مجمل تاريخ الفلسفة أو تاريخ ترقي الفلسفة
- أولهما: أن مدار البحث في العلوم الأخرى محدود، فلا تعترض صعوبات غير عادية في تتبع الرقي التدريجي، وكذلك بناء العلم على بعض القواعد الأساسية واضح في كل العلوم، وليس كذلك الشأن في الفلسفة؛ فقضاياها — على كثرتها — متنوعة، وليس موضوعها واحدًا في كل العصور، ومما يزيد الأمر صعوبة أن كل مفكر يأتي لا يبني على ما وصل إليه من سبقه، بل يبتدئ في حل قضيته من جديد كأن لم تكن قبله نظم ولا وضع قبله أساس (انظر فندلبند صفحة ٩).
- وثانيهما: أن ترقية الأفكار وتأسيس العقائد إنما يكون على يد مفكرين ذوي شخصية، وهؤلاء وإن كانوا مرتبطين بأفكارهم بأفكار من تقدمهم يزيدون عناصر خاصة من عندهم متأثرة بشخصياتهم. وهذا في الفلسفة أهم منه في العلوم الوضعية الأخرى؛ فمن البديهي أن أخلاق الشخص وتجاربه وأعماله في الحياة ومنشأه وتربيته تؤثر أثرًا كبيرًا فيما يضع من القضايا المعنوية المجردة، وفي فكرته العامة نحو العالم، وتطبع ما يرى وما يفكر فيه بطابع خاص.
من هذا كله ينتج أن تاريخ الفلسفة ليس إلا جمعًا متسلسلًا لكل الآراء الأساسية التي وضعها هؤلاء الأفراد ذوو الشخصية، وأنظارهم إلى العالم، وأحكامهم على الحياة، مع بيان ما زاده كلٌّ من عند نفسه. ويجب ألا يقتصر في تاريخ الفلسفة على شرح نظام الفلسفة والتئام أجزائها بعضها ببعض، بل يجب أن يشمل أيضًا شرح نموها وتدرجها في الرقي.
وواضح أنه كلما ترقى الفكر وتقدم الإنسان واتسعت دائرة المعارف كانت الآراء أغزرَ، هذا إلى أنه قد تعرض قضايا على بساط البحث مرة، ثم تعرض هي بنفسها مرات أخرى، وفي كل مرة تبحث بطريقة جديدة تخالف الطريقة التي بحثت بها من قبل.
ومن حين إلى حين تزيد دائرة العقل الإنساني اتساعًا، فتنهض موضوعات جديدة، وتقرر قضايا جديدة، وتجاب أجوبة جديدة، ويستكشف الخلف حلًّا لمسائلَ مفيدةٍ لم يهتدِ لحلها السلفُ، مع ما لكل عصر من عصور التاريخ من طابع خاص لا يشاركه فيه غيره. وإن نظرة سطحية لتكفي في إقناع القارئ بأن القضايا تزداد تركبًا وتعقيدًا كلما تقدمت المدنية والتهذيب بتقدم العقل البشري.
- (١)
الفلسفة اليونانية.
- (٢)
الفلسفة الرومانية اليونانية.
- (٣)
الفلسفة في القرون الوسطى.
- (٤)
الفلسفة الحديثة.
إن اليونانيين وإن كانوا يعزون فلسفتهم في كثير من الأحيان إلى حكمة كهنة المصريين، وإنه وإن كان أيضًا في كثير من فروع العلم كالرياضة والهيئة والطب لمدنية الشرقيين — وخاصة مصر — أثرٌ في العقل اليوناني؛ فإنا لا يعترينا شك في أن أصل الفلسفة هو نتيجة عقل اليونانيين ومطبوع بطابعهم. نعم، إن التفكير في هذا العالم وظواهره وفي أصل الإنسان والغرض من وجوده قديم العهد قدم الفكر الإنساني نفسه، وإن الإنسان أخذ يفكر في معاني الأشياء قبل اليونان بزمن طويل، وإن جملة من مسائل العلم التفصيلية لا يستهان بها قد جمعت في عهد المصريين والبابليين قبل اليونان، ولم يكن يعوز هؤلاء القدماء علم غزير بالموضوعات المفردة ولا بالنظر العام للعالَم، ولكن اليونان استخدموا معارف من قبلهم، وكما قال «جومبرز»: «إن النبوغ اليوناني استطاع أن ينهض من على عاتق المصريين والبابليين ويطير حتى يصل إلى أسمى مكان يمكن الوصول إليه من غير أن يصده عن ذلك صاد.» قد كان للأمم الشرقية علم بما يتعلق بحاجاتهم العملية، ولكن ذلك العلم كان بقدر ما يسمح به قصور العقل الشرقي، فإنه يعوزه النشاط العقلي الذي يحمل على الابتكار، حتى أتى اليونان فرقوا النظر العلمي وبحثوا في العلم بحثًا منظمًا مستقلًّا، وطلبوا العلم للعلم لا لشيء وراءه (انظر فندلبند ص٢٣). زار فيثاغورس وديمقرطيس وأفلاطون وغيرهم مصر وآسيا الصغرى وانتفعوا بعلم أهلهما، ولكن رقي الفلسفة رقيًّا علميًّا كان من عمل العقل اليوناني، وقد قال أفلاطون: «إن ميزة اليونان حب البحث، أما ميزة المصريين والفينقيين فحب الكسب.» ونوه بما لهما من مقدرة في الصناعة وحذق في النظم السياسية، ولكن لم يعترف لهما بشيء من ذلك في المذاهب الفلسفية (انظر الفصل الأول من تاريخ نشوء الفلسفة اليونانية لمؤلفه برنديس ص١٣).
- (١)
النظر في الكون.
- (٢)
النظر في الإنسان نفسه.
- (٣)
البحث المنظم.
فأول بحث شغلت به الفلسفة اليونانية الأولى كان البحث في العالم كما يظهر أمام الإنسان، أعني عالم الطبيعة.
كان فلاسفة اليونان الأولون علماء في الطبيعة يضعون فروضًا لتفهم تصرفات الطبيعة وسنة الكون في الرقي، بدءوا يبحثون فيما يتعلق بحياتهم العملية، فأداهم ذلك إلى الرغبة في معرفة الطبيعة نفسها، قال «فندلبند»: «إن علم اليونان خصص حياته الأولى وما لها من قوة شباب لدرس قضايا الطبيعة، وأغفل البحث في أعمال الفكر، واكتفى بالبحث في العالم الخارجي.» فكان أهم ما اهتمت به تلك الفلسفة مسائل الطبيعة والفلك والجغرافيا، وعلى الخصوص الظواهر الأساسية العظمى، ثم تدرجوا بعد ذلك في البحث، فلم يقصروا نظرهم على الأعمال الطبيعية المادية، بل حاولوا معرفة الأساس الذي يطرأ عليه التغير — والبحث في التغير ومعرفة أساسه هو المحور الذي تدور حوله النظريات الفلسفية، ويشمل أعظم القضايا الأساسية التي يبحث عنها علم ما بعد الطبيعة. وهذا التغير — أعني أن الأشياء يتحول بعضها إلى بعض — هو الذي بعث على التأمل والنظر، وحمل فلاسفة اليونان على الجِدِّ في تقرير قواعد لهذا العالم القُلَّب الحُوَّل الذي قد تتغير فيه الأشياء فجأة إلى أضدادها. (فندلبند ص٣١).
انتشرت المدنية والفلسفة اليونانية في كل العالم، وصارت أثينا وبعض بلدان أخرى في مملكة الإسكندر — وفي الإمبراطورية الرومانية من بعد — مركزًا للمدنية والعلوم والمعارف.
أتى بعد ذلك حينٌ تملَّك الناس فيه إحساس بالسخط ملأ قلوبهم، وكان ذلك أيام مجد الدولة الرومانية؛ فإن تلك الدولة مع اتساعها والتحام أجزائها حتى تكونت منها مملكة واحدة قوية لم تستطع أن تعوض على الناس ما أفقدتهم من استقلال، ولم يكن في قدرتها إرضاؤهم باطنًا ولا إسعادهم ظاهرًا، وكانت مدنية العالم الروماني اليوناني إذ ذاك متنافرة غير ملتئمة، فكنت ترى تناقضًا تامًّا في الحياة الاجتماعية، فترف ورخاء بجانب سغب وشقاء، وكنت ترى ملايين من الناس قد حرموا حتى ما يحفظ حياتهم بين جُنُوبهم، فاستولى على الناس إحساس بظلم جائر وشعور بوجوب ثورة على النظام الاجتماعي الذي لا يسوي بين الناس، وظهر عليهم إذ ذاك أيضًا أمل في حياة مستقبلة — آخرة — يجزى فيها الإنسان جزاءً عادلًا، ويُعوِّض عمَّا لقي من ظلم، فوجهت تلك الملايين التي حرمت كل شيء في العالم وجهتها نحو عالم أعلى، وتحولت الأفكار — بشوق — إلى عالم وراء عالمنا، إلى العالم العلوي لا العالم السفلي — إلى الحياة الأخرى لا الحياة الدنيا — وعجزت الفلسفة عن أن ترضي الناس، واعترف الإنسان بعجزه التام عن معرفة نفسه إذا هو اعتمد على قواه فحسب، ويئس من تحصيله هذه المعرفة إذا لم تعنه قوة علوية، وأعتقد أن السعادة الأبدية لا توجد في هذا العالم المحسوس، بل في عالم آخر وراء حياتنا الأولى، ولم يعد في وسع الفلسفة إقناع الرجل المهذب بما تقدمه من نموذج أخلاقي للحياة، كلا ولا بما تتعهد به من سعادة، فحولت وجهها نحو الدين تستمده المعونة.
غير أن الناس في ذلك العهد أظلمت أفكارهم، واشتد شعورهم بنقصان ما عندهم من العلم وحاجتهم إليه، فطمع الدين أن يكون مقنعًا لهم في شعورهم وعقولهم معًا، وطمح أن يحول الحياة كلها إلى عقيدة دينية؛ لذلك نرى أنه بينما كانت الفلسفة تحاول حل مسائلها وقضاياها بمعونة الدين، وهي مع ذلك لا تهتدي إلى حل، كان الدين يبحث عن الفلسفة ونظمها ليجد له أساسًا علميًّا يبني عليه عقائده، ويجعلها أكثر قبولًا لقوم راقين، قال «فندلبند»: «إن الفلسفة استخدمت نظريات علوم اليونان لتهذب الآراء الدينية وترتبها، ولتقدم إلى الشعور الديني اللجوج فكرة في العالم تقنعه، فأُوجِدَتْ نظمٌ دينية من قبيل ما وراء المادة تتفق مع الأديان المتضادة اتفاقًا يختلف قلة وكثرة» (ص١٥٨).
لهذا كان امتزاج الدين بالفلسفة — الذي هو من خصائص التطور العقلي قبيل النصرانية وبعدها — ملموحًا في الرأي العام وفي المدنية أيام الحكم الروماني؛ وكان من جراء هذا الامتزاج انحلال أخلاقي يشعر بالحاجة إلى الإصلاح.
كان الانقلاب في النظم السياسية والاجتماعية واختلاط الأمم المختلفة الأصل، والتغيرات التي شملت العوائد والدين سببًا في ظهور روح جديد تغلب على الفلسفة ووجهها وجهة جديدة؛ ذلك أن أفكار اليونان ومدنيتهم لما عَدَت قوميتهم وتخطت حدود بلادهم أصبحت تميل إلى عدِّ كل العالم — لا اليونان وحدها — وطنًا لها، وصارت الفلسفة اليونانية — من جهة — تحاول أن ترضي الإنسان وتقنعه، لا من حيث إنه عضو في مجتمع أو أحد أفراد حكومة جمهورية، بل من حيث إنه فرد ما، يونانيًّا كان أو شرقيًّا أو رومانيًّا، وثنيًّا أو يهوديًّا، ومن جهة أخرى تحاول أن تملأ المكان الذي أخلاه دين الأمة بعد أن فقد بِرُقِيِّ الناس ما كان له من قوة.
وكانت الإسكندرية هي المركز الجغرافي لمزج الدين بالفلسفة، فبعد أن كانت مدينة المتحف والمكتبة، والمدينة المعروف عن أهلها النقد وسعة الاطلاع، أصبحت مجمع المذاهب الفلسفية والطوائف الدينية، فسهل الاتصال والامتزاج، والتقى على ضفاف النيل رجال مختلفة آراؤهم، متباينة مذاهبهم، تبادلوا فيها الآراء كما كانت تتبادل فيها السلع، فاتسعت دائرة الفكر وقورن بين الآراء المختلفة، وكان من نتيجة ذلك ظهور روح جديد أسس على مبدأين متناقضين ممتزجين؛ أحدهما: الشك والنقد، والثاني: سرعة التصديق بالأشياء على علاتها. تقابلت في الإسكندرية آراء الشرقيين والغربيين (اليونان) فامتزجت روح اليونان بروح المشارقة، فأنتجتا عقائد ونظمًا دينية متأثرة بتأمل الأولين وإلهام الآخرين، بما لليونان من علم وما للمشارقة من أساطير. جاءت الروح اليونانية بما لها من ذكاء ودقة وقدرة على الشرح المبين فأصابتها شرارة من الشرق أشعلتها وأحيتها، كذلك أخرجت الروح الشرقية التي من خصائصها الطموح إلى ما وراء عالم الشهادة نظامًا ملتئمًا ونظريات مرتبة لم تكن لتخرجها لولا مساعدة العلم اليوناني لها؛ فإنه رتب مأثور الشرقيين وحل من عقدة لسانهم، فاستخرجوا العقائد الدينية والنظم الفلسفية التي بلغت الذروة في مذاهب الغنوسطية والأفلاطونية الحديثة ويهودية «فيلون» ومذهب الإشراك الذي وضعه يولبان الصابي.
إن الشرقي بما له من ميل إلى الغيب وخوارق العادات، وما في طبيعته من تصوف وتدين، واليوناني بما له من فحص دقيق وبحث عميق، وإن شئت فقل: إن ما للأول من شعور، وما للثاني من تحليل منطقي امتزجا ونتج منهما فكر خاص انتشر في الإسكندرية في القرون الأولى للميلاد، وقد صبغ ذلك الفكر بصبغتين مختلفتين: صبغة الكماليين والصوفيين، وصبغة أهل البحث العلمي؛ ولذا امتاز هذا العصر بميل الفلسفة إلى الدين، وميل الدين إلى الفلسفة.
- أحدهما: ميل اليهود إلى التوفيق بين معتقداتهم الدينية والعلم الغربي الذي كان متأثرًا بالعلم اليوناني.
- وثانيهما: أن المفكرين الذين استمدوا آراءهم من الفلسفة اليونانية رأوا أن يوفقوا بين معتقداتهم الفلسفية والقضايا الدينية المحضة التي جاء بها المشارقة، ومن أي الجهتين نظرنا رأينا أن النتيجة كانت فلسفية دينية، لا هي فلسفة محضة ولا هي دين خالص.
العصر الثالث من عصور الفلسفة عصر القرون الوسطى، وبعبارةٍ أدقَّ الفلسفة النصرانية.
سقطت الدولة الرومانية في أيدي أمم الشمال المتبربرة فقوَّضت الحضارة الرومانية اليونانية القديمة، وطغى سيل القوط والبرجنديين والوندال والسويفيين والألنيين والكلتيين والسكسونيين، ولا سيما قبائل المغول والهون على الدولة الرومانية العتيقة الواسعة، وكانت قد بلغت من ضعفها الناتج من انحلالها الأخلاقي وانحطاطها الاجتماعي حدًّا أصبحت لا تستطيع معه مقاومة هذه الأمم القوية المتبدية.
وجاءت هذه الأمم المتبربرة بخصائص قوميةٍ وأفكارٍ ونظمٍ كانت شريفة راقية — وإن صدرت عن قوم بدو — استطاعت فيما بعدُ أن تنافس المدنية الراقية، وتسير معها جنبًا إلى جنب، غير أنهم ما برحوا جفاة غلاظًا سُذَّجًا، ومضت قرون طويلة قبل أن يأخذوا عن اليونان والرومان مدنيتهم ويمزجوها بأفكارهم ويكوِّنوا منها المدنية الحديثة، لم يكن لهم لأول عهدهم علم بفنون اليونان ونظمها الفلسفية المحكمة، فكان عصرهم الأول عصر جهل وخشونة، أعقب عصر المدنية والحضارة والآداب ونضارة الفنون والعلوم التي كانت من مميزات العقول أيام الدولة اليونانية الرومانية، وقد كادت آثار العقل الإغريقي تضيع لولا أفراد قليلون من العلماء المسيحيين حفظوا بقايا المدنية القديمة — مع محاربة الكنيسة لهم — حتى وصل هؤلاء المتبربرون إلى درجة من الرقي العقلي أمكنهم معها أن ينتفعوا بتلك البقايا شاكرين لمن حفظها لهم.
كانت الكنيسة على العموم تضطهد آداب اليونان والرومان وعلومها، وتحارب من اشتغل بها، وتعارض نشر الحياة العقلية والمدنية القديمتين، وتحدد دائرة يجول فيها الفكر؛ ذلك لأنها اعتقدت أن الحقيقة قد وصلت إليها من الوحي المعصوم، فلا معنى بعدُ أن تسمح للناس بالبحث عنها؛ لذلك كانت الكنيسة عدوة الفلسفة والعلم فجمَّدت الحياة العقلية، ولم تسترد نشاطها إلا بعناء لما أن انبعثت أشعة «النهضة» ممتزجة بأشعة من الشرق؛ فأضاءت سماء القرون الوسطى المظلمة.
وإذا كان قد بقي شيء من الاحترام للعلم نشأ عنه المحافظة على شيء من الفلسفة القديمة، فإنما كان ذلك مقصورًا على الجزء من المدنية القديمة الذي يندمج في تعاليم النصرانية، أما ما عدا هذا، وخصوصًا ما يعارض النصرانية، فقد كان ينبذ نبذًا؛ وبذلك ظلت الفلسفة الغربية خادمة للدين جملة قرون، وكان غرضها الرئيسي تأييد العقائد الدينية وتحديدها وتنظيمها، وإظهار أن تلك العقائد التي نزلت من السماء تتفق أيضًا مع العقل.
ويمكننا تقسيم سبيل النشوء الذي سلكته الفلسفة المسيحية إلى عصرين كبيرين؛ أولهما: ابتدأ من العصور المسيحية الأولى، وفيه كان كثير من آباء الكنيسة فلاسفة قبل أن يكونوا رجال دين، فرأوا من الضروري أن يؤيدوا أنفسهم وعقائدهم أمام الوثنيين، وقد ختم هذا العصر عمليًّا في الحقيقة بالأب أوغسطينوس ٣٥٤–٤٣٠م، غير أن بعض الكتاب الكنائسيين — الذين هم في المرتبة الثانية بعد الأولين — ساروا على هذا النمط إلى القرن التاسع، ويلقب هذا العصر «بعصر الآباء»، والعصر الثاني: يمتد من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر، ويلقب «بالعصر المدرسي»؛ لأن التعليم كان يقوم به جمعية الرهبان في مدارس الكنائس — وقد أنشأ شارلمان كثيرًا من هذه المدارس في جميع أنحاء فرنسا — وكان مدرسوها من رجال الكنيسة، وكانوا يرمون إلى إلباس مآرب الكنيسة لباسًا فلسفيًّا، ويطلق هذا الاسم على ذلك العصر من القرون الوسطى الذي كانت الفلسفة فيه تدرس تحت سلطان الدين، وكان القصد من دراستها تطبيق التعاليم المسيحية على العقل، وقد استمر هذا العصر من القرن التاسع إلى ظهور النهضة في القرن الخامس عشر.
قال «هِجِل» في كتابه المسمى (محاضرات في تاريخ الفلسفة): «إن الفلسفة المدرسية — في العصر المدرسي — لم تكن مذهبًا محدودًا كمذهب الأفلاطونيين أو الشكاك، بل كانت مجرد اسم مبهم يطلق على كل مباحث المسيحيين الفلسفية في أكثر من خمسمائة عام.» «فليست الفلسفة في العصر المدرسي إلا لاهوتًا، ولا اللاهوت إلا فلسفة، والفيلسوف المدرسي هو من يبحث في اللاهوت بحثًا علميًّا منظمًا.» ففلسفة العصر المدرسي هي فلسفة أوروبا التي انتشرت بين الكنائس في شكل لاهوتي، وكانت الفلسفة والدين فيه شيئًا واحدًا، وانفصال أحدهما عن الآخر إنما كان عند انتقال الناس إلى العصور الحديثة لما رأوا أن بعض ما قد يراه العقل حقًّا قد يراه الدين باطلًا، وكانوا من قبل يرون أن ليس هناك إلا حق واحد؛ وهو ما أقره الدين، قال «هجل» في ذلك الكتاب: «إن اللاهوت في العصر المدرسي لم يكن مقصورًا على ما يختص الله من العقائد — كما هو الشأن عندنا — بل كان يشمل أدق الأفكار في فلسفة أرسطو والأفلاطونية الحديثة.» كانت الفلسفة في العصر المدرسي توفق بين العقل والدين، بين الطبيعة وقدرة الله، من قبلُ كانت هذه الأشياء متعادية، ومؤسس هذه الفلسفة «سكوتس إريجينا»، وأكبر ممثليها القديس أنسلمس وأبيلرد والقديس توماس ودنس سكوتس. وتنقسم الفلسفة في العصر المدرسي إلى قسمين: أفلاطونية، وأرسططاليسية أو مشَّائية، فكانت أولًا متأثرة بآراء أفلاطون، ثم أخذت تخضع لنفوذ أرسطو في القرن الثالث عشر، وقد نشأت آراء آباء الكنيسة — العصر الأول — من آراء اليونان والرومان، أما فلسفة العصر المدرسي فنبتت في أرض الجرمان والعالم اللاتيني الحديث، وكانت ثمرة حضارة جديدة.
العصر الرابع من عصور الفلسفة عصر الفلسفة الحديثة، وهو يبتدئ «بالنهضة» ويستمر إلى يومنا هذا.
- إحداهما: النهضة أو إحياء العلوم وآثار اليونان والرومان في الفنون والعلوم.
- والثانية: الإصلاح الديني، ففي نحو منتصف القرن الخامس عشر ابتدأت المدنية اليونانية تؤثر في عقول الغربيين، وانبعثت من إيطاليا لغة اليونانيين القدماء وشعرهم وفلسفتهم، وسارت سير الفاتح الفائز إلى أن شمل فتحها أوروبا بأجمعها.
سار الإصلاح الديني جنبًا لجنب مع الحمية لمدنية اليونان والرومان في الفنون والعلوم، وجاء المجرى الجديد الذي سال من بيزنطية — القسطنطينية — فمر بإيطاليا، ثم غمر أوروبا كلها فحوَّل مجرى الأفكار الغربية، ولم تقتصر نهضة الإنسان على إحيائه علوم الأولين واستكشاف ما كانوا يعرفونه، بل تهيجت فيه عواطف وقوًى طال زمن إهمالها، واستيقظ من غفلته فشعر شعورًا جديدًا بالحياة وبالعالم الذي فيه يعيش، وبما يعرض له من المسائل التي تتطلب حلًّا، وأحس بقدرة عقله على اكتناه أسرار الطبيعة، وحل ما يعرض عليه من هذه المسائل (أدمس ص٣٦٥).
قال «برك هارت» في كتابه الممتع (مدنية إيطاليا أيام النهضة ص١٣١): في القرون الوسطى كان النظر إلى باطن الإنسان وما حوله من الأشياء الخارجية بين النوم واليقظة قد سدل عليه ستار نسجه الدين والوهم والتعصب الأعمى، منع الإنسان أن يرى العالم على ما هو عليه، وما كان يحس الإنسان بنفسه إلا كفرد من جيل أو شعب أو حزب أو أسرة أو طائفة، وما كان يحس لنفسه بشيء من الشخصية، ورفع ذلك الستار أيام النهضة فرأى من الممكن أن يفكر فيما حوله من الأشياء سواء كان حكومة أو أي شيء في العالم، كما رأى من الممكن أن يفكر في نفسه، وأعتقد أنه فرد ذو روح حساسة. وامتاز ذلك العصر بشعور الإنسان فيه بشخصيته المطلقة، وبمعارضته للسلطة وذويها، وذهابه شوطًا بعيدًا في اعتبار العالم كله وطنًا له، وهذه دلائل أعظم رقي يصل إليه الناس في تقدمهم العقلي. وقد أعلت النهضة شأن الطبيعة الإنسانية والحياة الدنيوية مخالفة في ذلك طريقة التفكير في القرون الوسطى، ولذلك يسمى العلماء الذين خصصوا أنفسهم لدراسة آداب اليونان والرومان والعلوم عند القدماء «الإنسانيين»، كما تسمى عقائدهم ومُثُلهم العليا «الإنسانية». وكان من خير ما أحدثه هؤلاء الإنسانيون «نمو الفردية» — أعني الرأي القائل بأن الإنسان ينبغي أن يفكر بنفسه لنفسه، وهو رأي كان قد أهمل في عصر عبودية العقل، وهذا الرأي هو ما كان يجدُّ وراءه علماء إيطاليا منذ زمان.
وأول ما بدت بشائر تقرير ما للإنسان من شخصية كان زمن النهضة، وتم ذلك على يد «العلماء المتبحرين» الذين جاءوا بعدُ فرددوا تعاليم النهضة وأيدوها، أمثال: ديديرو، وروسو، وفنكلمان، وهامان، وهردر.
قال فندلبند: «إن الفلسفة في أيام النهضة لم تعد من عمل الجماعات — كما كانت في القرون الوسطى — بل أصبحت من عمل أفراد أحرار مستقلين.» وقد كان من أهم أغراض النهضة تقرير الحرية الفردية، وبعبارة أخرى إنماء الشخصية، وجاء الإصلاح الديني فساعدها على ذلك.
قال فندلبند: «كلما انفصلت الفلسفة عن الدين وكانت علمًا كونيًّا مستقلًّا كانت مهمتها التي يجب أن تؤديها هي أن تبحث في علوم الطبيعة، وإلى هذه الغاية كانت تتجه كل أبحاث الفلسفة زمن النهضة حتى إن شعارها كان «لتكونَنَّ الفلسفة علمًا طبيعيًّا».»
من هذا نرى أن النهضة والإصلاح الديني أطلعا فجر الفلسفة الحديثة، وهي — مع مخالفتها لفلسفة القرون الوسطى مخالفة كبرى — تشبه تاريخ تطور العقل عند القدماء مشابهة كبرى، وتسير في نفس الطريق الذي سلكه؛ فإن الفلسفة الحديثة من أيام النهضة فما بعدُ تتبع سنة النشوء والارتقاء، وتنتقل من طور الإيمان والاعتقاد إلى طور التعقل، وذلك كان الشأن عند القدماء.
أول ما أخذ الفكر يفيق من سباته الطويل بدأ يعرِّض الدينَ والنظمَ التي بنيت عليه للبحث والنقد الهادم، ومن مميزات عصور الانتقال حدوث النزاع بين الآراء المتنوعة والنظريات المختلفة بين القديم والجديد، ويتلو ذلك عادة عدم الرضاء عن الماضي لفساده، والرغبة في نظام جديد خير مما سبقه، فبينما ترى القديم آخذًا في التداعي إذا بالجديد لا يزال في طور التكون ولم يستقر بعدُ على شكل، وإذ ذاك ترى العقل يتراوح بين تعطش لمثُل جديدة وآراء جديدة ووضع نظريات للعالم جديدة، وبين البحث في القديم يتخذ منه دعامة للجديد، وترى العقل — إذا قوي شعوره بقوته ونزع إلى الثورة — يتحرر من قيود الدين، ويُبعث من نوم عميق سببه الدين؛ لأنه ظل يستدرج الإنسان بما يهمسه في أذنه همسًا خفيفًا حتى نام واستغرق، ويبتدئ نمطًا في الحياة جديدًا، وهو مع كل هذا لا يزال يتعلق بالماضي ويتشبث به، فتتمشى الآراء القديمة مع النظام الجديد، وتستخدم الأشكال القديمة في البناء الجديد.
وهذا الميل إلى إخضاع كل شيء لبحث العقل أدَّى إلى وضع العقل نفسه تحت البحث، فصار كل من العالم المادي والعقلي خاضعًا للنظر والامتحان، وكان الشأن في العصور الحديثة كالشأن عند اليونان؛ ففي كليهما جاء أولًا عصر النظر في الكون، ثم شفعه عصر النظر في الإنسان نفسه، فتوجه النظر في البحث في أصل معرفة الأشياء، وتحول مجرى الفكر إلى الأبحاث النفسية — السيكولوجية — وأخذ الإنسان يسأل: ما أصل المعرفة والإدراك؟ وما منبعهما؟ آلعقل أم التجربة؟ بحث في هذه المسائل وأمثالها «جون لوك» الذي نهج منهج «ديكارت» واختار كسلفه «بيكون» أن أصل المعرفة التجربة لا العقل، وانتشرت نظرية «التجريبيين» القائلة بأن المعرفة مستقاة من التجربة في إنجلترا، كما انتشرت نظرية «العقليين» القائلة بأن أساس المعرفة العقل فيما عدا إنجلترا من ممالك أوروبا.
وقد قارن «فلكنبرج» بين خصائص العقل في الممالك الثلاث الكبرى التي كان لها الحظ في الفلسفة من عهد «ديكارت» إلى عهد «كانت» فقال: «إن الفرنسي تغلب عليه حدة الذهن، والإنجليزي البساطة والوضوح، والألماني التعمق والتفكير، ففرنسا منبت الرياضيين، وإنجلترا منبت العمليين، وألمانيا منبت المفكرين النظريين، فالأولى موطن الشكاك المرتابين، كما أنها موطن المتحمسين، والثانية موطن العمليين الواقعيين، والثالثة معهد المثاليين.»