السوفسطائيون
(٢٢) نشوء السوفسطائية
(أ) بالرغم مما ذكرنا من عناية الفيثاغوريين بالأخلاق، والإيليين بالمبادئ العقلية والجدل، فإن الفكر اليوناني كان في هذا الدور الأول متجهًا نحو العالم الخارجي مستغرقًا فيه، أما العالم الداخلي الذي هو مصدر الأخلاق وموطنها، وأما العقل الذي هو مصدر المعرفة ومستقرها، فلم يُعْنَ بهما بالذات، ولكنه لم يلبث طويلًا حتى طرأت عليه أحوال ساقته إلى الاشتغال بهذه الناحية من الفلسفة، فبذل فيها نشاطًا عظيمًا وذهب في مسائلها كل مذهب، فكانت النتيجة وضع المنطق والفلسفة الخلقية والسياسية؛ ذلك أنه بعد أن دحرت أثينا الفرس وحفظت لليونان استقلالهم وعقليتهم مضى هؤلاء يستكملون أسباب الحضارة بهمم جديدة، ونبغ فيهم العلماء والشعراء والفنانون والمؤرخون والأطباء والصناع، وقويت الديموقراطية في جميع المدن، وتعاظم التنافس بين الأفراد، فزادت أسباب النزاع أمام المحاكم الشعبية، وشاع الجدل القضائي والسياسي، فنشأت من هاتين الناحيتين الحاجة إلى تعلم الخطابة وأساليب المحاجة واستمالة الجمهور، ووجد فريق من المثقفين المجال واسعًا لاستغلال مواهبهم فانقلبوا معلمي بيان، وهؤلاء هم السوفسطائيون؛ ملئُوا النصف الثاني من القرن الخامس.
(ب) وكان اسم «سوفيست» يدل في الأصل على المعلم في أي فرع كان من العلوم والصناعات، وبنوع خاص على معلم البيان، ثم لحقه التحقير في عهد سقراط وأفلاطون؛ لأن السوفسطائيين كانوا مجادلين مغالطين وكانوا متجرين بالعلم، أما الجدل فقد وقفوا عليه جهدهم كله، خرجوا من مختلف المدارس الفلسفية لا يرمون لغير تخريج تلاميذ يحذقونه، وكانوا يفاخرون بتأييد القول الواحد ونقيضه على السواء، وبإيراد الحجج الخلابة في مختلف المسائل والمواقف، ومن كانت هذه غايته فهو لا يبحث عن الحقيقة، بل عن وسائل الإقناع والتأثير الخطابي، ولم يكن ليتم لهم غرضهم بغير النظر في الألفاظ ودلالاتها، والقضايا وأنواعها، والحجج وشروطها، والمغالطة وأساليبها، فخلفوا في هذه الناحية من الثقافة أثرًا حقيقًا بالذكر، أما سائر العلوم فكانوا يلمون بها إلمامًا يساعدهم على استنباط الحجج والمغالطات وعلى التظاهر بالعلم، فتناولوا بالجدل المذاهب الفلسفية المعروفة، وعارضوا بعضها ببعض، وتطرق عبثهم إلى المبادئ الخلقية والاجتماعية، فجادلوا في أن هناك حقًّا وباطلًا وخيرًا وشرًّا وعدلًا وظلمًا بالذات، وأذاعوا التشكك في الدين، فسخروا من شعائره واختلقوا على آلهته الأقاويل، ومجدوا القوة والغلبة، وكان الأمر إلى الديموقراطية تتعدد فيها القوانين وتتناسخ فيدخل على النفوس أن القانون والحق ما يريده القوي.
(ﺟ) وأما اتجارهم بالعلم فقد كان شائنًا حقًّا؛ كانوا يتنقلون بين المدن يطلبون الشباب الثري ويتقاضونه الأجور الوفيرة، وكان هذا الشباب يهرع إليهم ليتقوى بالعلم فوق ما توفر له من أسباب الغلبة كالمال والعصبية، فيستمع إلى خطبهم العلنية ودروسهم الخاصة، فأصابوا مالًا طائلًا وجاهًا عريضًا، ولكن اليونان كانوا يستقبحون أن يباع العلم ويشترى، وكانوا يفهمون المدرسة على أن التلاميذ يفدون على المعلم يقيم في مكان دائم، ولا يبذلون من المال إلا الضروري لحاجات المدرسة، فعكس السوفسطائيون الآية وتنزلوا بالعلم إلى مستوى الحرف والصنائع، فلحقتهم الزراية، لم يأخذوا بالعلم على أنه معرفة الحقيقة، ولم يكترثوا لقيمته الذاتية ولا لفطرة العقل التي تدفعه لطلب الحق، بل استعملوا العلم وسيلة لجر منفعة غريبة عن العلم، وهزءوا من العقل، فكانوا معلمين وخطباء ولم يكونوا حكماء، هذا هو الموقف الشاذ الأثيم الذي جعل اسمهم سبة على مر الأجيال.
وأشهرهم اثنان: بروتاغوراس وغورغياس.
(٢٣) بروتاغوراس
(أ) ولد في أبديرا وعرف فيلسوفها الكبير ديموقريطس، وبعد أن طاف أنحاء إيطاليا الجنوبية واليونان يلقي فيها الخطب البليغة قدم أثينا حوالي سنة ٤٥٠ ولم تطل إقامته فيها؛ لأنه كان قد نشر كتابًا أسماه «الحقيقة» وردت في رأسه هذه العبارة: «لا أستطيع أن أعلم إن كان الآلهة موجودين أم غير موجودين فإن أمورًا كثيرة تحول بيني وبين هذا العلم أخصها غموض المسأله وقصر الحياة.» فَاتُّهِمَ بالإلحاد وحكم عليه بالإعدام وأحرقت كتبه علنًا ففر هاربًا ومات غرقًا في أثناء فراره.
(٢٤) غورغياس
(أ) ولد في لونثيوم من أعمال صقلية، وأخذ العلم عن أنبادوقليس واشتغل بالطبيعيات مثله، وعني باللغة والبيان؛ فكان أفصح أهل زمانه وأبلغهم، قدم أثينا سنة ٤٢٧ يستنصرها باسم مدينته على أهل سراقوصة، فخلب ألباب الأثينيين ببلاغته، ويصوره أفلاطون في الحوار المعنون باسمه مفاخرًا بمقدرته على الإجابة عن أي سؤال يلقى عليه، مات في تساليا، وقد قاربت سنه المائة أو جاوزتها وعظم صيته وضخمت ثروته.
(ﺟ) هذا مثال من عبث السوفسطائيين، ومهما يُقَلْ من أنهم أخرجوا الثقافة من المدارس الفلسفية ونشروها في الجمهور وأنهم مهدوا للمنطق وللأخلاق؛ فقد كادوا يقضون على الفلسفة لولا أن أقام الله سقراط ينتشلها من هذه الورطة المهلكة.