الحركات في العهد الحميدي وأثرها في العالم العربي
وفي عام ١٨٩٨م قدم القيصر نفسه إلى زيارة السلطان زيارة رسمية، فتلقاه وفتح له القصور واستقبله استقبالًا باهرًا، وعقد معه اتفاقية سكة حديد «برلين – بغداد – البصرة»، وزار الإمبراطور في هذه المناسبة بيت المقدس ودمشق، وكانت هذه الزيارة بمثابة دَقة ناقوس نبهت الدول الغربية، وبخاصة بريطانية، على وجوب الوقوف أمام هذا التقرب التركي-الألماني، واستمر هذا التقارب بين الدولتين طوال عهد السلطان عبد الحميد الثاني.
ومما هو جدير بالذكر أن أكثر العالم العربي كان خاضعًا في هذا العصر للنفوذ العثماني؛ فبلاد الشام والعراق والجزيرة العربية كانت ممتلكاتٍ خاضعةً خضوعًا تامًّا للباب العالي، وكانت بلاد الشام مقسمة إلى ولايتين وسنجق واحد، ثم رأوا تقسيمها منذ سنة ١٨٨٧م إلى ثلاث ولايات وسنجقين اثنين، وهي ولاية حلب في الشمال والشمال الشرقي، وولاية بيروت في الغرب، وولاية الشام في الشرق، وسنجق لبنان الذي اقتطع من ولاية بيروت، وسنجق القدس في الجنوب، وكان لهذين السنجقين وضع إداري مستقل.
وأما العراق، فكان مقسمًا إلى ثلاث ولايات، وهي: ولاية الموصل في الشمال، وولاية بغداد في القلب، وولاية البصرة في الجنوب.
وأما الجزيرة العربية فلم تكن الأوضاع فيها مستقرة، ولم تتمكن الدولة العثمانية من فرض سيطرتها عليها تمامًا إلَّا في سنة ١٨٤١م حينما سمت الدولة واليًا على الحجاز خوَّلته سلطة السيطرة على الجزيرة كلها، ومنحت أشراف مكة نوعًا من السلطان الروحي والنفوذ التقليدي في ربوع الحرمين: مكة والمدينة. ولم يخرج عن سلطان الوالي إلا اليمن الذي كان دائم الثورات، وقد استطاع قائد إحدى الحملات العسكرية العثمانية على بلاد اليمن في سنة ١٨٤٩م أن يُخضع البلاد للخليفة العثماني، ولكنها ما لبثت أن انتقضت عليه، ثم اضطرت إلى أن تخضع ثانية في سنة ١٨٦٥م، ثم ثارت إلى أن خضعت نهائيًّا في سنة ١٨٧٢م بعد تعدد الحملات عليها عن طريق قناة السويس البحري، وطريق الحجاز البريِّ.
وأما بقية أجزاء الجزيرة العربية، وهي: مقاطعتا هضبة نجد وبلاد شمر، فكانتا خاضعتين لنفوذ الأسرتين العربيتين القويتين: أسرة «آل سعود»، وأسرة «آل رشيد»؛ اللذين كانا يتنازعان السلطة في تلك الديار، ولا تستطيع يد الدولة العثمانية أن تمتد إليهما، وكانت ثمة بعض البقاع امتدت إليها يد دولة أجنبية مغتصبة، هي: دولة بريطانية؛ فإنها احتلت منطقة عدن في سنة ١٨٣٩م، ثم احتلت جزيرة بريم الواقعة عند مدخل البحر الأحمر في سنة ١٨٥٧م وأخذ سلطانها يقوى شيئًا فشيئًا في المناطق العربية الواقعة في الخليج العربي على طريق الهند.
أما بقية أجزاء العالم العربي، وهي: مصر والسودان وطرابلس الغرب والجزائر وتونس ومراكش، فلم تكن ترتبط بالخلافة العثمانية ارتباطًا سياسيًّا قويًّا ولا سلطان لها عليها؛ فبلاد مراكش لم تطأها قدم الغزاة العثمانيين، ولم تمتد إليها يد سلطانهم أصلًا. وبلاد تونس فقد انقطعت صلتها بدولة الخلافة وخضعت للسلطان الفرنسي منذ سنة ١٨٨١م، وبلاد الجزائر رزحت تحت قوى الاستعمار الفرنسي منذ سنة ١٨٣٠م، وانقطعت الصلات نهائيًّا بينها وبين الدولة العثمانية. وبلاد طرابلس الغرب هي وحدها التي ظلت تحت النفوذ العثماني، وكانت مقسمة إلى ولايتين، هما: طرابلس، وبنغازي. وفي سنة ١٩١٢م استولت عليهما الدولة الإيطالية وطردت القوات العثمانية منهما. ومصر والسودان خضعتا للتاج البريطاني في سنة ١٨٨٢م، ولم يبق للباب العالي عليهما إلا شبه نفوذ روحي.
وقد استطاع الضابط نيازي بك أن يفرَّ من الجيش مع بعض إخوانه من أعضاء الجمعية؛ الضباط والمدنيين، فيلجئون إلى جبال «رَسنه» في ولاية مقدونية، وأخذوا ينظمون الحملة على «الخليفة الطاغية»، معطِّل الدستور، ويؤلبون الجيش عليه، ويحرضون المدنيين على العصيان المدني. وكان أول النُّذُر أن أعلن رجال الفيلقين الأول والثاني في بلاد «الروم أيلي» والفيلق الرابع في بلاد «كردستان» انضمامهم إلى الحركة الإصلاحية، وأبرق نيازي بك إلى الخليفة برقية يطلب فيها أن يعيد العمل بالدستور وإلا فإن الفيالق ستزحف على دار الخلافة وتقصي الخليفة السلطان عن عرشه. فاستهان هذا بهم أول الأمر، ولكنه لما رأى أن الأمر جِدٌّ أصدر «إرادة شاهانية» بإعادة الدستور العثماني، وكان ذلك يوم الجمعة في ٢٥ جمادى الآخرة سنة ١٣٢٦ﻫ/١٩٠٨م، فتنفَّس الأحرار في البلاد، وأُطلقت حرية الكتابة والنشر، وألغيت الجاسوسية المخيفة المنتشرة في شتى أنحاء البلاد.
وكانت البلاد العربية، وبخاصة العراق وسورية، قد ابتهجت ابتهاجًا عظيمًا، وأخذ الأحرار ينخرطون في سلك «جمعية الاتحاد والترقي»، ولكن هؤلاء الأحرار فوجئوا بظهور نوايا سيئة لدى «الاتحاديين» الأتراك؛ لأنهم كانوا ميالين إلى تتريك البلاد العربية ودمجها في العنصر التركي، فأخذوا ينظرون إلى حركاتها بحذر وانتباه شديدين.
كما أخذ الاتحاديون من جانبهم يعملون على تقوية نفوذهم والقضاء على خصومهم. ثم رأوا أن الحلَّ الجذريَّ هو في خلع السلطان، فاستصدروا فتوى بخلعه لقتله الأبرياء وتعذيبهم وإحراق الكتب والإسراف في تبذير أموال الأمة، وبايعوا وليَّ عهده رشاد أفندي باسم: محمد رشاد الخامس.
•••
ساءت الإدارة العامة في العهد الحميدي بشكل واضح، وبخاصة في البلاد العربية؛ لأن السلطان عبد الحميد الثاني كان سيئ الإدارة كما رأيت، تسيطر عليه الأفكار الرجعية ويطغى عليه حب الطمع والخوف من أن تتفتح عيون الشعب عليه. وكان يحكم البلاد بشبكة من الجواسيس والإرهابيين، وقد حظر تعليم التاريخ الصحيح في المدارس، وحرم تدريس العلوم السياسية والاجتماعية، وبخاصة في البلاد العربية. وكان يهتم بنفسه في تسمية الأساتذة والمدرسين، ممن يطمئن إليهم على تنفيذ خطته، وكان يوعز إليهم من وراء ستار بأن يعملوا على نشر الجهالة ويعرقلوا سير ركب العلم، وكان من جهة ثانية يسعى عن طريق بعض ضعفاء النفوس من رجالات الدين وأرباب الطرق الصوفية ليعملوا على نشر الأباطيل والخرافات والجهل، كما كان لا يسمح بطبع الكتب إلا بعد تدقيقها؛ فإن وافق عليها المدققون من جماعته نُشرت، وإلا طُويت وأُحرقت. يقول الأستاذ المرحوم محمد كرد علي: «اشتد ضغط عبد الحميد على المدارس حتى حظر أن يُعلَّم فيها التاريخ الصحيح وعلوم السياسة والاجتماع؛ لأنها ترقي العقول وتلقِّح الأذهان، وأصدر إدارته السرية إلى مديري المعارف في بعض الولايات ومنها الشام: أن يوقفوا سير المعارف عند الحدِّ الذي وصلت إليه؛ لأن في انتشار المعارف انتشار المفاسد وتمزيق شمل الأمة.
ولم تكن حالة البلاد المالية والاقتصادية خيرًا من الحالة الثقافية؛ فقد كان السلطان ووزراؤه وعمَّاله في الولايات يعملون على ملء جيوبهم وخنق الشعب، وكانت الوظائف العامة تباع بيع السلع، وتقبض أثمانها، وكانت الخزانة العامة في الآستانة فارغة، والعجز يسيطر على موازنة الدولة العامة.
أما السياسة الخارجية للدولة فكانت سياسة المداورة والمخاتلة؛ لأن السلطان كان يعرف الضعف الذي يسيطر على إمبراطوريته، والمرض الدفين الذي يفتك بها، كما أنه كان لا يجهل أن الدول العظمى في ذلك الزمان كانت تتنافس فيما بينها، فلذلك عمد — بما فطر عليه من دهاء — إلى المخاتلة والدَّسِّ، وخصوصًا بعد أن زحفت جيوش الروس على بلاده وطوَّقت عاصمته، ولم تنسحب حتى فرضت عليه معاهدة تتَّشح بالعار والذل. ولم تكن معاهدة برلين أقل عارًا، وكانت ثالثة الأثافي، حين أراد انتشال البلاد من الإفلاس الاقتصادي، فرهن بعض مواردها الكبرى لدى جماعات من كبار الممولين الأجانب، من إنكليز وفرنسيين وألمان، وأخذ منهم مبالغ ضخمة، زعم أنه يريد بها تقوية الجيش، وقد فعل شيئًا كثيرًا لتقوية الجيش، وخلق الروح العسكرية خلقًا جديدًا وتنظيم المعاهد العسكرية تنظيمًا حديثًا، فرفع هذا العمل من مكانته بين رعاياه إلى حد ما، وإلى فترة ما.