علم النفس (سيكولوجيا)
كان مما لفت نظر الإنسان وأيقظ رأيه واسترعى بحثه ومرَّن فكره — كما ذكرنا — هذا العالم الذي تنوعت أشكاله وتغيرت ظواهره، الحافلُ بمناظره، المحيرُ بألغازه، الذي بهر العقول بجماله وروائه، وقد كان أول باعث على أن يفكر فيه تفكيرًا فلسفيًّا رغبته في فهمه وإخضاعه لأمره، وما اعتراه من الدهشة التي أخذت بحواسه، لذلك بدأ الإنسان بالفلسفة الطبيعية التي تميل بالمرء إلى حل معميات هذا العالم، وتلا النظر في العالم المادي ما هو أهم للإنسان؛ وهو النظر في نفسه.
أثبت العلم أن الأرض ليست إلا كوكبًا صغيرًا سيارًا يدور في فضاء غير متناهٍ، ومع هذا فالإنسان من قديم الزمان إلى الآن لا يزال يرى نفسه خير موجود في الدنيا، ومهما اقتنع بأن القبة الزرقاء التي تتلألأ بالنجوم لم تخلق من أجله، وأن السيارات غير الأرض مسكونة كأرضه، فلن يعدل على أن يعتقد في نفسه أنه أرقى مخلوق، والسبب في هذا أن ارتقاء عقله جعله يشعر تدريجيًّا بوجوده وبعلمه — أو بحاجته إلى العلم — وبشعوره ورغباته وأفكاره، وبأن له قدرة على أن يبدي أفكاره، وأن يفضي بها إلى غيره، وعلى الجملة جعله يدرك أنه وحده عالَمٌ في عالَمٍ.
وتُسمى المباحث التي تتعلق بالنفس أو العقل: علم النفس أو سيكولوجيا؛ من «سيكي» نفس و«لوجوس» علم، وهو يبحث في الإنسان من الجهة الخُلقية والعقلية لا من الجهة الجسمية.
ولسنا نتعرض هنا للبحث فيما إذا كان العقل أو النفس شيئًا غير الجسم مستقلًّا عنه، أو كانت قوة التفكير التي ميزت الإنسان عن غيره من الحيوان، والتي أخذت في النمو شيئًا فشيئًا برقي النوع الإنساني من حالة البداوة إلى حالة المدنية، تابعة لحالات الإنسان الجسمية؛ فإن رسالة تؤلف سواد الناس لا يتسع المجال فيها لهذا البحث؛ ويكفينا هنا أن نذكر أن العلاقة بين العقل والبدن، وإن شئت فقُل بين أعضاء البدن الظاهرة والأخرى التي يظهر أنها خفية، كانت موضع اهتمام عظيم في العصور الحديثة أدَّى إلى كثير من النتائج العلمية الهامة، ومن أشهر رجال هذا العلم «هَكْسِلي» و«بخنر» وغيرهما.
وما دامت العلاقة بين الفكر والبدن قائمة، وما دام المخ يؤدي وظائفه، فإننا نعرف، ونفكر، ونريد، ونرغب، ونحس، ونشعر بصدور هذا عنا.
وعلم النفس ينظر في الأعمال التي نعملها والطريق التي نتبعها للوصول إلى ذلك الشعور، ويبحث في حقيقة القوى التي تفعل ذلك؛ أعني قوة المعرفة، وقوة الشعور، وحدود الفكر، ومقدار الثقة بصحة التفكر، ووظائف العقل المختلفة التي بها ندرك ونحكم ونتخيل.
فعلم النفس إذًا يبحث في عمل العقل.
قال الأستاذ «سَلِي» في كتابه (العقل البشري): «إن أهم ما يقصده هذا العلم أن يشرح ظواهر الشعور الراقي في الإنسان، وهذا الشرح العلمي يقتضي ترتيبًا وتبويبًا للعوامل المختلفة في الحياة العقلية، وشرحًا لِمَنشئها وارتقائها، فليس الغرض من هذا العلم أن يصف الظواهر العقلية فقط، بل وأن يتتبع أصلها وتاريخها.»
علم النفس يبحث في قوى الالتفات، والإحساس، والإدراك، وقوة الحافظة، والذاكرة، والإرادة وحريتها، والخيال، والوهم، وفي الشعور والعواطف، وفي اللذة والألم، وفي الشم والذوق.
فهو يبحث في أعمال العقل ليستكشف قوانينه وطرقه التي عنها تصدر الظواهر المتقدمة، كما أنه يبحث في طبيعة العقل وحقيقته وجريه على سَنَن واحد، وروحانيته، وعلاقته بأعضاء الجسم واعتماده عليها، وتبادل الفعل والانفعال بينه وبينها.
قال الأستاذ «هَكْسِلي»: «إن مثل الباحث في النفس «السيكولوجي» مثل المُشَرِّح، فكما أن المشرح يفصِّل الأعضاء إلى أنسجة، والأنسجة إلى خلايا، فكذلك السيكولوجي يرجع الظواهر العقلية إلى حالات الشعور الأولية.» فالعالِم في وظائف الأعضاء يبحث في الطرق التي بها يؤدي البدن وظائفه، وعالِم النفس يبحث في قوى العقل، وكما أن العلوم الطبيعية تبحث في العالَم المادي الخارجي بواسطة الحواس، كذلك علم النفس يلاحظ ويبحث بواسطة قوة خاصة تسمى «الحس الباطني».
وعلى الجملة فعلم النفس يبحث الحياة العقلية، قابلة أو فاعلة، وفي الشعور بكل مظاهره، وما يبحث عنه علم النفس من ظواهرَ وحقائقَ مستمدٌّ إما من الشعور وإما من الإدراك بالحس.
إن فكرنا ومعرفتنا وإحساسنا إما نتيجة قوة إدراك باطنية، وإما نتيجة انعكاس ما ندركه من الخارج بواسطة الحواس؛ فنحن تارة نوجه نظرنا إلى عمل ذهننا عندما نعمل أو نفكر أو نحس، وتارة نبحث الظواهر العقلية في غيرنا، فندرس نظراتهم وإشاراتهم وأعمالهم وأقوالهم، ونستنتج ما تدل عليه تلك المظاهر من الفكر والحس قياسًا على ما يبدو علينا عندما نفكر مثلهم أو نحس كإحساسهم.
قال الأستاذ سَلِي: «إن لدرس ظواهر العقل طريقتين؛ إحداهما: توجيه عنايتنا إلى الأعمال العقلية عند حدوثها في ذهننا، أو عقب ذلك مباشرة، كما ألاحظ نفسي عند الغضب مثلًا فأرى تسلسل الأفكار وتلونها بألوان خاصة، وما ينشأ عن الغضب من تحيز وميل عن الحق، وتسمى هذه الطريقة «ملاحظة الباطن»، والطريقة الأخرى: أن ندرس أعمال العقل في غيرنا بما يظهر عليهم، فنلحظ الارتباط بين أفكارهم مما نسمع من كلامهم، ونعرف الباعث على أعمالهم، وتسمى هذه الطريقة «ملاحظة الظاهر»؛ لأننا نتوصل إلى معرفة الحقائق العقلية بواسطة الظواهر الخارجية التي تدرك بالحواس من مثل: كلمة تقال، أو صرخة تسمع، أو حركة ترى، أو لون يتغير.»
والبحث في علم النفس (سيكولوجيا) سابق على وضع اسم له؛ فإن هذا الاسم لم يستعمل إلا في آخر القرن السادس عشر للميلاد، مع أنا ذكرنا فيما قبل أن «سقراط» أو «طاليس» قال: «اعرف نفسك»، وألف «أرسطو» كتابًا يحتوي ثلاث مقالات عنوانه (في النفس)، بحث فيه في القوى العقلية للإنسان وعَدَّها عين النفس والحياة.
ثم جاء الفيلسوف الفرنسي رُنِيه ديكارت ١٥٩٦–١٦٥٠ فوجه هذا العلم وجهة جديدة، ومما يؤثر عنه أنه أجاب من سأل: «كيف أعرف أني موجود؟» بقوله المشهور: «إني أعرف أني أفكر، وأشعر بتفكيري، فأنا أعرف أني موجود.»
ولما كان علم النفس يبحث في أعمال العقل بحثًا عامًّا اجتهد في تعرف القوانين والقواعد التي تهدي الفكر وتعصمه من الخطأ، وأخذ يبحث في النظام الذي يسير عليه الفكر ليصل إلى نتيجة صحيحة؛ فنشأ من ذلك فرع من علم النفس انفصل عنه وسمِّيَ بعلم المنطق.
هوامش
وكلمة أنثروبولوجيا يونانية الأصل تتركب من «أنثروبوس» ومعناها الإنسان، و«لوجوس» ومعناها علم، فمعنى أنثروبولوجيا علم الإنسان، وهو يبحث في كل ما يتعلق بالإنسان؛ فيبحث في أصله، وتدرجه في الرقي، وكيف انتشر على وجه الأرض. والبحث في جسم الإنسان «الذي هو فرع من الأنثروبولوجيا» تفرع إلى علوم كعلم التشريح والطب، وكلها تسمى عادة (سوماتولوجيا) من «سوما» جسم، و«لوجوس» علم؛ أي علم الجسم، وهو مما يدخل في دائرة العلوم الطبيعية. والبحث في الخصائص المميزة لأنواع الإنسان المختلفة وعلاقة الأجناس البشرية بعضها ببعض يكوِّن علمًا خاصًّا يسمى «أثنولوجيا» من «أثنوس» شعب، و«لوجوس» علم، فالأثنولوجيا علم الشعوب (المؤلف).