رفيف الأقحوان

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

أسطورة نورية

ﭬﻮلكشتين، ومعناها صخرة الغيوم، جبل في النمسا يعلو على سطح البحر نحوًا من ألفي متر، وفيه سهل فسيح ينبسط على مد النظر، ويخترقه نهر غزير يقال له «الأديج الأعلى»، وبعد السهل غاب فيه هضبة عالية شُيِّد عليها فيما مضى من الأيام قَصْرٌ لم يَبْقَ منه سوى بعض الجدران المتداعية.

ولهذا القصر قصة غريبة يتناقلها سكَّان تلك الناحية أبًا عن جد، وقد رواها أحدهم للناظم بكل خشوع كما تُروَى أساطير الأبطال والقديسين، فنقلها إلى العربية شعرًا طليقًا.

عَلَى جَبَلٍ تَمْشِي الغُيُومُ بِظِلِّهِ
وَتَجْرِي بِعِطْفَيْهِ المِيَاهُ جَلِيدًا
وَيَكْتَنِفُ الغَابُ الكَثِيفُ ثُغُورَهُ
كَأَنَّ عَلَى تِلْكَ الثُّغُورِ سُدُودًا
تَرَى مَا ﻟِﭭُﻮلْكِشْتَيْنِ مِنْ أَثَرٍ بَاقٍ
أَكَانَ نَبِيلًا أَمْ زَعِيمَ عِصَابَةٍ
فَتًى شَادَ ذَاكَ القَصْرَ فِي الجَبَلِ الوَعْرِ
فَآثَرَ أَنْ يَحْيَا بَعِيدًا عَنِ الوَرَى
فَلَيْسَ يُرَى إِلَّا مَتَى شَاءَ أَنْ يُرَى
وَتَخْدِمُهُ أَعْوَانُهُ خِدْمَةَ الدَّهْرِ؟
عَلَى كُلِّ حَالٍ لَمْ يَكُنْ غَيْرَ وَالِدٍ
أَحَبَّ ابْنَهُ وَالحُبُّ يَنْهَى وَيَأْمُرُ
أَرَادَ لَهُ عُمْرًا طَوِيلًا وَمِنْعَةً
لِيَجْعَلَ مِنْهُ سَيِّدًا لَيْسَ يُقْهَرُ
فَلَمْ يَرَ خَيْرًا مِنْ مُجَاوَرَةِ النَّسْرِ
تَرَعْرَعَ «أُوسْفَالْدُ» هُنَاكَ وَجِسْمُهُ
يَزِيدُ نُحُولًا كُلَّمَا زَادَ حِلْمُهُ
فَلَمْ تُغْنِهِ فَرْطُ العِنَايَةِ صِحَّةً
وَلَا نَالَ مَا يَرْجُو أَبُوهُ وَأُمُّهُ
وَلَا كَانَ فِي شُمِّ الجِبَالِ لَهُ وَاقٍ
رَقِيقُ شُعُورِ النَّفْسِ أَمَّا دُمُوعُهُ
فَسَيْلٌ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَلَهِيبُ
تَعَشَّقَ ضَرْبَ العُودِ يُطْرِبُ غَيْرَهُ
بِهِ وَتَرَاهُ شَاكِيًا مُتَأَلِّمًا
كَشَمْعٍ يُضِيءُ اللَّيْلَ وَهْوَ يَذُوبُ
وَكَانَ عَلَى قُرْبٍ مِنَ الحَيِّ نِسْوَةٌ
مِنَ اللَّاءِ لَا يَعْرِفْنَ فِي الأَرْضِ مَوْطِنًا
فَيَرْحَلْنَ عَنْ دَارٍ وَيَنْزِلْنَ غَيْرَهَا
وَسُرْعَانَ مَا تُطْوَى الخِيَامُ وَتُنْشَرُ
فَيَعْمُرُ حَيٌّ سَاعَةً ثُمَّ يُقْفِرُ
سَوَافِرُ لَا يَعْرِفْنَ وَجْهًا مُحَجَّبًا
وَلَكِنَّ دُونَ النَّفْسِ أَلْفَ حِجَابِ
وَإِنْ ذُكِرَتْ أَنْسَابُهُنَّ فَلَا تَرَى انـْ
ـتِسَابًا لِغَيْرِ المَاءِ وَالرِّيحِ وَالثَّرَى
وَمَا نُقِلُوا عَنْ دَفْتَرٍ وَكِتَابِ
يُزَاوِلْنَ عِلْمَ الطِّبِّ وَالبَخْتِ حِرْفَةً
فَيَعْلَمْنَ مِنْهُ غَيْرَ مَا النَّاسُ تَعْلَمُ
وَمِنْهُنَّ مَنْ يَطْرُقْنَ بَابًا لِخِدْمَةٍ
فَيَأْتِينَ بِاسْمٍ مُسْتَعَارٍ لِأَنَّهُ
تُقَدَّسُ أَسْمَاءٌ لَهُنَّ وَتُكْتَمُ
كَذَا نَزَلَتْ فِي القَصْرِ مِنْهُنَّ مَرَّةً
عَجُوزٌ تَحَلَّتْ بِالذَّكَاءِ وَبِالحِلْمِ
رَأَتْ مَا بِأُوسْفَالْدٍ فَقَالَتْ لِأُمِّهِ
أَلَا إِنَّ هَذَا الدَّاءَ سَهْلٌ دَوَاؤُهُ
وَيَا بَرْدَ مَا قَالَتْ عَلَى كَبِدِ الأُمِّ
«سَأَكْتُبُ سِحْرًا فِي يَدَيْهِ يَصُونُهُ
وَيَمْنَعُ مِنْهُ القَلْبَ أَنْ يَتَأَثَّرَا»
«فَلَا يَصِلُ الحُزْنُ الخَفِيُّ لِقَلْبِهِ
وَلَا يَذْهَبُ اللَّحْنُ الشَّجِيُّ بَلُبِّهِ»
«وَإِنْ مَسَّ عُودًا فِي يَدَيْهِ تَكَسَّرَا»
وَحَقَّقَتِ الأَيَّامُ صِدْقَ مَقَالِهَا
فَوَدَّعَ أُوسْفَالدُ الأَسَى وَالأَغَانِيَا
وَأَنْسَاهُ هَجْرُ العُودِ كُلَّ صَبَابَةٍ
فَبَاتَ عَنِ الأَشْعَارِ بِالصَّيْدِ لَاهِيًا
فَلَا القَلْبُ خَفَّاقٌ وَلَا الجِسْمُ نَاحِلُ
وَأَصْبَحَ أَهْلُ القَصْرِ حَوْلَ أَمِيرِهِمْ
وَأَوْقَاتُهُمْ وَقْفٌ عَلَى اللَّهْوِ وَالأُنْسِ
وَقَدْ حَسِبُوا المَاضِي دَفِينًا وَمَا دَرَوا
بِأَنَّ حَيَاةَ المَرْءِ رَهْنٌ بِمَا مَضَى
وَأَنَّ غَدًا مِنْ صُنْعِ يَوْمِكَ وَالأَمْسِ
فَيَا لَكَ مِنْ قَلْبٍ مَعَ الدَّهْرِ قُلَّبِ
تَسِيرُ بِكَ الأَهْوَاءُ فِي كُلِّ مَذْهَبِ
فَلَا أَنْتَ عِنْدَ القُرْبِ حُرٌّ وَلَا النَّوَى
تُحَاوِلُ أَنْ تَسْلُو وَفِيكَ مِنَ الهَوَى
عَوَاطِفُ إِنْ حُمَّ القَضَاءُ عَوَاصِفُ
تَمُرُّ بَكَ السَّاعَاتُ وَالفِكْرُ سَابِحٌ
بِتَيَّارِهَا مُسْتَقْبِلًا وَمُوَدِّعًا
تُحَيِّيهِ مِنْهَا مَوْجَةٌ إِثْرَ مَوْجَةٍ
وَيَبْدُو لَهُ التَّذْكَارُ حِينًا فَيَنْثَنِي
إِلَى شَاطِئِ التَّذْكَارِ يَطْلُبُ مَرْجِعًا
فَلَا كَانَ لَيْلٌ شَاقَ أُوسَفَالْدَ بَدْرُهُ
وَمَا نَالَ مِنْ صَيْدِ النَّهَارِ مَرَامًا
فَأَلْهَاهُ عَنْ أَتْبَاعِهِ وَرِفَاقِهِ
فَآثَرَ أَنْ يَبْقَى وَحِيدًا وَأَمْرُهُ
مُطَاعٌ فَعَادُوا دُونَهُ وَأَقَامَا
هُنَالِكَ مَا بَيْنَ الخَمَائِلِ وَالرُّبَى
مَشَى صَامِتًا وَالفِكْرُ حَيْرَانُ شَارِدُ
وَفِي صَدْرِهِ سِرٌّ مِنَ الوَجْدِ لَمْ تَبُحْ
بِهِ بَعْدُ أَعْصَابُ الشَّبَابِ الرَّوَاقِدُ
وَحَاجَةُ نَفْسٍ لَيْسَ يُدْرِكُ مَا هِيَهْ
وَمِنْ حَوْلِهِ رُوحُ الوُجُودِ كَأَنَّهَا
تُنَاجِي صِبَاهُ فِي النَّسِيمِ وَفِي الزَّهْرِ
وَفِي البَدْرِ فَوْقَ المَاءِ يَرْقُصُ نُورُهُ
وَفِي النَّهْرِ خَلْفَ الغَابِ نَامَ خَرِيرُهُ
وَفِي كُلِّ مَا يُوحِي لَهُ اللَّيْلُ مِنْ سِرٍّ
فَمَا هِيَ إِلَّا لَحْظَةٌ وَإِذَا بِهِ
يُفِيقُ عَلَى صَوْتٍ مِنَ الغَابِ مُقْبِلِ
غِنَاءٌ شَجِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ
فَغَارَ عَلَى البَاقِي لَهُ مِنْ صَوَابِهِ
وَحَوَّمَ بِالذِّكْرَى عَلَى قَلْبِهِ الخَلِي
فَأَسْرَعَ نَحْوَ الصَّوْتِ وَالغَابُ مُغْلَقٌ
وَمِنْ دُونِهِ الأَغْصَانُ مُشْتَبِكَاتُ
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ قَبْلًا شَقِيًّا بِدَائِهِ
وَلَا اعْتَرَضَتْهُ غَيْمَةٌ فِي سَمَائِهِ
فَمَاتَتْ عَلَى أَوْتَارِهِ النَّغَمَاتُ

هنا لا بد من تتمة الحديث نثرًا لضياع باقي القصيدة، والذي أذكر أن أوسفالد أبصر مشهدًا لم تقع عيناه من قبلُ عليه؛ فتاة كأنها من الجان أو حور الجنان، وسط خميلة من الورود البيضاء، تنقر على القيثارة وتغني وترقص، فبهره منظرها على ضوء القمر، وأحس أن سهمًا قد اخترق صدره هو انقضاض الصاعقة كما يقال. وذُعرت الفتاة عندما رأته، ولكن أُفرِخ روعها عندما سمعت نغمة صوته العذب وهو يحييها، فمالت إليه ومال إليها، وسرعان ما استأنست به فتبادلا الحديث، وصار يختلف إليها كل ليلة فيسمع نشيدها ويشاركها في النقر على العود، ثم يبثها حبًّا دفينًا وشوقًا كمينًا إلى أن عرض عليها الزواج فقبلت.

كل هذا وهو لا يعلم عنها شيئًا ولا يعرف اسمها؛ لأن للنَّوَرِ عادات وتقاليد، فحياتهم غامضة وأخلاقهم مجهولة وأسماؤهم مكتومة عن الغريب، وقد تسمِّي الواحدة نفسها حنة أو هيلانة أو غير ذلك، ويبقى اسمها الحقيقي سرًّا من الأسرار. وكثيرًا ما يُعرَض عليها الزواج من غريب، فترفض ولو كان الخاطب أميرًا؛ لأن للنَّوَر ملوكًا وأمراء، فهم في حياتهم التائهة لا يغرهم مال أو جاه ولهم أرستوقراطيتهم.

ولكن الظاهر أن الحب هنا كان من أعظم العوامل التي جعلت الفتاة تخرج على تقاليدها، على أنها أبت أن تبوح باسمها لأوسفالد إلا بعد الزواج. أما أمه فخافت عليه إذا هي عارضت في هذا الزواج، وضربت موعدًا له صباح الأحد، وانتشر الخبر في البلد ففرح الجميع لأميرهم وأخذوا يستعدون للعيد.

وكانت أم أوسفالد قد انتهت من إعداد هدية العرس، وأحبت أن تنقش عليها اسم العروس، ولم يَبْقَ لميعاد الزواج سوى يوم واحد، فلم يَرَ أوسفالد بدًّا من الذهاب إلى الغاب، وهي نزهة تعوَّدَها كل يوم، عسى أن تلينَ حبيبته فتبوح باسمها. فما تجاوز غير بعيد حتى رأى بعض البدويات وقد اجتمعن للحديث، فإذا بواحدة منهن تلفظ اسمه وتقول لجاراتها: «غدًا تُزَفُّ أرْتِمُويا إلى أوسفالد»، أرتمويا! إذن هذا هو الاسم المحبوب، أرتمويا، ما أعذب هذه اللفظة وألطفها وقعًا على السمع! أرتمويا، يا لها من صدفة سعيدة أعطته مفتاح السر! وبدلًا من أن يعود أدراجه ليُطلِع أمه عليه، أحب أن يكمل طريقه إلى الغاب ليفاجئ حبيبته وهو يظن أنه فتح فتحًا مبينًا. فلما انتهى إليها وصار على قاب قوسين أو أدنى، صاح أرتمويا، فأجفلت الفتاة وعلا وجهها اصفرار الموت وقالت بحزن يساوره شيء من الغضب: عرفت اسمي، فلا يمكن أن أكون لك. وقبل أن يحير جوابًا ناولته القيثارة وأسرعت إلى الفرار وهي تقفز كالظبي، وهو يجد في إثرها حتى وصلت النهر، فغطست فيه وغطس وراءها واختفيا في عباب الماء.

وأشرقت شمس الأحد وقُرِعت أجراس العيد وأقبل القوم على الكنيسة وكلهم مشتاق لرؤية العروسين، وكانت الورود البيضاء تملأ الكنيسة من باحة الدار إلى الهيكل، والعروسان في الوسط، جثتان هامدتان على سرير من الأزهار، وبينهما قيثارة مقطَّعَة الأوتار.

ﭬﻮلكشتين ١٩٢٠