علم الجمال
هناك فرع آخر من فروع علم النفس يبحث في الشعور الذي ينبعث عن الشيء الجميل، والذي يستحق الإعجاب، أو عكسهما؛ أعني القبيح والمُزدَرَى.
إن الجميل ترتاح له النفس، وينشرح له الصدر، أما القبيح فينشأ عنه شعور بألم أو نفور، قال «نِيتشه»: «كل ما كان قبيحًا يضعف الإنسان ويقبض صدره؛ إذ يذكره بالانحطاط والخطر والوهن.»
فإحساس الإنسان بشيء من الضيق يؤذن بحدوث شيء «قبيح»، وقد ذكرنا أن الجميل ترتاح له النفس، ولكن ليس كل ما ترتاح له النفس جميلًا؛ ذلك لأن اللذة التي تحدث من الجمال نتيجة تأثير في العقل بواسطة الحواس، ولست أعني كل الحواس، وإنما أعني الحواس الراقية، وهي حاستا السمع والبصر، فليس كل ما يلذ لحاستي اللمس والشم دائمًا جميلًا، فلا شيء من الجمال في فاكهة لذيذة عند أكلها، ولا في مطعوم عندما نطعمه؛ إذ لا يوصف ذوق تفاحة ولا شم مشموم بأنه جميل، وإنما يقال: طعام مستطاب، ورائحة طيبة.
والجميل أيضًا يغاير النافع؛ فإن الشيء الجميل حقًّا الذي يمنحك لذة لا تكافئها لذة بالتأمل في محاسنه، أو بالإصغاء إلى تناسق نغماته، ليس بنافع عادة — أعني أنه ليس بنافع ماديًّا وإن كان من المحتمل أن يكون نافعًا من الوجهة الأدبية — وما يحدث من اللذة والسرور عند التأمل في الجمال مقصود لذاته لا لشيء آخر وراءه يرغب فيه، وقد كان الفيلسوف الألماني «كانت» أول من أبان أنه مقصد لا وسيلة لغيره.
علم الجمال — وإن شئت فقل: «علم الجميل» — هو علم يبحث في الشعور والإحساس واللذائذ التي تبعثها مناظر الأشياء الجميلة. وهذا التعريف لا يسلم من النقد إن لم يكن خطأ محضًا؛ فإن هذا العلم لا يبحث في الجميل فقط، بل يبحث في القبيح أيضًا، كما أنَّا إذا تكلمنا عن «علم الحروب» فلسنا نعني علم النصر، وإنما نعني علم الحركات الحربية التي ينبغي أن تؤدي إلى النصر، وربما أدت إلى الهزيمة.
الجميل يبعث في النفس الشعور بالحب والجاذبية واللذة والسرور، والقبيح يبعث الشعور بالكراهية والنفور، ولكن نرى جمال الطبيعة الرائع، والنجوم التي لا عداد لها سابحة في الفضاء منثورة نثر الرمال في الصحراء، والجبال الشامخة، والبحار الشاسعة، وشروق الشمس وغروبها فنطلق عليها اسم «الجميل»، وهي مع ذلك تحدث في النفوس حزنًا عند التأمل فيها، وتبعث نوعًا من الكآبة — أو الوجد — يصح لنا أن نسميه ألمًا لذيذًا، وسبب هذا أننا نُرَاعُ أمام هذه الأشياء باللانهاية، ويعلونا الشعور بأنَّا لم نعد في حضرة «جميل»، بل في حضرة «جليل»، وهذا يحدث في النفس أولًا شعورًا بالضعة، ثم يتلوه شعور بالرفعة.
والمناظر المحزنة تبعث في النفس لذة مشوبة برحمة، لذة يخالطها شيء يشبه الألم، وسبب هذه اللذة أن للعواطف الأخلاقية عملًا في هذه الأشياء، وعلم الجمال يبحث في كل هذه الإحساسات، فهو علم الشعور والعواطف والانفعالات.
عَمَّ ينبعث الشعور بالجمال؟ هل هناك جمال قائم بنفسه، أو أن الشعور بالجمال يعتمد على ما نجده من أنفسنا في الشيء، وعلى ما يظهر به الشيء أمام أعيننا، ومن ثم كان الصوت أو المنظر يسرُّ إنسانًا ولا يسرُّ آخر بل ربما يسُوءُه؟ ما خواص الحركات والأشياء التي يكون بها الصوت جميلًا منسقًا يلذ السامعين؟ هل هناك عنصر مشترك في كل ما هو جميل؟ هذه المباحث وأمثالها هي التي يشتغل علم الجمال بدرسها.
قال الأستاذ «بين» في كتابه (الانفعالات والإرادة): «إن الفكرة الأولى في الجمال تنشأ عن الألوان، فالطفل قبل أن يشعر بلذة من جمال شكل أو جمال حركة تأخذ ببصره الألوان الزاهية والصور البديعة، وإني أميل إلى تقرير ذلك عند القرويين؛ فإنه تغلب عليهم هذه الفكرة في الجمال حتى في تقدير جمال النساء.»
ويوضح هذه الفكرة أن الأجناس البشرية الأولى والأشخاص الذين لا يزالون في طور الانحطاط ينجذبون نحو الألوان الزاهية في الجماد والحيوان.
إن من أخذوا بحظ قليل من الرقي ولم يصلوا إلى حد أن يوجهوا نظرهم نحو أنفسهم يميلون إما إلى الألوان القوية (كالأحمر والأصفر) أو الألوان المتنوعة، أما الراقون المهذبون فيميلون إلى الألوان المتلائمة والخفيفة، تعجبهم وحدة الفكرة التي تنسق الألوان المختلفة والمظاهر المتعددة.
والقوة التي بها نميز الجمال ونقومه هي التي نسميها بالذوق، وهي ملكة في الإنسان بها يشعر بلذة الجمال، مُنِحها الناسُ على تفاوت فيما بينهم، يُرقيها التهذيب والمدنية في الفرد والمجتمع إلى درجات متفاوتة.
- أولًا: أن الخيوط العصبية ليست سواء في التركيب عند الناس، وأن الاختلاف بينهم في المزاج والتربية والعادات كبير.
- وثانيًا: أن الناس مختلفون في درجة الرقي العقلي — وليست الحواس وحدها تكفي في إدراك الجمال، بل لا بد معها من العقل — فالحواس وحدها تستطيع أن تدرك الحركات والأشكال والأصوات والألوان على انفرادها، ولكن لا بد معها من الفكر والشعور ليربطا بعضها ببعض، ويكوِّنا منها مجموعة واحدة متناسقة الأجزاء، وبهذا أيضًا يختلف الإنسان عن الحيوان؛ فالحيوان يستطيع أن يدرك ألوان صورة ذات ألوان كصورة العذراء لروفائيل، ويسمع الشعر، ولكن لا يدرك ما يدل عليه ذلك مِن عِشقٍ، ولا يشعر بما يُمثِّل من عواطف.
والتأثر — طبيعيًّا كان أو عقليًّا أو أخلاقيًّا — إذا شُرح بخط أو كلام أو صوت أو تصوير أو حفر أو بناء أو شعر أو موسيقى سمي فنًّا؛ فالفن ملكة يقتدر بها على إظهار العواطف والشعور في مظهر خارجي؛ لذلك كان الشعور بالجمال الذي هو صفة قابلة عند الإنسان العادي قوة فاعلة عند الفنان؛ فإن القوة إذا زادت حملت على الفعل وكان صداها العمل — والفنان يستطيع بواسطة الأحجار والألوان واللغة والصوت أن يشرح ما لا نراه، فيستطيع أن يشرح لنا المثل الأعلى فيُرقِّي بذلك نفوسنا ويزكيها ويهيج فينا أسمى العواطف، ويستخرج منا خير الأفعال، والفن يخاطب العقل كما يخاطب القلب، وعلى الجملة يخاطب أعماق النفس الباطنة وكل قوة فينا. الفنان يجمع خواص كل عاطفة وفكرة وملامح، ويوضح لنا منها ما لم نكن نفهمه من قبل، وهو يرى ما لا يراه غيره، فيرى المثل الأعلى للشيء ويمثله — وهنا تعرض لنا أسئلة؛ وهي: هل الفن مقلد فقط فيمثل بأمانةٍ المناظر المحسوسة؟ وهل للفن غرض يرمي إليه، أو أن الفن للفن؟ هل هو مستقل عن الحاسة الأخلاقية أو يجب أن يكون على وفاق معها؟ هذه مسائل شغلت عقول الفلاسفة ونشأت منها نظريات مختلفة منها «مذهب الواقع» و«مذهب الكمال».
فمذهب الواقع يرى أن الفن يرمي إلى تقليد الطبيعة كما هي، وعلى الأقل إلى القرب منها جهد المستطاع، ومذهب الكمال يرى أن الفنان إذا أراد أن يقلد الطبيعة يجب ألا يقلدها تقليدًا تامًّا، بل يتصور الكمال فيها ويخرجها إلى الوجود مازجًا فيها الواقع بتصوراته وعواطفه، يحاكي الطبيعة ومع ذلك يُعَدِّلها، يختار من الأشياء ويوفق بينها ويخرجها للناس مترجمًا عمَّا في نفسه؛ فهذا المذهب يرى أن عمل الفن أن يمثل المناظر الأصلية أو الأخلاق الفاضلة أو الآراء العظيمة بخير مما هي في الواقع، ويجعلها أعظم تأثيرًا في العقول من حقيقتها، يرى أن الفنان تتملكه العاطفة فيحولها إلى قوة عاملة، فيمثل الشيء لا كما هو ولكن كما يدركه.
والموضوع الآخر هو: هل الفن يجب أن يخضع للغرض الذي يرمي إليه علم الأخلاق أو أنه فوق ذلك؟ ذهب قوم ومنهم «رسكن» إلى أن الفن يجب أن يكون أخلاقيًّا، وأن أهم ما يجب على الفنان أن يشرك الناس معه في عواطفه الشريفة، وليس هناك شيء وراء الأخلاق يصح أن يقصد من الفن، وذهب آخرون إلى أن الفن إنما يبحث عن الجميل لا عن شيء وراءه، إنما يهم الفن جمال الشكل، أما الموضوع فليكن ما يكون؛ ليكن رذيلة أو جريمة، وذهب بعض علماء الجمال إلى أبعدَ من هذا فقرروا أن «علم الجمال أعلى شأنًا من علم الأخلاق»، وأن النظر في الجمال والبحث فيه أرقى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان، وأن ذوق الألوان أهم في رقي الإنسان من الحاسة التي تدرك الخير والشر.
أما في القرون الوسطى فلم يوجهوا أي التفات إلى «علم الجمال»، ثم كان لِمَا اشتهر به الإنجليز من الذوق الفطري أثر في الفلسفة الإنجليزية وفي نظريات علم الجمال؛ ففي الفلسفة كانت همة فلاسفتهم موجهة إلى التجارب ولم يكونوا يمعنون النظر في الأشياء نفسها، وإنما في تأثير هذه الأشياء في حواس الإنسان وطابعه وطبيعته، وكان علم الجمال عندهم فرعًا من فروع الفلسفة التي اهتموا بها، وفي علم الجمال كان أول بحث علمائهم في التأثير الذي يحدثه التأمل في الجمال، ثم انتقلوا منه إلى البحث في الصفات التي يجب أن يتصف بها الشيء ليكون له ذلك التأثير.
ومن الفلاسفة الذين رقوا نظريات هذا الفرع من الفلسفة: «لوك» و«كدورث» و«هوم» و«هُوَجارت» و«برك» و«شافتسبري» و«هتشسون» و«ريد»، ومن الألمان: «فنكلمان» و«لسنج» و«هردر» و«كانت». و«كانت» هو القائل في كتابه (نقد العقل المجرد): «يجب ألا نبحث أولًا في الجميل نفسه، بل في حكمنا الشخصي وذوقنا.» وهو الذي قرر — كما ذكرنا قبلُ — أن لذة الجمال يجب أن تكون مقصودة لذاتها لا لغاية وراءها، وجاء الشاعر «شِلر» فرقى نظريات «كانت»، وكان يرى أن حاسة الجمال ليست إلا عند الإنسان، وقد تبين خطأ هذه بواسطة «علم النشوء والارتقاء»، ومن آراء شلر أن أصل الفن هو ميل الإنسان إلى اللعب، وقد بُحثت هذه النظرية بعدُ بحثًا أوسع مما ذكره شلر. وهنا يحسن بنا أن نذكر من الفلاسفة — غير من ذكرنا — «هجل» و«شلنج» و«شوبنهور» و«فخنر» الألمانيين، و«تِين» الفرنسي، و«رَسْكِن» الإنجليزي، و«هَيْبرج» الدانيمركي، و«بيلنسكي» الروسي إلى غيرهم ممن لا تسعه هذه الرسالة.