تمهيد
دعونا هذا العصر فارسيًّا مع أنه داخل في عصر الدولة العباسية؛ لأن تلك الدولة على كونها عربية من حيث خلفاؤها ولغتها وديانتها، فهي فارسية من حيث سياستها وإدارتها؛ لأن الفرس نصروها وأيدوها، ثم هم نظموا حكومتها وأداروا شؤونها، ومنهم وزراؤها وكتابها وحجابها. وقد حملهم على القيام بنصرتها ما علمته من عصبية بني أمية على غير العرب، واحتقار الموالي وأكثرهم من الفرس، فكانوا ينصرون كل ناقم على تلك الدولة من الشيعة والخوارج. على أنهم كانوا أكثر رغبة في نصرة الشيعة، لما رأوه في دعوتهم من قوة الحجة يومئذ؛ لأنهم يدعون إلى بيعة صهر النبي أو أبناء بنت النبي. فكان العلويون يبثون دعايتهم في العراق وفارس وخراسان وغيرها من البلاد البعيدة عن مركز الخلافة الأموية، والفرس يبايعونهم وينصرونهم على أمل التخلص من ظلم بني أمية.
ثم قام بنو العباس لطلب الخلافة، وفازوا بها على أيد أبي مسلم الخراساني، واستعانوا بانقسام العرب يومئذ ونقمة اليمنية على بني أمية، ولم يبق من العرب من ينصر الأمويين إلا مضر، فاستعان أبو مسلم باليمنية على الأمويين، حتى فاز بمشروعه. وإليك البيان.
(١) انتقال الخلافة إلى العباسيين
(١-١) الشيعة العلوية
ظهر بنو أمية وتسلطوا واستبدوا وآل علي بن أبي طالب يطالبون بالخلافة ويسعون في إدراكها. وأول من طلبها بعد علي ابنه الحسن، ثم تنازل عنها لمعاوية سنة ٤١ﻫ، فغضب أشياع العلويين في الكوفة من تنازله وهاجوا — وأمير الكوفة يومئذ زياد بن أبيه الداهية الشهير، فشدد في إخماد الثورة وقتل جماعة من أشياع علي، فيهم حجر بن عدي وأصحابه. فتربص العلويون ينتظرون موت معاوية، لعل انتخاب الأمة يقع على واحد من أبناء علي فترجع الخلافة إلى أهل البيت، ولم يخطر لهم أن يبايع معاوية لابنه. فلما علموا ببيعته نقموا عليه، وزادهم نقمة ما علموه من تهتكه وقصفه واشتغاله بالصيد عن أمور الخلافة — ومن قول عبد الله بن هشام السلولي في ذلك:
ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، فخرجوا بعد وفاة يزيد وبيعة مروان بن الحكم سنة ٦٤ﻫ يطالبون بدمه وسموا أنفسهم «التوابين»، وأمير الكوفة لا يزال عبيد الله بن زياد، فأخرجوه منها وولوا عليهم رجلًا منهم. فتغلب ابن زياد عليه. فنهض المختار بن أبي عبيد الثقفي، وهو من جملة الذين طمعوا في السيادة لابتزاز الأموال في أثناء تلك الفوضى واختلال الأحوال. وكان المختار عالي الهمة فجاء الكوفة يطالب بدم الحسين، ويدعو إلى بيعة محمد بن الحنفية أخي الحسين من أبيه. فتبعه على ذلك جماعة من الشيعة سماهم «شرطة الله»، وزحف على ابن زياد فهزمه وقتله وقتل أكثر قتلة الحسين. ولكن محمد بن الحنفية لم يكن راضيًا عن تلك الدعوة، فبعث إلى المختار يتبرأ منه. فحول المختار دعوته إلى عبد الله بن الزبير، وكان عبد الله قد نهض عند نهوض الحسين، لأن أباه الزبير بن العوام كان من جملة الطامعين في الخلافة بعد مقتل عثمان كما تقدم، وأقام عبد الله في مكة يدعو إلى نفسه. على أن المختار لم يخلص النية في دعوته لأحد؛ لأنه إنما كان يريدها لنفسه. فلما علم ابن الزبير بغرضه، بعث أخاه مصعبًا على العراق فحارب المختار وقتله سنة ٦٧ﻫ.
أما الشيعة العلوية فانقسمت بعد مقتل الحسين إلى فرقتين، إحداهما تقول: إن الحق في الخلافة لولد علي من فاطمة بنت النبي، والأخرى تقول: بتحولها بعد الحسن والحسين إلى أخيهما محمد بن الحنفية، وهي الفرقة الكيسانية. وأكثرهما ظهورًا وتصديًا الفرقة الأولى، فبايعوا بعد الحسين ابنه عليًّا المعروف بزين العابدين، وتسلسلت الخلافة بعده في أعقابه حتى صار الأئمة ١٢ إمامًا وهم: علي، والحسن، والحسين، وزين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومحمد التقي، وعلي النقي، وحسن العسكري، ومحمد المهدي. وتفرع من الشيعة العلوية أيضًا فرق أخر، بايعت غير واحد من أعقاب علي، كالزيدية نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين، والإسماعيلية نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وفرق أخر لا محل لذكرها.
(١-٢) الشيعة العباسية
وكان من جملة المطالبين بالخلافة من أهل البيت بنو العباس عم النبي، لكنهم كانوا لا يتصدون لطلبها والأمويون في إبان دولتهم، وإنما كانوا يدعون إلى أنفسهم سرًّا. وكان العلويون والعباسيون في أيام ضيقهم واضطهادهم يتقاربون؛ لأنهم من بني هاشم، وكلا الرهطين أعداء بني أمية من قبل الإسلام — والمضطهدون يتقاربون على أي حال.
وظل العباسيون يتسترون في دعوتهم، وهم مقيمون في الحميمة من أعمال البلقاء بالشام، حتى ضعف شأن بني أمية فهموا بالنهوض. واتفق في أثناء ذلك أن الفرقة الكيسانية دعاة ابن الحنفية صارت دعوتها بعده إلى ابنه أبي هاشم، وكان أبو هاشم هذا يفد على خلفاء بني أمية من المدينة إلى الشام، فيمر في أثناء الطريق بالحميمة. ففي بعض وفداته على هشام بن عبد الملك، آنس هشام منه فصاحة وقوة ورياسة، مع علمه بطمعه في الخلافة، فدس إليه في أثناء رجوعه إلى المدينة رجلًا سمه في لبن. فشعر أبو هاشم بالسم وهو في بعض الطريق، فعرج إلى الحميمة، وصاحب الدعوة العباسية يومئذ محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فنزل عنده. ولما أحس بدنو الأجل خاف ضياع البيعة وهو بعيد عن أهله، فأوصى إلى محمد المذكور بالخلافة بعده. وكان معه جماعة من شيعته، سلمهم إليه وأوصاه بهم. فلما مات أبو هاشم، تهوس محمد بالخلافة وأيقن بالنجاح؛ لأنه اكتسب حزب الكيسانية جميعًا، فأخذ في بث الدعاة سرًّا. ثم توفي وقد أوصى بالخلافة بعده إلى ابنه إبراهيم، وعرف بالإمام.
فأخذ إبراهيم الإمام في بث دعاته، وبدأ بخراسان لوثوقه بأهلها أكثر من سائر أهل الأمصار؛ ولأن الشيعة الكيسانية أكثرهم من خراسان والعراق، وقد نصروا العلويين مرارًا. فبعث إليهم دعاة الكيسانية الذين كانوا مع أبي هاشم، وأوصاهم أن يطلبوا بيعة الناس باسم «آل محمد» أي: أهل النبي، ولم يعين العلويين ولا العباسيين. وكان الخراسانيون قد ملوا الدولة الأموية، فهان عليهم أن يبايعوا لآل محمد، وهم يحسبون الأمر يكون مشتركًا بين العباسيين والعلويين. وتوفق إبراهيم الإمام في أثناء ذلك إلى أبي مسلم الخراساني القائد العجيب، فأتم أمرهم وسلم لهم الدولة كما هو مشهور.
(١-٣) بيعة المنصور للعلويين ونكثه
وعلم العباسيون بما كان يضمره أبو سلمة من نقل الخلافة إلى العلويين، فشكوه إلى أبي مسلم سرًّا. فدس إليه رجلًا قتله بالكوفة غيلة، وأشاعوا أن بعض الخوارج قتله، وقد قتلوا كثيرين غيره ممن شكوا في إخلاصهم، حتى تم الأمر لهم.
أما آل الحسن بن علي، الذين كانوا قد بايعوا أحدهم محمد بن عبد الله في المدينة وبايعه معهم سائر بني هاشم ومنهم أبو جعفر المنصور، فلما علموا بذهاب دولة بني أمية ومبايعة أبي العباس السفاح سنة ١٣٢ﻫ، جاءوا إليه في الكوفة يطالبونه ببيعتهم، فاسترضاهم أبو العباس بالأموال وقطع لهم القطائع. وكان في جملة القادمين إليه عبد الله بن الحسن والد صاحب البيعة فأكرم السفاح وفادته وعرض عليه ما يرضاه من المال وقال له: «احتكم علي» فقال عبد الله: «بألف ألف درهم، فإني لم أرها قط …»، ولم يكن هذا المال موجودًا عند السفاح، فاستقرضه له من رجل صيرفي اسمه ابن أبي مقرن ودفعه إليه. واتفق — وعبد الله المذكور عند السفاح — أن بعض الناس جاءه بالجواهر التي كانت عساكر العباسيين قد اغتنمتها من مروان بن محمد، فجعل السفاح يقلب الجواهر بين يديه وعبد الله ينظر إليها ويبكي، فسأله عن السبب فقال: «هذا عند بنات مروان، وما رأت بنات عمك مثله قط …» فحباه به، ثم أمر الصيرفي أن يبتاعه منه فابتاعه بثمانين ألف دينار (نحو مليون درهم) وأمر أبو العباس بإكرام عبد الله وإنزاله على الرحب والسعة، وهو يتوجس مما في ضميره، فبث عليه العيون فآنس عنده طمعًا فزاده عطاءً، فعاد عبد الله إلى المدينة مثقلًا بالأموال ففرقها في أهله، وكانوا أهل فاقة فلما رأوا تلك الأموال سروا.