الفيثاغوريون
(١١) النحلة الأرفية
(أ) كان من جراء وقوف اليونان على الأفكار الشرقية أن تبدلت أفكارهم الدينية واصطنعوا إلى جانب الديانة الأهلية ديانات سرية متوخين غاية جديدة هي الاتصال بالآلهة والمشاركة في سعادتهم متخذين سبيلًا إلى تحقيقها ممارسة طقوس معينة يعتقد فيها الصلاحية لذلك على مثل ما هو معروف في السحر، وأهم هاته الديانات «الأرفية»؛ نسبة لشاعر من أهل تراقيا اسمه أرفيوس يستحيل علينا معرفة حياته وآرائه ومنشأ نحلته؛ لكثرة ما روي عنه من الأخبار المتضاربة، وأضيف إليه من الكتب المتناقضة، ولكن التاريخ عرف الأرفية أول ما عرفها في القرن السادس ذائعة ذيوعًا قويًّا؛ وبالأخص في إيطاليا الجنوبية وصقلية، والمذهب قائم على أسطورة مؤداها أن تزوس وهب ديونيسوس — إله الحب، وهو ابنه من ابنته بِرْسِفون — السلطان على العالم، وهو ما يزال طفلًا فغارت منه هيرا زوجة تزوس وألبت عليه طائفة من الآلهة الأشداء هم «الطيطان» فكان ديونيسوس يستحيل صورًا مختلفة ويردهم عنه إلى أن انقلب ثورًا فقتلوه وقطعوه وأكلوه، إلا أن الإلهة بلَّاس — مينرفا — استطاعت أن تختطف قلبه فبعث من هذا القلب ديونيسوس الجديد، وصعق تزوس الطيطان وخرج البشر من رمادهم.
فالإنسان مركب من عنصرين متعارضين: من العنصر الطيطاني وهو مبدأ الشر، ومن دم ديونيسوس وهو مبدأ الخير، ويجب عليه أن يتطهر من الشر وهذا أمر عسير لا تكفي له حياة أرضية واحدة، بل لا بد من سلسلة ولادات تطيل مدة التطهير والتكفير إلى آلاف السنين، ورتبوا على هذه العقيدة طقوسًا كانوا يقيمونها ليلًا؛ منها: التطهير بالاستحمام باللبن أو بالماء تضاف إليه مادة تلونه بلون اللبن، وتقدمة القرابين غير الدموية، وتمثيل قصة ديونيسوس، بما في ذلك تقطيع ثور وأكل لحمه نيئًا، وتلاوة صلوات بينها وبين كتاب الموتى المعروف عن المصريين مشابهات كثيرة، وقد اكتشفت مقابر في إيطاليا الجنوبية وجدت فيها صفائح من ذهب عليها إرشادات للنفس عما يجب أن تسلك بعد الموت من طرق وتتلو من صلوات، فكانت هذه الصفائح دليلًا قاطعًا على أنهم عرفوا كتاب الموتى وأخذوا عنه كما أنهم أخذوا فكرة الولادات المتعاقبة عن الهنود — مباشرة أو بواسطة الفرس — وتمتاز الأرفية بالإيمان الراسخ بالعدالة الإلهية وبالسعي وراء الطهارة، بينا باقي «الأسرار» كانت تستبيح بعض المخازي وتدمجها في الشعائر، وتتصور العالم الآخر تصورًا ماديًّا، والطهارة في الأرفية خلاص النفس من البدن وهو لها بمثابة القبر، وهو عدوها اللدود يجري معها على خصام دائم تتأجج ناره في صدر الإنسان، كذلك تمتاز الأرفية بأن إلههم عديم النظير بين آلهة اليونان؛ فهم يمجدون فيه العذاب غير المستحق والفوز النهائي للضعيف صاحب الحق، وتمتاز أخيرًا بأنها شيعة الطبقى الوسطى المثقفة، وقد نبغ فيها رجال اعتمدوا على التفكير الشخصي في حل مسألة نشوء العالم، فلم يقبلوا الأساطير اليونانية على علاتها، بل هذبوها واستعانوا بأساطير الشرقيين وعلومهم، فكانوا طبقة وسطى بين اللاهوتيين الأولين وبين الفلاسفة — مع بقائهم في دائرة الأسطورة — وظلت الأرفية حية إلى أوائل المسيحية، وكان لها أثر فعال في الشعراء والمفكرين من نشأتها إلى اندثارها، بل يمكن القول: إنها هي التي وجهت الفلسفة وجهتها العقلية الروحية على أيدي فيثاغورس — كما سنرى الآن — وأكسانوفان وسقراط وأفلاطون وأصحاب الفيثاغورية الجديدة والأفلاطونية الجديدة، فسنجد عندهم جميعًا عقائدها وتعابيرها كأصول يحاولون ترجمتها ترجمة عقلية والبرهنة عليها.
(١٢) فيثاغورس وفرقته
(أ) نشأ فيثاغورس في ساموس، وكانت جزيرة أيونية مشهورة ببحريتها وتجارتها، وتقدم الفنون فيها، طَوَّفَ في أنحاء الشرق، ولما ناهز الأربعين قصد إلى إيطاليا الجنوبية، وكان المهاجرون اليونان قد بلغوا فيها درجة عالية من المدنية والثقافة، ونزل ثغر أقروطونا؛ حيث كانت مدرسة طبية شهيرة، وما لبث أن عرف بالعلم والفضل، فطلب إليه مجلس الشيوخ فيما يذكر أن يعظَ الشعبَ ففعل فذاع اسمه وأقبل عليه المريدون من مختلف مدن إيطاليا وصقلية، وحتى من روما؛ فأنشأ فرقة دينية علمية تشبه الأرفية، أو هي أخذت عنها، ثم أثرت فيها، وكانت فرقته مفتوحة للرجال وللنساء من اليونان والأجانب على السواء؛ يعيش أعضاؤها في عفة وبساطة بموجب قانون ينص على الملبس، والمأكل، والصلاة، والترتيل، والدرس، والرياضة البدنية؛ فكانوا منظمين تنظيمًا دقيقًا يصدعون بما يؤمرون غير ناظرين إلا إلى «أن المعلم قد قال»، وكان المعلم متشبعًا بعاطفة دينية قوية ومقتنعًا بفكرة جليلة هي أن العلم وسيلة فعالة لتهذيب الأخلاق وتقديس النفس؛ فجعل من العلم رياضة دينية إلى جانب الشعائر، ووجه تلاميذه هذه الوجهة؛ فاشتغلوا بالرياضيات، والفلك، والموسيقى، والطب، وشرح هوميروس وهزيود.
(ب) وكان طبيعيًّا من هذه الجماعة المثقفة المتضامنة الرامية إلى الإصلاح في بلد حديث خلو من التقاليد، كثير التقلبات الديموقراطية، أن تفكر في السياسة وتميل إلى نظام أرستقراطي يقر الأمور في نصابها فتؤثر من هذه الناحية أيضًا فيمن ينتمي إليها من الحكام والأهلين؛ بل تتحول إلى هيئة سياسية وتتولى الحكم بنفسها، وهذا ما حدث في أقروطونا وغيرها من المدن الإيطالية في ظروف لم تصل إلينا أخبارها؛ غير أن الشعب والأعيان المبعدين عن الحكم لم يرضوا عن هذا الانقلاب، وما زال المعارضون يعملون في الخفاء حتى تألبوا ذات يوم على الدار التي كان زعماء الفرقة مجتمعين فيها فأحرقوها؛ ولم ينجُ من الفيثاغوريين سوى اثنين، أما فيثاغورس فقد قيل: إن حملات أعدائه اضطرته للهجرة فاعتزل في ميتابونتس ومات هناك قبل الثورة، وقيل: بل كان في أقروطونا ولكنه كان متغيبًا عن مركز الجمعية يوم الحريق فاستطاع أن ينجو بنفسه، وذهب إلى لوقريس ثم إلى ترنتا، وأخيرًا إلى ميتابونتس وقضى فيها بعد أن صام أربعين يومًا، وشبت الثورات على أنصاره في مختلف المدن فثبتوا لها في مدينتي رچيوم وترنتا، وعبر البحر إلى القارة اليونانية من خذل منهم؛ فقصد فريق إلى طيبة، وآخر إلى فليونتس، ولما تعاظم شأن أثينا قدمها نفر منهم، فكان لهم أثر خطير في الفلسفة والعلوم، ثم تلاشت الجمعية في عهد أفلاطون — حوالي سنة ٣٥٠ — ولم يبقَ منها سوى أفراد تناقلوا تعاليمها فكانوا حلقة الاتصال بين هذا العصر وعصر ثانٍ بدأ في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، واستمر إلى القرن الرابع بعده.
(ﺟ) هذا ما يقال بالإجمال عن فيثاغورس وفرقته، وليس من المستطاع زيادة البيان دون الاستهداف للخطأ؛ فإن آثار رجال العصر الأول قد فقدت جميعًا، وكل ما ينسب لفيثاغورس من «أشعار ذهبية» ومن «كتب ثلاثة» — المهذب والسياسي والطبيعي — فهو منحول يرجع إلى العصر الثاني، كذلك الكتب المعزوة لتلاميذه الأولين — وأشهرهم فيلولاوس — منحولة أو مشكوك فيها إلى حد كبير، أما أقوال الفيثاغورية الجديدة عن المدرسة القديمة فيجب أن تقابل بغاية الحذر لما فيها من ميل ظاهر إلى الغريب الشاذ ومن تأويل شخصي، يزاد على ذلك أنها تضيف للفيثاغورية الأولى أفكارًا وأمورًا لم تعرف إلا بعدها؛ منها: الأفلاطوني، والرواقي، بل البوذي، وحتى هيرودوت — وقد عاش في الأوساط الفيثاغورية في إيطاليا الجنوبية وصقلية بعد وفاة فيثاغورس بنصف قرن — فإنه يخلط في كلامه عنه وعن جمعيته؛ ذلك أن مخيلة الأتباع والأنصار كانت قد تناولت فيثاغورس ونسجت حوله الأساطير فقالوا: إنه ابن أبولون أو هرمس ورووا عنه من الخوارق كل عجيب غريب، أما الجمعية فيروى عنها أشياء كثيرة: أشهرها أنها كانت تحرم أكل الحيوانات وبعض النبات، ويقال: إن هذا التحريم لم يكن مطلقًا، ويذكر أنها كانت سرية يتعارف أفرادها بإشارات خاصة، ويتعهدون بكتمان تعاليمها الديني منها والعلمي، وأنهم أعدموا واحدًا منهم غرقًا؛ لإفشائه سرًّا هندسيًّا وليس ما يمنع من التصديق بهذه السرية، لا سيما أن أرسطو نفسه، إذ يتحدث عن المذهب لا يميز بين ما كان لفيثاغورس فيه من نصيب وما كان لتلاميذه، بل يذكرهم جملة بقوله: «الذين يدعون بالفيثاغوريين» أو «المدرسة الإيطالية» مما يدل على أن الجمعية كانت وحدة توارت وراءها شخصيات أفرادها، حتى تسربت آراؤهم ومكتشفاتهم إلى الخارج فاندمجت في الثقافة اليونانية خالصة من كل شخصية.
(١٣) مذهبهم
(د) وبعد الموت تهبط النفس إلى «الجحيم» تتطهر بالعذاب ثم تعود إلى الأرض تتقمص جسمًا بشريًّا أو حيوانيًّا أو نباتيًّا ولا تزال مترددة بين الأرض والجحيم حتى يتم تطهيرها، وفيثاغورس أول من قال بالتقمص أو التناسخ في اليونان، والعقيدة هندية، وقد رأينا أن الأرفية كانت تقول بولادات متعاقبة، ويروى أنه كان يدعي أنه متجسد للمرة الخامسة، وأنه يذكر حيواته السابقة، وعند الفيثاغوريين أن أزمنة التقمص قد حددها الآلهة ونحن مِلكهم، فليس لنا أن نخالف النظام الذي وضعوه بالانتحار أو بإهلاك الحيوان فيما عدا التضحية، وقد يلوح أن نظرية التناسخ متمشية مع نظرية الدور تؤيدها وتفسرها فيما يختص بالأحياء، ولكن الغاية من التناسخ الطهارة التامة والسعادة الدائمة؛ فكيف نوفق بين هذا الدوام وبين الدور؟
(ﻫ) ولم تصل إلينا نصوص صريحة عن عقيدتهم في الألوهية، أما ما يذكر من أنهم كانوا يضعون «الواحد» فوق الأعداد والموجودات ويجعلونه مصدرها جميعًا فتأويل أفلاطوني، وكل ما يمكن أن يقال: إنهم طهروا الشرك الشعبي من أدرانه، ونزهوا الآلهة عما ألحقت بهم المخيلة العامة من نقائص.
(١٤) علومهم
(أ) وإذا انتقلنا من تصورهم للمسائل الكلية إلى آرائهم في العلوم الجزئية وجدنا فكرتهم الأساسية مسيطرة عليها كذلك، وقد مرت بنا الإشارة إلى أطبائهم فنقول الآن: إنهم أثروا أكبر تأثير في مدرسة أقروطونا وحولوها إلى مذهبهم، بنوا الطب على تناسب الأضداد فقالوا: إن مبدأ الحياة الحار ملطفًا بالبارد أي بالهواء الخارجي يجذب بالشهيق ويدفع بالزفير فإذا اختلت النسبة بينهما كان المرض، وإذا زاد الاختلال كان الموت، فالحياة والصحة تناسبٌ وتناسقٌ، والمرض والموت اختلال التناسب أي إفراط أو تفريط بالإضافة إلى الحد الملائم، والتطبيب حفظ التناسب أو إعادته، وطبقوا هذا الرأي تطبيقًا عامًّا فقالوا مثلًا: إن المناخ الأحسن هو مناخ المنطقة المعتدلة؛ أي المتوسطة بين الحار والبارد، وهكذا، ومن نوابغهم في هذا الفن القميون زعيم مدرسة أقروطونا، ومما يذكر له قوله: ليست النفس في القلب — وكان هذا اعتقاد القدماء — وإنما في الدماغ، والدماغ هو مركز التفكير تصل إليه بواسطة قنوات دقيقة التأثيرات الواقعة على أعضاء الحواس، ويقال: إنه أثبت رأيه بالتجربة فبيَّن بالتشريح أن كل اضطراب في المخ يفسد الوظائف الحاسة.
(د) فالفيثاغورية نهضة عظيمة متعددة الوجهات، هي نحلة دينية كانت أصدق نظرًا في الدين من الأرفية، وهي مذهب فلسفي يعد أول محاولة للارتفاع عن المادة التي وقف عندها فلاسفة أيونية وفهم العالم بقوانين واضحة وأعداد معينة، وهي مدرسة علمية عنيت بالرياضة والموسيقى والفلك والطب، وعرفت بضع قضايا حسابية وهندسية، ووضعت في الهندسة ألفاظًا اصطلاحية، وهي هيئة سياسية ترمي إلى إقرار النظام في هذه الحياة الدنيا.