أوليات الانبعاث العربيِّ في الشام ومصر
رأينا في الجزء الماضي الخاصِّ بتاريخ «عصر الانحدار» سوء الحالة العامة التي بلغت إليها الدولة العثمانية التركية المسيطرة على دنيا العرب، وبخاصة في ختام القرن الثاني عشر للهجرة. وبينما كانت الدولة تسلك طريق الانحدار والتدهور، كان عدد من الزعماء في الشام ومصر يحاول بعث الأمة العربية، وكانت فلسطين ولبنان ومصر ميدانًا لتسابق أولئك الزعماء، وكان من أبرزهم الشيخ ظاهر العمر الزيداني، الذي رأينا طرفًا من سيرته، وسمعنا بأهدافه الرامية إلى الاستقلال وتأسيس ملك عربيٍّ في الشام.
والشيخ ظاهر هو بدويُّ الأصل، كان أبوه من زعماء البادية الأذكياء الأقوياء المقرَّبين من الأمير بشير الشهابيِّ حاكم لبنان. ولما رأى الأمير الشهابيُّ كفاية الزيدانيِّ، سماه أميرًا على منطقة صفد، فقضى فيها عمره على خير حالة، ولما مات خلفه ابنه ظاهر في سنة ١٧٣٧، وعمل على توسيع رقعة إمارته فضم إليه طبريَّة، وما زال يتوسع حتى سيطر على عكا وأصلح أحوالها، ورمم أسوارها، وأعاد الهدوء والسكينة إلى سائر المنطقة، وسار بالناس سيرة عادلة، وعامل أهل الذمة بما يقضي به الشرع؛ فأحبه الناس، وشجع الزراعة والصناعة والتجارة فازدهرت البلاد في عهده. ولم تأت سنة ١٧٥٠م حتى كان الحاكمَ المطلقَ لفلسطين، ورأى أن علي بك حاكم مصر رجل مرهوب الجانب كثير المطامع، فتعاهد معه، ثم تحالف مع روسية ضد الإمبراطورية العثمانية، واستطاع أن يستوليَ على صيدا ويطرد واليَها العثمانيَّ بمعونة المراكب العسكرية الروسية، التي كانت شرقيَّ البحر الأبيض المتوسط في سنة ١٧٧٢م. وامتد سلطانه من جنوبي لبنان حتى حدود مصر، فقَلِقَت الدولة العثمانية بسبب مطامعه، وطلبت إلى والي دمشق التركي وأمير لبنان الشمالي أن يزحفا عليه بجيش لجب، فتمكنا منه واستطاعا أن يحاصراه ويتآمرا مع بعض رجاله على قتله غيلة، واحتلا مدينة صيدا. وكان في جيش دمشق التركي ضابط حدث، اسمه: أحمد الجزار، استطاع بدهائه وذكائه أن يحل محل ظاهر العمر، ويستولي فيما بعد على كافة المنطقة.
وكان الجزار فتًى أرناءوطيًّا من بلاد البوسنة، هرب من بلاده إلى الآستانة، ثم باع نفسه من تاجر يهودي، وانتهى به مطاف الرق إلى أن صار بين مماليك علي بك صاحب مصر، فأدخله عليٌّ ضمن جنده وعهد إليه بأمور الشرطة وتأديب العصاة، فكان شديدًا عليهم، سفاحًا، ظالمًا حتى عُرف بالجزار، ثم اضطرته ظروف مجهولة أن يغادر مصر إلى دمشق، فاتصل بحاكمها وكان في عداد رجال الحملة التي بعث بها الوالي لقتال ظاهر العمر. ولما تمكنت حملة دمشق من حصار الشيخ ظاهر والفتك به غيلة، عمل أحمد الجزار على أن يحلَّ محله، ثم ما زال يوسع سلطته ويكثر من المماليك والأجناد، وبخاصة البشناق، والألبان الأرناءوط، والمغاربة، حتى استولى على فلسطين كلها، وتقرب من الباب العالي في إستانبول، فاعترف بولايته ثم سماه واليًا على دمشق في سنة ١٧٨٠م وحاكمًا على لبنان. وهكذا استطاع الجزار الألبانيُّ المستعرِب أن يوحِّد المقاطعات الثلاثَ ويكوِّن جيشًا قويًّا، وأسطولًا ضخمًا استطاع بهما أن يسحق قوى نابليون بونابرت على أبواب عكا ويرده طريدًا، فعظمت مكانته لدى الباب العالي وأضحى السيد المطاع في بلاد الشام، إلى أن مات في سنة ١٨٠٤م/١٢١٩ﻫ بعد أن فتك بالشام وأهله فتكًا ذريعًا.
وكان أبرز أمراء الشام المستقلين في ذلك الحين هو أمير جبل لبنان بشير الشهابي الثاني ١٧٨٨–١٨٤٠م، وكان الجزار قد طلب إليه أن يعاونه على حرب نابليون، فقصر في ذلك وغضب عليه الجزار واضطره على الهرب؛ فلجأ إلى مصر على إحدى المراكب البريطانية وقوَّى أواصر المودة بينه وبين محمد علي باشا.
وبعد هلاك الجزار أسندت الدولة العثمانية ولايةَ الشام إلى والي حلب إبراهيم باشا فمهَّد الأمور، وأضافت الدولة إليه ولايات دمشق وصيدا وطرابلس، وطلبت إلى الأمير بشيرٍ الشهابيِّ حاكم جبل لبنان أن يكون تحت إمرته، فانصاع لذلك كارهًا، ولكنه لم يرَ من ذلك بدًّا لتسلم له إمرة لبنان.
وقد استمرت الدولة تتخبط في الفوضى والفساد، على الرغم من محاولات الإصلاح التي قام بها السلطان محمود الثاني، وكان لانفصال بلاد اليونان عن جسم الدولة واستقلالها في سنة ١٨٣٠م بعد حرب فظيعة ذهب بها أكثر الأسطول التركي والأسطول المصري، كما كان لانفصال المقاطعات الرومانية عن الدولة العثمانية وإعلانها استقلالها في ذلك الحين أثرٌ بالغٌ في إضعاف كيان الدولة. ويظهر أن الدولة العثمانية قد طاش صوابها، وأرادت التنفيس عن غمها الذي لحق بها من جراء الانهزامات، فسلكت إلى ذلك طريقًا بشعة، وهي: الانتقام من نصارى الشام، فكتبت إلى واليها فيه تطلب إليه أن ينتقم منهم. وجمع والي دمشق العثمانيُّ أعيانَ البلاد في سنة ١٨٣١م، وتلا عليهم الفرمان الشاهانيَّ القاضي بقتل كبراء النصارى في هذه البلاد لتآمرهم وإفسادهم، ولكنَّ موقفَ أعيان المسلمين كان موقفًا مشرفًا؛ إذ قالوا له: ليس بين النصارى المقيمين بيننا مفسدون، وإنما هم أهل ذمة، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإن الرسول الكريم ﷺ أوصى بهم خيرًا، فقال: من آذى ذميًّا كنت خصمه يوم القيامة. ونحن لا نتحمل تبعة ظلمهم والفتك بهم. فأخذ خطوطهم على ذلك وبعث بها إلى الباب العالي في الآستانة. ولعمر الحق إن موقف عرب الشام المسلمين من عرب النصارى لموقفٌ مشرفٌ ومنطقيٌّ، وهو دليل على أن الروح القومية السليمة كانت قوية في هذه الأمة العربية على الرغم من محاولة الدولة العثمانية تفكيك عراها، وفصم أوصالها، فأية علاقة بين نصارى اليونان الثائرين على الدولة العثمانية وبين النصارى العرب العائشين بين إخوانهم، المحافظين على حقوق المواطن، ولكنه منطق الظلم والفوضى.
ولا شك في أن هذا العمل كان بذرة من بذور الانبعاث العربي؛ فقد رأى المسلمون العرب في هذه الديار فساد خطة الأتراك العثمانيين وسوء إدارتهم، فتمركزت في نفوسهم — أو في نفوس الواعين منهم على الأقل — فكرةُ التخلص من الظلم التركيِّ وإنقاذ البلاد العربية الرازحة تحت عبئه من تلك الحالة الشاذة. وكانت أولى الانتفاضات ثورة أهالي دمشق على واليهم التركي سليم باشا في سنة ١٢٤٧ﻫ الذي قدم إلى دمشق وأخذ يعامل الأهلين بقسوة وعنف، بعد أن قاسى منه أهل حلب قسوة وعنفًا شديدَين. وما إن وصل إلى دمشق حتى زاد الضرائبَ واحتقر الأعيان، وضرب العامة، فعزموا على الفتك به وبجنده، وتجمهروا وتظاهروا عليه، وحصروه في قصره وضيقوا عليه، فاضطر أن يلجأ ليلًا إلى الجامع المعلَّق أولًا ثم إلى القلعة، وأمر بعض جنده بإحراق دار الحكومة ليشغل الناس عن محاصرته، فلم يأبهوا لذلك الحريق، واضطر الوالي أن يقذف عليهم نيران المدافع من القلعة، فهلك من الأهلين عدد كبير. ثم لجأ الوالي إلى بيت القاضي فهاجم الناس البيت واحتلوه وقتلوه، واختاروا من بينهم حكومة تدير شئون البلاد كانت بذرة جديدة من بذرات الوعي القوميِّ العربيِّ. ويقول بعض المؤرخين: إن الدافع الحقيقيَّ لثورة أهالي دمشق على الوالي العثماني، هو محمد علي باشا صاحب مصر؛ فإنه كان يطمع في السيطرة على الشام، فدفع أهالي العاصمة السورية للثورة على واليهم.
أما مصر فقد كانت منذ سنة ١٧٩٨م/١٢١٣ﻫ تحت السيطرة الفرنسية، وكان نابليون بونابرت قد احتلها في تموز من تلك السنة، وادَّعى حين نزوله إلى الإسكندرية أنه محبٌّ للإسلام، وأنه صديق للخليفة العثمانيِّ، وأنه يريد أن يبنيَ للمسلمين «مجدًا عظيمًا لا نظير له في الأقطار، والدخول في دين النبي المختار»، وأنه إنما جاء إلى مصر لينقذها من ظلم المماليك … إلى آخر تلك الأقوال المعسولة التي لم تخدع شعب مصر، فثار عليه واعتبره غاصبًا ظالمًا مستعمرًا. وأصيب في الإسكندرية وحدَها دفاعًا عنها حين احتلال الفرنسيين نحوٌ من ثمانمائةٍ قتيل وجريح، وقد لعبت المقاومةُ الشعبيةُ السرِّيةُ دورَها في الفتك بجيش نابليون وإزعاجه.
ومنذ ذلك اليوم ازدادت ريبة الفرنسيين في شيوخ الجامع الأزهر وفي طلبته، وعرفوا أنهم لن يستطيعوا البقاء في هاته الديار. ولكن جنونهم وحمقهم دفعاهم إلى إغلاق الجامع الأزهر والتضييق على أساتذته وطلابه، وتسفير الغرباء من أبناء العروبة إلى ديارهم، كما أنهم أمعنوا في إغلاق المساجد والجوامع الكبيرة في القاهرة وسائر المدن المصرية، وامتهنوا حرمتها المقدسة فجعلوا من مسجد الأمير أزبك في الأزبكية سوقًا لبيع أموال المصريين المصادرة، ومن مسجد الرويعي خمارةً، ومن المسجد الناصري قلعةً عسكريَّةً، ومن مسجد الأمير سليم الكاشف في أسيوط سجنًا، وهدموا عددًا كبيرًا من المساجد والمدارس، نذكر من بينها على سبيل الذكر لا الحصر: مسجد الجنبلاطية في باب النصر، ومسجد جركس، ومسجد خوتد بركة، ومسجد عثمان الكنجية، ومسجد خاير بك، ومسجد عبد الرحمن الكنجية، ومسجد البنهاوي، ومسجد الطرطوشي، ومسجد الشيخ العدوي.
هكذا فعل نابليون الإمبراطور العظيم الذي يزعم بعض المؤرخين أن حملته على مصر كانت حملة جِدَّ مفيدة، وأنها سارت بمصر خطوات نحو التقدم والخير، مع أنها كانت حملة استعمارية لم يهدف من ورائها إِلا إلى استعمار مصر والاستمتاع بخيراتها. وحين بعثت الدولة العثمانية حملتها العسكرية لطرد الفرنسيين، أخلص الشعب المصريُّ في كفاحه مع الدولة العثمانية ضد الغاصب، ثم أعان محمد علي على الدولة العثمانية ظنًّا منه أن الحالة ستتحسن على يديه، ولكن فأله قد خاب.
فقد استولى محمد علي باشا الأرناءوطيُّ الألبانيُّ على مصر بعد أن أوقع بين فرق أجناد الدولة العثمانية وبقايا المماليك، واضطرب حبل الأمن في البلاد وساءت أوضاعها، وأخذ أهل مصر وعقلاؤها يفتشون عن المخلِّص، وكان محمد علي داهيةً استطاع أن يخلب ألبابهم ويستولي على السلطة في مصر في سنة ١٨٠٥م/١٢٢٠ﻫ، وقد سار أول الأمر بالبلاد سيرة حسنة، واستعان بالمخلصين من قومها كالسيد عمر مكرم الزعيم القوميِّ المخلص، كما استعان بنفر من شيوخ الأزهر الفاضلين. ولكن لما توطدت أقدامه ساءت سيرته وأخذ يفتك بالناس ويسيء معاملتهم، ولكنه على الرغم من ذلك كان واحدًا من أولئك الذين أثاروا في سكان مصر والشام جذوة الوطنية، ووضع — سواء كان متعمدًا أو غير متعمد — بذرة من بذور القومية العربية في البلد الذي احتله، كما فعل ذلك نابليون من قبل كما سنفصله بعد.