حياته ومصنفاته
(٤٤) حياته
(ب) ولما توفي أفلاطون غادر أرسطو أثينا، وتريد هاته الأقاويل أن يكون سبب ارتحاله حنقه من ترؤس غيره على المدرسة، والإنصاف يقضي أن نذكر أن موقفه في المدينة كان قد تحرج، وقد تألف فيها حزب وطني بزعامة ديموستين لمقاومة فيليبوس، وكانت علاقة أسرة أرسطو بالبلاط المقدوني معلومة للجميع، قصد إذن إلى آسيا الصغرى وقضى فيها مدة وتزوج، وفيما هو هناك استقدمه فيليبوس؛ ليعهد إليه بتثقيف ابنه الإسكندر البالغ من العمر ثلاث عشرة سنة، ولا نعلم كيف كان منهجه مع تلميذه ولكنا نعلم أن فيليبوس أمر بإعادة بناء أسطاغيرا من ماله الخاص فدل بذلك على عظيم مكانة الفيلسوف عنده، واستمر أرسطو على العناية بولي العهد أربع سنوات متصلة حتى إذا ما بلغ الإسكندر السابعة عشرة شارك الجيش في حروبه وذاق لذة النصر فتباعدت الصلة بينهما، ولما ناهز العشرين نودي به ملكًا بعد أبيه المقتول غيلة، فتوفر على توطيد حكمه وتوسيع سلطانه، وعاد أرسطو إلى أثينا في أواخر سنة ٣٣٥، وكانت قد خضعت لقوة فيليبوس.
(ﺟ) فلما استقر بها أنشأ مدرسة في ملعب رياضي يدعى لوقيون فعرفت بهذا الاسم، ولكنه لم يكن صاحبها القانوني؛ لأنه كان أجنبيًّا فسجلها باسم ثاوفراسطوس صديقه وتلميذه ووهبه لهذا الغرض منازل وبساتين ابتاعها في المدينة، وقسم رجال المدرسة طائفتين: أعضاء مسنين ينتخبون الرئيس، وأعضاء أحداثًا، وكان من عادته أن يغشى ممشى إلى جانب الملعب فيوافيه التلاميذ إليه فيلقي عليهم دروسه وهو يتمشى وهم يسيرون من حوله؛ فلقب لذلك هو وأتباعه بالمشائين، ويقال: إن دروسه كانت نوعين: صباحية مخصصة للتلاميذ تدور على الفلسفة، ومسائية عامة تدور على الخطابة، ويذكر كذلك أنه أنشا مكتبة كانت الأولى من نوعها في العصر القديم ومعملًا للتاريخ الطبيعي، ويشهد ما وصل إلينا من كتبه وكتب تلاميذه على أن العمل كان كثيرًا والبحث شاملًا جميع فروع العلم.
(د) وبعد اثنتي عشرة سنة اضطر أرسطو أن يبرح أثينا مرة ثانية، فإن الإسكندر مات بالحمى سنة ٣٢٣ فعاودت ديموستين وحزبه آمالهم وعادوا إلى نشاطهم وأخذوا يطاردون الأجانب، واتجهت الأنظار إلى أرسطو مع أنه لم يشتغل بالسياسة قط، ومع أن العلائق كانت قد توترت بينه وبين الإسكندر من قبل سنتين لما علم الملك بمؤامرة عليه وقتل فيمن قتل من المتآمرين ابن أخت أستاذه، لم يبالِ الأثينيون بذلك ولجئُوا إلى حيلة طالما اصطنعوها من قبل فاتهموه بالإلحاد فعهد بالمدرسة إلى ثاوفراسطوس وغادر المدينة وهو يقول متهكمًا: «لا حاجة لأن أهيئ للأثينيين فرصة جديدة للإجرام ضد الفلسفة.» وقصد إلى مدينة خلقيس في جزيرة أوبا، وكان ممعودًا منذ زمن طويل فمات هناك بمرضه في السنة التالية وهو في الثالثة والستين، عن زوجته الثانية — وكانت الأولى قد توفيت — وابنة من هذه، وابن من تلك اسمه نيقوماخوس.
(٤٥) مصنفاته
(أ) لكتب أرسطو قصة ذكرها أسترابون في جغرافيته وأفلوطرخس في ترجمة سيلَّا ملخصها أن ثاوفراسطوس لما حضرته الوفاة أوصى بمكتبته لزميل له وكانت فيها مخطوطات أرسطو مع مخطوطاته، فلما توفي هذا الزميل وأدرك ورثته قدر الكتب ضنوا بها أن تقع في أيدٍ غريبة، وكان بعض الأمراء وقتذاك يطلبون الكتب في جميع مظانها، فخبئُوها في قبو بقيت فيه مائة سنة أو أكثر إلى أن اكتشفت مكدسة من غير ترتيب، وقد نال منها التعفن فاشتراها رجل خبير بالكتب واستنسخها كما وجدت دون عناية بإصلاح ما فسد منها، ثم وقعت مكتبة هذا الرجل في أيدي الرومان فنقلوها إلى روما وكلفوا بمراجعتها عالمًا كان عند شيشرون مؤدبًا وأمينًا للمكتبة، فلم يجئ عمله وافيًا بالمرام فعرض للأمر بعد ذلك بقليل أندرونيقوس الرودسي الزعيم الحادي عشر على اللوقيون بعد أرسطو، وأخرج للناس نسخًا صحيحة أضاف إليها فهارسَ وكتابًا بين فيه المنهج الذي اتبعه. هذه القصة موضوعة من غير شك؛ إذ كيف يعقل أن مكتبة اللوقيون لم تكن تحتوي على نسخ من مصنفات أرسطو يرجع إليها المعلمون والتلاميذ؟! وكان للمدرسة فروع منها فرع رودس أنشأه أوديموس تلميذ أرسطو وخرج منه أندرونيقوس فكيف يمكن الاعتقاد أن هذه المدارس كانت خلوًا من نسخ تعول عليها؟ يلوح أن الأصل في وضع القصة أن الجمهور المثقف لم يكن يعرف من أرسطو غير المصنفات التي أذاعها في دور الشباب، وأن تآليفه العلمية بقيت وقفًا على بعض المدارس والعلماء إلى أن نشرها أندرونيقوس في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، وقد نسلم بصحة القصة إجمالًا فلا يلزم منها سوى أن ما ترويه من الأحداث أصاب نسخًا من كتب أرسطو لم تكن هي مخطوطاته ولا النسخ الوحيدة؛ لما قدمناه.
(ب) أما مصنفات الشباب فقد ضاعت جميعًا، وكل ما نعلمه عنها مستمد من فهارسَ قديمةٍ وإشاراتٍ ومقتبساتٍ وردت لدى قدماء الكتاب، هي محاورات على طريقة أفلاطون في عهده الأخير، بل إن الحوار فيها قصير جدًّا لا يتعدى افتتاح الكلام ووضع المسألة ثم يشرح المؤلف رأيه في خطاب طويل كما يشرح سقراط رأي أفلاطون، يذكرون منها: السياسي، السوفسطائي، منكسينوس، المأدبة، في البيان، إسكندر، في العدالة، في الشعراء، في الصحة، في الصلاة، في التربية، في اللذة، ويذكرون «أوديموس» في خلود النفس، ويقولون: إن أرسطو حذا في هذا الكتاب حذو أستاذه في «فيدون» وأبان ضمنًا أنه كان يقبل القول بحياة سابقة وبالتناسخ والتذكر، وكتابًا «في الفلسفة أو في الخير» وضعه في الوقت الذي كان يتحرر فيه من تأثير أفلاطون، بدأه بفذلكة عن تاريخ الفكر وتقدم الإنسانية، وتطرق إلى نقد نظرية المثل وحدوث العالم، وانتهى بالبرهنة على ألوهية الكواكب.
- (١)
الكتب المنطقية، وقد لقبت فيما بعد بأورغانون أي الآلة «الفكرية»: المقولات، العبارة، التحليلات الأولى أو القياس، التحليلات الثانية أو البرهان، الجدل، الأغاليط، وقد جرت عادة الفلاسفة الإسلاميين أن يذكروها بأسمائها اليونانية فيقولون: قاطيغورياس، باري أرمنياس، أنالوطيقا الأولى، أنالوطيقا الثانية، طوبيقا، سوفسطيقا.
- (٢)
الكتب الطبيعية ومنها كتب كلية يتعلم منها الأمور التي تعم جميع الطبائع، وكتب جزئية يتعلم منها الأمور التي تخص كل واحد من الطبائع وهي: السماع الطبيعي أو سمع الكيان — وهو كتاب كلي في الطبيعة — الكون والفساد، الآثار العلوية، المسائل الحيلية — الآليات — يشك البعض في إمكان نسبتها إليه ويقبلها البعض، ثم كتاب النفس؛ وهو كلي يأتي بعده ثمانية كتب صغيرة جمعت تحت اسم «الطبيعيات الصغرى» هي: الحس والمحسوس، الذكر والتذكر، النوم واليقظة، تعبير الرؤيا في الأحلام، طول العمر وقصره، الحياة والموت، التنفس، الشباب والهرم. ثم خمسة كتب في التاريخ الطبيعي هي تاريخ الحيوان، أعضاء الحيوان، تكوين الحيوان، مشي الحيوان، حركة الحيوان.
- (٣)
الكتب الميتافيزيقية أي ما بعد الطبيعة: يلوح أن أندرونيقوس هو الذي جمعها على الترتيب المعروف منذ أيامه ووسمها بهذا الاسم؛ لأنها تأتي بعد الطبيعيات، وكان أرسطو قد سمى موضوعها بالعلم الإلهي وبالفلسفة الأولى، وهي تؤلف مجموعة واحدة وتعرف عند الإسلاميين بهذه الأسماء الثلاثة وأيضًا بكتاب الحروف؛ لأنها مرقومة بحروف الهجاء اليونانية.
- (٤)
الكتب الخلقية والسياسية: الأخلاق الأوديمية «في سبع مقالات» والأخلاق النيقوماخية «في عشر مقالات»، والأخلاق الكبرى «في مقالتين»، والكتابان الأول والثاني روايتان لدروس أرسطو الشفوية، ولكن الأول أقدم؛ لأنه أقرب إلى أفلاطون، والثاني أقرب إلى مذهب أرسطو وأكمل؛ لأن المقالات: الرابعة والخامسة والسادسة من الأول ضاعت فوضعت مكانها المقالات المقابلة لها في الثاني، أما الثالث فهو تلخيص الكتابين بالرغم من ضخامة اسمه، ولم نقل الأخلاق «إلى» نيقوماخوس و«إلى» أوديموس؛ لأن الإخصائيين الآن يعدلون عن هذه الترجمة ويقولون: إن العنوان اليوناني مبهم يحتمل ثلاثة معاني: الواحد «الأخلاق إلى …» يعني أن الكتاب مهدى إلى … والآخر «أخلاق نيقوماخوس» يعني اسم الناشر، والثالث «الأخلاق النيقوماخية» ويذهبون إلى أن المعنى الأول غير مقبول بحجة أن الكتاب من أقدم كتب أرسطو فيما يلوح، وأن نيقوماخوس كان صبيًّا عند وفاة أبيه، ولسنا نرى ما الذي يمنع أن يكون أرسطو أضاف اسم ابنه للكتاب، كذلك يرفضون المعنى الثاني بحجة أن ليس عليه دليل، ويميلون للمعنى الثالث؛ لأنه مبهم كالأصل، ويقال مثل ذلك في الأخلاق الأوديمية؛ أي أنْ ليس هناك ما يؤيد المعنى الأول أو الثاني. أما الكتب السياسية فهي كتاب السياسة، وكتاب النظم السياسية وهو مجموعة دساتير نحو ١٥٨ مدينة يونانية لم يصل إلينا منها سوى دستور أثينا وجد في مصر على بردي سنة ١٨٩٠.
- (٥)
الكتب الفنية وهي: الخطابة، والشعر.
(د) وتُذكر له كتب أخرى أثبت النقد أنها منحولة: منها كتاب العالم، كان قد ضم إلى كتاب السماء ولقب بالسماء والعالم ولكن فيه آراء رواقية تخرجه من المجموعة الأرسطوطالية، ومنها تدبير المنزل، وكتاب المسائل يتناول مسائل من مختلف العلوم وهو يرجع إلى المدرسة، وكتاب «في مليسوس وأكسانوفان وغورغياس» وهو بقلم أرسطوطالي من أهل القرن الأول للميلاد (انظر ما قلناه في الحاشية على عدد ١٥–ب) وكتاب المناظر، وكتاب الخطوط، وكتاب فيضان النيل، وكتاب اللاهوت المعروف عند الإسلاميين «بأوثولوجيا أرسطوطاليس» وهو مجموعة مقتطفات من أفلوطين. ويتبين من هذا الفهرس أن مؤلفات أرسطو موسوعة كبرى انتظم فيها العلم القديم بأكمله ما عدا الرياضيات، ولئن بليت أجزاء منها بتقدم العلوم، فإن كتبه الفلسفية وكثيرًا من نظرياته المنبثة في كتبه الجزئية خالدة؛ ليس فقط من حيث أهميتها التاريخية؛ بل أيضًا وعلى الأخص من حيث قيمتها الذاتية.
(٤٦) أسلوبه
(أ) كان القدماء معجبين بكتابة أرسطو، وقد قال شيشرون: إن أسلوبه يتدفق كنهر من تبر. ولا شك أن هذا الإعجاب كان منصبًّا على مصنفاته الأولى؛ فإن كتبه العلمية جافة مجهدة موضوعة بلغة دقيقة لا تخلو من الاقتضاب والغموض، وليس فيها حوار ولا قصص ولا شيء مما يتميز به أسلوب أفلاطون، وكان أرسطو قد دل على هذا الاتجاه منذ المرحلة الأولى؛ إذ قسم للحوار نصيبًا ضئيلًا وللشرح النصيب الأوفر، على أن الكتب العلمية تحمل البينات على صدق إعجاب القدماء فكتبه في الجدل والشعر والخطابة تدل على تضلعه من الثقافة اليونانية بجميع فنونها، وعلى رسوخ قدمه في الأدب وسمو ذوقه، ثم هو قد عني عناية عظيمة بتحديد معاني الألفاظ، ووضع ألفاظًا جديدة في العلوم وفي الفلسفة ذاعت في لغته ونقلت إلى اللغات الأوروبية وإلى اللغة العربية بحيث يصح أن يقال: إنه الواضع الحقيقي للغة العلمية العامة.