الحياة العلمية والأدبية للعصر الأموي
(١) توطئة
لسنا نريد أن نسهب في بيان الحياة العلمية والأدبية في العصر الأموي؛ لأن ذلك يكاد يخرج بنا عن مقصدنا الأساسي من اقتصار مقدمتنا هذه على توضيح موجز، من غير إسراف ولا تطويل، للعصر السابق لعصرنا المأموني الذي كان نتيجة لازمة لما تقدمه واكتنفه من عوامل متعددة، توضيحًا معتدلًا يجعلنا نطمئن، بعد تفهمنا للآداب العباسية، إلى تبين الفروق والمميزات والآثار التي خلَّفها لتاريخ المدنية الإسلامية، بل لتاريخ المدنية الإنسانية، ذلك العصر الذهبي، وهو عصرُنا المأموني الخالد.
لقد تغيرت حالة اللغة وآدابها في العصر الأموي عما كانت عليه في الدور الجاهلي تغيرًا عظيمًا؛ إذ رقت الأساليب وقلَّ الحوشيُّ والمُتنافر، واتسعت الأغراض وكثرت باتساع مطالب الحياة الجديدة ووفرتها، وهذا يتمشى بوجه عام مع تغيير حياة العرب الاجتماعية والدينية والسياسية، وبعبارة أخرى: تغيرت حياةُ الآداب والعلوم في ذلك العصر طبقًا لما أفادته العرب في فتوحهم ومغازيهم في غنائم وأموال، ووقوفهم على آثار المدنيات لأمم ذات حظ من العلم غير قليل. ولقد كان لكتاب الله المعجز بآياته وسحر بلاغته كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أثره في فتق أذهانهم، وصقل عباراتهم، وتوحيد لهجاتهم، بل كان الكنز الذي يلجئون إلى ما فيه من أدب جمٍّ، وعظة بالغة، وأساليب رائعة، ويستمدون منه ما ينفعهم في معاشهم وحياتهم الدنيا والآخرة.
وإنه ليجدر بنا أن نتساءل عن مدى ما أصاب الآداب العربية من تغيير في العصر الأموي، وهو تغير خطير يستدعي درسُه عنايةً ودقيقَ ملاحظة وتعرفًا غير قليل لما كانت عليه الآداب في العصر الجاهلي.
•••
إن تحول الآداب العربية في ذلك العصر أصاب التراث الجاهلي القديم من لغة وخطابة وشعر وأمثال، وما كان للقوم من علم بشئون الحياة والوجود، كما أنه أحدث علومًا وآدابًا اقتضاها الإسلام، وقد كان لكتاب الله وسنة رسوله وما للأئمة من تأويل في فهمهما، كان لذلك كله أثره في خَلْق علوم شرعية لم يكن للعرب منها حظ من قبلُ، فنشأ في هذا العصر علم التفسير ورواية الحديث وعلوم اللغة؛ كالنحو وما إلى النحو، على أن هذه العلوم الإسلامية المحدثة التي كانت وليدة العصر الأموي خاصة، وعصر صدر الإسلام عامة، لم تكن مولود هذا العصر الوحيد الذي أصبحت فيه البصرة دارًا للعلم والعرفان والمدنية، ومسرحًا للهو والافتتان، والشام مقر الملك والسلطان، بل كان إلى جانبها مولود آخر كان من شأنه وضع التاريخ والجغرافيا وغيرهما، واتخاذ ديوان الخاتم، ونقل الدواوين من لغة إلى أخرى، وقد كان هذا المولود الآخر نتيجة الفتوح الإسلامية، وخاصة تلك الأقطار التي كانت متأثرة بآداب الفرس والرومان واليونان، وبعبارة أدق: تلك العلوم التي أفادتها العرب أو الدولة الإسلامية من اعتناق الفرس وأهل الشام ومصر وغيرهم — من أسرى الروم — للإسلام، وقد تستدعي هذه النقطة توضيحًا، ونظن أنا إذا ما فسرناها بعض التفسير نتعجل بموضوعنا الذي سنقبل عليه أخيرًا، وخاصة إذا علمنا أن عصر المأمون وما فيه من فلسفة وعلم، ومن أدب وفن كان متأثرًا بحركة النقل والترجمة، وأن تأثره هذا كان إلى مدًى كبير يطبعه بطابع المدنية اليونانية والفارسية، ولكن هذا لا يمنعنا أن نُلمَّ به إلمامًا.
(٢) آثار الآداب والعلوم الفارسية واليونانية في العصر الأموي
كانت آداب الفرس قبيل الإسلام آدابًا يونانية في جملتها؛ لأن التاريخ يُحدِّثنا أن آدابهم الفنية القديمة التي كانت مجموعة طيبة لنتاج العقل الفارسي والهندي والآشوري — هذه الآداب قد نقلها الاسكندر الأكبر إلى بلاده — ثم تقلبت حياة الفرس بين ضعف وقوة وجهل وعلم، إلى أن تسلَّم كسرى صولجان ملكه، ولعب دوره العظيم في تاريخ بلاده، ولعل الأحوال العالمية عهدئذ ساعدته على مهمته في النهوض بالعقلية الفارسية وفي تجديد بعثها، ويقول لنا «چيون»: إن «يوستنيان» قيصر الروم حين اضطهد الفلسفة الأفلاطونية الجديدة أو الوثنية أقفل الهياكل والمدارس، وطارد العلماء المفكرين، فاضطر جماعة من هؤلاء الفلاسفة إلى الرحيل إلى بلاد الفرس؛ حيث وجدوا من كسرى أنوشروان مَن قدَّرهم قدرهم.
على أنا مع إمساكنا عن التبسط في القول لا يسعنا إلا أن نذكر في هذا المقام أن أنوشروان كان قد أسس مدرسة للطب والفلسفة في جُندَيْسابور كانت لها شهرة مدرسة الإسكندرية، وإنه ليجدر بنا هنا أن ننظر هل استفاد العرب حقًّا من علوم الفرس عند ظهور الإسلام؟ وهل استفادوا من غزوهم مصر وفيها مدرسة الإسكندرية؟ ومن إخضاعهم الشام المتأثرة بآثار العقلية الرومانية؟ وهل وجدت حركة نقل في العصر الأموي؟ لأن في توضيحنا ذلك بعض النفع لنا في دراسة التحول العلمي والأدبي في تاريخ التمدين الإسلامي الذي وصل إلى درجة خليقة بالإجلال والإكبار في عصر المأمون، العصر الذي نضج فيه مختلف الفنون والآداب، فلنحاول توضيح شيء من ذلك مُتوخِّين حد القصد والإيجاز.
(٣) حركة النقل في العصر الأموي
يخبرنا ابن أبي أصيبعة في الباب الذي أفرده لأطباء العرب في إبان الإسلام، أن «الحارث بن كلدة» تعلم الطب بناحية فارس، وتمرن هناك، وعرف الداء والدواء، ويخبرنا أيضًا أن عبد الملك بن أبحر الكناني الذي أسلم على يد عمر بن عبد العزيز حينما كان أميرًا على مصر، كان طبيبًا عالمًا ماهرًا، وأنه كان في أول أمره في الإسكندرية؛ لأنه كان المتولي التدريس بها من بعد العلماء الإسكندريين، وزاد بأن عمر بن عبد العزيز لما أفضت الخلافة إليه نقل التدريس إلى أنطاكية وحران، وتفرق في البلاد، ثم ذكر ابن أثال، طبيب معاوية، وتكلم عن علمه بالأدوية المفردة والمركبة، وذكر أبا الحكم «وتماذوق» طبيب الحجاج، وحسبنا هذا دلالة على ما أفاد العربُ أو ما يمكن أن يفيدوا من علم الطب.
كان خالد بن يزيد بن معاوية يسمى حكيم آل مروان، وكان فاضلًا في نفسه، وله همة ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة، فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر وقد تفصح بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي. وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة، ثم نقل الديوان — وكان باللغة الفارسية — إلى العربية في أيام الحجاج، والذي نقله صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم. وكان أبو صالح من سَبْي سجستان، وكان يكتب لزادانفروخ بن بيري كاتب الحجاج يخط بين يديه بالفارسية والعربية، فخف على قلب الحجاج، فقال صالح لزادانفروخ: إنك أنت سببي إلى الأمير، وأراه قد استخفني ولا آمن أن يُقدِّمني عليك وأن تسقط منزلتك، فقال: لا تظن ذلك هو إليَّ أحوج مني إليه لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري، فقال: والله لو شئت أن أحول الحساب إلى العربية لحوَّلته، قال: فحوِّل منه أسطرًا حتى أرى. ففعل، فقال له: تمارضْ، فتمارضَ، فبعث الحجاج إليه تيادروس طبيبه، فلم يرَ به علة؛ وبلغ زادانفروخ ذلك فأمره أن يظهر، واتفق أن قتل زادانفروخ في فتنة ابن الأشعث وهو خارج من موضع كان فيه إلى منزله، فاستكتب الحجاج صالحًا مكانه، فأعلمه الذي كان جرى بينه وبين صاحبه في نقل الديوان، فعزم الحجاج على ذلك وقلده صالحًا، فقال له مردانشاه بن زادانفروخ: كيف تصنع بدهويه وششويه؟ قال: أكتب عشرًا ونصف عشر، قال: فكيف تصنع بويد؟ قال: أكتب وأيضًا قال: والويد النيِّف والزيادة تزاد، فقال له: قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية! وبذلت له الفرس مائة ألف درهم على أن يُظهر العجز عن نقل الديوان، فأبي إلا نقله فنقله، فكان عبد الحميد بن يحيى يقول: لله در صالح! ما أعظم منته على الكتاب! وكان الحجاج أجَّله أجلًا في نقل الديوان.
فأما الديوان بالشام فكان بالرومية، والذي كان يكتب عليه سرجون بن منصور لمعاوية بن أبي سفيان، ثم منصور بن سرجون، ونقل الديوانَ في زمن هشام بن عبد الملك نقله أبو ثابت سليمان بن سعد مولى حسين، وكان على كتابة الرسائل أيام عبد الملك. وقد قيل: إن الديوان نقل في أيام عبد الملك، فإنه أمر سرجون ببعض الأمر فتراخى فيه، فأحفظ ذلك عبد الملك فاستشار سليمان؛ فقال له: أنقل الديون وأرتجل منه.
ثم نجده يتكلم في مكان آخر عن اصطفن القديم، وأنه نقل لخالد بن يزيد بن معاوية كتب الصنعة وغيرها، فنحن نجد من هذا وغيره أن اللغة العربية أخذت تجري أشواطًا في حلبة العلوم في هذا العصر.
•••
ونريد أن نشرح شرحًا بسيطًا حال الخطابة والكتابة في العصر الأموي مُتوخِّين الاختصار على قدر الطاقة فنقول:
(٤) الخطابة ومميزاتها
لم تزدهر الخطابة في عصر من عصور الآداب العربية، كما ازدهرت في هذا العصر، لاعتماد الناس عليها في السياسة والدين، وقد جعلها الدين الإسلامي فرضًا من الفروض في الدعوة إليه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد كانت الوسيلة في قمع الفتن ورد البدع، وكانت لسان القائد في جنده يستنهض بها عزماتهم، والوالي في رعيته يستفز بها حميتهم، والزعيم في شعبه يجمع بها شتاتهم، إذ لم يكن غيرها من وسائل التبليغ ميسورًا؛ لذيوع الأمية وفقدان وسائل النشر.
وقد وَجدَتْ بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، بسبب اختلاف المسلمين وتعدد الفرق واختلاف الأحزاب، مجالًا واسعًا للرقي والسبق، لاعتماد كل حزب عليها في نشر نحلته، وتأييد دعوته.
يميز الخطابة في هذا العصر ما يميز الآداب عامة فيه: من فخامة الألفاظ، ومتانة التركيب، والتباعد عن حُوشيِّ الكلام، ويميزها أيضًا أنها اقتبسَتْ من القرآن كثيرًا، ونهجت نهجه في الإرشاد والإقناع، وأنها تبدأ بحمد الله والصلاة على رسوله، حتى قيل لخطبة زياد المشهورة التي خطبها في العراق «الخطبة البتراء»؛ إذ لم يحمد الله ولم يصل على نبيه فيها. وقد كان هذا العصر أحفلَ العصور بالخطباء، فقد كان جل الخلفاء والقواد وولاة الأمصار وزعماء الأحزاب المختلفة خطباء مصاقع، وفيما يحفظه تاريخ الآداب من آثار الخلفاء ولا سيما الإمام علي، ومن خطب الحجاج بن يوسف، وزياد بن أبيه، وطارق بن زياد، مصداقُ ما نقول.
يأهل العراق، أهل الكفرات والغدرات، والثورة بعد الثورات، إن أبعثكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون خشية ولا تشكرون نعمة، هل استخفكم ناكث، واستغواكم غاوٍ، واستنصركم ظالم، واستعضدكم خالع إلا وثقتموه وآويتموه ونصرتموه ورضيتموه! هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو نعق ناعق أو زفر زافر إلا كنتم أشياعه وأنصاره! ألم تنهكم المواعظُ! ألم تزجركم الوقائع؟!
يا أهل الشام، إنما أنا لكم كالظليم الذابِّ عن فراخه، ينفي عنها المدر ويُبعد عنها الحجر، ويُكنُّها من المطر. يأهل الشام، أنتم الجُنَّة والرداء، وأنتم العُدَّة والغطاء.
وقد يكون من المفيد حقًّا أن ترجع إلى «صبح الأعشى» وغيره من المظان الأدبية لتقف بنفسك على خطب القوم الممتعة أسلوبًا، الفخمة لفظًا، الغنية معنًى في ذلك العصر الزاهر.
(٥) الكتابة
الكتابة — سواء أكانت في تدوين العلوم والفنون وضبط الشئون العامة أم في إنشاء الرسائل ومعالجة الكلام المنثور — لا ترقى بل لا تكون إلا في الأمم التي أخذت بقسط من التحضر، فكانت لها حكومة منظمة، ودواوين معدَّدة، وصناعة منوَّعة، وزراعة نامية، وتجارة رائجة؛ لذلك لم يكن لأحد من الشعوب العربية في الجاهلية حظ من الكتابة إلا بمقدار ما له من حظ من الحضارة.
وقد كانت الكتابة معروفة عند التبابعة جنوبًا، والمناذرة والغساسنة في الشمال، حين كان لأولئك وهؤلاء من الحضارة نصيب، أما البدو من سكان أواسط الجزيرة فلم يعرفوا الكتابة إلا حين عرفوا الخط في أواخر العصر الجاهلي، وقد كان حظ الكتابة فيهم حظها في أمة بادية قليلة الشئون؛ لذلك لم ينلها في الرقي ما نال أخويها الشعر والخطابة، فلما جاء الإسلام وصار للعرب حكومة منظمة، وفتح الله عليهم أقطار الأرض، اشتدت حاجتهم إلى الكتابة، فأخذت سبيلها إلى الرقي والكمال، حين صارت حاجة من حاجات الدولة.
بيد أن الكتابة لم تبلغ كمالها الممكن — في التنسيق وإبلاغ الحاجة، وفي اتساع ما تناولته من شئون الدولة والناس — إلا بعد أن نُقلت الدواوين التي كانت بالفارسية في فارس، والرومية في الشام، والقبطية في مصر إلى العربية في عهد عبد الملك بن مروان وابنه الوليد، وإلا بعد أن ظهر في العربية كتاب صقلهم الاطلاع على آداب الفرس وغير الفرس، من الأمم التي كانت لها قدم راسخة في الحضارة؛ كابن المقفع وعبد الحميد الكاتب.
وسنثبت لك في باب المنثور من الكتاب الأول في المجلد الثاني رسالتين ممتعتين نعتبرهما بحق من خير المنثور العربي؛ إحداهما تلك الرسالة المنسوبة لأبي بكر الصديق، والتي قيل إنه كتبها لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهي تمثل عصرها بلاغة وفخامة، والثانية رسالة عبد الحميد بن يحيى الكاتب، قيل إنه كتبها عن مروان بن محمد لعبد الله بن مروان حينما أرسله لقتال الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي، فهي فريدة في نوعها رشاقة أسلوب وسمو معنًى.
(٦) حالة الشعر في العصر الأموي وتحوُّله
لكي نلمس بأيدنيا صحة قول أولئك الذين يذهبون إلى أن العصر الأموي كان عصر تجديد في الآداب العربية، وأنه كان عصر تجديد قوي ظاهر في اللفظ والمعنى، يلزمنا أن نفهم فهمًا أوليًّا سذاجة الشعر الجاهلي وصادق تعبيره عن الحياة الجاهلية.
نعلم أن العصر الجاهلي للعرب كان في مجموعه — ككل العصور الأولية للعقل البشري — ساذجًا فطريًّا في علومه ونظمه وعاداته، ولكنه لم يكن كذلك في آدابه، فإن عرب الجاهلية بدءوا في شعرهم وآدابهم، في ذلك الطور الأول، بما كان عليه غيرهم من الأمم السامية وكثير من الأمم الأخرى في أطوارها الأولى وعصورها الجاهلية، مع ملازمتهم للفطرة، ونفورهم من التكلف، وبعدهم عن الصنعة الكلامية.
إن العرب في جاهليتهم نظموا الشعر في كل حاجاتهم، وأبدعوا فيه بسليقتهم، ومع أنهم كانوا في دور فوضاهم، فقد نضجت لهم أفانين كانت آية في بلاغة اللسان العربي، وكان الأدب الجاهلي فطريًّا مُمثِّلًا خُلُق العصر، مبينًا استقلال الفكرة البدوية، وكان في ضروبه كافة من وصف ومدح ورثاء وهجاء ناطقًا بما يجيش في نفس قائله حقًّا، كما كان في بلاغة تركيبه وبعده عن الأوضاع المدرسية من تكلف للبيان والبديع آية في بلاغة الفطرة، وشاهدًا في مجموعه على مبلغ أثر بلاغة الفطرة المرسلة عن شعور صاحبها في النفوس والأفهام.
على أنه يجدر بنا أن نقول: إن المعلقات وغيرها من آثار العقل العربي الجاهلي قد لا تتأثر بها نفوس العصر الحاضر؛ لتغير اللغات والأفكار والمعتقدات، ولتشعب المدنيات والأدبيات، ولأن آذاننا وأذواقنا قد تحكم بنبوِّ ألفاظها وخشونتها، فكما أن الأدب الإنكليزي قد لا يستعمل اليوم ألفاظًا كان يستعملها شيوخ العقل الإنكليزي «كباكون» و«شكسبير» و«ملتون» من خيرة نتاج عصر إليزابث الذهبي، وقبلهما «شوسر» وشعراء المغاني، ويعتبرها البعض نابية جافية، وأنها بمثابة ألفاظ مدرسية تاريخية، كما هي الحال في نظر أدب العصر الإنكليزي أو الفرنسي أو الألماني في تراجمهم عن الكتاب المقدس، وإلى شعرائهم وأدبائهم المتقدمين، كذلك هو الحال في أحكامنا عن نتاج العصر العربي الجاهلي.
•••
إن المدنية ما ونَت ساعة ولا يومًا، ولكن عاطفة الإنسان تكاد تكون هي بنفسها في كل العصور؛ يحرك لواعجه الجمال، ويفطر قلبه ريب الزمان، ويبث شكاته إلى أترابه وإخوانه، ويحاول أن يتبوأ حبات الأفئدة بسحر بيانه، فهو يفخر ويشدو، وهو يمدح ويهجو، وهو يخطب وينظر ويضرب الأمثال، وهو صادق في ترجمة مشاعره، وتبيان مقاصده ما كان في دور سذاجته بعيدًا عن ضروب المدنيات التي كثيرًا ما تلازمها تقاليد خاصة، وتصحبها آداب تعورف عليها تقلل صراحته، وتَفُلُّ من حدة شباته، وتجعل له سلطانًا على ميوله وأهوائه، واللسان عُلَنة مصفاحٌ إن تركت له عنانه، كُتمةٌ مُضلِّل إن جعلت العقل والتقليد ميزانه.
من هنا نستطيع أن نفسر سذاجة العربي الجاهلي وجنوحه إلى صوت الطبيعة، على العكس من حال زميله الإسلامي الذي قد صقلته بلاغة القرآن وتعاليمه، وشذبته سنةُ الرسول وصحابته، وأفسح المجال لخياله ما وقف عليه أثناء الفتوح العربية من تراث المدنيات الفارسية في العراق وفارس، والرومانية في الشام ومصر، وناهيك بآثار الفرس والرومان إلى ما خلف له آباؤه العرب من حكمة وبيان.
•••
كان شعراء الجاهلية يسددون قولهم نحو كبد الحقيقة فلا يخطئونها، ويقولون الشعر عن شعور حي، ولا يتخطَّون إلى ما وراء مشهودهم ومعقولهم، فجاء شعرهم مثالًا صادقًا لبداوتهم وحضارتهم، حتى لو اندثرت جميع أخبارهم وآثارهم ولم يبقَ إلا شيء من شعرهم لتيسر للباحث أن يستخرج منه وصفًا كاملًا لجميع أحوالهم، كما استخرج الباحثون كثيرًا من غوامض جاهلية اليونان من شعر «هوميرس».
وإليك مثالًا قول المهلهل بعد وقعة السلان؛ إذ حضرها مع أخيه كليب وفرَّ ابن عنق الحية من وجههما:
وبعد، فإنا بعد ما قدمنا من موجز كلامنا عن تصوير حالة الشعر في الجاهلية توطئة لبحثنا عن حالته في العصر الأموي، لا نرى مندوحة من الإشارة هنا إلى أنا سنُعنى عناية خاصة بفرعي الغزل والشعر السياسي؛ لأنهما بحالتيهما الأموية يكادان يكونان وليدي العصر ونتاجه.
وليس معنى ذلك أنا ننكر تلك المعاني الجديدة التي دخلت على الوصف والمدح والرثاء والهجاء، ولكنا نلاحظ أن الفرق لا يعدو ملتزمات المدنية، مع رقة اكتسبتها العصور الإسلامية القريبة العهد من نزول القرآن، واشتغال الناس بتلاوته، وإقبالهم على دراسته، حتى انطبعوا على بلاغته وبيانه.
على أنه من المفيد أن نشير إلى شيء جديد أصاب فن المديح في العصر الأموي؛ لأنه خاص بهذا العصر دون سواه.
قال ابن قتيبة في كتابه القيم «الشعر والشعراء»: أتى بعض الرجاز نصر بن سيار، والي خراسان لبني أمية، فمدحه بقصيدة تشبيبُها مائة بيت، ومديحها عشرة أبيات، فقال نصر: «والله ما بقيت كلمة عذبة ولا معنى لطيف إلا شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في النسيب»، فأتاه فأنشد:
فقال نصر: لا ذاك ولا هذا، ولكن بين الأمرين.
(٧) الغزل
كان غزل الجاهلية من عفو الخاطر وفيض البديهة ناطقًا بصفاء قريحتهم، وكامل حريتهم، وتوقد أذهانهم، وسائر طباعهم، وكان بريئًا من الصنعة والكلفة.
ومع أني ممن يذهبون إلى أن الشاعر الجاهلي كان يعالج الفنون الشعرية كافة غير مقصور على النسيب بالذات، بيد أني ممن يقول: إن المعاني الغزلية وألفاظها تكاد تكون مُعادةً فيما بعد العصر الجاهلي بتوسُّع تقتضيه المدنية، وطلاوة اكتسبتها الألفاظ من بلاغة القرآن، وعذوبة أنتجتها ثروة الأذهان من أفاويق العرفان.
ولقد صدق زهير إذ يقول:
أجل، لقد كان الغزل الأموي غنيًّا بما هو أكثر من ذكر الأطلال والديار، إذ أنَّا نجد فيه لواعجَ الحب ولفحاته، وشكايات الصبِّ وأناته، وزفرات العاشق وعبراته.
ألسنا نلمسُ التوجع والأسى في قول ابن الدمينة الخثعمي:
وفي قول الصمَّة بن عبد الله بن طفيل:
نريد أن ندرس حالة الغزل في العصر الأموي الذي هو عصر الترف والغنى والثروة، عصر القصور والملاذِّ، عصر الاندماج في غير العرب واتخاذ السرارى والسبايا كخادمات ووصفيات وزوجات.
لقد كثر الترف كثرةً حمل معها الاندفاع مع الغزل وما يجرُّه الغزل، وخلق أنواعًا صريحة من المناحي الشعرية في الحب والتشبيب بالنساء رغبةً في الحب من حيث هو، وفي التشبيب من حيث هو، بمعنى أنا كنا في العصر الجاهلي قلما نجد شاعرًا وقف حياته الشعرية على معالجة فن الغزل فحسب، لا يتكلف غيره ولا يُعنى بسواه، فإذ بنا في العصر الأموي نجد من الشعراء من يتخذ من الغزل صناعة وفنًّا.
وظاهرة أخرى نلاحظها في الغزل الأموي تظهر بجلاء مقدار اختلافه عما كان عليه في العصر الجاهلي، تلك أنواعه المتباينة التي يصح لنا أن نقسمها إلى أربعة أبواب: غزل إباحي، ويصح لنا أن نتخذ من عمر بن أبي ربيعة زعيمًا لهذا النوع الذي يجمع إلى وصف المرأة والتشبيب بها معاني العبث بها، والاستمتاع باللذة المادية، مما ينفر منه الأدب الجاهلي ومما حظره عليه الكثيرون من خلفاء الإسلام وأئمته.
ولقد صدق ابن جريح إذ يقول: «ما دخل على العواتق في خدورهن شيء أضر عليهن من شعر ابن أبي ربيعة»، ونحيل القارئ إلى حديث الزبير بن بكار عن عمِّه مصعب في صفة هذا الشاعر الكبير، على أن كتاب الأغاني وغيره من أمهات كتب الأدب العربي مترعة بشعره وتشبيبه، مما لا يدع مجالًا للشك في أنه كان تبْع نساء وحِلْس غانيات، وصَّافًا لأحاديثهن، واقفًا على دخائلهنَّ، مُطَّلعًا على هوى نفوسهن، ولا حاجة بنا إلى التطويل هنا فيما هو مشهور متعارف، خصوصًا أنك ستجد طرفًا من شعره في باب المنظوم من الكتاب الأول في المجلد الثاني، فراجعه ثمة.
على أنه مع ذلك يذوب رقة وحنانًا في بعض مقطَّعاته، ولا سيما مع الثريا بنت علي، فإنه يلوح لنا أنه لم يفتح قلبه لأحد سواها.
كتب ابن أبي ربيعة إلى الثريا وهي باليمن يقول:
ولقد كانت مكة والمدينة مسرحًا لهذا النوع في العصر الأموي، وسبب ذلك ميسور فهمه، معقول تعليله؛ ذلك أن الخلفاء تعمد جلهم الإغداق على أهل الحجاز وأبناء المهاجرين والأنصار بالأموال والهدايا فوق ما ورَّثهم آباؤهم، ليُحولوا بينهم وبين ما يطمح إليه أمثالهم من منافسة في الملك، أو مشاكسة للسلطان، وليشغلوهم عن أمور الدولة بإرخاء العنان لهم في لذاتهم ومناعمهم.
وهناك الغزل العذري البريء، غزل الحب الصادق، والعواطف المتأججة، والنفس المتألمة المُعنَّاة، تلك النفس التي تجد لذتها في الكلف بمن تحب والتعلق به والشعور بالسعادة في الغناء بحبه، حبًّا يملك عليه لبه ويعذب روحه ويفني جسمه كغزل جميل؛ وليس أدل على صدق حبه مما أثبته صاحب الأغاني في الجزء السابع؛ إذ حاول أبوه أن يصرفه عن حبه وحاجَّه في ذلك أجمل محاجَّة، فكان من جميل ما كان مما نجده مفصلًا في موضعه.
وغزل صناعي بين هذا وذاك، همُّه الإجادة في الشعر من حيث هو شعر، لا في الحب من حيث هو حب، ولنا في كُثير عزَّةَ زعيمٌ لهذا النوع الثالث.
(٨) الشعر السياسي
بداية عصر بني أمية معركة سياسية لعب فيها معاوية وأنصاره دورًا ممتعًا طريفًا في سبيل استلاب الخلافة من علي، وتأسيس ملك بني أمية على قواعد وسنن تخالف قليلًا أو كثيرًا ما كانت عليه الحال في عصر الخلفاء الراشدين.
•••
الإنسان في سبيل تحقيق أطماعه السياسية هو بعينه في عصر معاوية، وفي عصر يوليوس قيصر وفي عصر بونابرت وفريدريك الأكبر أول عاهل لألمانيا، هو بعينه إنسان اليوم، هو بعينه كرئيس الولايات المتحدة وغيرها يستعمل المال في شراء الضمير الإنساني، ويعمل جهده على إذاعة دعوته، وتبيان فضائله، وتصويب خطته، باتخاذ الحملات الصحفية والخطابية وغيرها من وسائل الدعوة التي وصلت إليها المدنية الحديثة، والتي كانت في عصر معاوية وخلفاء معاوية وفي عصر المأمون وخلفاء المأمون تستخدم ألسنة الشعراء، وهي أسرع انتشارًا، وأعمق أثرًا، وأكثر رواية، وأطول عمرًا مما يُكتب اليوم فلا يرويه من الناس إلا قليل.
إنك لتعلم ما لاستخدام الشعر من أثر في كثير من الحركات السياسية، واستحثاث العزمات، وإنهاض الهمم في الانقلابات الاجتماعية، وما «للمرسليز» من أثر في نفوس الجند الفرنسيين إذا حمي وطيس الحرب واشتد أوارها، وأنت جدُّ عالم بما كان لقصائد «اللورد بيرن» الواحدة تِلوَ الأُخرى، في سبيل استقلال اليونان الحديثة، وفي سبيل اجتذاب عطف أوروبا وساستها وجماهيرها وملوكها ونوابها وصحفها، ليأخذوا بناصر أمة مهيضة غلبت على أمرها.
أنت جدُّ عالم بأن قصائد «بيرن» هذه فعلت في المعركة السياسية ما لم تفعله جيوش مصر وأساطيلها، وذخيرة الترك وانتصارها، فكان الحكم ﻟ «بيرن»، وكان الانتصار لشعره.
•••
كذلك كان الحال في عصر بني أمية، وكذلك كان أثر الشعر إن لم يكن أبلغ وأوسع نطاقًا. ألم يوعز معاوية، في رواية يزيد ابنه، إلى مسكين الدارمي أن يقول أبياتًا في معنى المبايعة ليزيد ويُنشدها إياه في مجلسه وهو حافل بالوجوه والأشراف؟!
فقال له معاوية: «ننظر فيما قلت يا مسكين ونستخير الله»، قال: ولم يتكلم أحد من بني أمية في ذلك إلا بالإقرار والموافقة، وذلك الذي أراده يزيد، ليعلم ما عندهم، ثم وصله يزيد ووصله معاوية فأجزلا صلته. ا.ﻫ.
وأظنك لا تطلب منا حين مطالعتك لهذه القصيدة تحليلها لإقامة الدليل على صدق ما ذهبنا إليه، فيما أسلفناه لك من القول، بأن شعر العصر الأموي عربي جاهلي في منحاه وأسلوبه، وأنه يتميز بروح جديدة، ويختلف بأغراض ومقاصد تكاد تكون جديدة بالنسبة للعصر الجاهلي، وذلك لوضوح التحليل وخوف الإطالة فيما لا يعنينا كثيرًا.
على أنه لزام في عنقنا أن نصور، إلى مدًى أوسع، استخدام الشعر الأموي في الأغراض السياسية؛ لأن لهذا النوع الطريف نتائجه وآثاره في هذا العصر والعصور التي تلته، ولأن لهذه الميزة ميزة اصطباغ الشعر بالغرض السياسي، واندفاع صاحبه في سبيل نصرة دعوته مُعبِّدًا ما قد يعتور طريقه من صِعاب، مُذلِّلًا ما يعترضه من عِقاب، منتهكًا حرمة التقاليد والأشخاص، بل خارجًا إلى حيزٍ لا يرضَى عنه فقهاء الدين كثيرًا، وربما لا يرضَى عنه الشرع حقًّا، نزعم أن لهذه الميزة آثارها ونتائجها، ولسنا بسبيل تفصيل ذلك الآن، ولكنا بموقف المقيِّد للحوادث فحسب، المثبت لمبدأ وقوعها، ولها مع الزمن وتكرر وقوعها ونشاط ميدانها ما سيتاح لنا تفصيله فيما بعدُ، من اتِّساع نطاق السياسة الشعرية خاصة، ودولة الأدب عامة، وتهديدها حرمة العادة والخلق والدين.
•••
مثل آخر ذكره صاحب كتاب الأخبار الطوال، وهو بمثابة معركة مذهبية سياسية بين نصير معاوية ونصير علي، بين كعب بن جُعَيل والنجاشي، وهاك قصيدة كل منهما؛ قال كعب بن جعيل:
فلما قرأه علي رضي الله عنه قال للنجاشي: أجب، فقال:
وهاك مثلًا آخر ذكره صاحب الأغاني في ترجمة النعمان بن بشير قال: تشبب عبد الرحمن بن حسان برملة بنت معاوية فقال:
قال: فبلغ ذلك يزيد بن معاوية فغضب ودخل على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، ألا ترى إلى هذا العلج من أهل يثرب يتهكم بأعراضنا، ويشبب بنسائنا؟! فقال: ومن هو؟ قال: عبد الرحمن بن حسان، فأنشده ما قال، فقال: يا يزيد، ليست العقوبة من أحد أقبح منها بذوي المقدرة، ولكن أمهل حتى يقدم وفد الأنصار ثم ذكِّرني به، فلما قدموا ذكَّره به؛ فلما دخلوا قال: يا عبد الرحمن، ألم يبلغني أنك تُشبِّب برملة بنت أمير المؤمنين! قال: بلى، ولو علمتُ أن أحدًا أشرفُ بشعري منها لذكرته، قال: أين أنت عن أختها هند؟ قال: وإن لها لأختًا يقال لها: هند؟ قال: نعم! وإنما أراد معاوية أن يشبب بهما جميعًا فيكذب نفسه، فلم يُرض ذلك يزيد بن معاوية وما كان منه معه، فأرسل إلى كعب بن جُعيل فقال له: اهجُ الأنصار، فقال: أفرَقُ من أمير المؤمنين، ولكن أدلك على الشاعر الكافر الماهر الأخطل، قال فدعاه فقال له: اهجُ الأنصار، فقال: أفرَقُ من أمير المؤمنين، قال: لا تخف شيئًا؛ أنا لك بذلك. فهجاهم فقال:
فبلغ ذلك النعمان بن بشير، فدخل على معاوية فحسر عمامته عن رأسه وقال: يا أمير المؤمنين، أترى لؤمًا؟ قال: لا، بل أرى كرمًا وخيرًا، فماذا؟ قال: زعم الأخطلُ أن اللؤم تحت عمائم الأنصار، قال: أوَفعل ذلك؟ قال: نعم، قال: لكَ لسانُه. وكتب فيه أن يُؤتي به، فلما أُتي به سأل الرسول أن يدخله إلى يزيد أولًا، فأدخله عليه، فقال: هذا الذي كنت أخاف، قال: لا تخف شيئًا، ودخل على معاوية فقال: علام أُرسل إلى هذا الذي يمدحنا ويرمي من وراء حجرتنا؟ قال: هجا الأنصار، قال: ومَن زعم ذلك؟ قال: النعمان بن بشير، قال: لا تقبل قوله وهو المدِّعي لنفسه، ولكن تدعوه بالبينة، وإن أثبت شيئًا أخذت له، فدعاه بالبينة فلم يأتِ بها، فخلَّاه، فقال الأخطل:
أما رد النعمان على الأخطل فهاكه كما نقله أبو الفرج الأصبهاني عن خالد بن كلثوم:
حتى قوله:
وإنا نحيل القارئ إلى الكتاب الأول من المجلد الثاني ليقف على قصيدة النعمان هذه، وليقف كذلك على قصيدته الرائية الأخرى التي أنشدها معاويةً لما ضرَب مروانُ بنُ الحكمِ عبدَ الرحمنِ بنَ حسان الحدَّ ولم يَضرِب أخاه حين تهاجيا وتقاذفا، وتحرير الخبر فيها أنه لما كثر الهجاء بين عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي وتفاحشا، كتب معاوية إلى سعيد بن العاصي، وهو عامله على المدينة، أن يجلد كل واحد منهما مائة سوط — وكان ابن حسان صديقًا لسعيد وما مدح أحدًا غيره قط — فكره أن يَضرِب أو يُضرَب ابنُ عمه، فأمسك عنهما، ثم ولي مروان، فلما قدِم أخذ ابن حسان فضربه مائة سوط ولم يضرب أخاه، فكتب ابن حسان إلى النعمان بن بشير وهو بالشام — وكان كبيرًا أثيرًا مكينًا عند معاوية — قال:
وهي قصيدة طويلة. فدخل النعمان بن بشير على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت سعيدًا بأن يضرب ابن حسان وابن الحكم مائة سوط، فلم يفعل، ثم وليت مروان فضرب ابن حسان ولم يضرب أخاه، قال: فتريد ماذا؟ قال: أريد أن تكتب إليه بمثل ما كتبت إلى سعيد، فكتب إليه معاوية يعزم عليه أن يضرب أخاه مائة؛ فضربة خمسين وبعث إلى ابن حسان بحلة وسأله أن يعفو عن خمسين، ففعل وقال لأهل المدينة: إنما ضربني حدَّ الحر وضربه حدَّ العبد خمسين، فشاعت الكلمة حتى بلغت ابن الحكم، فجاء إلى أخيه فأخبره وقال: «لا حاجة لي فيما عفا عنه ابن حسان»، فبعث إليه مروان: «لا حاجة لنا فيما تركت، فهلمَّ فاقتصَّ من صاحبك»، فحضر، فضربه مروان خمسين أخرى. ا.ﻫ.
•••
ويجدر بنا الآن بعد أن أوضحنا ميزة استعمال الشعر في الأغراض السياسية في الدولة الأموية، أن نسمح لأنفسنا بتقييد ملاحظة قد لا تخلو من نفع فيما سنعالجه، وهي أن تلك الأغراض السياسية سمحت للشعراء بما لم تسمح به لسواهم من إعفائهم من إقامة الحدود.
كان عبد الرحمن شاعرًا مقلًّا إسلاميًّا، ليس من الفحول المشهورين ولكنه كان يقول في الشراب والغزل ومدْح أحلافه من بني أمية، وهو أحد المعاقرين للشراب والمحدودين فيه، وكان مع بني أمية كواحد منهم، إلا أن اختصاصه بآل أبي سفيان وآل عثمان خاصة كان أكثر، وخصوصه بالوليد بن عثمان ومؤانسته إياه أزيد من خصوصه بسائرهم؛ لأنهما كانا يتناوبان على الشراب.
ونريد الآن أن نفسر هذه الحادثة تفسيرًا معتدلًا لنخرج منها بما عساه يمدنا وينفعنا فيما سنُقدم عليه من مناقشة العصور التي تلت هذا العصر، تلك العصور التي تغذَّت، من غير شك، بأفاويق العصر الأموي الذي تقدمها، فنبتت فيها بذوره حتى كادت تنمو في حديقته الأُنُف الحسَّانة دوحاتٌ خطرة على الاعتبارات الخُلُقية التي تُوُوضع عليها.
وإنك إذا رجعت إلى كتاب معاوية، ورجعت إلى كتاب الأغاني نفسه، ومؤلفه أُموي كما تعلم، وجدته قد أقام الحجة في غير موضع على أن هذا الشاعر عاقر الخمر؛ وهاك ما يؤيد ذلك ويعززه:
قال: كان الوليد بن عثمان ذا غلة في الحجاز يخرج إليها في زمان الثمر بنفر من قومه، يجنون له ويعاونونه، فكان إذا حضر خروجهم دفع إليهم نفقات لأهليهم إلى رجعتهم، فخرج بهم مرة كما كان يخرج وفيهم ابن سيحان، فأتى ابنَ سيحان كتابٌ من أهله يسألونه القدوم لحاجة لا بد منها، فاستأذنه فأذن له، فقال له ابن سيحان: زودوني من شرابكم هذا. فزوَّدوه إداوة ملَأها له من شرابهم، فكان يشربها في طريقه حتى قدم على أهله، فألقاها في جانب بيته فارغة، فمكث زمانًا لا يذكرها حتى كنسوا البيت فرآها مُلقاة في الكُناسة فقال:
فهذا اعتراف صريح بمعاقرته للخمر، ثم لنُثبِت هنا قصيدته التي مدح بها معاوية:
وكان من حظِّها أن كتب معاوية أن يُعطى أربعمائة شاة وثلاثين لقحة ممَّا يوطن السيالة غير ما أعطاه سواه.
ومهما يكن الواقع الذي حدا ابن الحكم إلى حدِّه، فإن السياسة الحزبية ومدائح ابن سيحان في معاوية، واستعمال الأخير الشعراء في مناصرة بيته، كل ذلك دفع بمعاوية إلى كتابة ما كتب لابن الحكم أولًا، ثم للوليد بن عتبة ثانية، حتى اضطره لرفده بخمسمائة دينار مما وصفه صاحب الأغاني؛ فكانت الغلبة للشعر لا للشرع، وللغاية السياسية لا الدينية، فلنُقيِّد هذه الملاحظة فقط بلا توسع ولا إسهاب.
•••
وبعد، فلنلخص ما تقدم عن شعراء السياسة، وهم العنصر الهام الذي لعب دورًا بارزًا في الأدب العربي في العصر الأموي، والذي كان له أثره ونتائجه في العصر العباسي، في كلمة ختامية في هذا الموضوع نبين فيها جماعة الشعراء السياسيين وألوانهم السياسية.
كان جل شعراء هذا الدور أمويين؛ فإنا نجد إلى جانب شعراء الدور الأول من أنصار بني أمية شعراء آخرين أخذوا بناصرهم ودافعوا عن كيانهم، مثل أبي العباس الأعمى هجَّاء ابن الزبير، وأبي قطيفة طريد ابن الزبير، وأبي صخر الهذلي المتعصب لآل مروان وهجَّاء ابن الزبير، وعدي بن الرقاع، والوليد بن أمية بن عائذ الهذلي، وجبيهاء الأشجعي، والحكم بن عبدل الأسدي، والسلولي، وموسى شهوات وغيرهم.
والشعراء العلويون وفي طليعتهم النعمان بن بشير الأنصاري، والكميت بن يزيد، وأيمن بن خريم، على أن الأخيرين اضطرا إلى امتداح بني أمية ومسايرتهم، فإنا نجد الكميت قد مدح هشامًا، كما نجد أيمن مدح عبد الملك، ثم نجد شعراء دون ذلك، مثل أنصار آل المهلب بن أبي صفرة؛ كزياد الأعجم، وثابت قطنة، وحمزة بن بيض، وكعب الأشقري وغيرهم، وأخيرًا نجد حزب آل الزبير، ومن شعرائه عبد الله بن الزبير الأسدي.
وصفوة القول أن المعركة السياسية بين بني أمية ومنافسيهم في الملك أو الجاه وما يتبعهما من إغداق الأموال والعطايا على أنصار كل فريق، جعلت هوى الشعراء مع من أحسن إليهم، واللُّها تفتح اللَّها.
•••
من كل هذا يتبين ما اتسع أمام الآداب العربية من ميدان فسيح في ضروب شتى من ألوان الحياة لم تكن تعرفها من قبل.
وقد آن لنا أن ننتقل إلى الكتاب الثاني من موضوعنا، ونرجو أن نوفق إلى إيضاح ما أوجزناه، وبسط ما أجملناه، مبتهلين إلى الله ألا نضل في شُعبه ومهامهه، وبُهمه ومفاوزه، بمنِّه وكرمه.