المنطق
(٤٧) المنطق وأقسامه
(٤٨) المقولات
(أ) هي عشر مذكورة هنا بتمامها، ومذكورة تارة كلها، وتارة بعضها في جميع كتب أرسطو تقريبًا، وهي: الجوهر مثل رجل، الكمية مثل ثلاثة أشبار، الكيفية مثل أبيض، الإضافة مثل نصف، المكان مثل السوق، الزمان مثل أمس، الوضع مثل جالس، الملك مثل شاكي السلاح، الفعل مثل القطع، الانفعال مثل مقطوع. والكتاب مقدمة لكتاب العبارة أي القضية، ولفظ «قاطيغورياس» يعني عند أرسطو الإضافة أو الإسناد؛ فعلى ذلك المقولات أمور مضافة أو مسندة أو «مقولة» أي محمولات، أو بتعريف أدق: المقولة معنى كلي يمكن أن يدخل محمولًا في قضية، ولا يخرج الجوهر عن هذا التعريف مهما يتبادر إلى الذهن من أن المقولات التسع تحمل عليه وهو لا يحمل على شيء؛ فإن الجوهر أول وثان: الأول هو الجزئي الموجود في الواقع، وهو الذي لا يضاف إلى موضوع وليس حاصلًا في موضوع مثل سقراط، والثاني هو النوع والجنس أي ما يعبر عن ماهية الجوهر الأول ويندرج تحته الجوهر الأول مثل إنسان وحيوان، وهو يضاف إلى موضوع كقولنا: «سقراط إنسان»، ولو أن الجوهر الأول يمكن أن يضاف بالعرض مثل: «هذا العالم هو سقراط»؛ إلا أنه دائمًا موضوع بالذات كما تقدم، والجوهر الذي هو مقولة هو الجوهر الثاني. ويختلف الجوهر عن باقي المقولات في أمور؛ أهمها: قبوله الأضداد بينما هي لا تقبل أضدادها؛ وذلك لأنه موضوع التغير فيمكن أن ينقلب من أبيض إلى أسود، ومن طيب إلى رديء، أما هي فتغيرها زوالها، والجوهر الأول مقدم في الجوهرية على الثاني؛ أي إن الجزئي مقدم على الكلي؛ لأنه هو الذي يوجد حقًّا ويقبل العوارض؛ بينما الكلي لا يوجد من حيث هو كذلك إلا في الذهن، وبين الجواهر الثانية النوع جوهر أكثر من الجنس؛ لأنه أقرب إلى الوجود الحقيقي يتشخص في الجزئي، أما الجنس فلا يتشخص إلا بواسطة النوع، وهذا الترتيب يعارض الترتيب الأفلاطوني النازل من المثل باعتبارها الموجودات الحقة إلى الجزئيات المعتبرة أشباحًا، ويدل على الاتجاه الواقعي عند أرسطو إلى جانب اعتقاده أن العلم موضوعه الكلي، وأن ما يزيده الجزئي على الماهية الكلية إنما هو آتٍ من المادة المحسوسة التي لا تدخل العلم.
(ﺟ) لم يذكر أرسطو المبدأ الذي اعتمد عليه في تقسيم المقولات، فذهب بعض المؤلفين إلى أنه جمعها جمعًا تجريبيًّا، ولسنا نظن ذلك، وعلى كل حال يمكن وضعها وضعًا منطقيًّا، وقد فعل ذلك القديس توما الأكويني في شرحه على ما بعد الطبيعة — المقالة الخامسة الدرس التاسع — على النحو الآتي، قال: قد تكون نسبة المحمول إلى الموضوع على ثلاثة أوجه: فإما أن يكون المحمول هو الموضوع، وإما أن يؤخذ من ذات الموضوع، وإما أن يؤخذ مما هو خارج عن الموضوع، فمن الوجه الأول المحمول هو الموضوع في قولنا «سقراط إنسان» فإن سقراط هو ما هو إنسان، والمحمول هنا يعبر عن الجوهر «الأول»، ومن الوجه الثاني المحمول صفة للموضوع، وهذه الصفة إما أن تكون لازمة للموضوع من مادته؛ وهذا هو الكم، أو من صورته؛ وهذا هو الكيف، وإما أن تكون له بالإضافة إلى آخر وهذه هي الإضافة، ومن الوجه الثالث المحمول خارج عن الموضوع إما بالمرة وإما بعض الشيء: والخارج بالمرة إما مِلك وإما مقاس، والمقاس إما زمان وإما مكان، والمكان إما «أين» غير ملحوظ فيه ترتيب أجزاء الجوهر في المكان، وإما «وضع» ملحوظ فيه ذلك، والخارج بعض الشيء إما أن يكون الموضوع مبدأ له وهذا هو الفعل، وإما أن يكون نهاية وهذا هو الانفعال.
(٤٩) العبارة
(أ) كتاب العبارة مقالة واحدة في اليونانية ككتاب المقولات ومقسم إلى مقالتين في الترجمة اللاتينية، والعبارة «صوت مفرد أو مركب دال بنفسه دلالة وضعية» فهي إذن غير الصوت الدال بالطبع الصادر عن البهائم والإنسان كالتأوه والأنين، وغير الحروف؛ فإنها لا تدل بنفسها؛ بل مع غيرها، والصوت المفرد هو الاسم والفعل والأداة أي الحرف، والصوت المركب هو المؤلف وهو الأجدر باسم العبارة أو القضية؛ لأنه وحده يتضمن الصدق أو الكذب ويصح السكوت عليه، أما الاسم والفعل فأجزاء العبارة، وينظر فيها الكتاب بهذا الاعتبار فيستبعد من العبارة التمني والدعاء والاستفهام؛ لأن العبارة تركيب محمول مع موضوع بالرابطة أي بلفظة دالة على نسبة بينهما، وقد تطوى هذه الرابطة فتسمى العبارة ثنائية كقولنا: سقراط كاتب أو سقراط يتكلم، وقد تعلن فتسمى العبارة ثلاثية مثل سقراط هو كاتب، ولو كان الإنسان حيوانًا أعجم لاكتفى بما يقوم في نفسه من الانفعالات عن الأشياء واقتصر على الأصوات الطبيعية التي تترجم عن الانفعال الحاضر، ولكنه حيوان ناطق مدني فاحتاج إلى تأدية انفعالاته للآخرين فاصطنع الألفاظ والكتابة: الكتابة دلالة الألفاظ، والألفاظ دلالات انفعالات النفس، والانفعالات مُثُل الأشياء؛ لأن الشيء إنما تدركه النفس بمثال منه في الحس أو في العقل، ولكن دلالة الكتابة على الألفاظ وضعية باتفاق الجميع، ودلالة الألفاظ على الانفعالات وضعية كذلك؛ خلافًا لما ذهب إليه أفلاطون في «أقراطيلوس»؛ إذ لو كانت طبيعية لاتفقت عند الناس اتفاق الأصوات الطبيعية، وأما دلالة الانفعالات على الأشياء فطبيعية؛ لذلك كانت واحدة عند الكل.
(٥٠) التحليلات الأولى
(أ) التحليلات أتاها اسمها من موضوعها ومنهجها؛ فموضوعها أجزاء القياس والبرهان وهما آلة العلم الكامل، ومنهجها تحليل القياس والبرهان إلى أجزائهما، فإن العلم الكامل إدراك الشيء بمبادئه، ولا يتسنى هذا الإدراك إلا بالتحليل، والبرهان ينظر إليه من حيث صورته ومن حيث مادته، فهو ينحل إلى مبادئ صورية وأخرى مادية، والتحليلات التي ترد البرهان إلى المبادئ الصورية التي يتعلق بها لزوم التالي من المقدم لزومًا بينًا ضروريًّا بصرف النظر عن مادة البرهان تسمى بالأولى وهي مقالتان، والتحليلات التي ترد البرهان إلى المبادئ المادية التي يتعلق بها صدق التالي تسمى بالثانية، وهي مقالتان كذلك.
- (١)
يتألف القياس من ثلاثة حدود لا أكثر.
- (٢)
في كل قياس لا بد من مقدمة موجبة؛ أي لا تلزم نتيجة عن سالبتين.
- (٣)
في كل قياس لا بد من مقدمة كلية؛ أي لا تلزم نتيجة عن جزئيتين.
- (٤)
النتيجة الكلية لا تلزم إلا عن كليتين؛ أي إذا كانت إحدى المقدمتين جزئية فالنتيجة جزئية حتمًا.
- (٥)
النتيجة الموجبة لا تلزم إلا عن موجبتين؛ أي إذا كانت إحدى المقدمتين سالبة فالنتيجة سالبة حتمًا. وقد جُمعت بعد ذلك القاعدتان الأخيرتان في واحدة هي أن النتيجة تتبع أضعف — أو أخس — المقدمتين.
(د) إذا تأملنا القياس وجدنا أن نتيجته كانت قبل تركيبه «مطلوبًا» أي إنها هي المسألة التي عرضت أولًا «هل المحمول يوافق الموضوع أم لا يوافقه؟» ثم ركب القياس لحلها، وإنما ركب بالأوسط فلا بد من منهج لاستكشاف هذا الأوسط، والمنهج أن يوضع ثبتان: واحد: لكل الموضوعات الممكنة للأكبر — المحمول — وآخر: لكل المحمولات الممكنة للأصغر — الموضوع — دون الذهاب إلى أبعد من الجنس القريب، فالحد الأوسط يوجد بالضرورة في الجزء المشترك بين الثبتين، وبعبارة أخرى توجد أشياء هي دائمًا موضوعات ولا تكون غير ذلك كالجواهر، وأخرى هي دائمًا محمولات كالأجناس العالية، وطائفة ثالثة قد تكون موضوعات وقد تكون محمولات كالأنواع، ولما كان الأوسط يجب أن يكون موضوعًا ومحمولًا فإن البحث عنه يجب أن يتجه إلى النوع أي يجب البحث عن حد مشترك بين موضوع النتيجة ومحمولها في كل ما يمكن إيجابه لأحدهما وفي كل ما يمكن أن يوجب له الآخر أو — إن كانت النتيجة سالبة — في كل ما يمكن سلبه عن الواحد أو عن الآخر، فليكن هذا المطلوب: هل سقراط مائت؟ الإنسان واحد من المحمولات التي يمكن إسنادها لسقراط وواحد من الموضوعات التي يمكن أن يسند إليها مائت فيمكن أن يقوم حدًّا أوسط بين سقراط ومائت، فاستكشاف الحد الأوسط يقتضي إمعان الفكر والنفاذ إلى الماهيات، وإذن فليس القياس قاصرًا على أنه عرض البرهان ولكنه أيضًا آلة للاستكشاف ولإقامة البرهان؛ فإن محاولة تركيب القياس شيء وتركيبه بالفعل شيء آخر وهذا ما لم ينتبه إليه نقاد القياس المتقدمون والمتأخرون، فإن قالوا: إن الاستكشاف العلمي سابق على تركيب القياس فالقياس فعل لاحق عقيم، أجبنا أن الرائد في الاستكشاف إنما هي طبيعة القياس القائمة على حد أوسط متعلق بالماهية، فالقياس علة غائية، ومعلوم أن الغاية تتصور أولًا وتحقق في النهاية.
(ﻫ) بعد تعريف القياس وتحليله يقارن أرسطو بين القياس والقسمة الأفلاطونية (٣٣–ﺟ) فيقول: إن هذه القسمة قياس ضعيف أو عاجز؛ لأنها خلو من حد أوسط، فهي تقول مثلًا: الكائنات إما حية وإما غير حية، فلنضع الإنسان في الحية؛ والحيوانات إما أرضية وإما مائية، فلنضع الإنسان في الأرضية وهكذا حتى تُحصى جميع خصائص الإنسان، ولكنها لا تبين علة إضافة خاصة دون الخاصة المقابلة وإنما تضعها وضعًا، فما لا نجده عند أفلاطون هي فكرة أن الاستدلال إقامة البرهان على أن المحمول يوافق الموضوع، وهذا لا يتحقق في القسمة، بل إن القسمة مصادرة على المطلوب الأول في جميع مراحلها. فإن صح أن القسمة الأفلاطونية هي التي أدت بأرسطو إلى القياس فإن الفرق بعيد بين الطريقتين.
(و) ومسائل المقالة الثانية قياس الدور في الأشكال الثلاثة، وقياس الخلف فيها، والفرق بين البرهان المستقيم وبرهان الخلف، ورد كل منهما للآخر في كل من الأشكال الثلاثة، والأقيسة الفاسدة وأهمها المصادرة على المطلوب الأول، ثم لواحق القياس وأهمها الاستقراء والتمثيل، وقد كثر الكلام في الاستقراء الأرسطوطالي؛ لأن صاحبه يشترط فيه ذكر الجزئيات جميعًا فقال النقاد: إن الفيلسوف لم يفهم الاستقراء على حقيقته ولم يفطن إلى إمكان إقامته على جزئيات معدودة، بله على جزئي واحد وإلى أن الجزئيات لا تقع تحت حصر، هذا اتهام باطل لا يعقل أن يجوز على واضع المنطق والفلسفة الأولى والعلم الطبيعي، وإنما ساق أرسطو عبارته هذه في واحد من الكتب التي تبحث في المنطق الصوري، فلم ينظر فيه لغير صورة الاستقراء ودل على الشرط الذي يمكن بموجبه عد الاستقراء بين الأقيسة وهو إمكان عكس الصغرى عكسًا مستويًا، ولا مشاحة في أن الانتقال من الجزئيات إلى الكلي يقتضي الجزئيات جميعًا؛ ليكون صحيحًا من الوجهة الصورية، وإلا كان التالي أعم من المقدم وبأن الاستقراء سفسطة، ولكن أرسطو لم يقل: إن هذا الشرط يمكن تحقيقه، ونفس المثال الذي يورده دليل على ذلك؛ إذ إن الجزئيات فيه غير تامة وأرسطو يعلم ذلك: «الإنسان والفرس والثور طويل العمر. والإنسان والفرس والثور قليل المرارة؛ إذن فكل حيوان قليل المرارة فهو طويل العمر.»
(ز) ولا يذكر أرسطو القضية الإضافية التي بين موضوعها ومحمولها نسبة إضافة مثل ب أكبر من ﺟ أو ب إلى يمين ﺟ وما أشبه، ولا بد أن يكون السبب في هذا الإغفال أن تعريف القضية عنده عام يشمل كل نسبة بين موضوع ومحمول، لا أنه جهل هذا النوع من القضايا الكثير الاستعمال في الرياضيات وأرسطو يلحظ الرياضيات في منطقه ويأخذ منها بعض مصطلحاته المنطقية مثل الحد والشكل، ويمثل لكل واحد من أشكال القياس بشكل هندسي خاص الخطوط فيه تمثل القضايا والنقط تمثل الحدود، كذلك لم يذكر القضية الشرطية بنوعيها متصلة ومنفصلة؛ لأنهما تنحلان إلى حمليتين، وأهمل الأقيسة المقابلة لهذه القضايا؛ لأن القياس الإضافي لا يخرج عن تعريف القياس بالإجمال، ولأن القياس الاستثنائي يرد إلى قياس اقتراني بتحويل القضية الشرطية إلى قياس إضماري مثل قولنا: «إذا كان الله ثابتًا فهو فعل محض» «شرطية متصلة» فإنه يرجع إلى «الله ثابت فهو فعل محض» ثم بالتصريح بالقضية الكبرى المطوية في هذا القياس يخرج لنا «كل ما هو ثابت فهو فعل محض، والله ثابت؛ إذن فالله فعل محض». ومثل قولنا: «العدد إما فرد وإما زوج» «شرطية منفصلة» فقد يرد إلى السابق «إذا لم يكن العدد فردًا فهو زوج» أو إلى حملية مباشرة «كل ما ليس فردًا فهو زوج.»
(٥١) التحليلات الثانية
(أ) تقع في مقالتين كالأولى: إحداهما تدور على ماهية العلم وشرائط مقدماته وخصائص البرهان بما هو برهان أي من حيث إبانته عن علة حصول المحمول للموضوع، وتدور الثانية على خصائص البرهان من حيث هو وسيلة لحد المحمولات، وعلى المطالب العلمية أي الأسئلة التي تقع في العلوم وعلى الحد وعلاقته بالبرهان. يبدأ أرسطو بالبحث في أساس العلم فيقول: إن كل علم وكل تعلم إنما يستند علم سابق، لكن لا يتسلسل العلم إلى غير نهاية فلا يتم أبدًا، ولا يتوقف بعضه على بعض فنقع في دور، وللقول بالتسلسل والدور مصدر واحد هو توهم البرهان الوسيلة الوحيدة للمعرفة، ولكن هناك مقدمات أولية لا تفتقر إلى برهان ولا تحتمل البرهان وإنما هي أصول البراهين، وللبرهان تعريف أول ظاهري بالعلة الغائية هو أنه «قياس منتج للعلم» والقياس مأخوذ هنا بمعناه المحدود من حيث هو قسيم الاستقراء، ولفظ العلم يعني معرفة العلة وهي معرفة ثابتة ضرورية بينما الإحساس والظن يقعان على الحادث والممكن، وقد يقع العلم والظن في شخصين على موضوع واحد بعينه فلا ينتفي التمييز بينهما؛ لأن موقف كل شخص من هذا الموضوع غير موقف الآخر، فالشخصان يستطيعان أن يحكما بأن الإنسان حيوان لكن أحدهما يعتبر الحيوان من ماهية الإنسان ويعتبره الآخر محمولًا حاصلًا بالفعل، والفرق ظاهر بين هذين النوعين من المعرفة، وللبرهان تعريف ثانٍ جوهري بالعناصر المؤلفة له هو أنه «القياس المنتظم من مقدمات صادقة أولية سابقة في العلم على النتيجة وأبين منها وعلة لزومها.» ولما كانت المقدمات تتضمن الموضوع والمحمول، كانت عناصرُ البرهانِ الموضوعَ والمحمولَ والمقدمتيْنِ، ووجب أن يعلم قبل البرهان أن الموضوع موجود وما هو وما المحمول أو ما يعني اسمه وأن المقدمتين صادقتان وإلا لم ينتج برهان، والصدق هنا يقتضي أن تكون النسبة بين الموضوع والمحمول نسبة ذاتية أي جوهرية فتصير المقدمة أولية، وإلا افتقرت إلى برهان ولم تصلح أساسًا يستند إليه.
(ب) ومقدمات البرهان ثلاثة أقسام: الأول مقدمات أولية بالإطلاق وتسمى «علومًا متعارفة» مثل مبادئ عدم التناقض والثالث المرفوع والعلية وهي لا تدخل عادة في القياس بل يتمشى القياس بموجبها دون ذكرها؛ أي إنها مقدمات بالقوة لا بالفعل، وهي ليست غريزية في العقل لكن العقل يكتسبها بالحدس فتبدو كالغريزية، والقسم الثاني مقدمات تسمى «أصولًا موضوعة» ليست أولية ولكن المتعلم يسلمها عن طيب نفس، والقسم الثالث مقدمات تسمى «مصادرات» يطلب إلى المتعلم تسليمها فيسلمها مع عناد في نفسه ويصبر عليها إلى أن تتبين له في علم آخر. فحينما تكون المقدمات أولية ويستدل على المعلول بالعلة يسمى البرهان «برهان لمَ» يفيد علة حصول النتيجة ويحاكي نظام الوجود حيث العلة سابقة على المعلول وهو البرهان بالمعنى الصحيح والعلم الأكمل، وهناك برهان آخر يسمى «برهان إن» وهو الذي مقدماته تقتضي البرهنة أو الذي يستدل على العلة بالمعلول وهو برهان بالمعنى الواسع؛ لأنه يترك للعقل مجالًا للتساؤل، كبرهان الطبيب الذي يستند إلى نتائج الرياضيات فيقول: إن الجروح المستديرة أبطأ اندمالًا من سواها، وكَبَرَاهِينِ علومِ المناظرِ والموسيقى والفلك التي تتقبل مبادئها من الرياضيات تقبلًا. وفي هذا القدر كفاية بعد الذي ذكرناه عن القياس وليس لنا كلام خاص في باقي مسائل الكتاب وهي مبسوطة في كتب المنطق.
(٥٢) الجدل
(أ) كان أفلاطون قد رفع الجدل إلى مقام العلم والمنهج العلمي (٣١–أ) ولكن أرسطو عاد به إلى معناه المتعارف فحده بأنه «الاستدلال بالإيجاب أو بالسلب في مسألة واحدة بالذات، مع تحاشي الوقوع في التناقض، والدفاع عن النتيجة الموجبة أو السالبة.» وليس يمكن ذلك بالاستناد إلى حقائق الأشياء؛ لأن المقدمات الصادقة لا تنتج النقيضين في آن واحد، فلا يدور الجدل إلا بمقدمات محتملة أي آراء متواترة أو مقبولة عند العامة أو عند العلماء، فالقياس الجدلي يتفق مع البرهاني في أنه استدلال صحيح ويختلف عنه في أن مقدماته محتملة، ولا يتفق مع السوفسطائي في شيء؛ لأن هذا يستند إلى قضايا مموهة والاستدلال فيه قد يكون صحيحًا أو فاسدًا، وإذن فليس الجدل علمًا أو منهج العلم كما أراد أفلاطون ولكنه الاستدلال على وجه الاحتمال، وهو يستعمل في الخطابة بنوع خاص.
(ب) وللجدل فوائد منها أنه رياضة عقلية، وأنه منهج يستطيع العالم والجاهل أن يمتحن بموجبه مدعي العلم، بل إن له فائدة علمية هي أنه يساعد على كشف المبادئ الأولية في علم من العلوم ببحث الآراء العامة وآراء العلماء في موضوع ذلك العلم؛ فإن العلوم الجزئية لا تبرهن بنفسها على مبادئها الخاصة؛ فامتحان الآراء يعين العقل على الاقتراب من المبادئ ووضع المسائل، وقد كان أرسطو القدوة في هذا المنهج علمًا وعملًا، ففي كل علم وكل مسألة سرد أقوال المتقدمين ومحصها ومهد بذلك لدراسة المسألة في ذاتها بحيث يمكن أن يستخرج من كتبه تاريخ الفلسفة والعلم والفن.
(ﺟ) ولما كان الجدل قياسًا واستقراءً لإضافة محمول إلى موضوع فيلزم النظر في هذه الإضافة وتعيين أنواعها والكلام في كل نوع، فالمحمول إما أن يكون مساويًا للموضوع في الماصدق وإما أن لا يكون: فإن كان مساويًا — أي ينعكس — فإما أن يكون ماهية الموضوع وهو إذن حده وإما أن لا يكونها وهو إذن خاصة، وإن لم يكن مساويًا فإما أن يكون جزءًا من الحد وهو إذن جنس الموضوع أو فصله النوعي وإما أن لا يكون جزءًا من الحد وهو إذن عرض، فكل موضوع يوصف من هذه الوجهات تحصل لنا به معرفة، وكل مقدمة وكل مسألة ترجع إلى واحدة من هذه الوجهات؛ لأن المحمول لا يخلو أن يكون إما جنسًا أو خاصة أو فصلًا أو عرضًا، فهذه الوجهات هي المواضع التي تستمد منها القضايا الجدلية على هذا الترتيب في القياس والاستقراء وهذا موضوع الكتاب ومن هنا أتى اسمه فإن «طوبيقا» من «طوبوي» أي الأمكنة التي تؤخذ منها الاستدلالات الخطابية، وتجد في كتاب النجاة لابن سينا تلخيصًا للمقالات السبع في الفصل المعنون «في بيان وجوه الغلط في الأقوال الشارحة»، أما المقالة الثامنة والأخيرة فتدور على ترتيب الجدل أي على قواعد السؤال والجواب.
(د) هذا تعيين الكليات وتصنيفها عند أرسطو وقد تناولها فورفوريوس وجعلها موضوعًا لكتاب خاص أسماه «المدخل إلى مقولات أرسطو» (إيساغوجي = المدخل) فانقسم الكلام في التصور الساذج إلى قسمين: الكليات والمقولات، وإنما وضعت الكليات أولًا؛ لأنها ذهنية صرفة وألصق بالمنطق، أما المقولات فذهنية من حيث هي أقسام تندرج تحتها الموضوعات والمحمولات، وحقيقية من حيث هي أقسام تترتب فيها الأشياء أنفسها، ثم إن البحث في الكليات مفيد بل ضروري للحد والقسمة، وهما مستعملان في كتاب المقولات، غير أن الكليات عند أرسطو أربعة زاد عليها فورفوريوس كليًّا خامسًا هو النوع ولم يكن أرسطو يعتبره واحدًا من الكليات وإنما كان يعتبره الموضوع نفسه من حيث إن الأحكام العلمية صادرة على الأنواع لا على الأفراد، والنوع لا يضاف إلا للفرد مثل قولنا: سقراط إنسان.
(٥٣) الأغاليط
(ب) ويقول أرسطو في الفصل الأخير من الكتاب: إن العلم أو الفن يوضع شيئًا فشيئًا بأن يزيد المتأخرون على ما يخلفه المتقدمون وأنه هو قد سُبِقَ إلى فنون كثيرة فتلقى البيان مثلًا عن الأقدمين وأكمله، أما القياس والبرهان والجدل والسفسطة فلم يسبقه إليها أحد، نعم؛ إن السوفسطائيين وأمامهم غورغياس كانوا يعلمون المحاجة، ولكنهم كانوا يقتصرون على تلقين تلاميذهم بعض حجج عامة وتدريبهم على تركيب بعض المغالطات بطريقة تجريبية مما هو أدخل في علم البيان، أما الفن نفسه بما له من موضوع محدد ومبادئ ونتائج فقد استكشفه من عند نفسه في زمن طويل. انتهى كلامه.
والحق أن من يقابل بين ما عرفته المدارس السابقة من المنطق وما ورد في أفلاطون وقد آلت إليه الفلسفة اليونانية من أبحاث متفرقة ضعيفة في الحد والقسمة والاستقراء، وبين كتب أرسطو الغنية العميقة ليدهش من عظم الفرق ويوقن أن القياس بمبادئه وأشكاله وقواعده، وأن البرهان بأصوله وأنواعه وشروطه، وأن الاستقراء بماهيته ومكانه من العلم، أمور جديدة في تاريخ الفكر أصبحت من يوم وجدت جزءًا من الفلسفة لا يتجزأ، وإذا كان العلم الكامل هو علم الذي يعلم أنه يعلم أي الذي يبرهن على علمه ويدفع عنه الشبه والاعتراضات وهو على بينة من أمره، فإن أرسطو بوضعه المنطق قد يسر للناس مثل هذا العلم وبصر العقل بنفسه وأبلغه رشده.