الثورة العربية وآثارها في العالم العربي
اتصل الشريف حسين ببعض قادة الأحرار الاستقلاليين وتعرف إلى حقيقة نواياهم، فقال لولديه عبد الله وفيصل أن لا مانع من أن يتصلا بالمستر ستورس السكرتير العام لشئون الشرق الأوسط لدى الحكومة البريطانية في القاهرة الذي كان قد كتب إلى أحدهما، وهو عبد الله، يخبره أن الحكومة البريطانية مستعدة لمساعدة الشريف حسين، على أن يثور على الدولة العثمانية.
- الأولى: مشاورة رجالات العرب في الشام في الخطة الواجب اتباعها.
- والثانية: مذاكرة حكومة العاصمة في عزل وهيب باشا أو نقله من الحجاز.
وابتدأت المراسلات الرسمية بين الشريف حسين وبين ممثل بريطاني؛ السير ماكماهون المقيم العام البريطاني في القاهرة، فكتب الشريف بتاريخ ١٤ تموز سنة ١٩١٥م إلى ماكماهون رسالة يطلب إليه فيها اعتراف الحكومة الملكية البريطانية باستقلال البلاد العربية الواقعة ما بين مرسين فآذنة، فحدود فارس، فخليج البصرة، فالبحر المحيط الهندي، فالبحر الأحمر، فحدود مصر، فالبحر الأبيض المتوسط، ويدخل فيها ولايات الشام والعراق.
وأجابه ماكماهون بكتاب مؤرخ بيوم ٣٠ آب سنة ١٩١٥م يقول له فيه: «إن حكومة جلالة الملك تؤيد الشريف حسين والشعب العربي بمطالبه في استقلال بلادهم العربية، وفي جعل الخليفة عربيًّا. أما موضوع الحدود التي أوردها في رسالته، فهو أمر سابق لأوانه؛ لأن الحرب ما تزال قائمة بين الحلفاء والدولة العثمانية، ولأن تركية ما تزال تحتل قسمًا كبيرًا من البلاد التي ذكرها الشريف حسين في رسالته.»
أما الأراضي الداخلة ضمن هذه الحدود المعدلة، وهي التي تستطيع إنكلترة أن تعمل فيها بملء الحرية دون الإضرار بحليفتها فرنسة، فإنكلترة مستعدة أن تعترف باستقلال العرب فيها، وتقديم المساعدة لهم. وأما ما يتعلق بولايتي البصرة وبغداد، فإن مركز إنكلترة ومصالحها فيهما يتطلب شكلًا إداريًّا خاصًّا، وتعترف إنكلترة بوحدة الأراضي المقدسة، وتتعهد بحمايتها من كل اعتداء خارجي.»
وتقدم بريطانية للعرب كل مساعدة أو نصيحة لازمة، ويوافق العرب على الاقتصار على استشارة ومعونة وإدارة بريطانية العظمى وحدها، ويرضون بأن يكون جميع الموظفين الذين يحتاجون إليهم لتنظيم دوائر مملكتهم من التبعة البريطانية.
فلما تلقى الشريف هذه الرسالة أجاب عليها بتاريخ ٥ تشرين الثاني سنة ١٩١٥ برسالة يقول له فيها: «إنه لا يصرُّ على أن تكون مرسين وآذنة ضمن حدود البلاد التي يطلب الاعتراف باستقلالها. أما ولايتي حلب وبيروت وسواحلهما، فكلها عربية، ولا فرق بين المسلم العربي والمسيحي العربي. وأما العراق فهو كذلك عربي بحت، وهو مهد حضارة العرب ومدنيتهم، ولا يمكن للعرب أن يقنعوا بالتنازل عنه، وكل ما يمكن التساهل فيه هو أن الأراضي التي تحتلها الجيوش الإنكليزية الآن تترك لمدة قصيرة تحت إدارة إنكليزية لقاء تعويض عن مدة احتلال تلك المنطقة. ومن بداهة الأمور أن الموظفين الإنكليز الذين يحتاج إليهم العرب، لا يكون لهم إلا صفة استشارية، ويجب أن يتأكد العرب من أن إنكلترة لا تهملهم عند انتهاء الحرب، وعقد معاهدة الصلح، بل تمد يدها إليهم وتدافع عن استقلالهم.»
فأجابه ماكماهون برسالة تاريخها ١٣ كانون الأول سنة ١٩١٥ قال فيها: إنه مسرور لتنازله عن مرسين وآذنة، وإن قضية ولايتي حلب وبيروت تحتاج إلى تدقيق نظر لما لفرنسة فيهما من مصالح، وإنه سيعود إلى المفاوضة بهذا الصدد في الوقت المناسب، وإن مصالح إنكلترة في ولاية بغداد تتطلب إدارة وديَّة ثابتة، وأن إنكلترة لا تنوي إبرام أي صلح كان ما لم يكن في جملة شروطه الأساسية حرية الشعوب العربية وخلاصها من سلطة الأتراك والألمان.
وفي ١ كانون الثاني سنة ١٩١٦م كتب الحسين إلى ماكماهون رسالة، قال له فيها: «إنه يكف أثناء الحرب عن المطالبة بلبنان؛ حبًّا لاجتناب ما يكدر صفو التحالف بين إنكلترة وفرنسة، ولكنه سيعود بعد الحرب إلى المطالبة به.»
فأجابه مكماهون في ٣٠ كانون الثاني من تلك السنة برسالة، قال له فيها: «إن صداقة فرنسة وإنكلترة ستقوى وتشتد بعد الحرب.»
وهكذا انتهت المراسلات بين الشريف وماكماهون بعد أن كان العرب قد تورَّطوا في مدِّ يد المساعدة إلى الحلفاء، فلما ظهرت منهم هذه النوايا السيئة، والأطماع في العراق، وبعض أجزاء سورية ولبنان؛ هالهم الأمر، وعلموا أن نوايا بريطانية وصديقتها فرنسة هي نوايا استعمارية. وقد اجتمع بعض أحرار العرب، أمثال: عزيز علي المصري ومحمد رشيد رضا، وطالبوا الحسين بأن يكفَّ عن مناصرة البريطانيين بعد أن تبينت نواياهم العدوانية ضد العرب، على أن يفاوضوا الدولة العثمانية بتعديل موقفها من العرب وقضاياهم، وتطلق سراح من في سجونها من شبان العرب. فأبرق الشريف حسين برقية إلى أنور باشا وزير الحربية العثمانية في آذار سنة ١٩١٦م يطلب إليه الإفراج عن المسجونين، ومنح بلاد الشام نظامًا لامركزيًّا، وإعلان استقلال الحجاز، وجعلها وراثية في أعقابه. فاعتذر أنور باشا عن تلبية هذه المطاليب وأن الأحكام الصادرة بحق المسجونين لا بد من تنفيذها. فأبرق الشريف إلى جمال باشا يعرض عليه ما عرض على وزير الحربية، فأجابه جوابًا فيه كثير من ألفاظ الوعيد والتهديد، فأدرك الحسين وأولاده أن الأتراك مصممون على سياسة العنف وعلى التنكيل بالحسين وأنجاله وبأحرار العرب، وأحسَّ الشريف فيصل أن جمال باشا سيفتك به، فاحتال عليه ليأذن له بالسفر من دمشق إلى الحجاز، وتظاهر بأنه مسافر إلى المدينة لكي يحضر المتطوعين العرب الذين استدعاهم جمال باشا.
وغادر دمشق في السادس عشر من أيار سنة ١٩١٦م بعد أن رأى إخوانه من أحرار العرب ورجال جمعيتي «العربية الفتاة» و«العهد» معلقين على الأعواد في بيروت ودمشق وحلب. ولما وصل إلى المدينة رأى أن الأتراك ينظمون خططهم للفتك بأبيه وبعرب الحجاز، فاجتمع إلى أخيه الأكبر الشريف علي ونظما خطتهما، وجمعا بضعة آلاف مقاتل استطاعا بها أن يهاجما أطراف المدينة في ٨ حزيران سنة ١٩١٦م، وأعلن الشريف حسين في ١٠ حزيران سنة ١٩١٦م الموافق ليوم ٩ شعبان سنة ١٣٣٤ﻫ إعلان الثورة العربية من مكة المكرمة.
ولما بلغ خبر الإعلان إلى ديار الشام والعراق فرح الناس بذلك فرحًا عظيمًا، وزحفت جيوش الحلفاء نحو العراق فاحتلت ميناء البصرة، ثم سارت نحو كوت الإمارة «العمارة» في اتجاه بغداد، كما اشتبك الإنكليز مع قوى الأتراك في حملة السويس بقيادة جمال باشا الذي أراد الاستيلاء على قناة السويس وطرد الإنكليز من القطر المصري.
ولكن قواه قد تشتت وحملته قد تبعثرت، فأخذ يهيئ حملة ثانية استعد لها استعدادًا كبيرًا، ثم التقت قوى الجيش العربي-الإنكليزي بجيش الحملة التركية، فشتته، ودخلت مدينة غزة، وكانت هذه المعركة أولى المعارك التي اشترك فيها العرب مع أحلافهم الإنكليز في محاربة الجيش العثماني.
قال جمال باشا في مذكراته يصف حالة جيشه في تلك الحملة:
يقصر اللسان عن أن يوفي القوات العثمانية — لا فرق بين ضباطها وجنودها اللائي اشتركن في حملة القناة الأولى — حقهن من الثناء على ما بذلنه من الجهود وأظهرنه من ضروب الوطنية العالية، وأرى من واجبي تقديم إعجابي لأولئك الجنود البواسل الذين قاموا بذلك الزحف غير مبالين بما لاقوه من ضروب الضنك وتحملوه من المشاق في سحب المدافع، فضلًا عن الجسور المتحركة، وهي كل ما كان لدينا من المعدات لعبور القناة وسط بحر من الرمال.
واستشهد رجال القافلة الثانية منهم في أيار سنة ١٩١٦م، وهم المغفور لهم: شكري العسلي، وعبد الوهاب الإنكليزي، وعارف الشهابي، وعبد الغني العريسي، وعمر حمد، وتوفيق البساط، وسليم الجزائري، وأمين لطفي حافظ، وشفيق العظم، وعمر الجزائري، ورفيق سلوم، ومحمد الشنطي، وسيف الدين الخطيب، وأحمد طباره، ورشدي الشمعة، وجرجي حداد، وسعيد عقل، وعبد الحميد الزهراوي، وجلال البخاري، وعلي الحاج عمر، وعبد الوهاب الزويتيني، وبيتر باولي.