نبذة في استكشافات وتقدمات العرب في الفلسفة الطبيعية
وقد انفصلت العلوم الدينية عن العلوم الحكمية بوضع الأولى تحت مقولة «العلوم النقلية أو الشرعية» والثانية تحت مقولة «العلوم العقلية أو الحكمية»، وإن كان لم ينفصل طبعًا علماء الشريعة عن درس علوم المتفلسفة والبراعة في أجزائها، لا على طريق الرواية فقط بل على طريق الدراية والابتداع، وهذا من أكبر المدهشات، فنرى كثيرًا من فقهاء الإسلام وعلماء الشريعة الأعلام، بصيرون طورًا بالفلسفة كابن رشد، وتارةً بالفلك والرياضيات والهندسة كنصير الدين الطوسي والرازي، وغيرهم ممن يطول بنا ذكرهم ويخرج بنا الكلام عن حد الاقتصار الذي التزمناه في هذه النبذة التي وضعناها على سبيل الإشارة.
- (١) «بالميزان الإيدروليكي» الذي كان معروفًا جيدًا ببراهينه ونظرياته، وكان متنوعًا عندهم في أشكاله وصناعته، وينسبونه أحيانًا لمخترعه، وأحيانًا للبلد المستعمَل فيها، فمن ذلك ميزان محمد بن ذكريا الرازي، وعمر بن الخيامي وأبو حاتم بن إسماعيل الإسفزاري، والميزان ذو الكفات الخمس الذي عُرف لديهم باسم «الميزان الجامع»، وجملة موازين أخرى من ذلك ميزان تسوية الأرض على موازاة السطح الأفقي، وهو الذي يُعرف عند المهندسين والمساحين في زماننا بميزان «روح التسوية Spirit Level» وربما ابتدع فيه مساحو العرب وفلكيوهم؛ لما نعهده عنهم من شدة اعتنائهم بآلات المساحة لتوزيع أراضي الزراعة والحاجة إليها عند الفلكيين والمهندسين.و«ميزان الساعات» الذي تكلم عنه أبو جعفر الخازن فقال: إنه يُعرف به الساعات الماضية من ليل ونهار وكسورها بالدقائق والثواني، وتصحيح الطالع بها بالدرج وكسورها (وفي هذا ما يومئ إلى جهاز الكرونومتر Chronometer والساعات الزمنية المعروفة لدينا في هذا العصر والمعزو استنباطها لأهالي أوروبا).
- (٢) وقوانين مراكز الأثقال التي قال عنها الخازني في كتابه «ميزان الحكمة»:٣ «إنها أجلُّ أقسام العلوم الرياضية وأشرفها.» ولدينا نحن شواهد جيدة سننشرها إن شاء الله تعالى فيما بعد، يمكن للعلماء أن يستنتجوا منها معرفة العرب لإيجاد مراكز ثقل الأجسام بالطريقة التخطيطية المعروفة في هذا الزمان بين الأوروبيين باسم Graphics، وأن مهندسي العرب إليهم وحدهم يُعزى هذا النوع الغريب من الابتكار لشدة احتياجهم لذلك، وولعهم بالعلوم الهندسية التطبيقية.
- (٣) وقاعدة أرشميدس وخواص الأجسام الطافية والسابحة على الماء والسائلات الساكنة (إيدروستاتيك) بل والسائلات المتحركة أيضًا Hydraulics في الأنابيب والقناء والفوهات، وكان لديهم قوانين يستخرجون منها تصرف المياه والسوائل.
- (٤) ومعرفتهم لمدلولات الألفاظ الاصطلاحية وتحديدهم لها من الوجهة الفنية Nomenclature كالألفاظ المستعملة في مبادئ الميكانيكا والطبيعة، مثل اصطلاحات القوة وكتلة الجسم والكثافة والثقل.
- (٥)
واستعمال المساطر والآلات الهندسية المدرجة (أي المقسمة إلى درجات وثوانٍ وخلافه) والكتابة عليها، وعمل دوارق الزجاج المدرجة، ويوجد شواهد غير قليلة على استعمال طبيعي العرب وكيماويهم لها وعلى أنها من اختراعاتهم.
- (٦)
والقوى والروافع، خواصها وقوانينها كانت معروفة لديهم جيدًا؛ لشدة الحاجة إليها في هندسة المعمار، ذكرها ابن الهيثم وأبو سهل القوهي في كتبهم الموضوعة في الميكانيكا (علم الحيل وجر الأثقال).
- (٧) وكان للعرب أيضًا معرفة تامة بما يُسمى في الطبيعة ﺑ «الخاصية الشعرية Capillarity» وبطرق التقطير والتبخير والتصعيد، وكل ذلك يُشاهد جيدًا في أبحاثهم الكيماوية والطبيعية.
- (٨) وإعادة التجربة جملة مرات للتحقق وأخذ المتوسط كانت من عاداتهم أيضًا، حتى إن الخازن يخبرنا بأنه لأجل الحصول على الثقل النوعي أعاد التجربة عشر مرات في مادة واحدة وهي الذهب بواسطة الآلة المخروطة من اختراعات أبي الريحان البيروني (شكل ٣).
- (٩) وكان أيضًا للعرب معرفة بثقل الهواء والضغط الجوي Atmospheric Pressure ولا شك أنهم اكتشفوا طريقةً لتقدير وزنه، فإن قول الخازن: «إن أي جسم ما يفقد جزءًا من وزنه بنقله من الأجواء الكثيفة إلى الأجواء اللطيفة» يومئ إلى هذا الاكتشاف.
- (١٠)
والثقل النوعي والكثافة وطرق إيجادها، ولا شك عندنا أن العرب قد أبدعوا كل الإبداع بوضع جداول للوزن النوعي في غاية الإتقان. جدول ببيان «الوزن النوعي» لبعض الأجسام والفلزات على حسب تجاريب العرب ومقارنته بجداول علماء أوروبا.
الوزن | النوعي | |
---|---|---|
اسم الجواهر | تجربة الخازني | التجارب الحديثة |
الذهب | ١٩٫٠٥ | ١٩٫٠٣ |
الزئبق | ١٣٫٥٦ | ١٣٫٥٥٧ |
الزجاج الفرعوني (الزجاج المعروف الآن في مصر بالإنجليزي) | ٢٫٤٩ | ٢٫٤٥ |
وبالجملة فإن الجداول الموجودة في مؤلفات «الخازن» تبرهن بأجلى بيان على أن العرب قبل أهالي أوروبا أبدعوا فكرة عمل الجداول، فإن الجداول الأوروبية الخاصة بهذا النوع لم تظهر في أوروبا إلا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وأول مَن اشتغل في تقدير الوزن النوعي بأوروبا هو أثاناسيوس كرتشر الذي عاش بين سنة ١٦٠٢–١٦٨٠م، ثم جاء من بعده جملةٌ منهم غليلي وركسيولي، وتظهر مهارة العرب في أبحاثهم الطبيعية وتفوقهم على أهالي أوروبا من هذه الجداول؛ إذ إن العالم الطبيعي «بويل» أجرى تجربتين مختلفتين وقدَّر بهما الوزن النوعي للزئبق، فكان مقدار أحدهما ١٣٫٧٦ والأخرى ١٣٫٣٥٧ وكلاهما أقل في الدقة من تقدير طبيعي العرب في القرن الثاني عشر الميلادي؛ أي قبل «بويل» بما يزيد عن أربعة قرون.
أما المغناطيس والكهربائية فقد بحثت طويلًا عما يؤثر للعرب فيهما وتحقيق الاصطلاح الأخير ومصدره، وإني شارحٌ لك ثمرة بحثي على طريق الإيجاز والإشارة فأقول:
إن لفظة مغناطيس هي منسوبة إلى «مغنيسيا»، بلدة بآسيا الصغرى، وكانت ظواهره معروفة جيدًا، وقد أخذ الفلاسفة الطبيعيون في البحث فيها على الطريق العلمي، ووجِدت آثار ذلك في رسائل الفيلسوف المصري ابن رضوان يردُّ فيها على الحكيم أبي الحسن البغدادي المشهور بابن بطلان، وهذه حكاية ألفاظه: «فأما اعتقاد الشيخ (أي ابن بطلان) أن جذب المغناطيس للحديد يكون بخطوط تخرج من الحجر، فيلزم منه أن يكون كلما جذب الحجر الحديد نقصان الحجر وزيادة الحديد إذا كانت هذه الخطوط لها ميل طبيعي، ولأنها أجسام طبيعية يلتزم تحركها إلى المكان لا في زمان، وهذا محال، وقد خطر ببالي سؤال يحتسب به الشيخ من جملة الألف مسألة وهو: هل الحديد يطلب الحجر سوقًا إليه أم الحجر يجذبه إليه بسرٍّ منه، وقبيحٌ بنا أن لا نعلم ذلك ضرورةً ونحن نشاهده حسًّا.»
هذه شواهد مقتضبة تدلنا على اشتغال العرب بالمغناطيس والكهربائية، وأسرار تقدمهم الذي دعا ابن الهيثم والبيروني للتقدم بالفلسفة الطبيعية خطوات عظيمة، وابن يونس المصري لاكتشاف نواميس البندول واستخدامه في صناعة الساعات.
العضو بالجمعية الفلسفية وجمعية المهندسين بإنجلترا