تصدير
لسنا بحاجة إلى كثير شرح لنبين خطر الفلسفة اليونانية في تاريخ الفكر؛ فقد يكفي أن نذكر أنها فلسفة الشرق الأدنى منذ فتوح الإسكندر، وأنها فلسفة الغرب منذ استولى الرومان على بلاد اليونان في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، فعرفوا نبوغ المغلوبين وأخذوا عنهم أسباب الحضارة المادية والعقلية ومنها الفلسفة، واصطنع المفكرون المسيحيون هذه الفلسفة ثم اصطنعها المفكرون المسلمون، ودخلت المدارس في الشرق والغرب فكونت العقول وهيمنت على وضع العلوم.
أجل لقد وجد العقل مع الإنسان وبقي هو هو في جوهره، واستخدمته الأمم الشرقية في الماضي السحيق فاستحدثت الصناعات والعلوم والفنون ولقنتها لليونان، فأغنتهم عن بذل الجهد والوقت في استكشافها بأنفسهم، وفضلًا عن الفنون والعلوم نجد عند الأمم الشرقية القديمة قصصًا دينية وأفكارًا في العالم والحياة إذا اعتبرنا موضوعها ومغزاها رأيناها حقيقة بأن تُسَمَّى فلسفية؛ فقد نظروا في أسمى المسائل مثل الوجود والتغير والخير والشر والأصل والمصير، فكان التوحيد والشرك، وكانت الثنائية الفارسية، وكانت وحدة الوجود عند الهنود، وكان غير ذلك، ولم تخرج الفلسفة فيما بعد عن هذه النظريات الكبرى، بل قد نستطيع أن نجد لكل فكرة يونانية مثيلة شرقية تقدمتها أو أصلًا قد تكون نبتت منه.
أما الفلسفة فالشرقيون فيها متفاوتون: فقد يمكن القول عن البابليين والمصريين والعبرانيين أنهم جهلوا الفلسفة بالرغم مما بلغ إليه علماؤهم من ثقافة عالية ولم يحصلوا فيما يلوح سوى بضعة معارف عامة جدًّا ومختلطة بالدين في الألوهية والنفس والعالم الآخر، عالجوها بالبداهة والخيال دون الاستدلال، وبالعكس قد زاول الفرس والهنود والصينيون النظر العقلي المجرد إلى حد بعيد، ولكنهم قصروا مهمة هذا النظر على تمحيص الدين وإصلاحه ولم يوفقوا إلا بعض التوفيق في تبين ماهية الفلسفة وإقامتها علمًا مستقلًّا، كان قصدهم الأول النجاة من الشر فلم يتخذوا العلم غاية لذاته بل وسيلة لهذه النجاة، وأرادوا أن يجاوزوا العقل إلى نوع من الكشف يستغني عن التحليل والتفصيل ويتصل بموضوعه اتصالًا مباشرًا أو يفنى فيه، فكأنه كان مكتوبًا لليونان أن يعبروا في وقت من الأوقات الهوة الفاصلة بين التجربة والعلم بمعناه الصحيح؛ أي معرفة الماهية والعلة بالحد والبرهان، ويضعوا الفلسفة علمًا كاملًا قائمًا برأسه ويقنعوا بها لا يتطلعون إلى كشف أو إشراق، وإن تطلعوا فهموه كشفًا عقليًّا إلا أن يتأثر بعضهم بالشرق في أواخر عهدهم بالتفلسف فيعدل عن العقل إلى الذوق كما وقع للأفلاطونية الجديدة، في هذه الحدود يصح القول: إن الشرق لم يعلم اليونان؛ أي لم يلقنهم مذهبًا أو منهجًا، ولكنه حفزهم إلى التفكير بما أدى إليهم من مواد جمعها أثناء قرون طويلة فقاموا يعالجونها على نحو علمي، لم يفلحوا دفعة واحدة — وهذا الكتاب تاريخ محاولاتهم، ولكنهم ساروا في طريقهم وأعملوا العقل في نشاط وجرأة عجيبين فكانوا أساتذة الإنسانية.