تحديد الدين وبيان أصله في نظر الباحثين من الفرنجة
(١) بداية الاهتمام بهذا البحث وصلة ذلك بتكون علم اللغات
ندع هذا الصراع وتاريخه لنتجه إلى ناحية أخرى من نواحي الأبحاث العلمية الحديثة في الأديان، هي التي نقصد إلى دراستها، وهي ناحية تعريف الدين.
يمكن أن يقال في الدين ما قيل في اللسان من أن كل جديد فيه فهو قديم، وكل قديم فيه فهو جديد، وأنه منذ بداية العالم لم يوجد قط دين كله مبتدع، وإنا لنجد عناصر الدين وجراثيمه مهما سمونا في تاريخ الإنسانية إلى أبعد مدى مستطاع، وتاريخ الدين كتاريخ اللغة؛ يرينا في كل مكان ألوانًا متتابعة من التأليف المستحدث بين عناصر أصلية قديمة.
وإذا لم يكن تم وضع هذه الخطة لعلم الدين لعهد «ماكس مولر» في أواخر القرن التاسع عشر؛ فإن علم الدين لما يقم إلى اليوم على خطة ثابتة.
على أن جهود الباحثين في تاريخ الأديان لا تزال متواصلة في تعرف أصل الدين، ووضع تعريف له جامع مانع على حد تعبير المناطقة، ولا يزال الباحثون منذ القرن الماضي يحاولون أن يضعوا للأديان شجرة أنساب كالتي وضعوها للغات.
(٢) معاني الكلمة الأوروبية الدالة على الدين وأصل المادة اللاتيني
ومما استعانوا به على مقصدهم تعرف أصل المادة التي تدل على «دين» وتتبع المعاني المعروفة لكلمة «دين» نفسها.
- (١)
نظام اجتماعي لطائفة من الناس، يؤلف بينها إقامة شعائر موقوتة، وتعبد ببعض الصلوات، وإيمان بأمر هو الكمال الذاتي المطلق، وإيمان باتصال الإنسان بقوة روحانية أسمى منه حالَّة في الكون، أو متعددة، أو هي الله الواحد.
- (٢)
حالة خاصة بالشخص مؤلفة من عواطف وعقائد ومن أعمال عادية تتعلق بالله.
- (٣)
احترام في خشوع لقانونٍ أو عادةٍ أو عاطفةٍ، ولعل هذا المعنى الأخير هو أقدم هذه المعاني.
ولئن فصلت هذه المعاني ليسهل تحليلها، فإن الغالب أن يدل اللفظ عليها مجتمعة مع غلبة المعنى الأول في بعض الأحوال، وغلبة المعنى الثاني أحيانًا.
(٣) مذاهب علماء النفس ومذاهب الاجتماعيين في أصل الدين
وقد رأينا أن من معاني الدين المتعارفة معنى يجعله من موضوع علم الاجتماع، ومعنى يرده إلى علم النفس.
أما الذين درسوا أصل الدين من الوجهة «البسيكولوجية» فقد ذهبوا طرائق قددًا: فمنهم من يرى أن جرثومة الدين تتولد من الإدراك المغروز في فطرة الإنسان للعلية والمعلولية بين الأشياء، ومنهم من يجعل أصل الدين شعور الإنسان بأنه تابع لغيره وليس مستقلًّا، ومنهم من يرد أصل الدين إلى ما يلقى في روع الإنسان بالفطرة من وجود لا يتناهى، ومنهم من يرى أن الدين ينبعث من نزوع إلى الزهادة في الدنيا؛ ويقول بعض علماء النفس: إن هذا الحدث من أحداث الحياة «البسيكولوجية» ليس بسيطًا يمكن رده إلى سبب واحد بسيط من هذه الأسباب.
وأما علماء الاجتماع: فهم يرون أن الدين لا يخلو من معنى العاطفة النفسية، ولكنه لا يخلو أيضًا من الاتصال بشئون الجماعة؛ بل ينتهي الأمر بالعلماء الاجتماعيين الباحثين في تاريخ الأديان وأصولها إلى اعتبار الصبغة الاجتماعية في الدين أقوى وأرسخ من كل صبغة سواها.
(٤) التعاريف المختلفة للدين ونقدها
ولا يرضى دوركايم عن هذا التعريف؛ فإن أمر الغيب المتعالي عن العقول هو من غير شك ذو أثر عظيم في بعض الأديان، لكن هذا الأثر يتفاوت في أدوار التاريخ الديني. فقد وُجِدَتْ عصور تضاءلت فيها هذه الفكرة، وكان التوفيق بين العقائد الدينية وبين العلم والفلسفة غير عسير، كما حصل في أوروبا في القرن السابع عشر مثلًا؛ وعلى كل حال: فإن من المحقق أن معنى الغيب الذي لا يعقل ليس فطريًّا، ولا مركوزًا في طبع الإنسان، ولم يظهر في تاريخ الأديان إلا منذ عهد حديث، من أجل ذلك لا نجده في أديان الأمم الساذجة، بل لا نجده في بعض الأديان الراقية، فإذا أخذناه في تعريف الدين خرج من الحد أكثر أفراد المعرف؛ فلم يكن التعريف شاملًا كاملًا.
وهناك معنى آخر كثر ما حاولوا أن يعرِّفوا الدين به وهو: الألوهية؛ فالدين في رأي بعضهم هو ضبط الحياة الإنسانية عن طريق الشعور برابطة تصل بين الروح الإنساني وروح غيبي يعترف البشر بسلطانه على العالم كله وعليهم مع شعورهم باتصالهم به.
ويرى دوركايم: أن هذا التعريف ليس بمقبول أيضًا، فإنه إذا اعتبرت الألوهية بمعناها الضيق خرجت من التعريف أمور هي دينية بالبداهة، فأرواح الأموات والأرواح الأخر المتعددة الأنواع والمراتب التي يملأ بها الكونَ الخيالُ الديني في كثير من الأمم هي دائمًا موضع لمناسك، بل قد تكون أحيانًا موضعًا لاحتفالات تعبدية موسمية، وهي على ذلك ليست آلهة بالمعنى الحقيقي.
وقد حاول بعض العلماء أن يجعل هذا التعريف شاملًا فوضع عبارة «موجودات روحانية» مكان لفظ «إله»، فالدين على هذا هو: الإيمان بموجودات روحانية، وينبغي أن نفهم من الموجودات الروحانية موجودات دراكة لها قدرة تعلو على قدرة البشر.
ولا يرضى دوركايم عن هذا التعريف كذلك، ويرى أنه مهما يبدُ لنا واضحًا لما وقر في نفوسنا من أثر التربية الدينية؛ فإن هناك أمورًا لا ينطبق عليها، مع أنها لا تخرج عن دائرة الدين، فهذا التعريف ناقص غير شامل؛ وذلك أنه توجد أديان عظيمة خلو من فكرة «الله» ومن فكرة الكائنات الروحانية كما يشهد بذلك دين البوذية القديم الصحيح. فالبوذية لا تؤمن بإله يخضع لسلطانه البشر، ومهما قيل في أمر ألوهية «بوذا»؛ فإن هذا التأليه متأخر عما هو في الحقيقة أصل الديانة البوذية.
أما التعريف الذي يختاره دور كايم فهو يفصله على الوجه الآتي: تنقسم الأمور الدينية بطبيعتها إلى قسمين أصليين: عقائد وعبادات؛ فالعقائد: هي شأن من شئون الفكر، وهي عبارة عن علم، أما العبادات: فهي عبارة عن صور خاصة للعمل، ويميز بين هذين النوعين ما يميز بين العلم والعمل.
ولا يمكن تعريف العبادات وتمييزها من سائر الأعمال الإنسانية وعلى الخصوص الأعمال الخلقية إلا بطبيعة موضوعها ومتعلقها. والواقع أن النواميس الخلقية مفروضة علينا كفرض العبادات، لكن موضوعها ومتعلقها من نوع مختلف. فلا بد إذن من تعريف متعلق العبادات حتى يمكن تعريف العبادات نفسها. ولما كانت العقائد هي التي تبين لنا هذا الموضوع أو المبدأ الذي ترجع إليه العبادة؛ فليس من الممكن تعريف العبادات حتى تعرف العقائد.
وجميع العقائد الدينية المعروفة — ساذجة كانت أم غير ساذجة — تحتوي على ذاتي مشترك بينها، هو أن الأشياء كلها ظاهرة أو باطنة على مرتبتين وعلى نوعين متقابلين: مقدس وغير مقدس، فالمميز للمعنى الديني هو تقسيم العالم إلى مقدس وغير مقدس، والأشياء المقدسة هي المحرمة التي يميزها عن غيرها ويفردها تعلق النهي بها، بخلاف الأشياء التي ليست مقدسة؛ فإنها غير محاطة بسياج من هذه النواهي. فالعقائد الدينية هي العلم بطبائع الأمور المقدسة وما بينها من روابط والعلم بعلاقاتها بالأمور غير المقدسة.
أما العبادات: فهي نظم للسلوك تقرر كيف ينبغي للإنسان أن يكون بإزاء الأشياء المقدسة.
وليست الأمور المقدسة مقصورة على الآلهة والأرواح؛ فقد يكون التقديس لصخرة أو شجرة أو بئر أو بيت أو غير ذلك.
على أن تعريف الدين بهذا التمييز بين المقدس وغير المقدس ليس وافيًا في نظر دوركايم؛ لأنه يشمل أمرين مختلفين يحتاجان إلى تفرقة بينهما، وهما: السحر والدين. فإن الدين ينفر من السحر نفور السحر من الدين، والسحر نزَّاع إلى امتهان الأمور المقدسة، وهو في أفاعيله يعارض الأعمال الدينية، وإذا لم يكن الدين يحرم أفاعيل السحر فإنه ينظر إليها غالبًا نظرة ازدراء وإنكار.
فمعنى الدين لا ينفصل عن معنى الطائفة، وذلك يشعر بأن الدين يجب أن يكون شأنًا من شئون الجماعة.
وجملة القول أن الأستاذ «لالاند» يميز الدين بكونه يجعل في العالم إثنينية ويرتب العالم مراتب، فتعريفه للدين أعم من تعريفي «برونتيير» و«دوركايم».
ولعل الأستاذ «لالاند» لا يريد أن يقول: إن معنى الطبيعي والخارق للطبيعة هو معنى المقدس وغير المقدس؛ فقد شرح دوركايم الفرق بينهما بما لا يحتمل لبسًا، بل قد يكون غرضه أن المذهبين متحدان في اعتبار الدين قائمًا على التفرقة بين أنواع الموجودات التي يشملها الكون لا على وحدتها وتشاكلها.
وقد حذف الأستاذ «لالاند» من تعريف الدين قيد الجمع بين طائفة من الناس، وهو القيد الذي زاده «دوركايم» ليخرج السحر، ويظهر من ذلك أنه ليس بحتم عند «لالاند» أن تكون الأمور الدينية شأنًا من شئون الجماعة.
وتعريف الدين الذي اختاره الأستاذ «لالاند» هو أيضًا يمكن أن يكون محلًّا للمناقشة؛ فإن اعتبار الموجودات كلها ليست من نوع واحد ولا في مرتبة واحدة، لا يخرج بعض مذاهب الفلسفة ولا بعض العلوم التي قد تعترف بأن في الكون أنواعًا هي أسمى من أنواع في طبيعتها من غير أن يجعلها ذلك دينًا، اللهم إلا إذا لوحظ في هذا التعريف معنى الإيمان لا الإدراك العلمي، فحينئذٍ يسلم من الاعتراض ويصبح أرجح تعريفات الدين كما هو أحدثها فيما نعلم.
(٥) حيرة العلماء في تعريف الدين ودلالاتها
على أن هذه الحيرة — حيرة العلماء في تحديد عناصر الدين — وهذا الخلاف بينهم على وضع تعريف يعرب عن حقيقته، كل أولئك يدل على أن العلم لم يكشف الحجب عن الدين وأسراره.
وربما كان من غرور العقل البشري أن يزعم لنفسه القدرة على هدم بناء متين متغلغل الأسس في الفطر الإنسانية من قبل أن يعرف مواد هذا البناء، أو يعرف كيف تم بناؤه.