نحن والأدب العالمي
لعل قضية «العالمية» أن تكون من أهم القضايا التي شغلتنا في السنوات الأخيرة، فنحن نكثر من الحديث والكتابة عنها في كل مجال مقروء أو مسموع. نتساءل — إلى حدِّ تعذيب النفس! — بأصوات تمتزج فيها الحسرة والأسى باللهفة والتمني: كيف يكون لنا أدب وفن وعِلم وفِكر يعترف به العالم؟ متى تصل أغانينا وموسيقانا إلى سمع الناس في كل مكان؟ ما السبيل إلى التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، والتقليد والتجديد، والمضمون المحلي والشكل العالمي؟ كيف نتيح لأمم العالم أن تلمس نبض قلوبنا ووجداننا، وتطل على حركة عقولنا وأفكارنا بنفس القوة التي تتابع بها كفاحنا العادل في سبيل التحرر والتقدم؟ هل سيُقدَّر لنا أن نعيش حتى نرى العالم يهتم بطه حسين والحكيم ومحفوظ وحسن فتحي وسيد درويش وعبد الوهاب وغيرهم من الأسماء والمواهب العزيزة علينا، كما يهتم بأخناتون وتوت عنخ آمون ورمسيس الثاني؟ وكيف نصبح أمة تعطي بقدر ما تأخذ، وتشارك في حضارة العصر بقدر ما تتلقى منه؟
وازدادت حركة الترجمة اللاتينية عن الكتب العربية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، فتُرجمت معظم مؤلفات أرسطو وشروحها. وازدهرت هذه الحركة مع بداية تأسيس الجامعات الأوروبية في ساليرنو، وبولونيا، وأكسفورد، وباريس. ثُمَّ ارتفعت موجتها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، مع الحروب الصليبية التي زادت من احتكاك الغرب بحضارة بيزنطة والحضارة العربية في آسيا الصغرى والشام. ويكفي أن تفتح أي كتاب عن فضل العرب على الغرب لتقرأ فيه عن العلماء الذين عاشوا في بلاط فردريك الثاني في باليرمو (صقلية) وعن أثر أرسطو «العربي» على يوحنا دنس سكوتس وألبرت الأكبر وتوماس الأكويني. وكم من مؤلفات علمية وفلسفية فُقد أصلها اليوناني فنقلها الغربيون من العربية إلى اللاتينية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وقبل أن يرجعوا إلى هذه الأصول نفسها ابتداءً من القرن الخامس عشر.
ولم يُقصِّر الغربيون أيضًا منذ مطلع العصر الحديث في نقل بعض آثار التراث العربي قديمه وحديثه. ويكفي أن نذكر — بعد القرآن الكريم وألف ليلة وليلة — بعض ما نقلوه عن العربية إلى اللاتينية أو إلى لغاتهم الحديثة، مثل كتب الفلاسفة العرب كالشفاء لابن سينا، ومقاصد الفلاسفة، والمنقذ من الضلال للغزالي، وتهافت التهافت لابن رشد، وحي بن يقظان لابن طُفيل، وطَوق الحمامة لابن حزم، وبعض مقامات الحريري، ومقدمة ابن خلدون، وبعض آثار الحلاج وابن عربي وغيرهما من المتصوفة، وألوان من الشعر العربي من المعلقات وحماسة أبي تمام حتى البارودي وشوقي ومطران وأدونيس والبياتي وعبد الصبور، وألوان أخرى من النثر الحديث من جبران وطه حسين وتيمور والحكيم ويحيى حقي ونجيب محفوظ حتى الشرقاوي ويوسف إدريس والسباعي وإحسان عبد القدوس والشاروني وغيرهم من مواهب الجيل الجديد.
الحديث كما قلت ذو شجون وشجون. وقد ظهرت عندنا مكتبة كاملة عنه، وأقلها يسجل الحقيقة العلمية، وأكثرها يميل إلى الزهو الكاذب وتعزية النفس بماضٍ لا نعرفه ولا نستحقه عن حاضر لم نستوعبه ولا نريد أن نواجهه. ولكنني أردت أن أُمهِّد به لتقديم مَثل حي للاستلهام الحر الذي قصدته، وصاحبه هو شاعر الألمان الأكبر جوته (١٧٤٩–١٨٣٢م) ورابع القمم العليا في الأدب الغربي بجانب هوميروس ودانتي وشكسبير. لقد استطاع هذا الشاعر الغربي أن يستوحي عالم الشرق الإسلامي وشعراء من فُرس وعرب، ويقدم إلى تراثه القومي والتراث الإنساني كنزًا شعريًّا يتألَّق بين كنوزه، كما يسطع بين أعماله الأدبية المتنوعة، بحيث يُعد — إلى جانب قصيدته الكبرى فاوست — أكثرها تعبيرًا عن شخصيته وتجربة حياته في الحكمة والحب.
ونحب أن نتوقف قليلًا لنسأل: ما المقصود بالأدب العالمي؟
ويرجع الفضل لأديب الرومانسية وناقدها «أوجست فيلهلم شليجل» (١٧٦٧–١٨٤٥م) في صياغة هذا المصطلح الذي نشره جوته وروَّجه بين الناس بعد أن طبَّقه على نفسه، وهو يصدر عن الإيمان بأن الآثار الأدبية الكبرى تتخطى حدود الأمم والحضارات التي نشأت فيها وتكتسب دلالة عالمية. ولا يعني «الأدب العالمي» الاهتمام بالأجنبي أو الغريب عنَّا لغرابته، وليس معناه كذلك الالتفات إلى القيمة «الوثائقية» للإنتاج العالمي وكأنه شاهد على مجتمع معين في موقف تاريخي معين، كما أنه لا يستتبع بالضرورة إنكار الطابع القومي وطمسه في «عالمية» وهمية شاحبة مجردة، فالأهم من هذا كله هو الاعتراف بأن الأعمال الفنية العظيمة تخاطب الناس جميعًا بصورة مباشرة عندما تصوغ التفكير والإحساس بالواقع الإنساني في أشكال عامة الصدق تعبر عن سر عظمتها، بهذا يكون الأدب العالمي أبرز وأسمى مظاهر الوعي بأن عالمنا الذي نعيش فيه أسرة بشرية متعددة الأفراد والملامح والصفات، هو في الحقيقة عالم واحد يبنيه جنس بشري واحد يتجه نحو مصير مشترك، وتعذبه هموم وآلام مشتركة، مهما تصوَّر المتعصبون والمهيمنون والمستغلون اليوم غير ذلك.
وطبيعي أن تعمل الأمم المتحضرة على نقل هذا المفهوم من التجريد إلى التحقق الحي، فتحاول — عن طريق ترجمة روائع الأمم الأخرى نشرها وعرضها ومناقشتها وإذاعتها على الناس تمهيدًا للتأثير بها واستلهامها — أن تتعرف على شخصية تلك الأمم وقيَمها الثقافية لتفهمها فهمًا أفضل، وتدعم روابط التسامح والتفاهم بين البشر. صحيح أن كل شعب سيجد عند الشعب الآخر شيئًا يقبله وشيئًا يرفضه، شيئًا يمكنه أن يحاكيه وشيئًا ينفر منه. ولكن هذا سيؤدي في النهاية إلى نمو الاحترام والثقة المتبادلة، لأن وراء الخصائص الثقافية القومية في إنتاج الأدباء العظام عند كل الشعوب قيمًا إنسانية عامة، تسطع كالمنارات فوق بحار الاختلافات الناشئة عن تنوع البيئة واللغة والتراث واختلاف المصالح والاتجاهات والغايات. ورسالة الأدب العالمي هي رعاية هذه القيم والتنافس النبيل في إحيائها ونشرها، بحيث تصبح مِلكًا عامًّا للإنسانية كلها، دون أي مساس بخصوصيتها وهويتها الفريدة. وربما تسرَّب إلينا اليأس كلما فكرنا في أن الأدب والفن لم يمنعا حربًا ولا عدوانًا، ولكن القليل من التفكير يمكن أن يهدينا أيضًا إلى أنه كان في فترات تاريخية معينة (كما حدث مثلًا بعد الحرب العالمية الثانية) من أهم عوامل التقريب بين شعوب تأصلت العداوة في نفوس أبنائها زمانًا طويلًا بفعل الجهل والتعصب والأحكام المسبقة. ولا ننسى أن الأديب إنسان ومواطن في وقت واحد، ولكن وطن فنه وإبداعه وتأثيره هو الحق والخير والجمال الذي لا يتقيد بوطن، ولا يقتصر على شعب دون شعب. وقد حقق الأدب اليوناني القديم هذه الغاية، فكان الأساس الذي ارتفعت فوقه الحضارة الغربية في العصور الوسطى، ثُمَّ في عهد النزعة الإنسانية وعصر النهضة، وما زال حتى اليوم عماد كل ثقافة حقيقية. واستطاع الأدب العربي أن يحمل لواء الأدب الإنساني والعقل الإنساني طوال عشرة قرون، فلم يكد يتقدم القرن الثاني للهجرة حتى استطاعت اللغة العربية أن تسع آداب الهند وفلسفة اليونان وثقافة الفرس، وظلت حية مسيطرة على نحوِ ما رأينا حتى أحيت العقل الأوروبي فيما يُسَمَّى بنهضته الأولى في القرن الثاني عشر، نتيجة اتصاله بالعرب ونقل ما استطاع نقله عن الكتابة العربية.
وقد كان للحركة الرومانسية الألمانية أكبر الفضل في إحياء فكرة الأدب العالمي، فاهتمت بجمع الأدب الشعبي، كما اهتمت باللغات الشرقية ونقلت عنها وحاكت بعض نماذجها (كما فعل بعض شعرائها مثل «بلاتن» و«ركرت» عندما قلَّدا شكل القصيدة الغزلية عند الفرس والعرب، حتى لقد ذهب ركرت إلى ترجمة تسع مقامات للحريري بالسجع الألماني!) ولا شك أن النظر في مجموع المؤلفات الأدبية المترجمة إلى أية لغة (وهو ما لا نزال نفتقده بصورة دقيقة شاملة في لغتنا) يمكن أن يكشف عن تطور الأسلوب الأدبي في هذه اللغة، وعن وعيه بإمكاناته، ومدى استفادته من الاتصال بآداب الشعوب الأخرى والتأثر بها سلبًا أو إيجابًا، بل لعله أن يلقي الضوء على تطور العقول وتنوع الاتجاهات والميول وطبقات القراء وأذواقهم … إلخ. فالأدب الأجنبي المترجم قد قام في كل العصور والآداب بدور الوسيط والملهم في آن واحد، وربما يرجع إليه الفضل في بعض الأحوال في تكوين الأدب المحلي نفسه أو النهوض به من سباته الطويل وهدايته إلى آفاق أرحب. ولهذا تتجاوز قضية تلقِّي أدب معين من جانب الآداب الأخرى حدود الأدب المقارن، وتتخطاه إلى تكوين الوجدان الثقافي وتزاوج الحضارات وتفاعل «أرواح الشعوب» (هذا إذا جازت مثل هذه التعميمات). ويكفي أن نفكر لحظة واحدة في الآثار المترتبة على استقبال أدب حي على أدب آخر، لنرى أن المسألة أكبر من أن تكون مسألة ترجمة أو تلقٍّ أو دراسة مقارنة أو تأثير وتأثُر أو تعارف وتقارب بين الشعوب؛ لأنها في الحقيقة مسألة اكتشاف الذات الفردية والجماعية لنفسها من خلال الآخر، على نحوِ ما يؤكد الفكر المعاصر كله — والحس السليم أيضًا! — أن «الأنا» لا تستطيع أن تعرف نفسها إلا في مرآة «الأنت»، بل إنها لتتضمن وجود «الأنت» في صميم تكوينها. ولهذا كان التقاء الآداب أصدق شاهد على وحدة الجنس البشري على الرغم من الخلافات التاريخية والسياسية والاجتماعية التي مزقته ولا تزال تمزقه وتدفعه إلى تدمير نفسه بنفسه، ويكفي أن نستعرض بعين الخيال هذه الصور السريعة عن تلقِّي الرومان للأدب الإغريقي، والجرمان للأدب اللاتيني- المسيحي، وتأثير الأنواع والأشكال الشعرية الرومانية (الفرنسية والإسبانية والإيطالية) على شعر الحب والفروسية (المينيزينجر) وملاحم البلاط في الشعر الألماني في العصر الوسيط بعد تأثرها جميعًا بالموشَّح والزجل والشعر الأندلسي، واستقبال نماذج الأدب اليوناني والروماني القديم منذ النزعة الإنسانية وعصر النهضة — كما ذكرنا من قبل — حتى يومنا الحاضر، وتأثير النماذج الفرنسية والإيطالية على الأدب الألماني في عصر الباروك، وكذلك تأثير المأساة الفرنسية الكلاسيكية على هذا الأدب الأخير في عصر التنوير، ثُمَّ الأثر الضخم الذي تركته ترجمات الشعر الشرقي والشعر الشعبي من كل اللغات والشعوب — من عهد هِرْدَر — بالإضافة إلى ترجمات شكسبير والأدب الإسباني على الحركة الأدبية المعروفة في ألمانيا باسم حركة العصف والدفع وعلى الرومانسية. أمَّا الرمزية الفرنسية، فقد تجاوزت الأدب الأوروبي إلى الأدب الشرقي والعربي الحديث، وأمَّا المدارس الطبيعية والواقعية في الآداب الفرنسية والروسية والإسكندنافية، فقد زحف مدُّها القوي إلى شواطئنا في النصف الثاني من القرن العشرين قبل أن ينحسر عنها في السنوات الأخيرة.
إنني أزداد مع تقدم العمر إيمانًا بأن الأدب مِلكٌ مشاع بين الناس جميعًا، وأنه يظهر دائمًا وفي كل العصور لدى المئات والمئات منهم، كل ما هناك من فرق بينهم هو أن أحدهم قد يَفضُل غيره قليلًا أو كثيرًا، أو قد يسبح على السطح أكثر من صاحبه، ولهذا فإنني أحب دائمًا أن أقلِّب الطرف في آداب الأمم الأخرى، وأنصح كل إنسان أن يفعل نفس الشيء من جانبه. إن الأدب القومي لم يعد له اليوم من معنًى. لقد آن أوان الأدب العالمي، وعلى كل امرئ أن يشارك بجهده في التعجيل به.
(ملاحظة متأخرة: ظهرت بعد صدور هذا الكتاب في طبعته الأولى سنة ١٩٧٩م بعض الترجمات الأخرى عن جوته، ومن أهمها فاوست الأولى والثانية لأستاذنا الجليل عبد الرحمن بدوي، ويؤسفني القول بإنها تؤكد الحكم السابق ولا تُغيِّر منه.)