أبو العباس السفاح
كان أبو العباس السفاح أول من تولى الخلافة العباسية ونقل الملك من بني أمية إلى بني العباس، وقد أجمع المؤرخون على أنه كان وافر الكرم، ظاهر المروءة، جليل الوقار، كثير الحياء، حسن الأخلاق، وصولًا لذوي الأرحام.
وكان إلى جانب هذه الأخلاق السمحة الرضية يجمع قلبًا ذكيًّا وأنفًا حميًّا في تعقب الأمويين، وتبديد شملهم في كل بقعة يخشى أن تُسمع لهم فيها كلمة، أو يطاع لهم رأي، أو يؤثَر عنهم صنيع. وكانت هذه الدولة الناشئة تحتاج إلى مثل هذه القسوة من مثل أبي العباس السفاح.
ويجب أن نذكر دائمًا في مثل هذه الظروف أن جل الملوك الذين بعثوا لإنشاء دول جديدة، وممالك جديدة، وأسرات ملكية جديدة، مثل أبي العباس السفاح وغيره، هم مكرهون لا محالة على استعمال القسوة، وأخذ الأمور بالحزم والشدة دون إغفالهم الموادعة والملاينة فيما لا يهدد عروش ملكهم، وصروح سلطانهم.
قالوا: إنه كان في بعض أيامه جالسًا في مجلس الخلافة وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه وتبسط معه حتى دخل عليه سَديفٌ الشاعر وأنشده:
فقال له سليمان: قتلتني يا شيخ! ودخل السفاحُ وأُخذ سليمان فقُتل.
وهذا الذي صنعه السفاح أصبح سنة عباسية في تأييد الملك، وكان قليل من الإغراء كافيًا في محق من تقع عليه العين من خصوم الخلافة، فقد دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده من بني أمية نحو تسعين رجلًا على الطعام، فأقبل عليه فقال:
فأمر بهم عبد الله فضربوا بالعُمُد حتى قتلوا، وبسط النطوعَ عليهم، فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنينَ بعضهم حتى ماتوا جميعًا.
قلنا: إن السفاح كان إلى جانب هذه القسوة برًّا بذوي رحمه، وصولًا لهم؛ ولنذكر مثالًا لذلك تصرفه مع آل الحسن بن علي الذين بايع بعض العباسيين رجلًا منهم هو محمد بن عبد الله — كما بينا من قبل — فقد روى عبد العزيز بن عبد الله البصري عن عثمان بن سعيد بن سعد المدني: أنه لما وَلِي الخلافة أبو العباس السفاح قدِم عليه بنو الحسن بن علي بن أبي طالب؛ فأعطاهم الأموال وقطع لهم القطائع، ثم قال لعبد الله بن الحسن: احتكم عليَّ، قال: «يا أمير المؤمنين، بألف ألف درهم، فإني لم أرها قط.» فاستقرضها أبو العباس من ابن مُقْرن الصيرفي وأمر له بها.
قال عبد العزيز: لم يكن يومئذ بيت مال، ثم إن أبا العباس أتى بجوهر مروان فجعل يقلبه وعبد الله بن الحسن عنده، فبكى عبد الله، فقال له: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: هذا عند بنات مروان وما رأت بنات عمك مثله قط! قال: فحباه به، ثم أمر ابن مقرن الصيرفي أن يصل إليه ويبتاعه منه، فاشتراه منه بثمانين ألف دينار.
على أن هذا الرفق واللين وهذه السياسة والحكمة لم تُنس أبا العباس السفاح ما يجب عليه من مراقبة الطالبيين، والتسمُّع لما قد يجيش في خواطرهم من الخروج عليه أو الكيد له؛ فإن صلة الرحم من مثل السفاح لا تكون ظاهرة خلقية بقدر ما تكون حيلة سياسية، وكذلك رأيناه يقول لبعض ثقاته وقد خرج من عنده بنو الحسن: «قُم بإنزالهم ولا تألُ في إلطافهم، وأظهر الميلَ إليهم والتحامل علينا وعلى ناحيتنا، وأنهم أحق بالأمر منا كلما خلوتَ بهم، وأحصِ لي ما يقولون وما يكون منهم في مسيرهم ومَقدَمهم.»
ومما ذكرناه يرى القارئ معنا أن السفاح قد جمع حقًّا القسوة واللين، وأنه لم يكن في عنفه بأخطر منه في رقته، وإنما كان يلين ليستل سخيمة مدفونة، أو ليستدرج بعض الحاقدين، ويقسو ليُريَ أعداءه أن لا أمل لهم في الكيد لذلك السيف المسلول.
ومهما يكن من شيء، فإن خلافة أبي العباس كانت أقصر من أن تسمح لخصاله وأخلاقه بالظهور والتأثير القوي في سياسة الدولة وسيرة خلفائها.
ولو عمر السفاح لكان من الممكن أن يرسم لخلفائه خطة تجنبهم بعض ما تورطوا فيه من الاضطراب.