السياسة
(٤٠) المدينة الفاضلة
(أ) السياسة عند أفلاطون العدالة في المدينة، كما أن الفضيلة العدالة في الفرد؛ لذلك يفتتح القول في «الجمهورية» بالرد على السوفسطائيين والبرهنة على أن العدالة قائمة على الطبيعة لا على العرف، وغرضه أن يبني مدينته على أساس من العدالة متين، ثم ينظر في الاجتماع فيقرر أنه ظاهرة طبيعية ناشئة من تعدد حاجات الفرد وعجزه عن قضائها وحده، تألف الناس أولًا جماعات صغيرة تعاونت على توفير المأكل والمسكن والملبس، ثم تزايد العدد حتى ألفوا مدينة، فلم تستطع أن تكفي نفسها بنفسها، فلجأت للتجارة والملاحة، هذه المدينة الأولى مدينة الفطرة، مثال البراءة السعيدة، ليس لها من حاجات إلا الضرورية وهي قليلة ترضيها بلا عناء، يقنع أهلها بالشعير والقمح والخضر والثمار والخمر الخفيفة فيعيشون عيشة سليمة ويعمرون، لا يعرفون الفاقة ولا الحرب.
(د) ولا شك أن وضع أفلاطون الفن في المرتبة الثالثة بعد المثال وشبحه المحسوس تحامل وتعسف، وكان المعقول أن يساوي بين الفنانين والصناع فيعترف للأولين أنهم يحاكون المثل مباشرة كما يحاكيها الآخرون، ولكنها حماسة الحرب دفعته إلى المغالاة، والغيرة الحارة على الخير نبهته إلى مخاطر الفن، فراح يمتهنه ويذله وهو الفنان العظيم، وعلى أي حال لم يكن في وسع أفلاطون أن يتابع القائلين بالفن لأجل الفن بعد أن ميز بين الخير والشر ونصب الطهارة مثلًا أعلى للإنسان وهو يعلن أن المسألة مسألة العدالة، وأن الواجب إيثار العدالة على كل شيء، وإنما شدد النكير على الشعر الهوميري؛ لأن هذا الشعر كان قوة هائلة يأخذ عنه اليونان جيلًا بعد جيل حكمة الحياة في الأخلاق والدين والسياسة والحرب والصناعات؛ فكان خطره عظيمًا وسحره فعالًا، وكما أن أفلاطون حارب السوفسطائيين وعرض بيانهم بالفلسفة؛ فقد أراد أن يخضع لها الفن أيضًا ويقيده بحدودها — لنعد إلى منهج التربية وبناء المدينة.
(٤١) الحكومة المثلى
(ب) والحراس ذكور وأناث على السواء، يسري عليهم جميعًا نفس النظام، نعم إن المرأة أضعف من الرجل ونحن لا نغضي عن هذا التفاوت، إلا أنها مهيأة لنفس الوظائف؛ فقد تصلح للطب أو للموسيقى أو للرياضة أو للحرب أو للفلسفة كما تصلح للأعمال المنزلية، فليس ما يمنع من تكليف النساء الحراسة إذا ساوين الرجال في الكفاية لها، فإن الأصل في الوظيفة أنها لخير المجموع وأنها تقلد للكفء دون أي اعتبار آخر، وإذن فنحن نكلف المرأة ذات الاستعداد كل أعمال الحراس تقوم بها متشحة فضيلتها، وندع الحمقى يضحكون، والغاية من أخذ النساء بهذه التربية أن نوفر للدولة نساء ممتازات إلى جانب الرجال الممتازين ينجب منهم نسل ممتاز، فمصلحة الدولة هي التي تقتضي ذلك وتتطلب منا التغاضي عن العرف ومعارضته.
وكما أنا انتزعنا من نفوس الحراس شهوات الحياة المادية وشواغلها، فإنا ننتزع منها أيضًا عواطف الأسرة وشواغلها، فيحظر على الحراس أن تكون لهم أسرة ويكونون جميعًا للجميع لكن لا اتفاقًا، بل يقيم الحكام كل سنة، في أحسن الأوقات وأسعد الطوالع، حفلات دينية يجمعون فيها الحراس من الجنسين ويوهمونهم أن اقترانهم سيكون بالقرعة؛ تفاديًا من التحاسد والتخاصم، والحكام يقصدون في الحقيقة أن يعقدوا لكل كفء على كفئه، فيعقدون زواجًا رسميًّا، ولكنه مؤقت، الغرض منه الإنسال على قدر حاجة الدولة وتحسين النسل بمقتضى القواعد المرعية في الحيوان، ويوضع الأطفال في مكان مشترك يعنى بهم فيه أناس خصيصون، وتأتي الأمهات يرضعنهم دون أن يعرفنهم، فلا يوجد بين الحراس قرابة معروفة، ولكنهم جميعًا أسرة واحدة يعتبر بعضهم بعضًا قريبًا، ويعامل بعضهم بعضًا على هذا الاعتبار، فيتسع مجال التعاطف والتحاب.
(ﺟ) وإذا ما بلغ الحراس الثلاثين يميز من بينهم أهل الكفاية الفلسفية رجالًا ونساءً، الذين يتوفر فيهم محبة الحق وشرف النفس وضعف الشهوة وسهولة الحفظ، واجتماع هذه الصفات نادر وتأليفها بالقدر اللازم عسير؛ فالحراس الفلاسفة أقلية، يقضون خمس سنين في دراسة الفلسفة والمران على المناهج العلمية؛ ليجيدوا فهم الحقيقة والدفاع عنها، ثم يزج بهم في الحياة العامة ويعهد إليهم بالوظائف الحربية والإدارية إلى سن الخمسين، فالذين يمتازون في العمل كما قد امتازوا في النظر يرقون إلى مرتبة الحكام، ويدعون الحراس الكاملين، فهم خلاصة الخلاصة قد زال من نفوسهم في هذه السن الطمع وما زال النشاط، فيعيشون فلاسفة متوفرين على تأمل المعقولات الصرفة والخير المطلق، ويتناوبون الحكم يزاوله كلٌّ بدوره — وهذه هي الموناركية أي حكم الفرد العادل — أو جماعة جماعة — وهذه هي الأرستقراطية أي حكم الطائفة العادلة — على حد سواء ما داموا محافظين على المبادئ.
وإنما نريد الحكام فلاسفة؛ لأن التربية الأولى خلقت في الحراس ظنونًا صادقة وعواطف طيبة، مستعينة بالطبع والتطبع لا بالعلم، فيمكن أن تضعف الظنون بالنسيان وأن تلين العواطف للخوف أو للإغراء، فلا بد أن يكون الحكام فلاسفة يعلمون الخير ويريدونه إرادة صادقة، والفيلسوف هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يتصور القوانين العادلة تصورًا علميًّا وأن يلقنها للآخرين بأصولها وبراهينها فتدوم في المدينة، بينا تصور السياسيين العمليين، إن أصاب، فهو ظني لا ينقل للغير فيقبر معهم.
(د) هذا نموذج يحتذى ولكنه لا يحقق بالتمام؛ لأن كمال المثال ممتنع على كل ما هو محسوس، وما يحقق من هذا النموذج لا يدوم؛ لأن كل ما يتكون فهو عرضة للفساد لا محالة، وإذا فسدت مدينتنا تدهورت من حكومة إلى أخرى أردأ منها حتى تبلغ أسوأ الحكومات كأنها مدفوعة بقوة قاهرة وقانون ضروري، والحكومات خمس، فقد سبق القول: إن الحكومة الفاضلة إما أن يتولاها فرد فتسمى موناركية أو ملكية، وإما أن يتولاها جماعة فتسمى أرستقراطية، ولا فرق بين الحكومتين؛ وإنما هما واحد في الحقيقة، ويحدث أن يخطئ الرئيس أو الرؤساء في اختيار الوقت الملائم للتزويج فينجب للدولة أولاد حين لم يكن يجب، أو أن يخلطوا بين الأكفاء وغير الأكفاء فينجب للدولة أولاد بعيدون عن مشابهة آبائهم حكمةً واعتدالًا، أو أن يتهاونوا في تربية الأحداث؛ فيضطرب النظام وتنشب الفتن، ولكن الحكام والجند يتغلبون آخر الأمر؛ لأنهم ما يزالون ممتازين وما تزال القوة في أيديهم، غير أنهم لا يعيدون النظام إلى نصابه، وقد انحطت قيمتهم بفساد الوراثة أو التربية، بل يستغلون غلبتهم لمنفعتهم الذاتية، فيقتسمون الأراضي والدور، ويستخدمون الشعب في شئونهم الزراعية والصناعية بعد أن كان الشعب حرًّا يوفر لهم أسباب المعاش، ويهملون الدرس والنظر مؤثرين المال والسلطان: وهذه هي الطيموقراطية أو حكومة الطماعين.
ويصبح للمال أهمية عظمى، ويثرى البعض دون البعض، ويقتضى نصاب مالي لولاية الوظائف العامة، فتتفكك وحدة الجماعة وتنقسم المدينة إلى اثنين: الأغنياء والفقراء، وتسود الشهوات الدنيئة ويكثر اللصوص: وهذه هي الأوليغركية أو حكومة الأغنياء.
ويزداد الأغنياء طلبًا للثروة، فيقرضون الشبان الموسرين مالًا بالربا ينفقه هؤلاء في الملذات فيصيبهم الفقر وتبقى لهم نعرتهم فيبدو لهم أن يعارضوا الثروة بالقوة، فيثيرون الشعب فيفوز الفقراء الأقوياء على الأغنياء المترفين: وهذه هي الديموقراطية أو حكومة الكثرة، وشعارها الحرية والمساواة المطلقة دون اعتبار لقيم الرجال.
ويبرز من بين دعاة الديمقراطية وحماة الشعب أشدهم عنفًا وأكثرهم دهاءً، فينفي الأغنياء أو يعدمهم، ويلغي الديون، ويقسم الأراضي، ويؤلف لنفسه حامية يتقي بها شر المؤامرات، فيغتبط به الشعب ويستأثر هو بالسلطة، ولكي يمكن لنفسه ويشغل الشعب عنه ويديم الحاجة إليه يشهر الحرب على جيرانه بعد أن كان قد سالمهم؛ ليفرغ إلى تحقيق أمنيته في الداخل، ويقطع رأس كل منافس أو ناقد، ويقصي عنه كل رجل فاضل، ويقرب إليه جماعة من المرتزقة والعتقاء، ويجزل العطاء للشعراء الذين نفيناهم من مدينتنا، فيكيلون له المديح كيلًا، وينهب الهياكل ويعتصر الشعب ليطعم حراسه وأعوانه، فيدرك الشعب أنه انتقل من الحرية إلى الطغيان، وهذه هي الحكومة الأخيرة.
(ﻫ) هذا تلخيص المقالات السياسية في الجمهورية يتبين منه القارئ أن أفلاطون نهج منهج الرياضي، يضع الأصول ويستخرج نتائجها دون التجاء للتجربة، كأن بني الإنسان آحاد مجردة أو أشكال هندسية، وكأن طبائع الاجتماع تطيع المشرع كما يطيع الصلصال يد الخزاف، ولقد ظن الفيلسوف أنه يحتاط للأمر بما فيه الكفاية إذا هو أراد المدينة على أن تكون صغيرة لا تزيد ولا تنقص فيسهل تحقيق العدالة فيها على النحو الذي تصور، ولكنه وضع لذلك قيودًا فظيعةً وقوانينَ وحشيةً، وبالغ في تقدير القوة البدنية وفي تمثيل الإنسان بالحيوان؛ ولو أنه ذكر في هذا الموقف مذهبه في النفس الناطقة، وشرفها وجمالها لكان نبا عن هذه المخازي التي أخذها عن الأسبرطيين الغلظاء، كما أخذ عنهم بدعة المرأة الجندية فأخطأ فهم طبيعة المرأة وحقيقة شأنها في المجتمع، وهو الذي أقام مدينته على تفاوت الاستعدادات، وعرف أن المرأة أضعف من الرجل بالطبع لم يفطن إلى أنه لا خير للجندية في المرأة؛ ولا للمرأة في الجندية، ولو أنه ذكر مذهبه في النفس لكان احترم النفس في كل جسم ولم يزهقها جزافًا، ولكان فهم الزواج الإنساني على أنه اتحاد النفس بالنفس لا يخضع لإرادة غريبة تعقده وتحله كما تشاء، ولكان فهم أن روابط الأسرة أكبر عامل على تهذيب الطبع وترقيق الشعور، وتمدين الإنسانية؛ فإن انفصمت لم تُمْحَ الأنانية كما توهم؛ بل محيت المحبة، وإنما تنشأ المحبة من هذه الروابط المعروفة المحسوسة بين أفراد الأسرة.
الحق أن قارئ «الجمهورية» ينتظر من صاحبها غير هذه العدالة المنقوصة، وإن هو التمس له العذر بأن الحرب ضرورة يمتنع تفاديها، وأن الرق كان قديمًا في حكم الضرورة، فهو لا يفهم أن تقصر العدالة على اليونان دون سائر خلق الله بعد أن علم أن الإساءة إلى العدو هي أولًا وقبل كل شيء إساءة إلى الذات، لقد بدا لأفلاطون أن يطالع مثال الإنسان وهو ينظم حياة الفرد، ثم فاته أن يطالعه وهو ينظم المدينة والإنسانية.
(٤٢) المدينة الإنسانية
(ب) فالواجب أن يكون للدولة دستور — وهذه الفكرة أصل كتاب «القوانين» وهو آخر وأوسع ما كتب أفلاطون — موضوعه التشريع لتحقيق المثل الأعلى للمدينة كما رسمته «الجمهورية» لكن مع مراعاة طاقة الإنسان ومقتضيات الحياة، وهو ينقسم بالإجمال ثلاثة أقسام: المقالات ١–٤: مقدمة عامة في أن التشريع يجب أن يقوم على الفضيلة والعدالة، والمقالات ٥–٨ في نظام الدولة السياسي وقوانينها، والمقالات ٩–١٢ في الجزاءات من ثواب وعقاب؛ ففي المقالة الأولى ينعي أفلاطون على المشرعين والسياسيين رأيهم أن الدولة حربية قبل كل شيء وأن النصر المبين قهر العدو الخارجي، ويذهب إلى أنه التغلب على العناصر الرديئة في النفس وفي المدينة وتعهدها حتى تنصلح، فخير الحالات السلم لا الحرب، وهو الغاية التي يجب على المشرع أن يتوخاها في وضع دستوره، والشجاعة الحربية أدنى نوعي الشجاعة والنوع الأرفع والأشق مغالبة اللذة وقمع الشهوة، فالشجاعة الحربية في المحل الرابع بعد الحكمة والعفة والشجاعة الأدبية. ونأخذ من المقالة الثالثة أن خير الحكومات، الأرستقراطية المقيدة بهيئات نيابية تكفل التوازن بين السلطات المختلفة، وهي وسط بين الطغيان والديمقراطية: الطغيان يسرف في حب السلطة، والديمقراطية تغلو في حب الحرية، فكلاهما رديء في ذاته ولكن المزج بينهما بالقدر الملائم ينتج النظام الأمثل في هذه الحياة الدنيا. ولا يذكر أفلاطون الطبقات الثلاث المقابلة للقوى النفسية، ويصطنع قسمة أخرى ثلاثية كذلك، فيضع المواطنين وعبيدهم من ناحية، والصناع والغرباء يحترفون التجارة من ناحية أخرى، وجيشًا أهليًّا من ناحية ثالثة، ويعدل عن الشيوعية ولو أنه ما يزال يرى فيها دواء الأثرة، إلا أنه قد أيقن أن البشر «يولدون وينشئون كما نرى اليوم» لا قبل لهم بها، وأنها إنما تصلح لموجودات أسمى من البشر، فهو يقول بالملكية ولكنه يحض المالك على أن يعتبر ملكه خاصًّا بالمدينة كما هو خاص به، وهو يقول بالأسرة ويشيد بكرامة الزواج ولكنه يبقي على رأيه في تحديد النسل؛ لأنه يستبقي مدينته صغيرة ويحدد عدد الأسر بخمسة آلاف وأربعين؛ «لأن هذا العدد ينقسم بالتمام على الأعداد الاثني عشر الأولى ما خلا أحد عشر!» ويخص كل أسرة بحصة من الأرض لا تباع ولا تجزأ بل يورثها الأب لمن يختار من أبنائه الذكور، ويعتبر في تقدير الحصة نوع التربة بحيث لا يُغبن أحد، والحصة قسمان: أحدهما قريب من المدينة، والآخر بعيد، ويغلب أن يكون القصد حمل المواطنين على محبة المدينة كلها والدفاع عن القلب والأطراف على السواء، وتكتفي الأسرة بغلاتها فلا تقتني ذهبًا ولا فضة، وتحظر الحكومة تداول النقد إلا بمقدار ما يلزم لشراء الضروريات وصرف أجور العمال، فلا تزيد الثروة، وهذا خير للدولة؛ لأن فلاحها يقوم بالفضيلة وحدها، أما عدم تساوي الأسر في الثروة فسبب للحسد والشقاق (م٥). والسلطات سبع: (١) حراس الدستور وعددهم ٣٧ يحافظون عليه ويحولون دون تعديله. (٢) القواد وعددهم ثلاثة يعينون الضباط لمختلف فرق الجيش. (٣) مجلس الشيوخ وأعضاؤه ٣٦٠ يحكمون بالاتفاق مع حراس الدستور، يتداولون السلطة كل ثلاثين منهم شهرًا، وفي باقي السنة يعنون بشئونهم الخاصة. (٤) الكهنة والكاهنات في عدد يكفي لإقامة الطقوس والعناية بالهياكل. (٥) الشرطة. (٦) «وزير للتربية» ينتخبه الشيوخ لخمس سنين. (٧) المحاكم؛ وهي ثلاث: واحدة لفض الخلافات الشخصية وتؤلف من جيران المتخاصمين، وأخرى تستأنف إليها الخصومات التي تعجز المحكمة الأولى عن فضها، والثالثة للحكم في الجنح والجنايات، وأفلاطون يريد التربية الفاضلة بالطبع، ولكنه يلطف من صرامته بإزاء التراجيديا والكوميديا؛ فيسمح بهما على شرط أن تعرض القصص على «قلم مراقبة»، وألا يتعاطى مهنة التمثيل المرذولة سوى العبيد والأجانب، وهو يعلن هنا أن الرق ضرورة يقبلها على كره، وأن السبب في انحطاط الرقيق ليس الطبيعة؛ بل سوء المعاملة (م٦).
(ﺟ) ويمضي أفلاطون في سرد القوانين وتبيان الجزاءات ويعنى بأن يمهد لكل قانون «بمذكرة إيضاحية» وأن يعقب عليه بعظة خلقية؛ لأن القانون الخليق بهذا الاسم صنع العقل ونتيجة العلم يصدر للعقل فيولد العلم، ولأن حقيقة الشارع أنه هادٍ ومُرَبٍّ يُقنع قبل أنْ يأمر (م٤)، ويرتقي أفلاطون إلى أصل القوانين والمبدأ الذي تستمد منه سلطانها فيقول: إن الله لا يحكمنا مباشرة بل بواسطة العقل الذي وهبنا، فالقوانين التي يقررها العقل تحاكي قوانين العناية الإلهية وترمي إلى الخير العام؛ فالخضوع لها واجب، ولكنه يسرف في التقنين والتنظيم، ويتدخل في أدق الشئون فيبين أن عقليته الرياضية لم تفارقه، وأنه ما يزال يرنو إلى مدينته الأولى، ويعتقد أن الأمور الاجتماعية والاقتصادية من البساطة بحيث يمكن إخضاعها للقانون، وكل الفرق هو أنه يحاول أن يستخرج من عقل الملك الفيلسوف الحكمة السياسية كلها دفعة واحدة؛ ليحلها محله، ناسيًا ما قرره من أن الأحوال الإنسانية دائمة التغير وأن القانون أصلب من أن يتلاءم مع كل حال، وهو يرمي إلى إقامة حكم العقل والعدل واستبقاء وحدة الأمة بتلطيف الأثرة الشخصية إلى الحد الأدنى، وبالحيلولة دون البدع، فيضع مجموعة واسعة من الأوامر والنواهي تخنق كل استقلال في الفكر، وتجرد الفرد من نزعاته الطبيعية لتتركه آلة صماء وعبدًا للدولة، فهو ينتهي إلى صورة من الحكم المطلق هي أعقد صوره وأعجزها عن تحقيق الغرض من الحكومة، غير أنه خلف لنا عددًا كبيرًا من الآراء الجزئية هي ربح صافٍ للاجتماع والسياسة.