مقدمة
في مثل هذا اليوم من العام الماضي صدر الجزء الأول من هذا الكتاب، وكان لصدوره تأثير في عالم الأقلام لأهمية موضوعه وحداثة عهده في هذا اللسان، فقرظته الصحف وكتبت فيه المقالات الانتقادية، ووردت إلينا كتب الفضلاء من رجال العلم في مصر وسوريا وأوربا وأمريكا وفارس والهند، مشحونة بعبارات التنشيط والاستحثاث على المثابرة في هذا السبيل، وفيهم مَن لم يكن يظن تأليف هذا الكتاب ممكنًا لقلة المصادر المساعدة على ذلك، فزادنا هذا كله نشاطًا وإقدامًا على هذا العمل الجليل.
ومن غريب ما اتفق لنا في أثناء تأليف هذا الكتاب أننا أعلنَّا عزمنا على تأليفه ونحن لا نتوقع أن يجتمع عندنا من مواده ما يزيد على مثل هذا الجزء، فلما شرعنا في درس الموضوع والتنقيب عما ينطوي تحته من الأبحاث الفلسفية التاريخية مما يتعلق بعواملِ التمدنِ الإسلامي، انكشف لنا من أحوال ذلك التمدن ما لم يكن يخطر بالبال، فاتسع المجال للقلم فرأينا الموضوع يشغل أربعة أضعاف ما قدرناه، فأصدرنا الجزء الأول وفيه مقدمات تمهيدية عن حال العرب قبل الإسلام إلى نهضتهم الأخيرة، ثم ظهور الإسلام وانتشاره ونشأة الدولة الإسلامية وتواريخ مصالحها وجندها وبيت مالها، وقلنا في مقدمة ذلك الجزء إننا سننشر بقية الكتاب في ثلاثة أجزاء أخرى في مثل حجمه.
فلما بدأنا كتابة الجزء الثاني زاد المجال اتساعًا ولم يعد يكفي الباقي منه أربعة أو خمسة أجزاء غير هذا، بحيث تزيد أجزاء الكتاب كلها على ستة أو ربما سبعة أجزاء مما لا يمكن تحديده إلا بعد الفراغ من كتابته.
- (١)
سعة المملكة الإسلامية.
- (٢)
اشتغال الناس في الزراعة وتعمير البلاد.
- (٣)
ثقل الخراج المضروب.
- (٤)
صدق العمال في توريد المال المجموع.
- (١)
قلة الموظفين.
- (٢)
عدم وجود الدين على الحكومة.
- (٣)
اقتصاد الخلفاء الأولين.
- (١)
ضيق المملكة.
- (٢)
تخفيض الخراج المضروب.
- (٣)
استئثار العمال بالجباية.
- (٤)
انشغال الناس بالفتن عن العمل.
- (٥)
تحول أكثر البلاد إلى ضِياع.
- (١)
إسراف الخلفاء ونسائهم، وفيه بحث فيما بلغت إليه ثروة نساء الخلفاء.
- (٢)
كثرة أبواب النفقة في الدولة.
- (٣)
زيادة الرواتب، وتحت هذا الباب تفصيل عن تاريخ رواتب موظفي الحكومة من العمال والكتاب والوزراء والقضاة، ثم أهل الخلفاء وحاشيتهم فالجند، ورواتب أخرى.
- (٤)
النفقة على البيعة.
- (٥)
استئثار رجال الدولة بالأموال لأنفسهم، ويتفرع من ذلك بحث عن حال الوزراء في عصر الاضمحلال وتفشي داء الرشوة فيهم، وما يجتمع إليهم من الأموال وبيت مال الحكومة فارغ والخلفاء يشكون الفقر، وما آل إليه ذلك من مصادرة الوزراء وأخذ أموالهم بالقوة، وبحثنا مثل هذا البحث أيضًا في العمال والكتاب والحجاب، وختمنا هذا القسم بخلاصة إجمالية للموضوع.
ثم عمدنا إلى النظر في القسم الثاني وهو «ثروة المملكة الإسلامية» أي ثروة البلاد وأهلها، فتكلمنا إجمالًا عن حالة البلاد في ذلك العصر، وعن اختصاص المدن بالثروة وأسباب انحصارها في الفئة الحاكمة ومن ينتمي إليهم من أهل الوجاهة والنفوذ وسائر أهل البلاد في فقر مدقع، وختمنا الكلام بوصف أشهر المدن الإسلامية في مصر والشام والعراق والمغرب والأندلس، كالبصرة والكوفة والفسطاط وبغداد وغيرها، وما بلغت إليه من الثروة والعمران في عهد ذلك التمدن.
•••
وقد توسمنا في مجمل ما قرأنا من التقاريظ والانتقادات رغبة حضرات الكتاب في ذكر المصادر، وكتب إلينا جماعة من أهل الفضل الغيورين على العلم يستحثوننا على ذلك، وبينهم بضعة من علماء الهند وفارس نذكر منهم عالمًا كبيرًا من علماء الهند عرف قراء العربية فضله من بعض ما نشر بينهم من آثار علمه، نعني صديقنا شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني ناظر العلوم والفنون في حيدر أباد الدكن، فإنه من أوسع الناس اطلاعًا على التاريخ الإسلامي وآدابه، فلما اطلع على الجزء الأول كتب إلينا كتابًا يسفر عن تقديره هذا الموضوع حق قدره، ولكنه انتقد إغفالنا ذكر المصادر في ذيول الصفحات، قال: «استلمت كتاب تاريخ التمدن الإسلامي بغاية الشوق؛ لأن موضوع الكتاب يهمني بنوع خاص، ولم أعرضه على أحد إلا أُعجب به غاية الإعجاب، وظني أن تأليفكم هذا يترجم إلى لساننا الأردو (الهندستاني) ولا شك أنه يقع موقع القبول في البلاد الإسلامية كلها، ولكنني أنتقد عليكم أمرًا لا يسعني كتمانه، وهو أن دأبكم في التأليف أنكم تكتفون بذكر مصادر الكتاب في أوله إجمالًا من غير التزام الاستشهاد في كل محل وموضوع، وفيه مفاسد كثيرة، منها أننا رأينا كثيرين من مستشرقي أوربا يذكرون أمورًا مهمة من المسائل العلمية أو الاختراعات وينسبونها إلى العرب، فنغتر بذلك ويذهب بنا الفخر كل مذهب ثم إذا راجعنا الأصل وحققنا الأمر يظهر أنهم استنوقوا الجمل وما كان هناك شيء يذكر ولا مأثرة تنقل، لا نقول إنهم يتعمدون الكذب، ولكنهم يغلطون في الاستنباط، فلو كانوا يذكرون مصادر الرواية ومآخذها لكان يسهل لنا المراجعة إذا مست الحاجة، ومنها أن كتب التواريخ لها مدارج ومراتب، فما لم تذكر أسماء الكتب بالخصوص لا يتميز جيد الرواية من رديئها، ولا أقواها من أضعفها.» ا.ﻫ.
•••
فلما عمدنا إلى كتابة هذا الجزء رأينا أن نعود إلى رأينا الأول فنذيل صفحاته بالمصادر التي اعتمدنا عليها مع تعيين الكتاب والجزء والصفحة.
واختصرنا في ذلك جهد الطاقة ضنًّا بالمكان، ولا يخفى ما يقتضيه هذا العمل من التدقيق والمراجعة، وفي تقليب صفحات هذا الجزء قبل تصفحها دلالة كافية على مقدار ما بذلناه من العناء في تأليفه، وخصوصًا لأنه أول كتاب في هذا الموضوع كتب على هذا النسق.
وليس تاريخ التمدن الإسلامي من الكتب التي يلهو بها العامة للتسلية، ولا من الكتب الفكاهية كالروايات ونحوها، وإنما هو موضوع تاريخي اجتماعي يبين أسباب نشوء المدنية وأسباب انحطاطها، ويتخلل ذلك أبحاث فلسفية في علاقة تلك الأسباب بعضها ببعض، وما ينجم عنها من العبرة والموعظة، فهو من الكتب التي يقرؤها الخاصة أهل الاطلاع، ولم نعمد إلى تأليفه إلا بعد أن أعددنا أذهان القراء لهذا الموضوع بما نشرناه بين ظهرانيهم من الروايات التاريخية الإسلامية منذ عدة أعوام، مما تلذ قراءته للخاصة والعامة بما تحويه من الحقائق التاريخية في سياق الحكاية الغرامية، فلما تهيأت الأذهان ولمسنا عند القراء شوقًا إلى مطالعة التاريخ الإسلامي، عمدنا إلى تأليف هذا الكتاب وهو تاريخ الإسلام الحقيقي؛ لأن تاريخ الأمة لا يقوم بسرد حروبها وفتوحها، وإنما هو تاريخ نشوئها وتنظيم حكومتها وتاريخ ثروتها وعلومها وآدابها ونظامها الاجتماعي ومصيرها، أو هو تاريخ تمدنها، ولنا فيما بسطناه من وعورة هذا المسلك عذر على ما قد يعتور مشروعنا من النقص، والكمال لله وحده.