حالة العالم العربي الفكرية في القرن التاسع عشر
اختلفت أوضاع الحالة الفكرية في العالم العربي حوالي نهاية القرن الثامن عشر وفجر القرن التاسع عشر اختلافًا كبيرًا؛ فالعراق والشام غارقان في سبات، إلا ما كان من أثر بعض الإرساليات الدينية التي كان طلابها يتعلمون — إلى جانب الثقافة المدرسية الحديثة — بعض اللغات الأوروبية من إيطالية، وإفرنسية، وإنكليزية، وألمانية. والجزيرة العربية وشمالي أفريقية كانت تتخبط في دياجير الجهالة، إلا ما كان من أثر نور التعليم الديني البحت مع شيء من التعليم الأدبي، ومصر — وحدها — كانت أرقى حالًا؛ لأنها أخذت من فجر القرن التاسع عشر تنشئ المدارس الحديثة المعتمدة على الأساليب العلمية الأوروبية؛ هذا بالإضافة إلى الحركة العلمية التي كان الجامع الأزهر محور نشاطها.
وقد استعان محمد علي بشبان الأزهر في تجديد النشاط العلمي، فاختار منهم نفرًا استعان بهم لتأسيس بعض مدارسه الحديثة، كما أوفد نفرًا منهم إلى مدارس الغرب يتلقون العلم فيها من طب وحكمة وفلسفة وطباعة وفنون، وإلى جانب الأزهر الذي كان يرعى الثقافة الفكرية والحركة الدينية والأدبية، كانت المدارس العلمية التي أنشأها محمد علي وجعل التعليم فيها باللغة العربية، وكان أقدمها إنشاء مدرسة الموسيقى العسكرية؛ فقد أُحدثت سنة ١٨٢٤م، وهذه المدارس هي: مدرسة الموسيقى، والتجهيزية، والمشاة، والفرسان، والمدفعية «الطبجية»، والبحرية؛ وهذه كلها مدارس عسكرية. وأما المدارس المدنية، فهي مدارس الطب، والصيدلة، والكيمياء العملية، والطب البيطري، والتعدين، والهندسة، والزراعة، والولادة، والإدارة الملكية، والحسابات، والألسن، والترجمة، والصنائع، والفنون.
وكان عدد الطلاب في هذه المدارس نحو عشرة آلاف طالب في سنة ١٨٣٩م، وكانت الحكومة المصرية هي التي تنفق على طعامهم وكسوتهم ودراستهم.
وظل التعليم مزدهرًا طوال عهد محمد علي، ثم وقفت في عهد عباس الأول وسعيد، فأقفل جميع المدارس المدنية وبعض المدارس العسكرية بحجة عدم الحاجة إليها لوجود عدد كبير من المثقفين، ووجود عدد كبير منهم لا يجدون العمل الحكومي، كأن التعليم كان لإيجاد موظفين وحسب.
ولما تولى إسماعيل أعاد بعض المدارس المدنية؛ إذ لم يكن في عهده إلا مدرسة ابتدائية واحدة ومدرسة عسكرية ومدرسة طبية وصيدلية، وقدم إلى مصر في عهده عدد كبير من مثقفي البلاد العربية التي ضاقت بالظلم العثماني، وبخاصة من لبنان وسورية، فكان قدومهم عاملًا على إيجاد حلقات علمية وفكرية على ما سنبينه بعد.
ولما احتل الإنكليز مصر أقفلوا بعض المدارس، كمدرسة الألسن والترجمة، وحالوا دون إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، وجعلوا التعليم غير مجاني كما كان قبلًا، وقلَّت العناية باللغة العربية، وفرضت اللغة الإنكليزية حتى ثارت الصحف وطالبت بالعودة إلى النظام القديم، واضطرت حكومة الاحتلال إلى الاهتمام بأمر التعليم وإنشاء المدارس الابتدائية والثانوية وبعض المدارس العالية.
وممن كان لهم أثر في الحركة الفكرية الشامية «اليسوعيون»، وقد ابتدءوا نشاطهم في سورية منذ عام ١٦٢٥م، واضطروا أمام ضغط الحكومة العثمانية أن يوقفوا نشاطهم عام ١٧٧٣م، ولم يتمكنوا من العودة إلا في سنة ١٨٣١م حين أذنت الدولة للمبشرين الأميركان البروتستانت (البروسبيتيريون) بالعمل في ديار الشام سنة ١٨٢٠م. وتنافس اليسوعيون والبروسبيتيريون، وكان عام ١٨٣٤م عام نشاط عظيم لكلا الفريقين، وكان من نتائج هذا التنافس أن عُنيَ الجانبان بأمر اللغة العربية ونشر مخطوطاتها، وتأليف الكتب العلمية والدينية بها. كما عُنوا بتأسيس المطابع والمدارس الثانوية والعالية للبنين والبنات في شتى أنحاء لبنان خاصة، وسورية عامة.
وهكذا أخذ التعليم الحديث ينتشر في أنحاء سورية، كما أخذ الكتابُ العربيُّ يصدر عن المطبعة «الأميركية أو اليسوعية» ويحتل مكانه في خزائن دور الكتب أو دور السكن، واستطاع الجانبان المتنافسان أن يُصدرا في فترة قصيرة عددًا ضخمًا من الأشعار القيمة، وقد استخدم المبشرون البروسبيتيريون (الأميركان) عالمين لبنانيين جليلين لتأليف الكتب وتصحيح ما يطبع منها، وهما: «الشيخ ناصيف اليازجي» و«المعلم بطرس البستاني».
وعمد الأمريكان إلى إقامة «الكلية السورية البروتستانية» في بيروت عام ١٨٦٦م التي ما لبثت أن غدت جامعة مستوفية الكليات والفروع، وعهد بإدارتها إلى القس الفاضل دانيال بلس، ثم خلفه ابنه هوارد بلس. كما عمد اليسوعيون في سنة ١٨٧٥م إلى نقل مدرستهم في «غزير» إلى بيروت وجعلها جامعة على اسم القديس يوسف.
وتتابعت الجمعيات العلمية في سورية، وكان من أشهرها وأكثرها نشاطًا «الجمعية العلمية السورية» التي أسست عام ١٨٥٧م، وضمت نخبة مختارة من رجالات البلاد على اختلاف أديانهم، وفي طليعتهم: الشيخ حسين بيهم، والأمير محمد أرسلان، والشيخ إبراهيم اليازجي، والأساتذة: حنين الخوري، وسليم البستاني، وسليم رمضان، وموسى فريج، وحبيب جلخ، ورزق الله الخضرا، وجرجي تويني، وجرجس فياض، وحنا أبكاريوس، وحبيب بسترس، ومحمد بيهم، وعبد البديع اليافي، ونقولا مدور … وغيرهم.
ثم تتابعت الجمعيات العلمية والنوادي الأدبية في لبنان وسورية، وفي طليعتها جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، وجمعية المعارف الدرزية، وجمعية يقظة الفتاة العربية، وجمعية إحياء التمثيل العربي، والنادي الأهلي.
ولم يقل نشاط العراق الثقافي في هذه الفترة — وبخاصة في البصرة وبغداد والنجف والكوفة والموصل — عن نشاط القطر الشامي، بفضل معاهده الدينية سواء الإسلامية منها والمسيحية، كما قامت فيه نخبة صالحة من أهله تعمل في حقلي الأدب واللغة، والتعليم.