علم الاجتماع (سسيولوجيا)
«ليس خيرًا للإنسان أن يعيش وحده» ولا نعيم الجنة نفسه يلطف وحشة الوحدة، بل ومعيشة الإنسان وحده ضد طبيعته، وهو محتاج إلى بني جنسه لسد حاجاته الطبيعية، ومعاونته على ضروريات الحياة؛ ولهذا اجتمع معهم وتعارف بهم وحالفهم، وإنا إذا تتبعنا تاريخ الإنسان من أقدم عصوره لوجدناه في أي زمان ومكان يتجنب الوحدة ويألف الاجتماع، فيعيش في جملة جمعيات: في أسرة، وفي فصيلة، وفي عشيرة، وفي قبيلة أو أمة، ويشترك مع غيره في أنواع شتى من العمل.
وبعد، فما ظروف الأحوال التي اقتضت اجتماع الناس؟ وبأي شكل كان اجتماعهم؟ ما أنواع الأعمال التي يشترك فيها الإنسان مع غيره؟ كيف يؤثر الناس بعضهم في بعض؟ ما أنواع العلاقات التي بينهم؟ وأخيرًا ما القوانين التي بها ترقى الحياة الاجتماعية؟ هذه الأبحاث التي تفيد الإنسان أعظم فائدة — كما قال «كومت» — هي التي تسمى «علم الاجتماع»، ولئن كان من فروع الفلسفة ما يبحث في أصل الكائنات وعللها ومبادئها (كعلم ما بعد الطبيعة)، وما يبحث في الإنسان من حيث شخصه، فيبحث في أصله وعلاقته بسائر الحيوانات (كعلم الإنسان – الأنثربولوجيا)، وما يبحث في أعمال روح الإنسان من حيث هو كائن ذو شعور، وفي سعيه وراء معرفة نفسه (وهو علم الأخلاق والنفس)، فهناك ما يبحث في الإنسان من حيث علاقته بالمجتمع الذي فيه ولد، كما يبحث في الظواهر التي نشأت عنها المعيشة الاجتماعية (وهذا هو علم الاجتماع)، فهو ذلك النوع من البحث الذي يشمل علم الجمعية والاجتماع أو الإنسانية مجتمعة، وإن شئت فقل: الإنسانية موحدة أو مؤلفة من وحدات الأفراد الذين توثقت الرابطة بينهم على نحوٍ ما، وهو ينظر إلى مجموع النوع الإنساني على ما هو عليه، وكما كان، وكما سيكون، ويوضح أعمال الجمعية البشرية وتفاعل القوى الاجتماعية، وبعد أن يستكشف القوانين التي بها ترقى تلك القوى يجتهد في تنظيمهما لخير المستقبل، ويمكننا الآن أن نقول: إن علم الاجتماع يحاول استكشاف القوانين والمبادئ وسر الظواهر الاجتماعية، ويستخدم ذلك في خير الإنسان.
جاء بعده «توماس هوبز» وكان مما كتبه «رسالة في الجبر والاختيار» بحث فيها أبحاثًا أخلاقية، وأبحاثًا فيما وراء المادة، وقرر فيها أن الإنسان — كسائر المخلوقات — مجبور خاضع للقَدَر، وبعبارة أخرى لإرادة الله، وأن المصلحة أو الفائدة الشخصية أعلى قاضٍ يفصل في الأخلاق وفي أي شيء آخر، وقد طبق نظرياته هذه على السياسة، فعنده أن نظام الطبيعة نظام حرب عام، كل يحارب كُلًّا ليبقى، «والحق» «للقوة». ولمحافظة الإنسان على نفسه، ووضعِ حدٍّ لهذا النزاع، وتلطيف نظام الطبيعة بالاجتماع؛ تعاقد الناس فيما بينهم نوع تعاقد على إنشاء «حكومة»، وليس القصد منها إلا حماية حياة الأفراد وملكيتهم، فيجب على الأفراد أن يعدوا إرادة الحكومة أسمى قانون، ولا تستطيع الحكومة الوصول إلى تحقيق غرضها إلا بخضوع الرعية خضوعًا تامًّا، ومن أجل هذا يعد «هوبز» مؤسس نظرية «العَقْد».
وذهب «مونتسكيو» في كتابيه: (عظمة الرومان وانحطاطهم)، و(روح القانون) إلى أن الظواهر السياسية — كسائر الظواهر الطبيعية — خاضعة لقوانين لا تتغير، قال «كومت»: «إن مونتسكيو كان يرى أن الأبحاث والأعمال الاجتماعية مبنية على قوانين طبيعية، على حين أن غيره من كبار الرجال كانوا يرون أن في استطاعة المشرعين أن يعدلوا نظام الحكومة كما يريدون، وأن عندهم على ذلك قدرة مطلقة غير محدودة متى أعانتهم السلطة على ذلك.» ووافق «جان جاك روسو» في كتابه (العقد الاجتماعي) ما ذهب إليه «هوبز» من أن الحكومة نتيجة تعاقد الناس فيما بينهم.