العرب في أواخر عهد السلطان عبد الحميد وبداية عهد السلطان محمد رشاد
تولى السلطان محمد رشاد السلطنة بعد أخيه عبد الحميد سنة ١٣٣٣ﻫ/١٩١٥م، وكان ملكًا ضعيف الإرادة، سيئ الإدارة، محدود التفكير، قليل الثقافة، ما عدا شيئًا من الآداب الفارسية. وقد عظم سلطان «الاتحاديين» عليه فاستسلم لهم، وأخذوا يفتكون بالناس من خصومهم وبخاصة الحزب المناوئ لهم، وهو حزب «الائتلافيين»، فاغتالوا منهم نفرًا في الولايات التركية والعربية، واصطرعت الإمبراطورية، وتنافس الحزبان للسيطرة على الحكم.
وفي هذه الفترة انتهز الأحرار العرب اليمانيون الفرصة، وأعلنوها حربًا على دولة الخلافة العثمانية سنة ١٣٢٩ﻫ، فجهز السلطان جيشًا من العرب أكثره من الشاميين، وبعث به إلى اليمن للفتك بإخوانهم هناك، وكانت مجازر بين الفريقين ذهب فيها ألوف من الجند الشامي، حتى اضطرت دولة الخلافة إلى الاعتراف بكيان الدولة العربية في اليمن وعقدت معاهدة صلح بينها وبين الإمام يحيى بن محمد حميد الدين، وبذلك غدت دولة اليمن أول دولة عربية نالت استقلالها الذاتي وتخلصت من نير السلطة العثمانية.
وآلى أحرار العرب في الشام والعراق والجزيرة على التخلص من نير العبودية العثمانية، وكانت حركة أحرار اليمن حافزًا لهم، وخصوصًا حين رأى العرب ضعف الدولة، وتقلُّص ظلها عن الولايات التي كانت خاضعة لها في أوروبا كولاية «قوصوه» و«أشقودره» و«يانيه» و«مناستر» و«سلانيك».
وكان لبنان أكثر البلاد وعيًا وأعمقها ثقافة، فتداعى أحراره مع نفر من السوريين إلى العمل وتخليص البلاد من الفوضى والفساد؛ ففي سنة ١٨٧٧م اجتمع نفر من المثقفين العرب في بيروت، وألفوا من بينهم جماعة تسعى بإصلاح الأحوال العامة في البلاد، وكان ممثل الدولة في بيروت وقتئذٍ رجلًا عاقلًا، فكتب إلى الصدر الأعظم في الآستانة تقريرًا يقول له فيه: «إن البلاد السورية تتجاذبها تيارات مختلفة، فقد اتجه نفر من شبيبة هذه البلاد ورجالاتها بأنظارهم نحو دول الغرب، وبخاصة نحو إنكلترة وفرنسة، يحاولون التشبه بهم، واقتباس حضارتهم، والاستعانة بهم لإصلاح حالة بلادهم، فإذا لم تأخذ الدولة العلية العثمانية بأسباب الإصلاح الحقيقي خرجت هذه البلاد عن الطوق.»
أن تهتم الدولة بشئون البلاد المالية، وتعنى بتوسيع سلطة المجالس العمومية، وتعيِّن مستشارين أجانب في دوائر الدولة يعملون على السير بالبلاد في سبيل الحضارة الأوروبية.
ولكن الدولة لم تهتم بهذه المطالب، فاضطر نفر من الأحرار أن يغادروا لبنان إلى مصر أو فرنسة، ثم عقدوا مؤتمرًا بباريس في ٢١ حزيران سنة ١٩١٣م، وانتهوا فيه إلى مطالبة الدولة بالقيام بالإصلاح، وبمنح العرب حقوقهم السياسية، وأن يشتركوا في المساهمة بإدارة بلادهم، اشتراكًا حقيقيًّا يضمن لأرباب الكفايات مناصب رفيعة بلا تفريق بين الأديان والمذاهب، وأن تنشأ في كل ولاية عربية إدارة مركزية تهتم بشئونها، وأن تنفذ مقررات مؤتمر بيروت، وأن تعتبر الدولة العثمانية اللغة العربية لغة رسمية في مجلس المبعوثان العثماني «النواب»، وأن تكون هي اللغة الرسمية للولايات العربية، وأن تكون الخدمة العسكرية محلية، ولا يُقذف بالشبان العرب في أقاصي البلاد، وأن تهتم الدولة بشئون التعليم اهتمامًا جديًّا.
ولما رأى الاتحاديون أن العرب جادُّون في مطالبهم اتصلوا ببعض رجالات مؤتمر باريس، وأعلنوا أنهم سيلبُّون مطاليبهم فيجعلونهم يشاركون في الأعمال العامة ببلادهم وإدارتها، ويجعلون التعليم الثانوي والابتدائي بالعربية، ويبيحون استعمال العربية في المعاملات الحكومية ويعيِّنون نفرًا منهم في مناصب رفيعة في مجلسي الأعيان وشورى الدولة، وفي محكمة التمييز، ودائرتي: المشيخة الإسلامية، والفتوى. وشرع الاتحاديون بتنفيذ بعض هذه المطاليب فعلًا.
رأى هذا النائب القومي العربي ما يكمن وراء هذه الفكرة الخطرة من شرور على البلاد وقوميتها، فأعلن في الصحف وفي البرلمان العثمانيِّ أن الصهيونية خطر وبيل، وأن الجمعيات التي ألفت لهذا الغرض كالجمعية «الصهيونية اليهودية» وجمعيات «إيكا» و«فاعوليم» و«الأليانس» وغيرها ساعيات في استرجاع فلسطين التي وعدهم بها ربُّهم في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر أرمياء من الكتاب المقدس الباحث في أَسْرِ بابل لليهود، والذاكر وعد الرب برجوعهم إلى فلسطين بقوله في آخره: «يشترون الحقول بفضة، ويكتبون ذلك في صكوك، ويختمون ويشهدون شهودًا في أرض بنيامين وحوالي أورشليم، وفي مدن يهودا، ومدن الجبل، ومدن السهل، ومدن الجنوب، لأني أردُّ سبيهم بقول الرب»، وذلك بعدما سبتهم حكومة الكلدان على أنهم لم يستطيعوا البقاء بعد ذلك؛ لأنهم أصبحوا محل التنازع بين حكومة الرومان في مصر، وحكومة الرومان في أنطاكية، ثم انقرضوا ولم يبقَ لهم ملك ولا دولة.
وهكذا اشتروا الكثير من القرى واستولوا عليها، وهم لا يخالطون العثمانيين ولا يشترون منهم شيئًا، ولهم «بنك أنكلو فلسطين» يقرضهم بفائدة لا تتجاوز الواحد في المئة في السنة.
وقد جعلوا لكل قرية إدارة فيها مدرسة، وكل قضاء مديرية، ولكل جهة مدير عام، ولهم راية لونها أزرق وفي وسطها خاتم سليمان وتحته كلمة عبرانية معناها «صهيون»؛ لأنه جاء في التوراة أن «أورشليم» ابنة صهيون، ويرفعون هذا العلم مكان العلم العثماني في أعيادهم واجتماعاتهم، ويترنمون بالنشيد الصهيوني، وقد احتالوا على الحكومة فقيَّدوا أنفسهم عثمانيين في سجل النفوس كذبًا وبهتانًا، وهم لا يزالون حاملين الجوازات الأجنبية التي تحميهم، وعندما يصيرون إلى المحاكم العثمانية يظهرون جوازاتهم ويدَّعون الحماية الأجنبية، ويحلُّون دعاويهم واختلافاتهم فيما بينهم بمعرفة المدير، ولا يراجعون الحكومة، ويعلمون أبناءهم الرياضة البدنية واستعمال السلاح، وترى بيوتهم طافحة بالأسلحة، وفيها كثير من البنادق (المارتين)، ولهم بريد خاص وطوابع خاصة وغير ذلك مما يبرهن على أنهم بدءوا بتأسيس مقاصدهم السياسية.
والحق أن هذا النائب وإخوانه من النواب العرب في مجلس «المبعوثان» التركي قد استطاعوا وقف النفوذ اليهودي بعد مشادة قوية في دورة الربيع البرلمانية سنة ١٩١٢م، فاستكان اليهود إلى أن أعلنت الحرب العالمية الأولى، ورأوا علاقات ألمانيا بالباب العالي، فصبوا جهودهم على برلين؛ آملين أن يتوصلوا عن طريقها إلى دخول الباب العالي والسيطرة على رجالاته وتأمين أغراضهم الصهيونية في فلسطين.
عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جدًّا أن أبعث إليكم باسم حكومة جلالة الملك بالتصريح التالي؛ تصريح العطف على الأماني اليهودية الذي رفع إلى الوزارة ووافقت عليه، وهو: «إن حكومة جلالة الملك لتنظر بعين الارتياح إلى قيام وطن قوميٍّ في فلسطين للشعب اليهوديِّ، وستبذل حكومة جلالته أقوى مساعيها لتسهيل البلوغ إلى هذه الغاية. وليكن واضحًا للجميع أنه لن يُعمل شيءٌ ما من شأنه أن يُلحق الضررَ بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، أو بالحقوق التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر، والمكانة السياسية التي حصلوا عليها فيه.»