا به، وتغلغلت خيوله، حتى توصَّلت إلى قُبَّته، ومنتهى عزه؟ أَوَلَيس مُسَكِّن التهيُّج بالمشرق، حتى خَبَت النيران فيه، وأذعن رؤساؤها وقادتها؟ أَوَليس غازي بلاد بابل حين طغى أميرها، وبدَّل، ونكث ونقض، حتى اجتُثَّت أرومته، وأباح حريمه، وأراح المسلمين من معرَّته؟ أَوَليس سادَّ الثغور، ومُحَصِّن عوراتها، والمباشر لتدبيرها، والمُسْعَدا لمكايدة المُنْجَح فيمن أرادها، وفاكَّ العناة، من رِقِّ الإسار، وناشر الرحمة على فقراء المسلمين وضعفائهم وأهل المسكنة، والخلة منهم، وقاسِمَ الصدقات في أهلها، وعامِرَ الموسم ومحصنه من الآفات حياطة للمسلمين في حَجِّهم، وما يتقربون به إلى ربهم؟ وهل اقترن لأحد من الأئمة ما اقترن له في الملك والدين والعز، والتواضع والسعة، والبذل والقدرة، والعفو والغلظة، والليان في مواضعها، والنسك مع الهمة، والسطوة مع الإقالة؟ وهل ترك معشر الأولياء والإخوان في الدين غاية لم يسمُ بنا إلى شرفها، وعلى مراتبها، ومستزاد الحظ في عاجل وآجل، لم يُبْلِغْناه ونختار لنا خاصَّ مكرمته، ومدَّخر عاقبته؟ أرشدنا إلى الدين، وسلك بنا سبل الجنة، حاز لنا الملك، فلم يبقَ وراء ما ملكنا غاية، وورد بنا الحروب وساسها لنا، فلم يَدَعْ غايةً للتعليم والدراية، سُلِّط علينا بسلطان الله الذي أتاه، فلم يَدَعْ غايةً في التقلد والفقه، فكم علَّمنا الفضائل، ثم فضلنا بها. غلب لنا الأمم، ثم خوَّلناها. علَّمنا طرائق الشرف، ثم شرفنا بها. أخبرنا عن الأنباء فكفانا مئونة التماسها، وأغنانا بما عنده فيها، أخذ على أيدينا الخير للرعية، فوهب لنا شكرها، وصدَّق مقالتنا عند الشبهة، وأنفذ أمرنا في التدبير.
فيا أيها الإمام المنصور المهدي الرشيد، حُزتَ فضائل الآباء، واهتديت بهدي الأنبياء، أنشكركَ عن الإسلام، فأنت القائم به الداعي له، والناصر لحقه؟ أم نشكرك عن الأمصار، فأنت المفتتح لممتنعها عَنْوة، والمتطوِّل على أهلها بالرحمة، والمنعطف عليهم بحسن الفائدة بعد ما هيجت منك سَورة الغضب، فأطفأتَ نارها، وأخمدت لهبها، وعدت على من سَفِهَ، وأضاع حظَّه؟ أم نشكرك على المساجد، فأنت الذي أسستها على التقوى، وعمرتها بتلاوة القرآن، وطهَّرت المنابر وركبتها، تعلوها صائمًا، وتنطق عليها صادقًا، وتدعو إلى الرشد عليها ناصحًا، وتختم القرآن قبل أن تبدأها محسنًا، وتتلو من قوارعه، ما تصيخ له الأسماع وتلين له القلوب؟ أم نشكرك على البيت العتيق، والركن والمقام، والحَجَر وزمزم، ومشاعر الحج، وأنت ذببتَ عنها، وأعدت إليها عهدها، في مبعث نبيها ﷺ، فأمَّنت النازع إليها، من كل فجٍّ عميق، والحالِّين بها من الركوع والسجود؟
أم نشكرك عن رسول الله ﷺ، فيما حفظتَ فيه من عِترته، بعفوك عن مجرمهم، ومضاعفتك نواب محسنهم، وإحيائك من أمرهم، ما كان قد اندرس وانطمس، بعد اللقاء بنبي الله ﷺ، وقد راعيت منه في قرابته وقرابتك، وذوي رحمه ورحمك، ما ضيَّع الناس، ووصلت منهم ما كان وصله؛ إذ كان الله عز وجل قد فرض صلة الأرحام، فكان أطوع خلق الله عز وجل فيما فرض عليه؟ أم نشكرك عن العوام؛ فقد ألبست المسلمين ثوب الأمن، وأذقتهم طعم السعة والرفاهة، وعدلت بينهم بالإنصاف، وتولَّيت دونهم النَّصَب، وآثرتهم الراحة؟ أم نشكرك عن الملوك والقواد والأجناد؛ فأنت الذي رفعت منازلهم، ووفَّرت عددهم، فلم يكن في دهر أحد من الخلفاء أسعد ولا أحظى منهم في سلطانك، بما بذلت لهم من المعاون، ووليتهم من الثغور والأمصار، وأدررت عليهم من الأرزاق والخواص؟ أم نشكرك عن الأحكام والسنن؛ فأنت الذي أنهجت سبيلها، فأوجبت فرضها، ونافست في أهلها؟ أم نشكرك عن الأعداء؛ فأنت الذي بدأتهم بالحجة، ودعوتهم إلى الفيئة والإنابة، ثم ثنَّيت معقِّبًا بالعفو، ونعشتهم بعد البؤس، وآنستهم من الوحشة؟ أم نشكرك على مكارم الأخلاق، وأنت الذي ثبَّت وطأتها، ونفيت عنها أضدادها، ولو نَطَقَتْ بالفضل، لنطقت بشكرك، في إزالتك إياها عن اللئام، وإخطائك من اعتزى إليها؟ أم نشكرك عن الثغور؛ فأنت الذي تمَّمتها، وحصَّنت عوراتها؟ أم نشكرك عن السَّلَف؛ فأنت الذي أشدتَ بفعالهم، وحفظتهم في أبنائهم؟ أم نشكرك عن بُرْد رسول الله ﷺ، وعن القضيب الذي شخَّص به، حتى جعلتهما زينتك، وسموت بهما في أعيادك، عند حشدك، على الطهر والزكاة، والنسك والتقوى؟
أم نشكرك عن المسلمين في رعايتك إياهم، وما تُرعِيهم من جَنَابك، وتنفي عنهم من الآفات، وتُقِلُ عنهم من جبابرة الكفر، وتفضُّ من جيوش الشرك والنكث، وتفتح من الحصون المستصعبة، وتسهِّل من الطرق الوعرة؟ أم نشكرك عن تواضعك لله عز وجل ولصالح المسلمين طلبًا للرفعة عند الله؟ أم نشكرك عن الدين وقد جعلت السلطان عبدًا وقائدًا ومنفِّذًا، وكان مأمورًا فجعلته آمرًا، وآلة للقوة فجعلت القوة له آلة؟
فيا من اتصل شكره بشكر الله عز وجل ونعمته بنعمة الله تعالى وطاعته، بطاعة الله فوهب الله لك شرف المنازل، ورقَّاك دَرَج الفضائل، وجزاك الله عنا وعن غيرنا، مما شكر من ناطق أو صامت، جزيل الثواب ورفيع الدرجات، وأمتعك ما أتاك، وأمتع الأمة ما آتاهم منك، والحمد لله ذي الرغبات، ومتمم الصالحات، شكرًا لرب العالمين، فإنه مَبْلَغ طاقتنا، ومُنتهى جهدنا، وبه نستعين على تأدية فرائضه، إنه لا يعين على ذلك إلا هو. أحببتُ أن نشكر إليكم أمير المؤمنين — أيده الله — إذ ورد عليَّ من أنعامه وأفضاله، ما لا أبلغه بالفعل، وأن يكون ما اقتصصنا عليكم، داعيًا لكم، إلى أن تشكروه عنَّا، وعن أنفسكم، وعن الإسلام والمسلمين، ورجوت بما وفَّقنا الله له، فيما شرحنا وأوضحنا، من الدلالة والبيان أن يكون مجتمعًا ينتفع به مَن حضرنا، ومن عسى أن يؤدَّى إليه الخبر عنا، أو حدث بعدنا، وضننت بهذه المكرمة الرائعة، والمأثرة البارعة، التي ادخرها الله لأمير المؤمنين، أعز الله نصره، وأفرده بها، دون الأئمة والخلفاء، أن تمر بالأسماع صفحًا، وتجتاز على القلوب سهوًا، حتى تؤكَّد بالشواهد والبرهان، ليبقى ذكرها ونفعها في الخلوف والأعقاب، ونحن نسأل الله عز وجل الذي جمع بأمير المؤمنين — مد الله في عمره — أُلفتنا، وعلى طاعته أهواءنا وضمائرنا، وأنالنا من الغبطة في دولته وسلطانه، ما لم تَحْوِه شيعة إمام، ولا أنصار خليفة، أن يتم نور أمير المؤمنين، ويُعلي كعبه، ويمتِّعنا ببقائه، حتى يبلِّغه سؤله وهمته في الاستكثار من البر وادخار الأجر، واستيجاب الحمد والشكر، وأن يلمَّ به الشعث، ويرأب به الصدع، ويصلح على يديه الفساد، ويَرْتُق به فُتوق هذه الأمة، ويُثْخن بسياسته ونكايته في عدوها، ويتابع الفتوح في بلدانهم حتى يؤتيه من نُجْح السعي، ورغائب الحظ في الدنيا، ما يجزل عليه ثوابه في الآخرة، وأرشد نجباءه وأصفياءه، الذين يقول لهم: فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
وقَّع إلى عامل ظالم: «الحقُّ طريق واضح لمن طلبه، تَهْديه محجَّتُه، ولا تُخَاف عثرته، وتُؤْمن في السر مغبَّته، فلا تستقِلَنَّ منه ولا تعدِلَنَّ عنه؛ فقد بالغتُ في مناصحتك، فلا تحوجني إلى معاودتك، فليس بعد التقدمة إليك إلا سطوة الإنكار عليك.»
ووقَّع في عناية بإنسان إلى بعض العمال: «أنا بفلان تام العناية، وله شديد الرعاية، وكنتُ أحب أن يكون ما أرعيتَه طرفك من أمره في كتابي مستودعًا سمعك من خطابي، فلا تعدلنَّ بعنايتك إلى غيره، ولا تمنحنَّ بعقدك سواه حتى تنيله إرادته وتتجاوز به أمنيته إن شاء الله.»
وفي كتاب ابن طيفور من توقيعات أحمد بن يوسف الشيء الكثير، فارجع إليه إن شئت.
(٦) رسائل سهل بن هارون٨
حكى الجاحظ قال: لقي رجلٌ سهل بن هارون فقال: هبْ لي ما لا ضرر به عليك. فقال: وما هو يا أخي؟ قال: درهم. قال: لقد هوَّنت الدرهم وهو طائع الله في أرضه لا يعصي، وهو عُشْر العشرة، والعشرة عُشْر المائة، والمائة عُشْر الألف، والألف دِية المسلم. ألا ترى إلى أين انتهى الدرهم الذي هوَّنته؟ وهل بيوت الأموال إلا درهم على درهم؟! فانصرف الرجل، ولولا انصرافه لم يسكت.
وحكى دعبل الخزاعي الشاعر قال: أقمنا يومًا عند سهل بن هارون، وأطلنا الحديث حتى أضرَّ به الجوع، فدعا بغذائه، فأُتيَ بصَحْفة فيها مَرَق تحته ديك هَرِم، فأخذ كسرة وتفقَّد ما في الصحفة فلم يجد رأس الديك، فبقي مطرقًا، ثم قال للغلام: أين الرأس؟ قال: رميت به. قال: ولِمَ؟ قال: لم أظنك تأكله! قال: ولِمَ ظننت ذلك؟! فوالله إني لأمقتُ من يرمي برجله فكيف برأسه! ولو لم أكره ما صنعت إلا للطيرة والفأل لكرهته. أما علمتَ أن الرأس رئيسٌ يُتفاءل به، وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه فرقه الذي يُتبرك به، وعينه التي يُضرب بصفائها المثل فيقال: شراب كعين الديك، ودماغه عجب لوجع الكُلْية، ولم أَرَ عظمًا قط أهش تحت الأسنان منه، وإن كان بلغ من نبلك أنك لا تأكله، فعندنا من يأكله، أَوَمَا علمت أنه خير من طرف الجناح ومن رأس العنق؟! انظر أين رميته. فقال: والله ما أدري. قال: أنا والله أدري! إنك رميت به والله في بطنك، فالله حسيبك.
ومن مؤلفاته كتاب البخلاء.
ولما صنَّف سهلٌ كتابه في البخل أهداه إلى الحسن بن سهل واستماحه، فكتب إليه الحسن: قد مدحتَ ما ذمه الله، وحسَّنت ما قبَّحه الله، وما يقوم بفساد معناك صلاحُ لفظك، قد جعلنا ثواب مدحك فيه قبول قولك، فما نعطيك شيئًا.
واتُّهم سهل بن هارون بالبخل وأُورِد له في ذلك قصصٌ ونوادر، وعدَّه الجاحظ من «متعاقِلي البخلاء وأشحاء العلماء» قال: ما علمت أن أحدًا جرَّد في البخل كتابًا إلا سهل بن هارون، وأبا عبد الرحمن الثوري، والبخل في الفُرس غالب في الجملة، غلبة الكرم على طبائع العرب، فاقتضى ذلك التفريط الذي رآه سهل في تبذير العرب، أن يُدلي لقومه بآرائه المفرطة في الاقتصاد والإمساك. وما شُوهد قط تفريط إلا وإلى جانبه إفراط.
كتبه وطريقته في التأليف
كان سهل بن هارون منقطع القرين في صنوف العلم والآداب، وناهيك بعالِم كبير كالجاحظ كان يؤلِّف الكتاب الكثير المعاني، الحسن النظم، فينسبه إلى نفسه فلا يرى الأسماع تصغي إليه، ولا القلوب تيمَّم نحوه، ثم يؤلِّف — كما قال عن نفسه — ما هو أنقص منه مرتبة وأقل منه فائدة، فينحله عبد الله بن المقفع، أو سهل بن هارون، فيُقبِل الناس عليها، ويسارعون إلى نسخها.
ويُقال إن طريقة سهل في كتابته طريقة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ لا يتكلَّف لكلامه، فلا يشاهِد فيه الناقد أثر التعمُّل، بل لا يكلف بغير إرسال النفس على سجيتها، فهو وابن المقفع والجاحظ على غرار واحد.
وقيل إن سهلًا كاتب سلاطين، والجاحظ مؤلف دواوين. وكأن كلامه نغمة موسيقية تَعرف انتهاء جملته من رنَّتها بعد أن ملكتْ عليك مشاعرَكَ، لا يحفل بالأسجاع إلا إذا جاءت عفو الخاطر، شأن بلغاء الصدر الأول. وكان يقول الشعر، وأكثر شعره مما أملاه قلبه، في غرض من أغراض المجتمع. وعدَّه الجاحظ من الخطباء والشعراء الذين جمعوا الشعر والخطب والرسائل الطوال والقصار، والكتب الكبار المجلدة، والسِّيَر الحسان المولدة، والأخبار المدونة. ولقَّبه مرة بالكاتب، ولعل لقب الكاتب في شرفه أكبر من عالم. وذكره ابن النديم في البلغاء وقال: إنه شاعر مقلٌّ، وعدَّه في الشعراء الكتَّاب. وقال: إنه كان ممن يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم هو وعبد الله بن المقفع وعلي بن داود كاتب زبيدة. وشعره خمسون ورقة. أما الدهشة ففي تآليفه، فله ديوان رسائله، وكتاب النمر والثعلب، وكتاب أسباسيوس (أسانوس) في اتخاذ الإخوان، كتاب أسد بن أسد، كتاب سَحَرَة العقل، كتاب تدبير المُلك والسياسة، كتاب إلى عيسى بن أبان في القضاء، كتاب الفُرس، كتاب الغزالين، كتاب ندود وودود ولدود، كتاب الرياض، كتاب ثعلة وعفراء، (وفي رواية ثعلة وعفرة) على مثال كتاب كليلة ودمنة، قلَّده في أبوابه وأمثاله.
وقال المسعودي: يَزيد عليه — أي على كليلة ودمنة — في حسن نظمه، وقد صنفه للمأمون. ومن تآليفه: كتاب الهزلية والمخزومي، كتاب الوامق والعذراء، إلى غير ذلك من المصنفات التي لم تُبْقِ الأيام — ويا للأسف! — على واحد منها فيما علمنا.
دخل سهل على الرشيد وهو يضاحك المأمون؛ فقال: اللهم زِدْه من الخيرات، وابسط له من البركات، حتى يكون في كل يوم من أيامه مربيًا على أمسه، مقصرًا عن غده. فقال الرشيد: يا سهل، من رَوَى من الشعر أحسنه وأرصنه، ومن الحديث أفصحه وأوضحه، إذا رام أن يقول لا يعجزه القول؟ فقال سهل: يا أمير المؤمنين، ما ظننتُ أن أحدًا تقدَّمني إلى هذا المعنى. قال: بل أعشى همدان حيث يقول:
وقد شهد مقتل البرامكة في سنة ١٨٧ﻫ، وحدَّث فيما كان عليه يحيى وجعفر من البلاغة فقال: إن سجَّاعي الخطب، ومحبِّري القريض عيال على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر بن يحيى، ولو كان كلامٌ يَتصوَّر دُرًّا، ويُحيله المنطق السَّرِيُّ جوهرًا، لكان كلامَهما، والمنتقى من لفظهما، ولقد كانا مع هذا عند كلام الرشيد في بديهته وتوقيعاته في كُتُبه، فَدْمين عيَّيْن، وجاهلَيْن أميَّيْن، ولقد عُمِّرت معهم، وأدركتُ طبقة المتكلمين في أيامهم، وهم يَرَوْن أن البلاغة لم تستكمل إلا فيهم، ولم تكن مقصورة إلا عليهم، ولا انقادت إلا لهم، وأنهم محض الأنام، ولُبَاب الكِرَام، ومِلْح الأيام، عِشقُ منظرٍ، وجودة مَخْبرٍ، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاهة نفس، واكتمال خصال، حتى لو فاخرتَ الدنيا بقليل أيامهم، والمأثور من خصالهم، كثيرَ أيام مَن سواهم من لدن آدم أبيهم إلى النفخ في الصور، وابتعاث أهل القبور، حاشا أنبياء الله المكرمين، وأهل وحيه المرسلين، لما باهت إلا بهم، ولا عوَّلت في الفخر إلا عليهم، ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم، وكريم أعراقهم، وسعة آفاقهم، ورفق ميثاقهم، ومعسول مذاقهم، وبهاء إشراقهم، ونقاوة أعراضهم، وتهذيب أغراضهم، واكتمال خلال الخير فيهم، إلى ملء الأرض مثلهم في جنب محاسن المأمون كالنَّفثة (التفلة) في البحر، والخردلة في المَهْمَه القَفْر.
قيل: وهذا الكلام على ما فيه من حقيقة في بيان سجايا البرامكة والرشيد والمأمون لم يختتم بالنَّصَفَة الحقَّة، ومال به سهلٌ إلى المصانعة، وخرَّجه على نحو مبالغة الفُرْس، في الإطراء والمَلَق لوليِّ الأمر.
وروى بعضُ الرواة أن المأمون كان استقل سهل بن هارون؛ وقد دخل عليه يومًا والناس على مراتبهم، فتكلَّم المأمون بكلام ذهب فيه كلَّ مذهب، فلما فرغ من كلامه أقبل سهل بن هارون على الجمع فقال: ما لكم تسمعون ولا تَعُون، وتشاهِدون ولا تفقهون، وتفهمون ولا تتعجبون، وتتعجبون ولا تُنصِفون! والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير ما فعل بنو مروان في الدهر الطويل، عَرَبُكم كعَجَمِكم، وعَجَمُكم كعَبِيدكم، ولكن كيف يُعَرَّف بالدواء من لا يشعر بالداء! فرجع المأمون فيه إلى الرأى الأول؛ وعرف أنه الرجل كل الرجل، فقرَّبه وأدناه على النحو الذي كان عليه في عهد والده.
اجعلوا أداء ما يجب عليكم من الحقوق مقدَّمًا قبل الذي تجودون به من تفضُّلكم، فإن تقديم النافلة مع الإبطاء في الفريضة شاهدٌ على وهن العقيدة، وتقصير الرويَّة، ومُضِرٌّ بالتدبير، ومُخِلٌّ بالاختيار، وليس في نَفْعٍ تُحمَد به عِوض من فساد المروءة، ولزوم النقيصة.
وهذا مأخوذ من قوله في يحيى بن جعفر:
بلغني خبر الفترة في إلمامها وانحسارها، والشكاةِ في حلولها وارتحالها، فكاد يشغل القلق بأوله عن السكون لآخره، وتَذْهَل الحَيْرة في ابتدائه، عن المسرَّة في انتهائه، وكان تغيُّري في الحالين بقدرهما ارتياعًا للأولى، وارتياحًا للأخرى.
•••
بسم الله الرحمن الرحيم
أصلح الله أمركم وجمع شملكم وعلَّمكم الخير وجعلكم من أهله. قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم، لا تُسرِعوا إلى الفتنة، فإن أسرع الناس إلى القتال أقلُّهم حياءً من الفرار. وقد كانوا يقولون: إذا أردتَ أن ترى العيوب جمَّة فتأمل عَيَّابًا؛ فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب. ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب. وقبيحٌ أن تَنْهى مرشدًا وأن تُغرَى بمشفق. وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم، وإصلاح فاسدكم، وإبقاء النعمة عليكم. وما أخطأنا سبيل حُسن النية فيما بيننا وبينكم. وقد تعلمون أنَّا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لكم، ولأنفسنا قبلكم، وشُهِرنا به في الآفاق دونكم؛ ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، فما كان أحقَّنا منكم في حرمتنا بكم أن تَرْعَوا حقَّ قصدنا بذلك إليكم على ما رَعَيْناه من واجب حقكم؛ فلا العُذْر المبسوط بَلَغْتُم، ولا بواجب الحرمة قمتم. ولو كان ذكر العيوب يُراد به فخرٌ لرأينا في أنفسنا من ذلك شغلًا.
وَعِبْتُموني أن قلتُ للغلام: إذا زدتَ في المَرَق فَزِد في الإنضاج ليجتمع مع التأدُّم باللحم طِيبُ المَرَق.
وَعِبْتُموني أن قلتُ: لا يغترَّنَّ أحدكم بطول عمره وتقويس ظهره ورِقَّة عظمه ووهن قوته، وأن يرى نحوه أكثر ذُرِّيته، فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يده وتحويله إلى ملك غيره وإلى تحكيم السرف فيه وتسليط الشهوات عليه، فلعله يكون معمرًا وهو لا يدري، وممدودًا له في السن وهو لا يشعر، ولعله أن يُرزق الولد على اليأس ويحدث عليه من آفات الدهر ما لا يخطر على بالٍ ولا يدركه عقل، فيسترده ممن لا يرده، ويُظهِر الشكوى إلى من لا يرحمه أصعبَ ما كان عليه الطلب وأقبح ما كان به أن يطلب، فعبتموني بذلك؛ وقد قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.
وَعِبْتُموني بأن قلتُ: بأن السرف والتبذير إلى مال المواريث وأموال الملوك، وأن الحفظ للمال المكتسَب والغِنى المجتلب، وإلى من لا يُعرَّض فيه بذهاب الدين واهتضام العِرض ونَصَب البدن واهتمام القلب أسرعُ، ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دَخْلَه، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع الأصل، ومن لم يعرف للغِنى قدره فقد أوذن بالفقر وطاب نفسًا بالذل.
وَعِبْتُموني بأن قلت: إن كَسْب الحلال يضمن الإنفاق في الحلال، وإن الخبيث ينزع إلى الخبيث، وإن الطيب يدعو إلى الطيب، وإن الإنفاق في الهوى حجاب دون الهدى؛ فعبتم عليَّ هذا القول، وقد قال معاوية: لم أَرَ تبذيرًا قط إلا وإلى جنبه حقٌّ مُضَيَّع. وقد قال الحسن: إن أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله فانظروا فيماذا ينفقه؛ فإن الخبيث إنما يُنْفق في السرف. وقلت لكم بالشفقة عليكم وحسن النظر مني لكم وأنتم في دار الآفات، والجوائح غير مأمونات: فإن أحاطت بمال أحدكم آفةٌ لم يرجع إلا إلى نفسه. فاحذروا النِّقَم باختلاف الأمكنة؛ فإن البلية لا تجري في الجميع إلا بموت الجميع.
فَعِبْتموني بذلك وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلًا من غني أَمِن الفقر، وسُكْرَ الغِنى أكثر من سُكْر الخمر. وقد قال الشاعر في يحيى بن خالد بن برمك:
وَعِبْتُموني حين زعمتم أني أُقدِّم المال على العلم، لأن المال به يُفاد العلم وبه تقوم النفس قبل أن تعرف فضل العلم، فهو أصلٌ والأصل أحق بالتفضيل من الفرع، فقلتم: كيف هذا؟ وقد قيل لرئيس الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء؟ قال: العلماء. قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر ما يأتي الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال وجهل الأغنياء بحق العلم. فقلت: حالهما هي القاضية بينهما. وكيف يستوي شيءٌ حاجةُ العامة إليه وشيء يغني فيه بعضهم عن بعض!
وكان النبي ﷺ يأمر الأغنياء باتخاذ الغَنَم والفقراء باتخاذ الدجاج. وقال أبو بكر رضي الله عنه: إني لأُبْغِض أهل بيتٍ ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد. وكان أبو الأسود الدؤلي يقول لولده: إذا بسط الله لك الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض.
وَعِبْتُموني حين قلت: فضل الغنى على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون في البيت إذا احتيج إليها استعملت وإن استغني عنها كانت عُدَّة. وقد قال الحصين بن المنذر: وددتُ أنَّ لي مثل أُحدٍ ذهبًا لا أنتفع منه بشيء. قيل له: فما كنت تصنع به؟ قال: لكثرة من كان يَخدُمُني عليه؛ لأن المال مخدوم. وقد قال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى؛ فلو لم يكن فيه إلا أنه عزٌّ في قلبك وذلٌ في قلب عدوك، لكان الحظ فيه جسيمًا والنفع فيه عظيمًا.
ولسنا نَدَعُ سيرة الأنبياء وتعليم الخلفاء وتأديب الحكماء لأصحاب اللهو؛ ولستم عليَّ تردُّون ولا رأيي تفنِّدون، فقدِّموا النظر قبل العزم، وأدركوا مالكم قبل أن تدركوا مآلكم، والسلام عليكم.
وسهلٌ هو القائل:
وهو القائل:
(٧) عمرو بن مسعدة
أعظم الناس أجرًا، وأنبههم ذكرًا، من لم يرضَ بموت العدل في دولته، وظهور الحجة في سلطانه، وإيصال المنافع إلى رعيته في حياته، وأسعدُ الرعاة من دامت سعادة الحق في أيامه، وبعد وفاته وانقراضه.
وقال: الخَطُّ صُوَر الكتب، تُرَدُّ إليها أرواحها.
وقال: الخط صورة ضئيلة لها معانٍ جليلة، وربما ضاق عن العيون، وقد ملأ أخطار الفنون.
وقال: لا تستصحبْ مَن يكون استمتاعه بمالك وجاهك، أكثر من إمتاعه لك بشكر لسانه وفوائد علمه، ومَن كانت غايته الاحتيال على مالك وإطراءك في وجهك، فإن هذا لا يكون إلا رديء الغيب، سريعًا إلى الذم.
أما بعد، فإنَّك ممن إذا غَرَسَ سَقَى، وإذا أسَّس بَنَى، ليستتمَّ تشييد أُسسه، ويجتني ثمار غرسه، وثناؤك عندي قد شارف الدروس، وغرسك مشفٍ على اليبوس، فتداركْ بناء ما أسست، وسقي ما غرست إن شاء الله.
أما بعد، فموصِّل كتابي إليك سالم والسلام. أراد قول الشاعر:
أي يحلُّ مني هذا المحل.
أما بعد، فقد استشفع بي فلان يا أمير المؤمنين لتطوُّلك عليَّ، في إلحاقه بنظرائه من الخاصة فيما يرتزقون به، وأعلمتُهُ أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدِّي طاعته، والسلام.
فكتب إليه المأمون: «قد عرفنا توطئتك له، وتعريضك لنفسك، وأجبناك إليهما، ووافقناك عليهما.» وقوله: «إن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدِّي طاعته»، من الكلام السري الذي يدل على مبلغ عمرو وبُعد غَوْره في السياسة ووقوفه على روح عصره ونفسية الخلفاء.
فلما قرأ المأمون الرفعة دعا عمرًا فجعل يَعْجَب من حسن لفظها، وإيجاز المراد. فقال عمرو: فما نتيجتها يا أمير المؤمنين؟ قال: الكتاب له في هذا الوقت بما وعدناه، لئلا يتأخر فضل استحساننا كلامه، وبجائزة مائة ألف درهم، صِلةً عن دناءة المطل، وسماجة الإغفال.
وهذا مما يدل على سعة عقل المأمون وولوعه بالبلاغة وقَدْرِه أهلها حقَّ قدرهم، دَعْ ما هنالك من نفسٍ ما أحبَّت إلا الجود والعطاء.
العبودية عبودية الإخاء، لا عبودية الرق. الودُّ أعطف من الرَّحِم. إن الكريم لَيَرْعى من المعرفة ما رعى الوصلُ من القرابة. عليكم بالإخوان فإنهم زينة في الرخاء، وعُدَّة للبلاء. مَثَلُ الإخوان مَثَلُ النار، قليلها متاع، وكثيرها بوار. النفس بالصديق، آنسُ منها بالعشيق، وغَزَلُ المودة، أرقُّ من غزل الصبابة. من حقوق المودة، عفو الإخوان، والإغضاء عن تقصيرٍ إن كان. ذكر رجل رجلًا فقال: حَسْبُك أنه خُلِق كما تشتهي إخوانه. المودة قرابة مستفادة. ما تواصل اثنان فدام تواصلهما، إلا لفضلهما أو فضل أحدهما. أسرع الأشياء انقطاعًا مودة الأشرار. المحروم من حُرِم صالحي الإخوان. لقاء الخليل شفاء الغليل. قلَّة الزيارة، أمان من الملالة. إخوان السوء كشجر النار يُحرق بعضه بعضًا. علامة الصديق إذا أراد القطيعة أن يؤخِّر الجواب، ولا يبتدئ بالكتاب. لا يفسدنَّك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له. من لم يقدِّم الامتحان قبل الثقة، والثقةَ قبل الأنس، أثمرت مودتُهُ ندمًا. إذا قدَّمتَ الحُرمة، تشبَّهتَ بالقرابة. العتاب حياة المودة. ظاهر العتاب خيرٌ من باطن الحقد. ما أكثر مَن يُعاتَب لطلب علَّة، ويبقى الود ما بقي العتاب. كُمُون الحقد في الفؤاد ككمون النار في الزِّناد. القريب بعيد بعداوته، والبعيد قريب بمودته. لا تأمننَّ عدوك وإن كان مقهورًا، واحذره وإن كان مفقودًا، فإن حدَّ السيف فيه وإن كان مغمودًا. لا تتعرض لعدوك في دولته، فإنها إذا زالت كفتْكَ مئونته. نُصْح الصديق تأديب، ونُصْح العدو تأنيب.
روى البيهقي قال: أخبرنا بعض أصحابنا قال: شهدتُ المأمون يومًا وقد خرج من باب البستان ببغداد فصاح به رجل بَصْري: يا أمير المؤمنين، إني تزوجت بامرأة من آل زياد، وإن أبا الرازي فرَّق بيننا وقال: هي امرأة من قريش! قال: فأمر عمرو بن مسعدة فكتب إلى أبي الرازي: إنه قد بلغ أمير المؤمنين ما كان من الزيادية وخَلْعِك إياها إذ كانت من قريش؛ فمتى تحاكمتْ إليك العرب؟ لا أمَّ لك في أنسابها، ومتى وكَّلتك قريش يا بن اللخناء بأن تلصق بها من ليس منها؟ فخلِّ بين الرجل وامرأته، فلئن كان زياد من قريش، إنه لابن سمية بغي عاهرة، لا يُفتخر بقرابتها، ولا يُتطاول بولادتها. ولئن كان ابن عبيد، لقد باء بأمر عظيم، إذ ادَّعى إلى غير أبيه، لحظ تعجَّله، ومُلكٍ قهره.
كتابي إليك كتاب واثقٍ بمن كَتبتُ إليه، معنيٍّ بمن كُتبَ له، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله.
الحمد لله الذي كشف عنَّا سِتر الحَيْرة، وهدانا لسَتْر العَوْرة. وجَدَعَ بما شرع من الحلال أَنْفَ الغَيْرة، ومنع مَن عَضَلَ الأمهات، كما منع من وأدِ البنات، استنزالًا للنفوس الأبية، عن الحميَّة حمية الجاهلية، ثم عَرَض لجزيل الأجر، مَن استسلم لواقع قضائه، وعوَّض جليل الذخر مَن صَبَر على نازل بلائه، وهَنَأَكَ الذي شرح للتقوى صدرك، ووسَّع في البلوى صبرك، وألهمك من التسليم لمشيئته، والرضا بقضيته، ما وفَّقك له من قضاء الواجب في أحد أبويك، ومَن عَظُم حقُّه عليك، وجعل الله تعالى جَدُّه ما تجرَّعتَهُ من أَنَف، وكظمته من أَسَف، معدودًا فيما يَعظُم به أجرك، ويجزل عليه ذخرك، وقَرَن بالحاضر من امتعاضك بفعلها، المنتظر من ارتماضك بدفنها، فتستوفي بها المصيبة، وتستكمل عنها المثوبة، فوصل الله لسيدي ما استشعره من الصبر على عُرْسها، بما يكتسبه من الصبر على نفسها، وعوَّضه من أَسِرَّة فرشها، أعواد نعشها، وجعل تعالى جدُّه ما يُنعم به عليه بعدها من نعمة، معرًى من نقمة، وما يُولِّيه بعد قبضها من منحة، مُبرَّأ من محنة، فأحكام الله تعالى جدُّه وتقدست أسماؤه، جارية على غير مراد المخلوقين، لكنه تعالى يختار لعباده المؤمنين ما هو خير لهم في العاجلة، وأبقى لهم في الآجلة، اختار الله لك في قبضها إليه، وقدومها عليه، ما هو أنفع لها، وأولى بها، وجعل القبر، كُفُؤًا لها، والسلام.
جاءني خليفة عمرو بن مسعدة ومعه جمعٌ من الفرسان والرجَّالة فحملني مُكرمًا على دابَّته حتى صار إلى باب أمير المؤمنين فأوقفني حتى جاء عمرو بن مسعدة، فدخل فجلس في حجرته التي كان يجلس فيها ثم أَذِنَ لي بالدخول عليه، فدخلتُ، فلما صرتُ بين يديه أجلسني ثم قال لي: أنت مقيم على ما كنتَ عليه أو قد رجعت عنه؟ فقلت: بل مقيم على ما كنتُ، وقد ازددت بتوفيق الله تعالى إياي بصيرةً في أمري. فقال لي عمرو بن مسعدة: أيها الرجل، قد حملتَ نفسك على أمر عظيم، وبلغت الغاية في مكروهها، وتعرَّضت لما لا قوام لك به في مخالفة أمير المؤمنين، وادَّعيت بما لا يثبت لك به حجة على مخالفتك، ولا لأحد غيرك، وليس وراءك بعد الحجة عليك إلا السيف، فانظر لنفسك وبادر أمرك، قبل أن تقع المناظرة وتظهر عليك الحجة، فلا تنفعك الندامة ولا يُقبَل منك معذرة ولا تُقال لك عثرة، فقد رحمتُك وأشفقتُ عليك مما هو نازل بك، وأنا أستقيل لك أمير المؤمنين وأسأله الصفح عن جرمك، وعظيم ما كان منك إذا أظهرت الرجوع عنه والندم على ما كان، وآخذُ لك الأمان منه والجائزة، فإن كانت لك ظُلامة أزلتُها عنك، وإن كانت لك حاجة قضيتها لك، فإنما جلستُ رحمة لك مما هو نازل بك بعد ساعة إن أقمت على ما أنت عليه، ورجوتُ أن يخلصك الله تعالى على يدي من عظيم ما أوقعتَ نفسك فيه.
شعره
نقلنا أمثلة قليلة من نثر عمرو بن مسعدة، أما شعره فقليل جدًّا. ذكر المترجمون له أنه كان له فرسٌ أدهمُ أغرُّ، لم يكن لأحد مثله فراهة وحسنًا. فبلغ المأمون خبره، وبلغ عمرو بن مسعدة ذلك، فخاف أن يأمر بقَوْده إليه فلا يكون له فيه محمدة، فوجَّه به إليه هديَّة وكتب معه:
وعمرو هو القائل:
ووقَّع مرة في ظهر رقعة لرجل:
قال: نعم، كاتب خراج يحتاج أن يكون عالمًا بالشروط والطسوت والحساب والمساحة والبثوق والفتوق والرتوق، وكاتب أحكام يحتاج أن يكون عالمًا بالحلال والحرام والاحتجاج والإجماع والأصول والفروع، وكاتب معونة يحتاج أن يكون عالمًا بالقصاص والحدود والجراحات والمواثبات والسياسات، وكاتب جيش يحتاج أن يكون عالمًا بِحُلَى الرجال وشِيَات الدواب ومداراة الأولياء وشيئًا من العلم بالنسب والحساب، وكاتب رسائل يحتاج أن يكون عالمًا بالصدور والفصول والإطالة والإيجاز وحسن البلاغة والخط. قال: فقلت: إني كاتب رسائل. قال: فأسألك عن بعضها. قلت: قل. فقال لي: أصلحك الله، لو أن رجلًا من إخوانك تزوَّج أمك فأردت أن تكاتبه مهنِّئًا فكيف كنت تكاتبه؟ ففكرت في الحال فلم يخطر ببالي شيء، فقلت: ما أرى للتهنئة وجهًا. قال: فكيف تكتب إليه تعزيه؟ ففكرت فلم يخطر ببالي شيء، فقلت: اعفني. قال: قد فعلت، ولكنك لست بكاتب رسائل. قلت: أنا كاتب خراج.
فقال: نعم، أمَّا الذي تزوَّج أمك فتكتب إليه: أما بعد، فإن الأمور تجري من عند الله بغير محبة عباده ولا اختيارهم، بل هو تعالى يختار لهم ما أحب. وقد بلغني تزويج الوالدة خار الله لك في قبضها، وإن القبور أكرم الأزواج وأستر العيوب والسلام.
وأما براحُ قاتل قثا، فتمسح العمود حتى إذا صار عددًا في يدك ضربته في مثله ومثل ثلثه، فما خرج فهو المساحة.
وأما الجارية والغلام، فيُوزن لبن الاثنتين، فأيهما كان أخف فالجارية له.
وأما الجنديان المتفقا الاسمين، فإن كان الشقُّ في الشفة العليا قيل فلان الأعلم، وإذا كان في الشفة السفلى قلتَ فلان الأفلح.
وأما صاحب الشجَّتين، فلصاحب الموضحة ثلث الدية، ولصاحب المأمونة نصف الدية.
فلما أجاب بهذه المسائل تعجَّبتُ منه وامتحنته بأشياء كثيرة غيرها فوجدته ماهرًا في جميعها حاذقًا بليغًا، فقلت: ألست زعمتَ أنك حائك؟ فقال: أنا أصلحك الله حائكُ كلامٍ ولستُ بحائك نسَّاجة، وأنشأ يقول:
قلت: فما الذي بك من سوء الحال؟ قال: أنا رجل كاتب دامت عطلتي، وكثُرت عَيْلتي، وتواصلتْ محنتي، وقلَّت حيلتي، فخرجتُ أطلب تصرُّفًا فقُطِع عليَّ الطريق فصرت كما ترى، فمشيت على وجهي، فلمَّا لاح لي الزلالي استغثتُ بك. قلت: فإني قد خرجتُ إلى متصرِّف جليل أحتاج فيه إلى جماعةٍ مثلك، وقد أمرتُ لك بخلعة حسنة تصلح لمثلك وخمسة آلاف درهم تُصلِح بها أمرك، وتُنْفِذ منها إلى عيالك، وتقوِّي نفسك بباقيها، وتصير معي إلى عملي فأولِّيك أجلَّه. فقال: أحسن الله جزاءك، إذن تجدني بحيث أسرُّك، ولا أقوم مقام معذرٍ إليك إن شاء الله.
وأمرتُ بتقبيضه ما رسمت له قبضه، وانحدر إلى الأهواز معي، فجعلته المُناظر للرجحي والمحاسِب له بحضرتي، والمستخرِج لما عليه، فقام بذلك أحسن قيام، وعَظُمت حاله معي، وعادت نعمته إلى أحسن ما كانت عليه.
وفي عمرو بن مسعدة يقول أبو محمد عبد الله بن أيوب التيمي:
(٨) رسائل الجاحظ
رسالته في بني أمية
لا جَرَمَ لقد احتلبوا به دمًا لا تطير رغوته، ولا تسكن فورته، ولا يموت ثائره، ولا يكلُّ طالبه، وكيف يُضيِّع الله دم وليِّه، والمنتقم له! وما سمعنا بدم بعد دم يحيى بن زكريا — عليهما السلام — غلا غليانه، وقُتِل سافحه، وأُدرِك بطائلته، وبلغ كل محبته، كدمِهِ رحمة الله عليه.
ولقد كان لهم في أخذه، وفي إقامته للناس، والاقتصاص منه، وفي بيع ما ظهر من رِباعه، وحدائقه، وسائر أمواله، وفي حبسه بما بقي عليه، وفي طَمْره حتى لا يُحسَّ بذكره، ما يغنيهم عن قتله إن كان قد ركب كل ما قذفوه به، وادعوه عليه، وهذا كله بحضرة جِلَّة المهاجرين والسلف المقدَّمين، والأنصار والتابعين.
فاحسبوا قتله ليس بكفر، وإباحة المدينة وهتك الحرمة ليس بحجة؛ كيف تقولون في رمي الكعبة، وهدم البيت الحرام، وقبلة المسلمين؟ فإن قلتم ليس ذلك أرادوا بل إنما أرادوا المتحرِّز به، والمتحصِّن بحيطانه، أفما كان في حق البيت وحريمه أن يحصروه فيه، إلى أن يُعطَى بيده! وأي شيء بقي من رجل، قد أُخِذت عليه الأرض إلا موضع قدمه! واحسبوا ما رووا عليه من الأشعار، التي قَوْلها شِرك، والتمثُّل بها كفر، شيئًا مصنوعًا؛ كيف تصنع بنَقْر القضيب بين ثَنِيَّتَي الحسين عليه السلام، وحمل بنات رسول الله ﷺ حواسر على الأقتاب العارية، والإبل الصِّعاب، والكشف عن عورة علي بن الحسين عند الشك في بلوغه! على أنهم إن وجدوه وقد أنبت قتلوه، وإن لم يكن أنبت حملوه، كما يصنع أمير جيش المسلمين، بذرارى المشركين؟ وكيف تقول في قول عبيد الله بن زياد لإخوته وخاصته: دعوني أقتله، فإنه بقيَّة هذا النسل، فأَحسِم به هذا القرن، وأُميت به هذا الداء، وأقطع به هذه المادة؟!
خبِّرونا علامَ تدل هذه القسوة، وهذه الغلظة! بعد أن شفوا أنفسهم بقتلهم، ونالوا ما أحبوا فيهم؟ أتدلُّ على نَصْب، وسوء رأي وحقد، وبغضاء ونفاق، وعلى يقين مدخول وإيمان مخروج؟! أم تدل على الإخلاص، وعلى حب النبي ﷺ، والحفظ له، وعلى براءة الساحة وصحة السريرة؟! فإن كان على ما وصفنا لا يعدو الفسق والضلال، وذلك أدنى منازله؛ فالفاسق ملعون، ومن نهى عن نهي الملعون فملعون.
كان تجويرُ النابتي لربه، وتشبيهه بخلقه، أعظم من ذلك وأقطع، على أنهم مجمعون على أنه ملعونٌ مَن قتل مؤمنًا، متعمدًا أو متأولًا؛ فإذا كان القاتل سلطانًا جائرًا، أو أميرًا عاصيًا، لم يستحلوا سبَّه، ولا خلعه، ولا نفيه، ولا عيبه، وإن أخاف الصلحاء، وقتل الفقهاء، وأجاع الفقير، وظلم الضعيف، وعطَّل الحدود والثغور، وشرب الخمور، وأظهر الفجور؛ ثم ما زال الناس يتسكعون مرة، ويداهنونهم مرة، ويقاربونهم مرة، ويشاركونهم مرة، إلا بقيَّة ممن عصمه الله تعالى ذكره، حتى قام عبد الملك بن مروان، وابنه الوليد، وعاملهما الحجاج بن يوسف، ومولاه يزيد بن أبي مسلم، فأعادوا على البيت بالهدم، وعلى حَرَم المدينة بالغزو، فهدموا الكعبة، واستباحوا الحرمة، وحولوا قبلة واسط، وأخَّروا صلاة الجمعة، إلى مُغَيْرِبَانِ الشمس، فإن قال رجل لأحدهم: اتق الله فقد أخَّرت الصلاة عن وقتها، قتله على هذا القول جهارًا غير خَتْلٍ، وعلانية غير سِرٍّ، ولا يُعلم القتل على ذلك إلا أقبح من إنكاره؛ فكيف يكفَّر العبدُ بشيء ولا يكفَّر بأعظم منه؟!
والعَجَبُ أن الخلق عند العرب إنما هو التقدير نفسه، فلذا قالوا: خَلَقَ كذا وكذا، ولذلك قال: أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. وقال: وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا وقال: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، فقالوا: صنعه وجعله وقدَّره، وأنزله وفصَّله وأحدثه، ومنعوا خلقه، وليس تأويل خَلَقَهُ أكثر من قدَّره، ولو قالوا بدل قولهم: قدَّره ولم يخلقه خَلَقَهُ ولم يقدِّره، ما كانت المسألة عليهم إلا من وجه واحد؛ والعجب أن الذي منعه بزعمه أن يزعم أنه مخلوق، أنه لم يسمع ذلك من سَلَفه، وهو يعلم أنه لم يسمع أيضًا من سَلَفِه أنه ليس بمخلوق، وليس ذلك يَهُمُّ، ولكن لما كان الكلام من الله تعالى عندهم على مثل خروج الصوت من الجوف، وعلى جهة تقطيع الحروف، وإعمال اللسان والشفتين، وما كان على غير هذه الصورة والصفة فليس بكلام، ولمَّا كنا عندهم على غير هذه الصفة، وكنا لكلامنا غير خالقين، وجب أن الله عز وجل لكلامه غير خالق؛ إذ كنا غير خالقين لكلامنا، فإنما قالوا ذلك، لأنهم لم يجدوا بين كلامنا وكلامه فرقًا، وإن لم يُقرُّوا بذلك بألسنتهم فذلك معناهم وقصدهم.
قال: فقد عَلِمنا أن العجم حين كان فيهم المُلك والنبوة كانوا أشرف من العرب، ولما حوِّل ذلك إلى العرب صارت العرب أشرف منهم، قالوا: فنحن معاشر الموالي بقديمنا في العجم أشرف من العرب، وبالحديث الذي صار لنا في العرب أشرف من العجم، وللعرب القديمُ دون الحديث؛ ولنا خَصْلتان جميعًا وافرتان فينا، وصاحب الخَصْلتين أفضل من صاحب الخصلة، وقد جعل الله المولى بعد أن كان عجميًّا عربيًّا بولائه، كما جعل حليف قريش من العرب قرشيًّا بِحِلْفِه، وجعل إسماعيل بعد أن كان أعجميًّا عربيًّا ولولا قول النبي ﷺ: «إن إسماعيل كان عربيًّا» ما كان عندنا إلا أعجميًّا لأن الأعجمي لا يصير عربيًّا، كما أن العربي لا يصير أعجميًّا، فإنما عَلِمنا أن إسماعيل صيَّره الله عربيًّا بعد أن كان أعجميًّا، بقول النبي ﷺ، فكذلك حكم قوله: «مولى القوم منهم.» وقوله: «والولاء لُحْمة.» قالوا: وقد جعل الله إبراهيم — عليه السلام — أبًا لمن لم يلد، كما جعله أبًا لمن ولد، وجعل أزواج النبي أمهات المؤمنين، ولم يلدنَ منهم أحدًا، وجعل الجار والد من لم يلد في قول غير هذا كثير قد أتينا عليه في موضعه، وليس أدعى إلى الفساد، ولا أجلب للشر من المفاخرة، وليس على ظهرها إلا فَخور (إلا قليل)، وأي شيء أغيظ من أن يكون عبدك يزعم أنه أشرف منك، وهو مقرٌّ أنه صار شريفًا بعتقك إياه.
وقد كتبتُ — مدَّ الله في عمرك — كتبًا في مفاخرة قحطان، وفي تفضيل عدنان، وفي رد الموالي إلى مكانهم من الفضل والنقص، وإلى قدر ما جعل الله تعالى لهم بالعرب من الشرف؛ وأرجو أن يكون عدلًا بينهم، وداعية إلى صلاحهم، ومنبهة عليهم ولهم؛ وقد أردت أن أرسل بالجزء الأول إليك ثم رأيت ألا يكون إلا بعد استئذانك، واستئمارك، والانتهاء في ذلك إلى رغبتك، فرأيك فيه موفَّق إن شاء الله عز وجل وبه الثقة.
وكتب إلى بعض إخوانه في ذم الزمان
بسم الله الرحمن الرحيم
حَفِظك الله حِفظ من وفَّقه للقناعة، واستعمله بالطاعة؛ كتبت إليك وحالي حالُ مَن كثُفت غمومه، وأشكلت عليه أموره، واشتبه عليه حال دهره، ومخرج أمره، وقلَّ عنده من يثق بوفائه، أو يَحمَد مغبة إخائه، لاستحالة زماننا، وفساد أيامنا، ودولة أنذالنا؛ وقِدمًا كان مَن قدَّم الحياء على نفسه، وحكَّم الصدق في قوله، وآثر الحق في أموره، ونبذ المشتبهات عليه من شئونه، تمَّت له السلامة، وفاز بوفور حظ العافية، وحمد مغبة مكروه العاقبة؛ فنظرنا إذ حال عندنا حكمُه، وتحوَّلت دولته؛ فوجدنا الحياء متصلًا بالحرمان، والصدق آفة على المال، والقصد في الطلب بترك استعمال القحة، وإخلاق العِرض من طريق التوكل دليلًا على سخافة الرأي، إذ صارت الحظوة البالغة، والنعمة السابغة، في لؤم المشيئة؛ وسناء الرزق من جهة محاشاة الرخاء، ومُلابسة معرة العار؛ ثم نظرنا في تعقُّب المتعقب لقولنا، والكاشر لحجتنا؛ فأقمنا له عَلَمًا واضحًا، وشاهدًا قائمًا، ومنارًا بيِّنًا؛ إذ وجدنا مَن فيه السفولية الواضحة، والمثالب الفاضحة، والكذب المبرِّح، والخُلْف المصرِّح، والجهالة المفرطة، والركاكة المستخفَّة، وضعف اليقين والاستثبات، وسرعة الغضب والجراءة، قد استكمل سروره، واعتدلت أموره، وفاز بالسهم الأغلب، والحظ الأوفر، والقَدْر الرفيع، والجواز الطائع، والأمر النافذ؛ إن زلَّ قيل حَكُم، وإن أخطأ قيل أصاب، وإن هَذَى في كلامه وهو يقظان قيل رؤيا صادقة من نَسَمة مباركة؛ فهذه حجتنا والله على من زعم أن الجهل يخفض، وأن النُّوك يُردي، وأن الكذب يَضر، والخُلف يُزري؛ ثم نظرنا في الوفاء والأمانة والنبل والبلاغة وحسن المذهب وكمال المروءة وسعة الصدر وقلة الغضب وكرم الطبيعة، والفائق في سعة علمه، والحاكِم على نفسه، والغالِب لهواه، فوجدنا فلان بن فلان؛ ثم وجدنا الزمان لم يُنصفه من حقه، ولا قام له بوظائف فرضه، ووجدنا فضائله القائمة له قاعدةً به؛ فهذا دليل أن الطلاح أجدى من الصلاح، وأن الفضل قد مضى زمانه، وعَفَتْ آثاره، وصارت الدائرة عليه كما كانت الدائرة على ضده؛ ووجدنا العقل يَشقى به قرينُهُ، كما أن الجهل والحمق يحظى به خدينُه؛ ووجدنا الشعر ناطقًا على الزمان، ومُعرِبًا عن الأيام حيث يقول:
وصف الجاحظ لقريش وبني هاشم
قد عَلِمَ الناسُ كيف كرمُ قريش وسخاؤها، وكيف عقولها ودهاؤها؛ وكيف رأيها وذكاؤها، وكيف سياستها وتدبيرها؛ وكيف إيجازها وتحسيرها، وكيف رجاحة أحلامها إذا خفَّ الحليم، وحِدَّة أذهانها إذا كَلَّ الحديد؛ وكيف صبرها عند اللقاء، وثباتها في اللأواء؛ وكيف وفاؤها إذا استُحسن الغدر؛ وكيف جودها إذا حُبَّ المال؛ وكيف ذكرها لأحاديث غدٍ، وقلة صدودها عن جهة القصد؛ وكيف إقرارها بالحق وصبرها عليه؛ وكيف وصفها له ودعاؤها إليه؛ وكيف سماحة أخلاقها، وصونها لأعراقها؛ وكيف وصلوا قديمهم بحديثهم، وطريفهم بتليدهم؛ وكيف أشبه علانيتهم سرُّهم، وقولهم فعلهم، وهل سلامة صدر أحدهم إلا على قدر بُعد غديره؟! وهل غفلته إلا في وزن صدق ظنه؟! وهل ظنه إلا كيقين غيره؟!
وكتب في الاعتذار
أما بعد، فنِعم البديلُ من الزَّلة الاعتذار، وبئس العوض من التوبة الإصرار، وإنَّ أحقَّ من عطفتَ عليه بحلمك من لم يستشفع إليك بغيرك، وإنني بمعرفتي بمبلغ حلمك وغاية عفوك، ضمنتُ لنفسي العفو من زلتها عندك، وقد مسَّني من الألم ما لم يَشْفِهِ غير مواصلتك.
وله في الاستعطاف
ليس عندي — أعزك الله — سببٌ ولا أقدر على شفيع، إلا ما طبعك الله عليه من الكرم والرحمة والتأميل، الذي لا يكون إلا من نتاج حسن الظن وإثبات الفضل بحال المأمول. وأرجو أن تكون من الشاكرين فتكون خير مُعْتِب، وأكون أفضل شاكر، ولعل الله يجعل هذا الأمر سببًا لهذا الإنعام، وهذا الإنعام سببًا للانقطاع إليكم والكون تحت أجنحتكم، فيكون لا أعظم بركة، ولا أنمى بقية من ذنب أصبحت فيه، وبمثلك — جعلتُ فداك — عاد الذنب وسيلة، والسيئة حسنة، ومثلك من انقلب به الشر خيرًا والغُرْم غُنْمًا.
من عاقَب فقد أخذ حظَّه، وإنما الأجر في الآخرة، وطِيب الذكر في الدنيا، على قدر الاحتمال وتجرُّع المرائر. وأرجو ألا أضيع وأَهْلَك فيما بين كرمك وعقلك، وما أكثر من يعفو عمَّن صَغُر ذنبه وعَظُم حقه، وإنما الفضل والثناء العفو عن عظيم الجرم ضعيف الحرمة، وإن كان العفو عظيمًا مستطرفًا من غيركم فهو تِلادٌ فيكم، حتى ربما دعا ذلك كثيرًا من الناس إلى مخالفة أمركم، فلا أنتم عن ذلك تَنْكُلون، ولا على سالف إحسانكم تندمون، وما مَثَلُكم إلا كمثل عيسى ابن مريم — عليه السلام — حين كان لا يمر بملأٍ من بني إسرائيل إلا أسمعوه شرًّا وأسمعهم خيرًا، فقال له شمعون الصفا: ما رأيتُ كاليوم كلما أسمعوك شرًّا أسمعتهم خيرًا؟ فقال: كل امرئ ينفق مما عنده، وليس عندكم إلا الخير ولا في أوعيتكم إلا الرحمة، «وكل إناء بالذي فيه ينضح».
وله في ذم الحسد
الحسد — أبقاك الله — داءٌ ينهك الجسد، علاجُهُ عسير، وصاحِبه ضَجِر، وهو باب غامض، وما ظهر منه فلا يُداوَى وما بطن منه فمداويه في عَناء، ولذلك قال النبي ﷺ: «دبَّ إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء.» الحسد عَقِيد الكفر، وحليف الباطل، وضد الحق، منه تتولَّد العداوة، وهو سبب كل قطيعة ومفرِّق كل جماعة، وقاطِع كل رحم من الأقرباء، ومُحدِث التفرُّق بين القرناء، وملقِّح الشر بين الحلفاء.
دفاع الجاحظ عن مؤلفاته
ثم عِبْتني بكتاب حِيَل اللصوص، وكتاب غِشِّ الصناعات؛ وعِبْتني بكتاب المُلَح والطُّرف، وما حرَّ من النوادر وبَرُد، وعاد باردها حارًّا بفرط برده، حتى أمتع بأكثر من أمتاع الحار؛ وعِبْتني بكتاب احتجاجات البخلاء، ومناقضتهم للسمحاء، والقول في الفرق بين الصدق إذا كان ضارًّا في العاجل، والكذب إذا كان نافعًا في الآجل، ولِمَ جعلنا الصدق أبدًا محمودًا، والكذب أبدًا مذمومًا، والفرق بين الغَيْرة وإضاعة الحُرْمة، وبين الإفراط في الحميَّة والأَنَفَة، وبين التقصير في حفظ حق الحرمة، وقلة الاكتراث بسوء القالة؛ وهل الغَيْرة اكتساب وعادة، وبعضُ ما يَعْرض من جهة الديانة، ولبعض التزيُّد فيه والتحسُّن به، أو يكون ذلك شيئًا في طبع الحرية وحقيقة الجوهرية، ما كانت العقول سليمة، والآفات منفيَّة، والأخلاط معتدلة؛ وَعِبتني بكتاب الصُّرحاء والهُجناء، ومفاخرة السودان والحمران، والموازنة بين حق الخئولة والعمومة؛ وعِبْتَني بكتاب الزرع والنخل، والزيتون والأعناب، وأقسام فضول الصناعات، ومراتب التجارات؛ وبكتاب فضل ما بين الرجال والنساء، وفرق ما بين الذكور والإناث، وفي أي موضع يغلبنَ ويفضُلنَ، وفي أي موضع يكنَّ المغلوبات والمفضولات، ونصيب أيهما في الولد أوفر، وفي أي موضع يكون حقهنَّ أوجب، وأي عمل هو بهنَّ أليق، وأي صناعة هنَّ فيها أبلغ.
وأنشدت قول الشاعر:
وقلتَ وقال يزيد بن الحكم:
وقلت وقال الآخر:
وقالت كبشة بنت معد يكرب:
وقال الآخر:
وتقول العرب: «العَصَى من العُصَيَّة ولا تلِدُ الحيَّة إلا حُييَّة.» وعِبْتَ كتابي في خلق القرآن، كما عِبْتَ كتابي في الرد على المشبِّهة؛ وعِبْتَ كتابي في أصول الفُتيا والأحكام، كما عِبْتَ كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن، وغريب تأليفه، وبديع تركيبه؛ وعِبْتَ مُعارضتي الزيدية، وتفضيلي الاعتزال على كل نِحْلة، كما عِبْتَ كتابي في الوعد والوعيد، وكتابي على النصارى واليهود؛ ثم عِبْتَ جُملة كتبي في المعرفة، والتمست تهجينها بكل حيلة، وصغَّرت من شأنها، وحططت من قدرها، واعترضتَ على ناسخيها والمنتفعين بها.
أما الريِّض فللتعلُّم والدُّربة، وللترتيب والرياضة، وللتمرين وتمكين العادة، إذ كان جليله يتقدم دقيقه، وإذ كانت مقدماته مرتبة، وطبقات معانيه منزَّلة؛ وأما الحاذق فلكفاية المئونة، ولأن كلَّ من التقط كتابًا جامعًا، وبابًا من أمهات العلم مجموعًا كان له غُنْمه، وعلى مؤلفه غُرْمه، وكان له نفعه، وعلى صاحبه كَدُّه، مع تعرُّضه لمطاعن البغاة، ولاعتراض المنافسين، ومع عَرضه عقلَه المكدود على العقول الفارغة، ومعانيه على الجهابذة، وتحكيمه فيه المتأولين والحسدة، ومتى ظفر بمثله صاحب علم، أو هجم عليه طالب فقه، وهو وادع رَافِه، ونشيط جام، ومؤلَّفه مُتْعب مكدود، فقد كُفِي مئونة جمعه، وخَزْنِه وتتبُّعِه، وطَلَبِه، وأغناه ذلك عن طول التفكير، واستنفاد العمر، وفَلِّ الحد، وأدرك أقصى حاجته، وهو مجتمع القوة، وعلى أن له عند ذلك أن يجعل هجومه عليه ضربًا من التوفيق، وظفره به بابًا من التسديد.
(وهذا كتاب) تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم؛ لأنه وإن كان عربيًّا أعرابيًّا، وإسلاميًّا جِماعيًّا، فقد أخذ من طُرَف الفلسفة، وجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة، وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة، ويشتهيه الفتيان كما يشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب ذو اللهو كما يشتهيه الجدِّي ذو الحزم، ويشتهيه الغُفْل كما يشتهيه الأديب، ويشتهيه الغبي كما يشتهيه الفَطِن؛ وعِبْتَني بحكاية قول العثمانية والضرارية وأنت تسمَّعتني أقول في أول كتابي: وقالت العثمانية والضرارية، وكما سمعتني أقول: وقالت الرافضة والزيدية؛ فحكمتَ عليَّ بالنصب لحكايتي قول العثمانية، فهلَّا حكمت عليَّ بالتشيع لحكايتي قول الرافضة، وهلَّا كنتُ عندك من الغالية لحكايتي حجج الغالية، كما كنتُ عندك من الناصبة لحكايتي قول الناصبة، وقد حكينا في كتابنا قول الإباضية والصفرية، كما حكينا أقاويل الأزارقة والنجدية، وعلى هذه الأركان الأربعة بُنيت الخارجية، وكل اسم سواها فإنما هو فرع ونتيجة واشتقاق منها، ومحمول عليها، فهلا كنا عندك من المحكمة الخارجة، كما صرنا عندك من الضرارية والناصبة! وكيف رضيتَ بأن تكون الشيعة إلى أعراض الناس أسرع من المارقة! اللهم إلا أن تكون وجدتَ حكايتي عن العثمانية والضرارية أشبع وأجمع، وأتمَّ وأحكم وأجود صنعة، وأبعد غاية، ورأيتني قد وهَّنتُ حق أوليائك بقدر ما قوَّيتُ باطل أعدائك، ولو كان ذلك كذلك لكان شاهدك من الكتاب حاضرًا، وبرهانك على ما ادعيت واضحًا.
وَعِبْتني بكتاب العباسية، فهلا عِبْتني بحكاية مقالة من ادعى وجوب الإمامة، ومن يرى الامتناع من طاعة الأئمة الذين زعموا أن ترك الناس سدًى بلا قَيِّم أردُّ عليهم، وهملًا بلا راعٍ أربح لهم، وأجدر أن يجمع لهم ذلك بين سلامة العاجل وغنيمة الآجل، وأن تَرْكهم نَشَرًا لا نظام لهم أبعد لهم من المفاسد، وأجمع لهم على المراشد! بل ليس ذلك بك، ولكنه لمَّا بهرك ما سمعت، وملأ صدرك الذي قرأت، وأبعلك وأبطرك، فلم تتجه للحُجَّة وهي لك مُعرَّضة، ولم تَعرِف المَقَاتل وهي لك بادية، ولم تعرف باب المَخْرج إذ جهلتَ باب المدخل، ولم تعرِف المصادر إذ جهلت الموارد؛ ورأيت أن سَبَّ الأولياء أشفى لدائك، وأبلغ في شفاء سقمك؛ ورأيت أن إرسال اللسان أحضرُ لذَّة، وأبعد من النصب، ومن إطالة الفكرة، ومن الاختلاف إلى أرباب هذه الصناعة؛ ولو كنتَ حين فَطَنت لعجزك وَصَلْت نقصك بتمام غيرك، واستكفيت من هو موقوف على كفاية مثلك، وحبيسٌ على تقويم أشباهك، كان ذلك أزين في العاجل، وأحق بالمثوبة في الآجل، وكنتَ إن أخطأتْكَ الغنيمة لم تخطئك السلامة، ولقد سلم عليك المخالف، بقدر ما ابتُلي به منك الموافق؛ وعلى أنه لم يُبتلَ منك إلا بقدر ما ألزمته من مئونة تثقيفك، والتشاغل بتقويمك؛ وهل كنت في ذلك إلا كما قال العربي: وهل يضرُّ السحاب نبح الكلاب؟ وإلا كما قال الشاعر:
وهل حالنا في ذلك إلا كما قال الأول:
وقال حسان:
وما أشك أنك قد جعلت طول إعراضنا عنك مطيَّة لك، ووجَّهت حلمنا عنك إلى الخوف منك، وقد قال زُفَر بن الحارث لبعض من لم يَرَ حق الصفح فجعل العفو سببًا إلى سوء القول:
وقال الأول:
وقال الآخر:
وإني وإن لم يكن عندي سنان زُفَرَ بن الحارث، ولا معارضة هؤلاء: الشر بالشر، والجهل بالجهل، والحقد بالحقد، فإن عندي ما قال المسعودي:
وقال النِّمرُ بن تَوْلَب:
يقول: أخرجت خبري إلى من يشتهي أن أعاب عندها.
ولو شئنا لعارضناك من القول بما هو أقبح أثرًا، وأبقى وسمًا، وأصدق قيلًا، وأعدل شاهدًا؛ وليس كل من ترك المعارضة فقد صفح، كما أنه ليس كل من عارض فقد انتصر، وقد قال الشاعر قولًا إن فهمته كفيتنا مئونة المعارضة، وكفيت نفسك لزوم العار، وهو قوله:
وقد يقال: إن العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم؛ وقد قال الشاعر:
فإن كنا قد أسأنا في هذا التقريع والتوقيف، فالذي لم يأخذ فينا بحكم القرآن، ولا بأدب الرسول — عليه الصلاة والسلام — ولم يفزع إلى ما في الفِطَن الصحيحة، أو إلى ما توجِبه المقاييس المطَّردة، والأمثال المضروبة، والأشعار السائرة، أَوْلى بالإساءة، وأحق باللائمة، قال الله جل ثناؤه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تَجْنِ يمينُك على شمالك.» وهذا حكم الله جل وعز، وآدابُ رسوله، والذي أُنزِل به الكتاب، ودلَّ عليه في حجج العقول.
أخذ البريء بذنب المذنب
ثم قال في أخذ البريء بذنب المذنب: فأمَّا ما قالوا في المثل المضروب: «رمتني بدائها وانسلت.» وأما قول الشعراء وذم الخطباء لمن أخذ إنسانًا بذنب غيره، وما ضربوا في ذلك من الأمثال، كقول النابغة حيث يقول في شعره:
وكانوا إذا أصاب إبلهم العُرُّ كَوَوْا السليم ليذهب العُرُّ عن السقيم فأسقموا الصحيح من غير أن يُبْرِئوا السقيم، وكانوا إذا كثرت إبل أحدهم فبلغت الألف فَقَئُوا عين الفحل، فإن زادت الإبل على الألف فقئوا عينه الأخرى، فذلك المُفقَّأ والمعمَّى اللذان سمعتَ بهما قال الفرزدق:
الرَّعلاء: التي تُشَقُّ أذنها وتترك مدلَّاة لكَرَمِها.
وكانوا يقولون في موضع الكفَّارة والأُمنيَّة، كقول الرجل: إذا بلغت إبلي كذا وكذا، وكذلك غنمي ذبحتُ عند الأوثان كذا وكذا عَتيرة، والعتيرة: من نُسك الرجبية، والجمع عتائر، والعتائر من الشاء، فإذا بلغت إبل أحدهم أو غنمه ذلك العدد استعمل التأويل وقال: إنما قلت: إني أذبح كذا وكذا شاة، والظباء: شاء، كما أن الغنم شاء، فجعل ذلك القربان كله مما يصيد من الظباء، فلذلك يقول الحارث بن حلزة اليشكري:
بعد أن قال:
وكانوا إذا أوردوا البقر فلم تشرب، إمَّا لكدر الماء وإما لقلة العطش، ضربوا الثَّوْر ليقتحم الماء؛ لأن البقر تتبعه كما تتبع الشَّوْلُ الفحل، وكما تتبع أتُنُ الوحش الحمار، فقال في ذلك عوف بن الخَرِع:
وقال في ذلك أنس بن مُدْرِكَة في قتله سُليكَ بن السُّلَكَة:
وقال الهيَّبان الفهمي:
ولما كان الثَّور أمير البقر، وهي تطيعه كطاعة إناث النحل لليعسوب، سماه باسم أمير النحل.
وكانوا يزعمون أن الجن هي التي تصد الثيران عن الماء حتى تُمسِك البقر عن الشرب حتى تهلك؛ وقال في ذلك الأعشى:
كأنه قال: إذ كان يُضرب أبدًا لأنها عافت الماء، فكأنها إنما عافت الماء ليضرب؛ وقال يحيى بن منصور الذهلي في ذلك:
وقال نهشل بن جَرِّيّ:
وقال أبو نُوَيْرة بن حُصَين حين أخذه الحكم بن أيوب بذنب العَطْرَق:
وقال خَداش بن زُهَير حين أخذ بدماء بني محارب:
وقال الآخر:
ولما وجد اليهودي أخا حِنبِص الضبابي في منزله فخصاه فمات، وأخذ حنبص بني عبس بجناية اليهودي، قال قيس بن زهير: أتأخذنا بذنب غيرنا، وتسألنا العقل، والقاتل يهودي من أهل تيماء؟ قال: والله لو قتله هَيْف الريح لودَيتموه. فقال قيس لبني عبس: الموت في بني ذبيان خير لكم من الحياة في بني عامر. ثم أنشأ يقول:
ولما قَتَل لقمان بن عاد ابنته وهي صُحْرٌ بنت لقمان قال حين قتلها: ألستِ امرأة؟ وذلك أنه تزوج عدة نساء وكلهنَّ خُنَّهُ في أنفسهن، فلما قتل أخراهن ونزل من الجبل كان أول من تلَّقاه صُحْر ابنته، فوثب عليها فقتلها، وقال وأنت أيضًا امرأة؛ وكان قد ابتلي أيضًا بأن أخته كانت محمَّقة، وكذلك كان زوجها، فقالت لإحدى نساء لقمان: هذه ليلة طهري وهي ليلتك، فدعيني أنم في مضجعك، فإن لقمان رجل مُنجِب، فعسى أن يقع عليَّ فأنجب، فوقع على أخته فحملت بلُقَيم. وفي ذلك قول النمر بن تولب:
فضربت العرب في ذلك المثل بقتل لقمان بنته صُحْرًا، فقال خُفَاف بن نَدْبة في ذلك:
وقال في ذلك ابن أُذَيْنَةَ:
وقال الحارث بن عباد:
وقال الشاعر — وأظنه ابن المقفع:
وقال آخر:
وقال بعض العرب في قتل بعض الملوك سنمار الرومي: فإنه لما علا الخَورنَق، ورأى بنيانًا لم يَرَ مثله، ورأى ذلك المستشرَف، وخاف إن هو استبقاه أن يموت فيبني مثل ذلك البنيان لملك آخر، فأمر به فرُمي من فوق القصر، فقال في ذلك الكلبي في شيء كان بينه وبين بعض الملوك:
وجاء المسلمون يَرْوِي خلَفٌ عن سلَف، وتابِعٌ عن سابِق، وآخِرٌ عن أوَّل، أنَّهم لم يختلفوا في عيب قول الحجَّاج: لآخُذنَّ السمِيَّ بالسميِّ والوليَّ بالولي، والجارَ بالجار. ولم يختلفوا عن لعن شاعرهم حيث يقول:
قال: وقيل لعمرو بن عُبيد: إن فلانًا لما قدَّم رجلًا ليضرب عنقه فقيل له: إنه مجنون، قال: لولا أن المجنون يلد عاقلًا لخلَّيت سبيله. قال: فقال عمرو: وما خلق الله النار إلا بالحق.
ولما قالت التغلبية للجحاف بن حكيم في وقعة البِشر: فَصَّ الله عمادك، وأطال سهادك، وأقل رمادك، فوالله إن قتلت إلا نساء أسافلهن دُميٌّ، وأعاليهن ثدِّي. فقال لمن حوله: لولا أن تلد هذه مثلها لخلَّيت سبيلها! فبلغ ذلك الحسن فقال: إن الجحَّاف جذوة من نار جهنم. قال وذم رجلٌ عند الأحنف بن قيس الكمأةَ بالسمن، فقال عند ذلك الأحنف: رُبَّ ملوم لا ذنب له؛ فبهذه السيرة سرتَ فينا؛ وما أحسن ما قال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان:
وقلتَ: وما بال أهل العلم والنظر، وأصحاب الفكر والعبر، وأرباب النِّحل، والعلماء بمخارج الملل، وورثة الأنبياء، وأعوان الخلفاء، يكتبون كتب الظرفاء والملحاء، وكتب الفُرَّاغ والخلعاء، وكتب الملاهي والفكاهات، وكتب أصحاب الخصومات والمراء، وكتب أصحاب العصبية، وحميَّة الجاهلية، حتى كأنهم لا يحاسبون أنفسهم، ولا يوازنون بين ما عليهم ولهم، ولا يخافون تصفح العلماء، ولا لائمة الأدباء وشَنَفَ الأكفاء، ومساءة الجلساء؛ فهلَّا أمسكت — رحمك الله — عن عيبنا، والطعن عليها، وعن المشورة والموعظة، وعن تخويف ما فيه سوء العاقبة إلى أن تبلغ حال العلماء، ومراتب الأكفاء.
أقسام البيان
ووجَدْنا الحكمة على ضربين: شيءٌ جُعل حكمةً وهو لا يعقل الحكمة ولا عاقبة الحكمة، وشيءٌ جُعل حكمة وهو يعقل الحكمة وعاقبة الحكمة، فاستوى بدن الشيء العاقل وغير العاقل في جهة الذِّلالة على أنه حكمة، واختلفا من جهة أن أحدهما دليل لا يَستدل، والآخر دليل يَستدل، فكل مستدلٍّ دليلٌ، وليس كل دليلٍ مستدِلًّا، فشارك كل الحيوان سوى الإنسان جميع الجماد في الدلالة وفي عدم الاستدلال، واجتمع للإنسان بأن كان دليلًا مستدِلًّا، ثم جعل للمستدل سبب يدل به على وجوه استدلاله، ووجوه ما نتج له الاستدلال، وسموا ذلك بيانًا؛ وجعل ذلك البيان على أربعة أقسام: لفظٍ وخطٍّ وعقد وإشارة، وجعل بيان الدليل الذي لا يستدل تمكينه المستدل من نفسه واقتياده كل من فكر فيه إلى معرفة ما استخزن من البرهان، وحُشي من الدلالة، وأودع من عجيب الحكمة؛ فالأجسام الخرس الصامتة ناطقة من جهة الدلالة، ومُعرِبة من جهة صحة الشهادة، على أن الذي فيها من التدبير والحكمة تلوحان لمن استخبرهما، وينطقان لمن استنطقهما كما يخبر الهزال وكمود اللون عن سوء الحال، وكما ينطق السِّمَنُ والنضرة عن حسن الحال، وقد قال الشاعر:
وقال آخر:
وقد قال العُكلي في صدق شمه الذئب، وفي شدة حسه واسترواحه:
وقال عنترة وهو يصف نعيب غراب:
وقال الفضل بن عيسى بن أبان في قصصه: سَلِ الأرض فقل: من شقَّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تُجِبك حوارًا، أجابتك اعتبارًا، فموضوع الجسم ونِصبتُهُ دليل على ما فيه، وداعيةٌ إليه ومَنْبَهة عليه، فالجماد الأبكم الأخرس من هذا الوجه قد شارك في البيان الإنسانَ الحيَّ الناطق؛ فمن جعل أقسام البيان خمسةً فقد ذهب أيضًا مذهبًا له جوازٌ في اللغة، وشاهدٌ في العقل، فهذا أحد قسمَي الحكمة، وأحد معنَيَيْ ما استخزنها الله تعالى من الوديعة.
القسمة الأخرى ما أُودع صدور صنوف سائر الحيوان من ضروب المعارف، وفطرها على غريب الهدايات، وسخَّر حناجرها له بضرب النغم الموزونة، والأصوات الملحَّنة، والمخارج الشجية، والأغاني المطربة، فقد يقال: إن جميع أصواتها معدَّلة، وموزونة موقَّعة، ثم الذي سهَّل لها من الرفق العجيب في الصنعة مما ذَلَله الله تعالى لمناقيرها وأكُفِّها، وكيف فتح لها من باب المعرفة على قدر ما هيَّأ لها من الآلة، وكيف أعطى كثيرًا منها من الحس اللطيف، والصنعة البديعة عن غير تأديب وتثقيف، وعن غير تقويم وتلقين، وعن غير تدريج وتمرين، فبلغت بعفوها ومقدار قوى فطرتها من البديه والارتجال، ومن الابتداء والاقتضاب، ما لا يقدر عليه حذَّاق رجال الرأي، وفلاسفة علماء البشر بيدٍ ولا آلة، بل لا يبلغ ذلك من الناس أكملهم خصالًا، وأتمُّهم حِلالًا، من جهة الارتجال والاقتضاب ولا من جهة التعسف والاقتدار، ولا من جهة التقديم فيه، والتأتي له؛ والترتيب لمقدماته، وتمكين الأسباب المُعينة عليه فصار جهد الإنسان الثاقب الحس، الجامع القُوى، المتصرِّف في الوجوه، المتقدِّم في الأمور، يعجز عن عفو كثير منها، وينظر إذ نظر إلى ضروب ما يجيء منها كما أُعطيت العنكبوت، وكما أُعطيت السُّرْفَة، وكما عُلِّم النحل، بل عرف التنوُّط من بديع المعرفة، ومن غريب الصنعة في غير ذلك من أصناف الخَلْق، ثم لم يوجدهم العجز في أنفسهم في أكثر ذلك إلا عمَّا قوَّى عليه الهمجَ والخشاشَ وصغارَ الحشرات، ثم جعل الإنسان ذا العقل والتمكين، والاستطاعة والتصريف، وذا التكلف والتجربة، وذا التأتي والمنافسة، وصاحبَ الادخار والمتفقِّد لشأن العاقبة متى أحسن شيئًا كان كلُّ شيء دونه في الغموض عليه أسهل، وجعل سائر الحيوان وإن كان يُحسن أحدها ما لا يحسن أحذق الناس متى أحسن شيئًا عجيبًا لم يمكنه أن يحسن ما هو أقرب منه في الظن، وأسهلُ منه في الرأي، بل لا يحسن ما هو أقرب منه في الحقيقة؛ فلا الإنسان جعل نفسه كذلك، ولا شيءٌ من الحيوان اختار ذلك، فأحسنتْ هذه الأجناس بلا تعلُّمٍ ما يمتنع على الإنسان، وإن تعلَّم فصار لا يحاوله إذ كان لا يطمع فيه، ولا يحسدها إذ كان لا يأمل اللحاق بها، ثم جعل تعالى وعز هاتين الحكمتين إزاء عيون الناظرين، وتجاه أسماع المعتبرين، ثم حثَّ على التفكير والاعتبار، وعلى الاتعاظ والازدجار، وعلى التعرُّف والتبيُّن، وعلى التوقُّف والتذكُّر، فجعلها مذكِّرة منبِّهة، وجعل الفطر تنشئ الخواطر، وتجول بأهلها في المذاهب، ذلك رب العالمين، سبحان الله رب العالمين.
وهذا كتاب موعظة وتعريف، وتفقُّهٍ وتنبيه، وأراك قد عبته قبل أن تقف على حدوده، وتتفكر في فصوله، وتتذكر آخره بأوله، ومصادره بموارده، وقد غلطك فيه بعض ما رأيت في أثنائه من مزح لم تعرف معانيه، ومن بطالة لم تدرك غورها، ولم تدرِ لم اجتُلبتْ ولأي علة تُكلِّفت، وأي معنًى أريغ بها، ولأي جِدٍّ احتُمل ذلك الهزل، ولأية رياضة تُجشِّمت تلك البطالة، ولم تدرِ أن المزاح جِدٌّ إذا اجتُلب لأن يكون علة للجد، وأن البطالة وقارٌ وزمانةٌ إذا تُكلِّفت لتلك العاقبة، ولما قال الخليل بن أحمد: لا يصل أحدٌ من علم النحو إلى ما يحتاج إليه حتى يتعلم ما لا يحتاج إليه؛ قال أبو شمر: إذا كان لا يصل إلى ما يحتاج إليه إلا بما لا يحتاج إليه فقد صار ما لا يحتاج إليه يحتاج إليه؛ وذلك مثل كتابنا هذا، لأنَّا إن حملنا جميع من يتكلَّف قراءة هذا الكتاب على مُرِّ الحق، وصعوبة الجد، وثقل المئونة وحقيقة الوقار، لم يصبر عليه مع طوله إلا مَن قد تجرَّد للعلم وفهم معناه، وذاق من ثمرته، واستشعر من عزه، ونال من سروره على حسب ما بورت الطول من الكد، والكثرة من السآمة، وما أكثر من يقاد إلى حظه بالسواجير، وبالسوق العنيف، وبالإخافة الشديدة.
مدح الكتب
ثم ذكر فقرات حسانًا في مدح الكتب فقال: ثم لم أَرَكَ رضيتَ بالطعن على كل كتاب لي بعينه، حتى تجاوزت ذلك، إلى أن عِبْتَ وضع الكتب كيفما دارت بها الحال، وكيف تصرَّفت بها الوجوه؛ وقد كنتُ أعجب من عيبك البعضَ بلا علم، حتى عبتَ الكل بلا علم؛ ثم جاوزت ذلك إلى التشنيع، ثم تجاوزت التشنيع إلى نصب الحرب، فعبتَ الكتاب ونعم الذخر والعدة، ونعم الجليس والعمدة، ونعم النشوة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوَحْدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل؛ والكتاب وعاء مليء علمًا، وظَرْفٌ حُشِي ظَرْفًا، وإناءٌ شُحن مزاحًا وجدًّا؛ إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكتَ من بوادره، وإن شئت عجبتَ من غرائب فوائده، وإن شئت ألهتك نوادره، وإن شئت شجَّتك مواعظه، ومن لك بواعظ مُلْهٍ، وبزاجر مغرٍ، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس، وببارد حارٍّ؛ وفي البارد الحار يقول الحسن بن هانئ:
وبعدُ، فمتى رأيت بستانًا يُحمل في ردن، أو روضة تتقلَّب في حجر، وناطقًا ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحياء؛ ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، آمَن من الأرض، وأكتم للسر من صاحب السر، وأضبط للوديعة من أرباب الوديعة، وأحفظ لما استُحفظ من الأميين، ومن الأعراب المعرَّبين، بل من الصبيان قبل اعتراض الأشغال، ومن العميان قبل التمتع بتمييز الأشخاص، حين العناية تامة لم تنقص، والأذهان فارغة لم تُقْتَسم، والإرادةُ وافرة لم تستعِب، والطينة لينة فهي أقبل ما تكون للطابع، والقضيب رطب فهو أقرب ما يكون من العلوق، حين هذه الخصال لم يَبْلَ جديدُها، ولم يُفَلَّ غَرْبُها، ولم تتفرَّق قواها، وكانت كما قال الشاعر:
هذا مع قولهم: التعلُّم في الصغر كالنقش في الحجر. وقال جِران العَوْد:
النُّئور: شيء كان يعمل في الجاهلية مثل الخضرة اليوم.
وقال آخر وهو صالح بن عبد القدوس:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقد قال ذو الرمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري فالكتاب أعجب إليَّ من الحفظ، إن الأعرابيَّ ينسى الكلمة قد سهرتُ في طلبها ليلة، فيضع في موضعها كلمة في وزنها ثم ينشدها الناس، والكتابُ لا ينسى، ولا يبدل كلامًا بكلام.
وعبتَ الكتاب ولا أعلم جارًا أبرَّ، ولا خليطًا أنصف، ولا رفيقًا أطوع، ولا معلمًا أخضع، ولا صاحبًا أظهر كفاية، ولا أقل جناية، ولا أقل إملالًا وإبرامًا، ولا أقل خلافًا وإجرامًا، ولا أقل غيبة، ولا أبعد من عضيهة، ولا أكثر أعجوبة وتصرفًا، ولا أقل صلفًا وتكلُّفا، ولا أبعد من مراء، ولا أتركَ شغبٍ، ولا أزهد في جدال، ولا أكفَّ عن قتل، من كتاب؛ ولا أعلم قرينًا أحسن مواتاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أحضر معونة، ولا أخفَّ مئونة، ولا شجرة أطول عمرًا، ولا أجمع أمرًا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مُجنى، ولا أسرع إدراكًا، ولا أوجد في كل إبان من كتاب؛ ولا أعلم نتاجًا في حداثة سنه، وقُرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان موجوده، يجمع من التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحِكَم الرفيعة، والمذاهب القديمة، والتجارب الحكيمة، ومن الأخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتراخية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمع لك الكتاب.
وقد قال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. وصف نفسه تبارك وتعالى جده بأنْ علَّم بالقلم، كما وصف نفسه بالكرم، واعتدَّ ذلك في نِعَمِهِ العظام، وفي أياديه الجسام، وقد قالت: القلم أحد اللسانين. وقالوا: كل من عرف فضل النعمة في بيان اللسان كان بفضل النعمة في بيان القلم أعرف؛ ثم جعل هذا الأمر قرآنًا، ثم جعله في أول التنزيل، ومستفتح الكتاب، ثم اعلم — يرحمك الله تعالى — أن حاجة بعض الناس إلى بعض صفةٌ لازمة لطبائعهم، وخلقةٌ قائمة في جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم، ومحيطة بجماعتهم، مشتملة على أدانيهم وأقاصيهم، وحاجتهم إلى ما غاب عنهم، مما يُعيشهم ويحييهم، ويأخذ بأرماقهم، ويُصلح بالهم، ويجمع شملهم، وإلى التعاون على دَرَك ذلك، والتوازر عليه كحاجتهم إلى التعاون على معرفة ما بحضرتهم، والتوازر على ما يحتاجون من الارتفاق في أمورهم التي لم تغِبْ عنهم، فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد، لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى، واختلال الأدنى إلى معونة الأقصى؛ معانٍ متضمَّنة، وأسباب متصلة، وحبال متقيدة، وجعل حاجتنا إلى معرفة أخبار من كان قبلنا كحاجة من كان قبلنا إلى أخبار من كان قبلهم، وحاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا، ولذلك تقدَّمت في الكتب البشارات بالرسل، ولم يُسخِّر لهم جميع خلقه إلا وهم يحتاجون إلى الارتفاق بجميع خلقه، وجعل الحاجة حاجتَيْن: إحداهما قوام وقوت، والأخرى لذَّة وإمتاع، وازدياد في الآلة، وفي كل ما أجذل النفوس، وجمع لهم العتاد، وذلك المقدار من جميع الصنفَيْن وَفْقٌ لكثرة حاجاتهم وشهواتهم، وعلى قدر اتساع معرفتهم، وبُعد غورهم، وعلى قدر احتمال طبع البشرية، وفطرة الإنسانية، ثم لم يقطع الزيادة عنهم إلا لعجز خَلْقهم عن احتمالها، ولم يَجُزْ أن يفرق بينهم وبين العجز إلا بعدم الأعيان، إذا كان العجز صفة من صفات الخلق، ونعتًا من نعوت العبيد، ولم يَخْلق الله تعالى أحدًا يستطيع بلوغ حاجته بنفسه دون الاستعانة ببعض مَن سُخِّر له، فأدناهم مُسخَّر لأقصاهم، وأجلُّهم ميسَّر لأدقهم، وعلى ذلك أحوج الملوك إلى السوقة في باب، وأحوج السوقة إلى الملوك في باب، وكذلك الغني والفقير، والعبد وسيده.
ثم جعل الله تعالى كل شيء للإنسان خَوَلًا وفي يده مُذالًا ميسرًا؛ إما بالاحتيال له، والتلطف في إراغته واستمالته، إما بالصولة عليه والفتك به، وإما أن يأتيه سهوًا ورهوًا، وعلى أن الإنسان لولا حاجته إليها لما احتال لها، ولما صال عليها، إلا أن الحاجة تفترق في الجنس والجهة، وفي الحظ والتقدير، ثم تعبَّد الإنسان بالفكر فيها، والنظر في أمورها، وبالاعتبار بما يرى، ووصل بين عقولهم، وبين معرفة تلك الحِكَم الشريفة، وتلك الحاجات اللازمة بالنظر والتفكير، والتنقُّب والتنقير، والتنبُّت، والتوقف، ووصل معارفهم بمواقع حاجاتهم إليها، وتشاعرهم بمواضع الحكم فيها بالبيان عنها، وهو البيان الذي جعله الله تعالى سببًا فيما بينهم، ومعبِّرًا عن حقائق حاجاتهم، ومعرفًا لمواضع سد الخلة، ودفع الشبهة، ومداواة الحيرة؛ ولأن أكثر الناس عن الناس أفهم منهم عن الأشباح الماثلة، والأجسام الجامدة، والأجرام الساكنة التي لا يتعرَّف ما فيها من دفائن الحكم وكنوز الأدب، وينابيع العلم، إلا بالعقل اللطيف الثاقب، وبالنظر التام النافذ، وبالأداة الكاملة، وبالأسباب الوافرة، والصبر على مكروه الفكر، والاحتراس من وجوه الخدع، والتحفظ من دواعي الهوينى، ولأن الشكل أفهم عن شكله وأسكن إليه وأصب به، وذلك موجود في أجناس البهائم وضروب السباع، والصبي عن الصبي أفهم وله آلف، وإليه أنزع، وكذلك العالِم والعالِم، والجاهل والجاهل، وقال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا؛ لأن الإنسان عن الإنسان أفهم، وطباعه بطباعه آنس، وعلى قدر ذلك يكون موقع ما يسمع منه؛ ثم لم يرضَ من البيان لهم بصنف واحد، بل جمع ذلك ولم يفرق، وكثَّر ولم يقلِّل، وأظهرَ ولم يُخفِ، فجعل أصناف البيان التي بها يتعارفون معانيهم، والترجمان الذي إليه يرجعون عند اختلافهم في أربعة أشياء وفي خصلة خامسة، وإن نقصت عن بلوغ هذه الأربعة في جهاتها، فقد تكمل بجنسه الذي وضع له، وصُرف إليه.
وهذه الخصال الأربع: هي اللفظ والخط والإشارة والعَقْد، والخصلة الخامسة: ما أوجد من صحة الدلالة، وصدق الشهادة، ووضوح البرهان في الأجرام الجامدة الصامتة، والساكنة الثابتة، التي لا تنبس ولا تفهم، ولا تحس وتتحرك إلا بداخلٍ دَخَلَ عليها، أو عند ممسك خلَّى عنها بعد تقييده كان لها؛ ثم قسم الأقسام، ورتَّب المحسوسات، وحصَّل الموجودات، فجعل اللفظ للسامع، وجعل الإشارة للناظر، وأشرك بين الناظر واللامس، في معرفة العقد إلا بما فضَّل الله به نصيب الناظر في ذلك على نصيب اللامس، وجعل الخط دليلًا على ما غاب من حوائجه عنه، وسببًا موصولًا بينه وبين أعوانه، وجعله خازنًا لما لا يأمن نسيانه مما قد أحصاه وحفظه، وأتقنه وجمعه، وتكلَّف الإحاطة به، ولم يجعل للشام والذائق في ذلك نصيبًا.
ولولا خطوط الهند لضاع من الحساب الكثير البسيط، ولبَطَلت معرفة التضاعيف، ولَعدِموا الإحاطة بالباورات، وباورات الباورات، ولو أدركوا ذلك لما أدركوه إلا بعد أن تغلُظ المئونة، وتنتقص المنَّة، ولصاروا إلى حال مَعْجَزةٍ وحُسور، وإلى حال مَضْيعة وكلال حدٍّ، مع التشاغل بأمور لولا فَقْد هذه الآلة لكان أربح لهم، وأردَّ عليهم أن يصرفوا ذلك الشغل في أبواب منافع الدين والدنيا؛ ونفع الحساب معلوم، والخَلَّة في موضع فقده معروفة، قال الله تعالى: الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، ثم قال: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وبالبيان عرف الناس القرآن، قال الله تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ، فأجرى الحساب مَجْرى البيان، وألحق البيان بالقرآن، وبحسبان منازل القمر عرفنا حالات المد والجزر، وكيف تكون الزيادة في الأهلة وأنصاف الشهور، وكيف يكون النقصان في خلال ذلك، وكيف تلك المراتب وتلك الأقدار.
ولولا الكتب المدونة، والأخبار المخلَّدة، والحِكَم المخطوطة التي تحصر الحساب وغير الحساب، لَبَطل أكثر العلم، ولغلب سلطانُ النسيان سلطانَ الذكر، ولما كان للناس مفزعٌ إلى موضع استذكار، ولو تم ذلك لحُرِمنا أكثر النفع؛ إذ كنا قد علمنا أن مقدار حفظ الناس لعواجل حاجاتهم وأواجلها لا يبلغ من ذلك مبلغًا مذكورًا، ولا يغني فيه غَناءً محمودًا، ولو كلِّف عامة من يطلب العلم، ويصطنع الكتب، ألا يزال حافظًا لفهرس كتبه لأعجزه ذلك، ولكلِّف شططًا، ولَشَغَله ذلك عن كثير مما هو أولى به؛ ففهمك لمعاني كلام الناس ينقطع قبل انقطاع فهم عين الصوت مجردًا، وأبعدُ فهمِك لصوت صاحبك ومُعامِلك، والمعاون لك ما كان صياحًا صِرفًا، وصوتًا مُصمتًا، ونداء خالصًا، ولا يكون مع ذلك إلا وهو بعيد من المفاهمة، وعُطْل من الدلالة، فجعل الله جل وعز اللفظ لأقرب الحاجات، والصوت لأنفس من ذلك قليلًا، والكتاب للنازح من الحاجات.
فأما الإشارة فأقرب المفهوم منها رفع الحواجب، وكسر الأجفان، وليُّ الشفاه، وتحريك الأعناق، وقبض جلدة الوجه؛ وأبعدها أن تُلوي بثوب على مقطع جبل تجاه عين الناظر، ثم ينقطع عملها، ويَدرُس أثرها، ويموت ذكرها، وتصير بعد كل شيء فَضَلَ عن انتهاء مدة الصوت، ومنتهى الطرف في الحاجة، إلى التفاهم بالخطوط والكتب؛ فأي نفع أعظم، وأي مرفق أعون من الخط، والحال فيه كما ذكرنا!
وليس للعقد حظ الإشارة في بُعد الغاية، ولا للاشارة حظ الخط في بعد الغاية، فلذلك وضع الله عز وجل القلم في المكان الرفيع، ونوَّه بذكره في المنصب الشريف حين قال: ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، فأقسم بالقلم كما أقسم بما يُخَطُّ بالقلم؛ إذ كان اللسان لا يتعاطى شأوه، ولا يَشُقُّ غباره، ولا يجري في حَلْبته، ولا يتكلَّف بُعد غايته، ولكن لمَّا كانت حاجات الناس بالحضرة أكثر من حاجاتهم في سائر الأماكن، وكانت الحاجة إلى بيان اللسان حاجة دائمة راكدة، وراهنة ثابتة؛ وكانت الحاجة إلى بيان القلم أمرًا يكون في الغيبة وعند النائبة، إلا ما خُصت به الدواوين، فإن لسان القلم هناك أبسط، وأثره أعم، فلذلك قدَّموا اللسان على القلم، فاللسان الآن إنما هو في منافع اليد والمرافق التي فيها، والحاجات التي تبلغها؛ فمِن ذلك حظُّها وقسطها من منافع الإشارة، ثم نصيبها في تقويم القلم، ثم حظُّها في التصوير، ثم حظها في الصناعات، ثم حظها في العقد، ثم حظها في الدفع عن النفس، ثم حظها في إيصال الطعام والشراب إلى الفم، ثم التوضؤ والامتساح، ثم انتقاد الدنانير والدراهم، ثم لبس الثياب؛ وفي الدفع عن النفس أصنافَ الرمي، وأصناف الضرب، وأصناف الطعن، ثم الضربَ التِّقْنُ بالعود وتحريكَ الوتر، ولولا ذلك لبطل الطرب كله أو عامته؛ وكيف لا تكون كذلك ولها ضرب الطبل والدف وتحريك الصفاقتين، وتحريك مخارق خروق المزامير، وما في ذلك من الإطلاق والحبس؛ ولو لم يكن في اليد إلا إمساك العنان والزمام والخطام، لكان ذلك من أعظم الحظوظ.
وقد اضطربوا في الحكم بين العقد والإشارة، ولولا أن مغزانا في هذا الكتاب سوى هذا الباب لقد كان هذا مما أحبَّ أن يعرفه إخواننا وخلطاؤنا، ولا ينبغي لنا أيضًا أن نأخذ في هذا الباب من الكلام إلا بعد الفراغ مما هو أولى بنا منه؛ إذ كنتَ لم تنازعني، ولم تَعِبْ كتبي من طريق فضل ما بين العقد والإشارة، ولا في تمييز ما بين اللفظ وبينهما؛ وإنما قصدنا بكلامنا إلى الإخبار عن فضل الكتب.
والكتاب هو الذي قيَّد على الناس كُتب علم الدين، وحساب الدواوين، مع خفة ثقله، وصغر حجمه، صامتٌ ما أسكتَّه، وبليغٌ إذا استنطقتَهُ، ومن لكَ بمسامر لا يبتدئك في حال شغلك، ويدعوك في أوقات نشاطك، ولا يحوجك إلى التجمل له، والتذمم منه؛ ومن لك بزائرٍ إن شئت جعل زيارته غبًّا، ووروده خمسًا؛ وإن شئت لزمك لزوم ظلك، فكان منك مكان بعضك.
والقلم مُكتفٍ بنفسه ولا يحتاج إلى ما عند غيره، ولا بد لبيان اللسان من أمور، منها: إشارة اليد، ولولا الإشارة لما فهموا عنك خاص الخاص، إذا كان أخص الخاص قد يدخل في باب العام، إلا أنه أدنى طبقاته، وليس يكتفي خاصُّ الخاص باللفظ عما أدَّاه، كاكتفاء عامِّ العام، والطبقات التي بينه وبين أخصِّ الخاص.
والكتاب هو الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لا يُغريك، والرفيق الذي لا يُملُّك، والمستميح الذي لا يستزيدك، والجار الذي لا يستبطئك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالمَلَق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق، ولا يحتال لك بالكذب.
والكتاب هو الذي إن نظرتَ فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوَّد بيانك، وفخَّم ألفاظك، وبجَّح نفسك، وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك؛ وعرفتَ به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، مع السلامة من الغُرم، ومن كدِّ الطلب، ومن الوقوف بباب المتكسِّب بالتعليم، وبالجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خلقًا، وأكرم عرقًا، ومع السلامة من مجالسة البغضاء، ومقارنة الأغبياء.
والكتاب هو الذي يُطيعك بالليل كطاعته بالنهار؛ ويُطيعك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتلَّ بنوم، ولا يعتريه كلالُ السهر؛ وهو المعلِّم الذي إن افتقرتَ لم يحقرك، وإن قطعتَ عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عُزلت لم يدع طاعتك، وإن هبَّت ريح أعاديك لم ينقلب عليك؛ ومتى كنتَ منه متعلقًا بسبب، أو معتصمًا بأدنى حبل، لم تضطرك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء؛ ولم لم يكن من فضله عليك، وإحسانه إليك، إلا مَنْعُهُ لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارة بك، مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر، ومن عادة الخوض فيما لا يعنيك، ومن ملابسة صغار الناس، ومن حضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الردية، وجهلاتهم المذمومة، لكان في ذلك السلامة ثم الغنيمة، وإحراز الأصل مع استفادة الفرع، ولو لم يكن في ذلك إلا أن يشغلك عن سُخْف المُنى، وعن اعتياد الراحة، وعن اللعب، وكل ما أشبه اللعب، لقد كان في ذلك على صاحبه أسبغ النعمة، وأعظم المنة؛ وقد علمنا أنَّ أمثل ما يقطع به الفُرَّاغ نهارهم، وأصحاب الفكاهات ساعات ليلهم، هو الشيء الذي لا ترى له فيهم مع النَّيْل أثرًا في ازدياد في تجربة ولا في عقل، ولا في مروءة ولا في صون عِرض، ولا في إصلاح دين، ولا في تثمير مال، ولا في تربية صنيعة، ولا في ابتداءٍ بإنعام.
قال أبو عُبَيدة: قال المهلب لبنيه في وصيته: يا بَنِيَّ، لا تقفوا في الأسواق إلا على زرَّاد أو ورَّاق.
وحدَّثني صديق لي قال: قرأتُ على شيخ شاميٍّ كتابًا فيه مآثر غطفان، فقال لي: ذهبتِ المكارمُ إلا من الكتب. وسمعت الحسن اللؤلؤي يقول: عَبَّرتُ أربعين عامًا ما قِلْتُ ولا بِتُّ إلا والكتاب موضوع على صدري. وقال ابن الجهم: إذا غَشِيَني النعاس في غير وقت نوم، وبئس الشيء النومُ الفاضل عن الحاجة، تناولت كتابًا من كتب الحِكَم فأجد اهتزازي للفوائد، والأريحية التي تعتريني عند الظفر ببعض الحاجة، والذي يَغْشَى قلبي من سرور الاستبانة، وعزِّ التبيُّن، أشد إيقاظًا من نهيق الحمير، وهَدَّة الهدم.
وقال ابن الجهم: إذا استحسنتُ الكتاب واستجدتُهُ، ورجوتُ منه الفائدة، ورأيتُ ذلك فيه، فلو ترونني وأنا ساعةً بعد ساعة أبصر كم بقي من ورقه مخافة استنفاده، وانقطاع المادة من قِبله، وإن كان المصحف في عظيم الحجم، وكان الورق كثير العدد، لرأيتم كيف تم عَيشي، وكَمُل سروري.
وذكر القَيني كتابًا لبعض القدماء فقال: لولا طوله، وكثرة ورقه، لنسخته! قال ابن الجهم: لكنني ما رغَّبني فيه إلا الشيء الذي زهَّدك فيه، وما قرأتُ كتابًا قط كبيرًا فأخلاني من فائدة، وما أحصي كم قرأت من صغار الكتب فخرجت منها كلما دخلت.
وقال القَيني ذات يوم لابن الجهم: ألا تتعجب من فلان! نظر في كتاب الإقليدس مع جاريةِ سَلْمُوَيْه في يوم واحد وساعة واحدة، فقد فرغت الجارية من الكتاب وهو بعدُ لم يُحكِم مقالة واحدة، على أنه حرٌّ مخير وتلك أَمَةٌ مقصورة، وهو أحرص على قراءة الكتب من سلمويه على تعليم جاريته. قال ابن الجهم: قد كنت أظن أنه لا يفهم منه شكلًا واحدًا، وأراك تزعم أنه قد فرغ من مقالة. قال القيني: وكيف ظننت به هذا الظن كله وهو رجل ذو لسان وأدب؟ قال: لأني سمعته يقول لابنه: كم أنفقت على كتاب كذا وكذا؟ قال: أنفقت كذا وكذا. قال: إنما رغَّبني في العلم أني ظننت أني أنفق قليلًا وأكتسب كثيرًا، فأما إذا صرتُ أنفق الكثير وليس في يدي منه إلا المواعيد فإني لا أريد العلم بشيء. والإنسان لا يعلم حتى يَكثُر سماعه، ولا بد من أن تصير كتبه أكثر من سماعه، ولا يعلم ولا يجمع ولا يختلف حتى يكون الإنفاق عليه من ماله ألذ عنده من الإنفاق من مال عدوه؛ ومن لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب ألذ عنده من عشاق القبان، والمستهترين بالبنيان، لم يبلغ في العلم مبلغًا رضيًّا. وليس ينتفع بإنفاقه حتى يؤثر لذة اتخاذ الكتب إيثار الأعرابي فرسه باللبن على عياله، وحتى يؤمِّل في العلم ما لا يؤمل الأعرابي في فرسه.
وقال إبراهيم بن السِّنْدى مرة: وددتُ أن الزنادقة لم يكونوا حرصاء على المغالاة بالورق النقي الأبيض، ولا على تخيُّر الحبر الأسود البراق، ولا على استجادة الخط والإرغاب لمن يخط، فإني لم أَرَ كورق كتبهم ورقًا، ولا كالخطوط التي فيها خطًّا. وإني غرمتُ مالًا عظيمًا مع حبي للمال وبغضي للغُرم، لأنَّ سخاء النفس بالإنفاق على الكتب دليل على تعظيم العلم، وتعظيم العلم دليل على شرف النفس وعلى السلامة من سُكْر الآفات. وقلت لإبراهيم: إن إنفاق الزنادقة على الكتب كإنفاق النصارى على البيع، ولو كانت كتب الزنادقة كتب حكمة، وكتب فلسفة، وكانت مقاييس تبيين، أو لو كانت كتبهم كتبًا تعرف الناس أبواب الصناعات، أو سبل التكسب والتجارات، أو كتب إرفاق ورياضات، أو بعض ما يتعاطاه الناس من الفِطَن والأدب، أو كان ذلك لا يقرِّب من غنًى، ولا يباعد من مأثم، لكانوا ممن قد يجوز أن يُظنَّ بهم تعظيم البيان والرغبة في التبيين، ولكنهم ذهبوا فيها مذهب الديانة على طريق تعظيم الملة؛ فإنما إنفاقهم في ذلك كإنفاق المجوس على بيت النار، وكإنفاق النصارى على صلبان الذهب، أو كإنفاق الهند على سدنة البُد؛ ولو كانوا العلم أرادوا لكان العلم لهم معرضًا؛ وكتب الحكمة لهم مبذولة، والطرق إليها سهلة معروفة؛ فما بالهم لا يصنعون ذلك إلا بكتب ديانتهم كما يزخرف النصارى بيوت عبادتهم؛ ولو كان هذا المعنى مستحسنًا عند المسلمين، وكانوا يرون أن ذلك داعية إلى العبادة وباعثة على الخشوع، لبلغوا في ذلك بعفوهم ما لا يبلغه النصارى بغاية الجهد.
والذي يدلنا على ما قلنا أنه ليس في كتبهم مثلٌ سائر، ولا خبرٌ طريف، ولا صنعة أدب، ولا حكمة غرزية ولا فلسفية، ولا مسألة كلامية، ولا تعريف صناعة، ولا استخراج آلة، ولا تعليم فِلاحة، ولا تدبير حرب، ولا مقارعة عن دين، ولا مناضلة عن نحلة؛ وجُلُّه ذكر النور والظلمة، وتناكح الشياطين، وتسافد العفاريت، وذكر الصنديد والتهويل بعمود السنخ، والإخبار عن شقلون وعن الهامة والهمامة، وهذرٌ وعِيٌّ ودعوى وخرافة وسخف وتكذُّب، لا ترى فيه موعظة حسنة، ولا حديثًا مونقًا، ولا تدبير معاش ولا سياسة عامة، ولا ترتيب خاصة؛ فأي كتابٍ أجهل، وأي تدبير أفسد من كتاب يوجب على الناس الطاعة والبخوع بالديانة على جهة الاستبصار والمحبة، وليس فيه صلاح معاش، ولا تصحيح دين، والناس لا يجيبون إلا دينًا أو دنيا؟!
فأمَّا الدنيا فإقامة سُوقها وإحضار نفعها. وأما الدين فأقل ما يُطمع في استجابة العامة واستمالة الخاصة، أن يصوِّر في صورة مُغلَّطة، ويموِّه تمويه الدينار البهرج والدرهم الزائف الذي يغلط فيه الكثير ويعرف حقيقته القليل. فليس انفاقُهم عليها من حيث ظننت. وكل دين يكون أظهر اختلافًا وأكثر فسادًا يحتاج من الترقيع والتمويه ومن الاحتشاد له والتغليظ فيه إلى أكثر من غيره.
وقد علمت أن النصرانية أشد انتشارًا من اليهودية تعبدًا، فعلى حسب ذلك يكون تزيدهم في توكيده، واحتفالهم في إظهار تعظيمه.
وقال بعضهم: كنتُ عند بعض العلماء فكنت أكتب عنه بعضًا وأدع بعضًا، فقال لي: اكتب كل ما تسمع، فإن أخس ما تسمع خير من مكانه أبيض. وقال الخليل بن أحمد: تَكثَّر من العلم لِتعرِف، وتقلَّل منه لتحفظ. وقال أبو إسحاق: القليل والكثير للكتب، والقليل وحده للصدر. وأنشد قول ابن يسير:
قال أبو إسحاق: كلَّف ابن يسير الكتب ما ليس عليها، إن الكتب لا تحيي الموتى، ولا تحول الأحمق عاقلًا، ولا البليد ذكيًّا؛ وذلك أن الطبيعة إذا كان فيها أدنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق وترهف وتشفي؛ ومن أراد أن يعلم كل شيء فينبغي لأهله أن يداووه، فإن ذلك إنما تصوَّر له لشيء اعتراه. فمن كان عاقلًا ذكيًّا حافظًا فليقصد إلى شيئين أو ثلاثة أشياء: فلا ينزع عن الدرس والمطارحة، ولا يدع أن يمرَّ على سمعه وعلى بصره وعلى ذهنه ما قدر عليه من سائر الأصناف، فيكون عالمًا بخواص ويكون غيرَ غُفْل من سائر ما يجري فيه الناس ويخوضون فيه؛ ومَن كان مع الدرس لا يحفظ شيئًا إلا نسي أكثر منه فهو من الحفظ من أفواه الرجال أبعد.
وحدثني موسى بن يحيى قال: ما كان في خزانة كتب يحيى وفي بيت مدرسة كتاب إلا وله فيه ثلاث نسخ.
وقال أبو عمرو بن العلاء: ما دخلت على رجل قط ولا مررت ببابه فرأيته ينظر في دفتر وجليسه فارغ اليد إلا اعتقدت أنه أعقل منه وأفضل.
قال أبو عمرو: وقيل لنا يومًا: إن في دار فلان ناسًا قد اشتملوا على سوءة، وهم جلوس على خميرة لهم وعندهم طُنبور. قال: فذَمَرْنَا عليهم في جماعة من رجال الحي، فإذا فتى جالس في وسط الدار وإذا أصحابه حوله، وإذا هم بيض اللحى، وإذا هو يقرأ عليهم كتاب شعر، فقال الذي كان سعى بهم: السَّوءة في ذلك البيت، وإن دخلتموه عثرتم بها. قال: قلت: والله لا أكشف فتًى أصحابُهُ شيوخ وفي يده دفتر علم ولو كان في ثوبه دَمُ يحيى بن زكرياء. قال: وأنشد رجل يونس النحوي قوله:
قال: فقال يونس: قاتله الله! ما أشد صبابته بالعلم وأحسن صيانته له! إن علمك من روحك، ومالك من بدنك، فضعه منك بمكان الروح، وضع مالك بمكان البدن.
وقال ابن داحة: كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس، ونزل مقبرة من المقابر، وكان لا يكاد يُرى إلا وفي يده كتاب يقرؤه، فسئل عن ذلك وعن نزوله المقبرة، فقال: لم أَرَ أوعظ من قبر، ولا أمتع من كتاب، ولا أسلم من الوحدة. فقيل له: فقد جاء في الوحدة ما قد جاء. قال: ما أفسدها للجاهل وأصلحها للعاقل!
وضروب من الخطوط بعد ذلك تدلُّ على قدر منفعة الخط، قال الله تبارك وتعالى: كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ، وقال الله عز وجل: فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، وقال: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وقال: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وقال: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا.
الترغيب في اصطناع الكتب
(وبعد أن تكلَّم عن الخط في الأرض عند التفكر وما قيل في ذلك من الأشعار، وذكر الخط ومقدار الحاجة إليه، وتاريخ الشعر قبل الإسلام، وبيان أن فضيلته مقصورة على العرب، استطرد القول بالترغيب في اصطناع الكتب) فقال: إن على من شكر المعرفة بمغاوي الناس ومراشدهم ومضارِّهم ومنافعهم، أن يحتمل ثقل مئونتهم في معرفتهم، وأن يتوخى إرشادهم وإن جهلوا فضل ما يُسدَى إليهم. ولن يصان العلم بمثل بذله، ولن تُستبقى النعمة فيه بمثل نشره. على أن قراءة الكتب أبلغ في إرشادهم من تلاقيهم؛ إذ كان مع التلاقي يشتد التصنع، ويكثر التظالم، وتُفرِط العصبية، وتَقوى الحميَّة؛ وعند المواجهة والمقابلة يشتد حب الغلبة، وشهوة المباهاة والرياسة مع الاستحياء من الرجوع، والأَنَفَة من الخضوع؛ وعن جميع ذلك تحدث الضغائن ويظهر التباين؛ فإذا كانت القلوب على هذه الصفة وعلى هذه الهيئة، امتنعت من التعرف، وعَمِيت عن موضع الدلالة؛ وليست للكتب علَّة تمنع من دَرْك البُغية، وإصابة الحجَّة؛ لأن المتوحِّد بدرسها والمنفرد بفهم معانيها، لا يباهي نفسه، ولا يغالب عقله، وقد عدم من له يباهي، ومن أجله يغالب؛ والكتاب قد يفضل صاحبه ويتقدَّم مؤلفه، ويرجح قلمه على لسانه بأمور: منها، أن الكتاب يُقرأ بكل مكان، ويظهر ما فيه على كل لسان، ويوجد مع كل زمان على تفاوت ما بين الأعصار، وتباعد ما بين الأمصار؛ وذلك أمر يستحيل في واضع الكتاب، والمنازِع بالمسألة والجواب؛ ومناقلة اللسان وهدايته لا تجوزان مجلس صاحبه، ومبلغ صوته؛ وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويفنى العقل ويبقى أثره.
والمتعلم يجد في كل مكان الكتاب عتيدًا، وبما يحتاج إليه قائمًا. وما أكثر مَن فرَّط في التعلم أيام خمول ذكره وأيام حداثة سنِّه. ولولا جِياد الكتب وحَسَنُها، ومُبيِّنها ومختصرها، لَمَا تحرَّكت همم هؤلاء لطلب العلم، ونازعت إلى حب الأدب، وأَنِفت من حال الجهل وأن تكون في غمار الحشو، ولَدَخل على هؤلاء من الضرر والمضرة والجهل وسوء الحال ما عسى ألا يمكن الإخبار عن مقداره إلا بالكلام الكثير.
ولذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه: تفقَّهوا قبل أن تُسوَّدوا. وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن ويجالس الفقهاء خمسين سنة، ولا يُعدُّ فقيهًا ولا يُجعل قاضيًا؛ وما هو إلا أن ينظر في كتب أبي حنيفة وأشباه أبي حنيفة، ويحفظ كتب الشروط في مقدار سنة أو سنتين حتى تمر ببابه فتظنَّ أنه باب بعض العمال؛ وبالحَرَى ألا يمر عليه من الأيام إلا اليسير حتى يصير حاكمًا على مصر من الأمصار، أو بلدة من البلدان.
وينبغي لمن كتب كتابًا ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالِم بالأمور، وكلهم متفرِّغ له؛ ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه يغِبُّ ويختمر، ولا يثق بالرأي الفطير؛ فإن لابتداء الكتاب فتنة وعُجبًا، فإذا سكنتِ الطبيعة وهدأتِ الحركة، وتراجعتِ الأخلاط، وعادت النفس وافرة، أعاد النظر فيه وتوقف عند فصوله توقُّف مَن يكون وزن طمعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب، ويتفهم معنى قول الشاعر:
ويقف عند قولهم في المثل: «كلُّ مُجْرٍ في الخَلاء يُسَرُّ»، فيخاف أن يعتريه ما يعتري مَن أجرى فرسه وحده، أو خلا بقلمه عند فقد خصومه وأهل المزية من أهل صناعته. وليعلم أن صاحب القلم يعتريه ما يعتري المؤدِّب عند ضربه وعقابه؛ فما أكثر مَن يعزم على عشرة أسواط فيضرب مائة؛ لأنه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع فأراه السكون أن الصواب في الإقلال، فلمَّا ضرب تحرك دمه فأشاع فيه الحرارة وزاد في غضبه، فأراه الغضب أن الرأي في الإكثار؛ وكذلك صاحب القلم، فما أكثر من يبتدئ الكتاب وهو يريد مقدار سطرين فيكتب عشرة. والحفظ مع الإقلال أمكنُ، وهو مع الإكثار أبعد.
واعلم أن العاقل إن لم يكن بالمشبع فكثيرًا ما يُغَرَّ من ولده ويَحْسُن في عينه منه القبيح في عين غيره، فليعلم أن لفظه أقرب إليه نسبًا من ابنه، وحركته أمسُّ به رحمًا من ولده؛ لأن حركته شيء أحدثه من نفسه وبذاته، ومن عين جوهره فُصلت، ومن نفسه كانت، وإنما الولد كالمَخْطَة يمتخطها؛ وكالنخامة يقذفها، ولا سواءٌ إخراجك من نفسك شيئًا لم يكن منك، وإظهارك حركة لم تكن حتى كانت منك؛ ولذلك نجد فتنة الرجل بشِعره وفتنته بكلامه وكتبه، فوق فتنته بجميع نعمته.
وليس الكتاب إلى شيء أحوج منه إلى إفهام معانيه حتى لا يحتاج السامع بما فيه إلى الروية فيه. ويحتاج من اللفظ إلى مقدار يرتفع به عن ألفاظ السفلة والحشو، ويحطُّه عن غريب الأعراب، ووحشيِّ الكلام. وليس له أن يهذبه جدًّا وينقحه ويصفيه ويزوقه حتى لا ينطق إلا باللب وبالسر، وباللفظ الذي قد حذف فضوله وتعرَّق زوائده، حتى عاد خالصًا لا شوب فيه؛ فإنه إن فعل ذلك لم يفهم عنه إلا بأن يجدد لهم إفهامًا وتكرارًا؛ لأن الناس كلهم قد تعودوا المبسوط من الكلام، وصارت أفهامهم لا تزيد على عاداتهم إلا بأن تعطس عليها وتؤخذ بها؛ ألا ترى أن كتاب المنطق الذي قد وُسِم بهذا الاسم لو قرأته على جميع خطباء الأمصار وبلغاء الأعراب لما فهموا أكثره؟! وفي كتاب إقليدس، كلام يدور وهو عربي وقد صُفِّي، ولو سمعه بعض الخطباء لما فهمه، إلا بأن يفهِّمه من يريد تعليمه؛ لأنه يحتاج إلى أن يكون قد عرف جهة الأمر، وتعوَّد اللفظ المنطقي الذي استُخرج من جميع الكلام.
وقلتُ لأبي الحسن الأخفش: أنت أعلم الناس بالنحو، فلمَ لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها؟ وما بالك تقدِّم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم؟ قال: أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلَّت حاجاتهم إليَّ فيه، وإنما غايتي المنالة، فإذن أضع بعضها هذا الوضع المفهوم لتدعوهم حلاوة ما فهموا إلى التماس فهم ما لم يفهموا، وأنا قد كسبت في هذا التدبير إذ كنتُ إلى التكسب ذهبت، ولكن ما بال إبراهيم النظَّام وفلان وفلان يكتبون الكتب لله بزعمهم، ثم يأخذها مثلي في موافقته وحسن نظره وشدة عنايته، فلا يفهم أكثرها؟
وأقول لو أن يوسف السمتيَّ كتب هذه الشروط أيام جلس سلمان بن ربيعة شهرين للقضاء فلم يتقدَّم إليه رجلان والقلوب سليمة والحقوق على أهلها موفَّرة، لكان ذلك خطلًا ولغوًا، ولو كُتب في دهرنا شروطُ دهر سلمان لكان ذلك غرارة ونقصًا، وجهلًا بالسياسة وما يصلح لكل دهر؛ ووجدنا الناس إذا خطبوا في صلح بين العشائر أطالوا، وإذا أنشدوا الشعر بين السماطَيْن في مدح الملوك أطالوا؛ فللإطالة موضع وليس ذلك بخطل، وللإقلال موضع وليس ذلك من عجز.
ولولا أني أتكل على أنك لا تملُّ باب القول في البعير حتى تخرج إلى الفيل، وفي الذرَّة حتى تخرج إلى البعوضة، وفي العقرب حتى تخرج إلى الحيَّة، وفي الرجل حتى تخرج إلى المرأة، وفي الذِّبَّان والنحل حتى تخرج إلى الغربان والعقبان، وفي الكلب حتى تخرج إلى الديك، وفي الذئب حتى تخرج إلى الضبع، وفي الظَّلْف حتى تخرج إلى الحافر، وفي الحافر حتى تخرج إلى الخُفِّ، وفي الخف حتى تخرج إلى البُرْثُن، وفي البرثن حتى تخرج إلى المخلب؛ وكذلك القول في الطير وعامة الأصناف، لرأيتَ أن ذلك يوجب الملال، ويُعقِب الفترة المانعة من البلوغ في الفهم، وتعرُّف ما يحتاج منه إلى التعرف، فرأيتُ أن جملة الكتاب وإن كثُر عدد ورقه، أن ذلك ليس مما تملُّ من كثرة قراءته أبدًا وتعتد عليَّ فيه بالإطالة؛ لأنه وإن كان كتابًا واحدًا فإنه كتب كثيرة، وكل مصحف منها أمٌّ على حدة. فإن أراد قراءة الجميع لم يَطُل عليه الباب الأول حتى يهجم على الثاني، ولا الثاني حتى يهجم على الثالث، فهو أبدًا مستفيد ومستطرِف، وبعضه يكون جمامًا لبعض، ولا يزال نشاطه زائدًا، ومتى خرج من آي القرآن صار إلى أثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حِكَم عقلية ومقاييس سداد، ثم لا يترك هذا الباب فلعله أن يكون أثقل، والملال إليه أسرع، حتى يُفضَى به إلى مَزْح وفكاهة وإلى سُخْف وخرافة. ولست أراه سخفًا إذ كنتُ إنما استعملت سيرة الحكماء ومأدبة العلماء، ورأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطًا وزاد في الكلم. فأصوب العمل اتباع آثار العلماء والاحتذاء على مثال القدماء، والأخذ بما عليه الجماعة. وقال ابن يسير في صفة الكُتُب كلمة له:
وقال أبو وجزة وهو يصف صحيفة كُتِب له فيها بستين وَسْقًا:
وقال الراجز:
يقول كتابُك الذي تكتبه عليَّ يبقى فتأخذني به وتذهب غنمي فيما يذهب. ومما يدل على نفع الكتاب أنه لولا الكتاب لم يَجُز أن يعلم أهل الرَّقَّة والموصل وبغداد وواسط ما كان بالبصرة وحدث بالكوفة في بياض يوم، فتكون الحادثة بالكوفة غُدوةً فيعلمها أهل البصرة قبل المساء.
وذلك مشهور في الحَمَام الهُدِّي: إذا جُعِلت بُرُدًا قال الله جل وعز، وذكر سليمان ومُلكه الذي لم يؤتِ أحدًا مثله، فقال: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ إلى قوله: أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ، فلم يلبث أن قال الهدهد: وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ قال سليمان: اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ، وقد كان عنده من يبلِّغ الرسالة على تمامها من عفريت ومن بعض مَن عنده علمٌ من الكتاب، فرأى أن الكتاب أبهى وأنبل وأكرم وأفخم من الرسالة عن ظهر لسان وإن أحاط بجميع ما في الكتاب. وقالت ملكة سبأ: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ، فهذا مما يدل على قدر اختيار الكُتُب، وقد يريد بعض الجِلَّة الكبار وبعض الأدباء والحكماء أن يدعو بعض مَن يجري مجراه في سلطان أو أدب إلى مأدبة أو ندام أو خروج إلى متنزَّه أو بعض ما يشبه ذلك، فلو شاء أن يبلِّغه الرسول إرادته ومعناه لأصاب مَن يحسن الأداء ويصدُق في الإبلاغ فيرى أن الكتاب في ذلك أسرى وأنبه وأبلغ، ولو شاء النبي ﷺ ألا يكتب الكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وإلى بني الجلندي وإلى العباهلة من حِمير وإلى هَوْذة بن علي وإلى الملوك العظماء والسادة النجباء لفعل ولوجد المبلِّغ المعصوم من الخطأ والتبديل، ولكنه — عليه السلام — علم أن الكتاب أشبه بتلك الحال، وأليق بتلك المراتب، وأبلغ في تعظيم ما حواه الكتاب، ولو شاء الله أن يجعل البشارات على الألسنة بالمرسلين ولم يودعها الكتب لفعل، ولكنه تعالى وعز علم أن ذلك أتم وأكمل، وأجمع وأنبل؛ وقد يكتب بعض من له مرتبة في سلطان أو ديانة إلى بعض من يشاكله أو يجري مجراه، فلا يرضى بالكتاب حتى يخزمه ويختمه، وربما لم يرضَ بذلك حتى يُعنونه ويعظِّمه.
قال الله جل وعز: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ، فذكر صحف موسى الموجودة وصحف إبراهيم البائدة المعدومة ليُعرِّف الناس مقدار النفع والمصلحة في الكتب. قالوا: وكانت فلاسفة اليونانية تورِّث البنات العين وتورِّث البنين الدَّين؛ وكانت تصل العجز بالكفاية والمئونة بالكلفة، وكانت تقول: لا تورِّثوا الابن من المال إلا ما يكون عونًا له على طلب المال، واغذوه بحلاوة العلم، واطبعوه على تعظيم الحكمة ليصير جمعُ العلم أغلب عليه من جمع المال، وليرى أنه العدَّة والعتاد، وأنه أكرم مستفاد. وكانوا يقولون: لا تورِّثوا الابن من المال إلا ما يسد الخلَّة، ويكون له عونًا على دَرَك الفضول إن كان لا بد من الفضول، فإنه إن كان فاسدًا زادت تلك الفضول في فساده، وإن كان صالحًا كان فيما أورثتموه من العلم، وبقَّيتم له من الكفاية ما يكسبه الحال، فإن الحال أفضل من المال، ولأن المال لم يَزَل تابعًا للحال، وقد لا يَتْبع الحالُ المال، وصاحب الفضول بعَرَض فسادٍ وعلى شفا إضاعة مع تمام الحنكة واجتماع القوة؛ فما ظنُّكم بها مع غرارة الحداثة وسوء الاعتبار وقلة التجربة! وكانوا يقولون: خير ميراث ما كسبك الأركان الأربعة، وأحاط بأصول المنفعة، وعجل لك حلاوة المحبة، وبقَّى لك الأحدوثة الحسنة، وأعطاك عاجل الخير وآجله، وظاهره وباطنه؛ وليس يجمع ذلك إلا كرام الكتب النفيسة المشتملة على ينابيع العلم، والجامعة لكنوز الأدب ومعرفة الصناعات وفوائد الإرفاق؛ وحجج الدِّين الذي بصحته وعند وضوح برهانه تسكن النفوس وتثلج الصدور، ويعود القلب معمورًا، والعز راسخًا، والأصل فسيحًا؛ وهذه الكتب هي التي تزيد في العقل وتشحذه، وتُداويه وتصلحه، وتهذبه وتنفي الخبث عنه، وتفيدك العلم وتُصادق بينك وبين الحجَّة، وتعوِّدك الأخذ بالثقة وتجلب الحال وتكسب المال. ووراثة الكتب الشريفة والأبواب الرفيعة مَنْبَهة للمورِّث وكنز عند الوارث، إلا أنه كنزٌ لا تجب فيه الزكاة ولا حقُّ السلطان، وإذا كانت الكنوز جامدة ينقصها ما أُخذ منها كان ذلك الكنز مائعًا يزيده ما أخذ منه، ولا يزال بها المورِّث مذكورًا في الحكماء ومنوَّها باسمه في الأسماء، وإمامًا متبوعًا، وعَلَمًا منصوبًا، ولا يزال الوارث محفوظًا، ومن أجله محبوبًا ممنوعًا؛ ولا تزال تلك المحبة نامية ما كانت تلك الفوائد قائمة، ولن تزال فوائدها موجودة ما كانت الدار دار حاجة، ولن يزال من تعظيمها في القلوب أثرٌ ما كان من فوائدها على الناس أثر.
وقالوا: متى ورَّثته كتابًا وأودعته علمًا، فقد ورَّثته ما يُغِلُّ ولا يَسْتَغِلُّ، وقد ورَّثته الضَّيْعة التي لا تحتاج إلى إثارة، ولا إلى سقي، ولا إلى إسجال بايغار، ولا إلى شرط، ولا تحتاج إلى أكار ولا إلى أن يثار، وليس عليها عُشْر ولا للسلطان عليها خَرْج، وسواء أَفَدْتَهُ علمًا أو ورَّثته آلة علم، وسواء دَفْعُك إليه الكفاية أو ما يجلب الكفاية، وإنما تجري الأمور وتتصرف الأفعال على قدر الإمكان، فمن لم يقدر إلا على دفع السبب لم يَجِب عليه إحضار المسبَّب، فكُتُب الآباء تحبيب للأحياء، ومَحْيا لذكر الموتى.
وقالوا: ومتى كان الأب جامعًا بارعًا وكانت مواريثه كتبًا بارعة، وآدابًا جامعة، كان الولد أجدر أن يرى التعلم حظًّا، وأجدر أن يسرع التعليم إليه ويرى تركه خطأً، وأجدر أن يجري من الأدب على طريق قد أُنْهج له، ومِنهاج قد وُطِّئ له، وأجدر أن يسري إليه عِرق مَن نَجَله وسَقْي من غرسه، وأجدر أن يجعل بدل الطلب للكتب النظرَ في الكتب، فلا يأتي عليه من الأيام مِقدار الشغل بجمع الكتب، والاختلاف في سماع العلم، إلا وقد بلغ بالكفاية غايةَ الحاجة، وإنما تُفسد الكفاية مَن تمت آدابه، وتوافت إليه أسبابه، فأمَّا الحدث الغرير، والمنقوص الفقير، فخير مواريثه الكفاية إلى أن يبلغ التمام، ويكمل للطلب. فخير ميراث وُرِّث كتبٌ وعلم، وخير المورِّثين من أَوْرث ما يجمع ولا يفرِّق، ويبصِّر ولا يُعمي، ويعطي ولا يأخذ، ويجود بالكل دون البعض، ويدع لك الكنز الذي ليس للسلطان فيه حق، والركاز الذي ليس للفقراء فيه نصيب، والنعمة التي ليس للحاسد فيها حيلة، ولا للصوص فيها رغبة، وليس للخصم عليك فيه حجة، ولا على الجار فيه مئونة.
وأما ديمقراط فإنه قال: ينبغي أن يعرف أنه لا بد من أن يكون لكل كتابِ علمٍ وضعه أحدٌ من الحكماء ثمانية أوجه، منها الهمة والمنفعة، والنسبة والصحة، والصنف والتأليف، والإسناد والتدبير، فأولها أن تكون لصاحبه همة، وأن يكون فيما وضع منفعة، وأن يكون له نسبة يُنسب إليها، وأن يكون صحيحًا، وأن يكون على صنف من أصناف الكتب معروفًا به، وأن يكون مؤتلفًا من أجزاء خمسة، وأن يكون مسندًا إلى وجه من وجوه الحكمة، وأن يكون له تدبير موصوف. فذكر أن أبقراط قد جمع هذه الثمانية الأوجه في هذا الكتاب، وهو كتابه الذي يسمى «أَفُورِيسْمُوا» تفسيره: كتاب الفصول. وقولك وما بلغ من قدر الكلب مع لؤم أصله، وخبث طبعه، وسقوط قدره، ومهانة نفسه، ومع قلة خيره وكثرة شره، واجتماع الأمم كلها على استسقاطه واستسفاله، ومع ضربهم المثل في ذلك كله به، ومع حاله التي يُعرف بها من العجز عن صولة السباع، واقتدارها، ومن تمنُّعها وتشرُّفها وتوحُّشها، وقلة إسماحها، وعن مسالمة البهائم وموادعتها، والتمكين من إقامة مصلحتها، والانتفاع بها؛ إذ لم يكن في طبعها دفع السباع عن أنفسها، ولا الاحتيال لمعاشها، ولا المعرفة بالمواضع الحريزة من المواضع المَخُوفة. ولأن الكلب ليس بسبع تام ولا بهيمة تامة حتى كأنه من الخَلْق المركب، والطبائع الملفَّقة، والأخلاط المجتلبة، كالبغل المتلون في أخلاقه الكثير العيوب المتولدة عن مزاجه؛ وشر الطبائع ما تجاذبته الأعراق المتضادة والأخلاق المتفاوتة، والعناصر المتباعدة، كالراعبيِّ من الحَمَام الذي ذهبت عنه هداية الحمام، وشكل هديره وسرعة طيرانه، وبطَّل عنه عُمر الوَرَشان، وقوة جناحه، وشدة عصبه، وحسن صوته، وشجا حلقه، وشكل لحونه، وشدة إطرابه، واحتماله لوقع البنادق، وجرح المخالب. وفي الراعبي أنه مسرول مثقَّل، وحدث له عِظَم بدن وثِقل وزن لم يكن لأبيه ولا لأمه.
والهداية في الحمام والقوة على بُعد الغاية إنما هي للمُصْمتة من الخُضْر. وزعموا أن الشِّيات كلها ضعف ونقص، والشِّيَة: كل لون دخل على لون. وقال الله عز وجل: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا. وزعم عثمان بن الحكم أن ابن المذكَّرة من المؤنث يأخذ أسوأ خصال أبيه وأردأ خصال أمه فتجتمع فيه عظام الدواهي وأعيان المساوي، وأنه إذا خرج كذلك لم ينجع فيه أدب ولا يطمع في علاجه طبيب، وأنه رأى في دور ثقيف فتًى اجتمعت فيه هذه الخصال، فما كان في الأرض يوم إلا وهم يتحدثون عنه بشيء يصغر في جنبه أكبر ذنب كان ينسب إليه.
وزعمتَ أن الكلب في ذلك كالخنثى الذي هو لا ذكر ولا أنثى، أو كالخصي الذي لما قُطع منه ما صار به الذكر فحلًا خرج من حد كمال الذكر بفقدان الذكر، ولم يكمُل لأن يصير أنثى للغريزة الأصلية وبقية الجوهرية؛ وزعمتَ أنه يصير كالنبيذ الذي يفسده إفراط الحر، فيُخرجه من حد الخل، ولا يُدخله في حد النبيذ. وقال مرداس بن خذام:
فجعل الخمر أم الخل قد يتولد عنها، وقد يتولد عن الخل إذا كان خمرًا مرة الخمر.
وقال سعيد بن وهب:
ويصير أيضًا كالشعر الوسط والغناء الوسط، والنادرة الفاترة التي لم تخرج من الحر إلى البرد فتُضحك السن ولم تخرج من البرد إلى الحر فتُضحك السن.
هوامش
وصفه الجاحظ فقال: «كان سهل سهلًا في نفسه، عشيق الوجه، حسن الشارة، بعيدًا من الفدامة (العيِّ)، معتدل القامة، مقبول الصورة، يُقضى له بالحكمة، قبل الخبرة، وبرقَّة الذهن، قبل المخاطبة، وبدقة المذهب، قبل الامتحان، وبالنبل، قبل التكشف (الظهور).» وكان الجاحظ مازِجَهُ وثافِنَهُ. وقيل للحرَّاني — ولعله إبراهيم بن ذكوان كاتب الهادي ووزيره: «بينك وبين سهل بن هارون صداقة فأنعته لنا كي نعرف.» فقال: «هو كالخير، وازن العلم، واسع الحلم، إن حودث لم يكذب، وإن موزح لم يغضب، كالغيث أين وقع نفع، وكالشمس حيث أولت أحيت، وكالأرض ما حملتها حملت، وكالماء طهور لملتمسه، ونافع لعلة من أحرَّ إليه، وكالهواء الذي تقطف منه الحياة بالتنسم؛ وكالنار التي يعيش بها المقرور، وكالسماء التي قد حسنت بأصناف النور.» ا.ﻫ. صورتان جميلتان في وصف سهل صوَّرهما مصوران مبدعان عاشا بقربه، وفتنهما بخلقه وخلقه.
واتهموا سهل بن هارون بالبخل، وأوردوا له قصصًا ونوادر، وربما كان اتهامه بالبخل مبالغًا فيه تُراد به النكتة والنادرة ا.ﻫ. من محاضرة للأستاذ الباحث السيد محمد كرد علي، ألقاها بالمجمع العلمي العربي بدمشق ونشرها بمجلتي المجمع والمقتطف.
بدأ عمرو بن مسعدة في خدمة الدولة عاملًا من العمال فظهرت كفايته وبلاغته، وبالبلاغة توصَّل إلى الخليفة فعُدَّ أحد أفراد قلائل في رجاله، قال أحمد بن يوسف الكاتب: دخلت يومًا على المأمون وبيده كتاب يعاود قراءته تارة بعد أخرى، ويصعد فيه ويصوِّب، فلما مرت على ذلك مدة من زمانه التفتَ إليَّ وقال: يا أحمد، أراك مفكرًا فيما تراه مني. قلت: نعم. فقال: إن في هذا الكتاب كلامًا نظير ما سمعت الرشيد يقول في البلاغة، زعم أن البلاغة إنما هي التباعد عن الإطالة، والتقرب من معنى البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ، على الكثير من المعنى، وما كنت أتوهم أن أحدًا يقدر على ذلك. وقال: هذا كتاب عمرو بن مسعدة إلينا. ففككته فإذا فيه: «كتابي إلى أمير المؤمنين، ومَن قِبَلي من قواده، ورؤساء أجناده، في الانقياد والطاعة، على أحسن ما تكون طاعة جند تأخرت أرزاقهم، وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم، فاختلت لذلك أحوالهم، والتاثت معه أمورهم.» فلما قرأته قال: إن استحساني إياك بعثني أن أمرت للجند قِبَله بأعطياتهم لسبعة أشهر، وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه مَن حلَّ محله في صناعته. وفي رواية أن المأمون أمر لعمرو بن مسعدة برزق ثمانية أشهر، وأنه قال لأحمد بن يوسف: لله در عمرو ما أبلغه! ألا ترى إلى إدماجه المسألة في الأخبار، وإعفائه سلطانه من الإكثار!
وكان عمرو بن مسعدة — وكنيته أبو الفضل — أبيض أحمر الوجه، وكان المأمون يسميه الرومي لبياض وجهه، وكان يخضب، وتوفي بأذنة سنة سبع عشرة ومائتين. ولم نَعرف منشأه ومولده وأساتيذه، وغاية ما عرفناه أنه كان أحد إخوة أربعة أحسن أبوهم — وكان كاتبًا أيضًا — تربيتهم كل الإحسان حتى جاءت من أحدهم هذه البلاغة النادرة التي كان من أثرها أن أصبح عشير المأمون، وكان هو وأبو عباد ثابت بن يحيى يكتبان بين يديه، ويخلوان معه ويمازحانه. ولكي يصل الرجل إلى هذا المقام مع مثل هذا الخليفة العظيم في كل شئونه يجب أن ينطوي على صفات عالية يعز مثلها في الأقران والأتراب.
قال عمرو بن مسعدة: كنت أوقِّع بين يدَيْ جعفر بن يحيى البرمكي فرفع إليه غلمانه ورقة يستزيدونه في رواتبهم، فرمى بها إليَّ وقال: أَجِب عنها. فكتبت: «قليل دائم خير من كثير منقطع.» فضرب بيده على ظهري وقال: أي وزير في جلدك؟!
وقد شهد لعمرو بن مسعدة بالبلاغة أعيان البيان في عصره؛ ومنهم الفضل بن سهل فقال فيه: إنه أبلغ الناس، ومن بلاغته أن كل أحد إذا سمع كلامه ظنَّ أنه يكتب مثله، فإذا رامه بَعُدَ عليه. وهذا كما قيل لأحد البلغاء: ما حد البلاغة؟ فقال: التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يقدر على مثلها، فإذا رامها استصعبت عليه.
ولم يُؤثَر عن عمرو أنه ألَّف في موضوع خاص وأفرد مسألة في التأليف، وعدَّه ابن النديم في الشعراء الكتَّاب، ولم يذكر إلا أن له ولأخيه مجاشع خمسين ورقة من الشعر وهي من الضائع أيضًا. والغالب أن مهام الدولة لم تترك له وقتًا يصرفه في درس خاص، أو وضع كتاب أو رسالة، وما تلقَّطه العلماء والأدباء من كلامه، فهو مما صدر عنه بالمناسبات، ورواه له المعجبون به، وما أعظم المفقود منه! والمظنون أن لو كانت جُمعت له رسائله على إيجازها لكان منها ديوان كبير؛ لأن مَن صَرَفَ أعوامًا طويلة وهو قابض على يراعته يعالج بها الموضوعات السياسية والإدارية في ذاك المجتمع العظيم لا شك أنه تجتمع له صفحات كثيرة مهما كان مقلًّا معروفًا بالإيجاز. ا.ﻫ. من محاضرة للأستاذ الباحث محمد كرد علي نشرها بمجلة المجمع العلمي العربي.
وفي عمرو بن مسعدة قال محمد البيدق وقد اعتلَّ:
وُلد حوالي سنة ١٦٠ﻫ بمدينة البصرة، ونشأ بها فتناول كل فنٍّ ومارس كل علمٍ عُرف في زمانه مما وُضع في الإسلام أو نُقل عن الأمم الأوائل، فأصبح له مشاركة في علم كل ما يقع عليه الحس أو يخطر بالبال، فهو راوية، متكلم، فيلسوف، كاتب، مصنف، مترسل، شاعر، مؤرخ، عالم بالحيوان والنبات والموات، وصَّاف لأحوال الناس ووجوه معايشهم واضطرابهم وأخلاقهم وحيلهم، إلا أنه غلب عليه أمران: الكلام على طريقة المعتزلة؛ فهو بذلك إمام الطائفة الجاحظية من المعتزلة، والأدب الممزوج بالفلسفة والفكاهة؛ فهو أول من ألَّف الكتب الجامعة لفنونه ككتاب البيان والتبيين وكتاب الحيوان وغيرهما.
وكان غاية في الذكاء ودقة الحس وحسن الفراسة إلى دعابة فاشية، وقلَّة اعتداد بما يأخذ به الناس أنفسهم وينتحلونه من الرسوم والعادات وأنواع العصبية المذهبية، وعدم مبالاة بوقوع المتورعين فيه. وكان سمحًا جوَّادًا كثير المواساة لإخوانه، وكان على دمامة خَلْقه وتناقض خُلُقه خفيف الروح، فَكِه المجلس، غاية في الظرف وطيب الفكاهة وحلاوة الكلام. وهو على الجملة أحد أفذاذ العالم وأحد حجج اللسان العربي. توفي سنة ٢٥٥ﻫ ببغداد بمقبرة الخيزران. وتجد ترجمته في معجم الأدباء لياقوت (ج٦ ص٥٦–٨٠) وابن خلكان (ج١ ص٥٥٣).