وردة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل العاشر

مسقط

ديسمبر ١٩٩٢

ارتدى فتحي سترة خفيفة فوق قميصه الصيفي بينما بقيت أنا بالقميص والبنطلون، وتخلَّفت شفيقة عن طقس الإشهار عند الباب لانهماكها في الصلاة.

قال وهو يدير محرك السيارة: هل سمعت عما حدث لسارة؟

قلت وأنا أثبت حزام الأمان: من هي؟

– شغالة فليبينية عمرها ١٦ سنة أحضرها مقاول عمال وألحقها بخدمة عجوز حاول الاعتداء عليها فقتلته، أطلقت عليه ٣٤ رصاصة، وأقر الطبيب الشرعي بحدوث الاغتصاب بطريقة وحشية. حكمت عليها المحكمة بالسجن ٧ سنوات ودفع ٤٠ ألف دولار لعائلة القتيل وأدانته في نفس الوقت وألزمت عائلته بدفع ٢٧ ألف دولار للفتاة كتعويض يتم خصمها من اﻟ ٤٠ ألف دولار.

قلت: ليس هنالك شيء في الصحف.

قال نحن نخرج إلى طريق الكورنيش ونتجه إلى مسقط: الصحف لا تنشر هذه الأنباء. مئات الفليبينيات يهربن كل يوم من أماكن عملهن ويلجأن إلى سفارتهن ويتم ترحيلهن. جئن هربًا من الفقر وتجنبًا للعمل في الدعارة فوقعن في العبودية، كالمستجير من الرمضاء بالنار. بالمناسبة ما هي الرمضاء؟

حاولت أن أتذكر بلا جدوى.

بلغنا منطقة منعزلة تطل على البحر مباشرة أُقيم فيها فندق أشبه بالحصن. تركنا السيارة وصعدنا سلمًا لم يلبث أن انقسم إلى جانبين. ارتقينا الجانب الأيمن وولجنا بابًا في نهايته. كان ثمة حاجز خشبي مؤلف من مربعات فارغة بدت منها قاعة طويلة صفت بها الموائد.

قادنا نادل هندي إلى مائدة في طرف القاعة تتوسطها زجاجة ويسكي ويتصدرها رجل متوسط الطول، ممتلئ الجسم، يرتدي الملابس التقليدية وإلى جواره سالم.

نهض الاثنان لتحيتنا ومد الفندي يده لمصافحتي. كانت له بشرة بيضاء ولحية خفيفة تخللها الشيب، قال وهو يتفحصني بإمعان: مرحبًا بك. نوَّرت عمان.

صافحت سالم وجلست في جانب المائدة إلى جوار المضيف وجلس فتحي في الجانب المقابل. تولت خدمتنا فتيات شرق آسيويات يرتدين ملابس أوروبية تغطي أجسادهن تمامًا ويتحركن في حذر ورهبة. ولحظت أن المطعم شبه خالٍ، فلم يكن به بالإضافة إلى مجموعتنا سوى مجموعة أخرى من ثلاثة شبان عمانيين يحتسون البيرة وزوجين أوروبيين في ركن قصي.

خاطبني الفندي بابتسامة حرت في تفسيرها: أرجو ألا تكون قد انزعجت لما حدث في نزوى؟ فتحي أكد لي أنك لم تصب بأذًى.

لم ينتظر إجابتي وأشار إلى النادل كي يصب لنا الويسكي. اعتذر فتحي عن الشراب بسبب القيادة مكتفيًا بمياه بيريه. تبادلنا الأنخاب، ثم وضع الفندي كأسه على المائدة ووجه إليَّ السؤال التقليدي: كيف الأحوال في مصر؟

لفظت الإجابة التقليدية: ماشي الحال.

سألني: هل صحيح أن ليلى علوي ستتزوج؟

ضحكت: لا أعرف. لم أنتبه للأمر.

قال: نحن هنا نعرف عنكم كل شيء وقراء صحفنا يهتمون بأخبار الممثلات المصريات. هل تعرف ماذا حدث في مجلس الشورى عندنا منذ شهور؟ احتج عدد من الأعضاء من الشيوخ المتزمتين على أن الصحيفة اليومية التي تصدرها وزارة الإعلام تنشر صور الممثلات والفنانات إلى جوار صورهم. تعرف ماذا كان رد الوزير عليهم؟ قال لهم: من الغد لن ننشر صور الشيوخ الأفاضل بِناءً على طلبكم.

انفجر ضاحكًا وشاركناه فاستطرد: هل رأيت صحفنا؟ ليس عندكم في مصر صحف ملونة بعد. أما نحن فالصفحات ملونة من مدة. هل لاحظت شيئًا عند قراءتها؟

تناول صحيفة ملقاة فوق المائدة وقدمها إليَّ. أمسكت الصحيفة وبسطتها ثم قلبت صفحاتها الملونة وهو يتأملني باسمًا.

قال مبتسمًا: انظر إلى أصابعك.

رفعت يدي إلى أعلى وأدرتهما وأنا أتأمل أصابعهما.

قال: ألم تلحظ أنها نظيفة؟

تبينت على الفور ما يقصده، فلم تتلوث أصابعي من حبر الطباعة كما يحدث عادة بعد تصفح الجرائد والمجلات.

شرح لي: اشتكى سيدنا من تلوث يديه بعد قراءة الصحف، فاستحضرت الوزارة آلة خاصة غالية الثمن، لكن النتيجة تستحق كما ترى.

لم يتعسر عليَّ إدراك هوية السيد المقصود، فأطريت الإنجاز الحضاري.

وزع علينا النادل الهندي قائمة الطعام التي جاءت في مجلد سميك أشبه بالكتاب. وقلبت صفحات المجلد في عدم تركيز وأنا أتابع انضمام اثنين من الشبان إلى الجالسين الثلاثة. كانوا جميعًا في الملابس التقليدية التي تراوحت ألوانها بين الأبيض الأشهب والرمادي. وزودتهم الفتيات بزجاجتي نبيذ.

عاد النادل إلينا فطلبت كوكتيل روبيان وحساء البصل الفرنسي، وكنت على وشك أن أطلب روبيان مشوي عندما أصر الفندي على أن يطلب لنا جميعًا اللوبستر.

سألني: كيف وجدت عُمان؟

انتقيت كلماتي في عناية وأنا أصف له انطباعاتي عن نظافة مسقط بالمقارنة مع القاهرة، وعن نظام المرور.

أمَّنَ على ملاحظاتي وأضاف: مشاكلنا كثيرة. أهمها أن عملية التحديث التي يقوم بها سيدنا السلطان تسير بسرعة أكبر مما يحتمل مجتمع ما زال أسيرًا للمعتقدات والعادات القديمة. هل رأيت أصحاب اللحى؟ رد فعل طبيعي.

رفعت عيني إلى مستنسخات الخرائط القديمة لساحل عُمان التي زينت الجدران في إطارات خشبية.

استطرد: نحن دولة حديثة بكل معنى. هل تعرف أننا لم نضع بعدُ نظامًا للتقاعد؟

حدق فيَّ منتظرًا استفسارًا عن السبب ففعلت.

بسط ساعديه وقال بلهجة من يملك حل اللغز: لأنه لا يوجد بين الموظفين من بلغ سن التقاعد.

رفع كأسه إلى شفتيه ثم أعاده قبل أن يحتسي محتوياته وقال: المشكلة أن عدد السكان قليل والإمكانات ضعيفة.

قلت: يمكننا أن نبعث إليك بمليون مصري.

تجهم وجهه ورفع الكأس إلى شفتيه متشاغلًا بالشراب، فتدخل سالم في الحديث: نحن الآن ندخل عصر الجامعة بسرعة. في العام الماضي تخرجت أول دفعة من جامعة قابوس. في الوقت الذي لا نملك فيه عددًا كافيًا من أصحاب الثقافات الوسطى التي تحتاج إليها في هذه المرحلة …

قاطعه الفندي في حدة: العُماني يأنف من الأعمال اليدوية، وحلم الشاب منهم أن يحصل على شهادة جامعية ليجلس إلى مكتب في وظيفة حكومية.

ارتفعت أصوات النقاش الحاد من المائدة الأخرى، فلوى الفندي شفتيه ازدراءً وقال: شعراء.

وأضاف مخفضًا صوته: الذي يجلس في المواجهة لا مهنة له لكنه ينشر بعض القصص والمقالات بين الحين والآخر، ويعتبر نفسه مثقفًا كبيرًا. والصبي الذي إلى جانبه شاعر، والملتحي شاعر آخر، ويليه أردني يتولى تدريس الأدب في الجامعة، والذي في الطرف واحد من التعساء الذين خدعتهم الشيوعية وحصل على دكتوراه ما من إحدى جامعاتهم. وهو شاعر أيضًا. كل العمانيين شعراء إلى أن يثبت العكس.

لم أتمالك من الالتفات إلى سالم لكن وجهه ظل كعادته من غير تعبير.

أشار الفندي للنادل كي يصب لنا جولة أخرى من الويسكي واستطرد: ستجدهم هنا كل ليلة. وهم لا يكتفون بالشراب ونظم الشعر، فينتقدون ويتذمرون ويشكون ولا يعجبهم العجب.

والظاهر أن الشاعر الملتحي أفرط في الشراب أو أراد أن يؤكد مقولة مضيفنا، فقد نهض فجأةً واقفًا ووجه كلامًا لاذعًا في حدة بالغة إلى المثقف الكبير الذي لا مهنة له وهو يشير إلى طبق به حبات من الخيار.

تدخل الآخرون لتهدئته، لكنه أشاح بيده وأعلن أنه سينصرف. وقبل أن يبتعد صاح وهو يلوح بيده شاملًا إياهم جميعًا: أنتم لا تجيدون غير الكلام والخنوع … كلكم … كلكم …

ران الصمت على المطعم والتفت الأوروبيان في فضول ثم استأنفا حديثهما. ورأيت النادل الهندي يقف على مبعدة بوجه أصم، وكالعادة لم يكشف وجه سالم عن شيء. أما الفندي فقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة.

قال: لا أعرف ماذا يريدون. إننا نتقدم بخطوات واسعة في مجال الديموقراطية وفي الشهر الماضي السلطان أعطى لمجلس الشورى صلاحيات واسعة في مجال التشريع والرقابة، وبالفعل قدم أعضاؤه استجوابًا لوزير الإعلام عن أسباب إعاقة استقبال البث التليفزيوني من بقية الدول الخليجية.

سألت: وماذا كان رده؟

– قال لهم إن مهمته هي دعم الإرسال العماني ولا شأن له بإرسال الدول الأخرى.

انفجر ضاحكًا وهو يضيف: وزير دبلوماسي تمام.

انصرف الشاب في اندفاع ولم يلبث أصدقاؤه أن استأنفوا الحديث في هدوء. ووجه الفندي حديثه إليَّ مستفسرًا: هل ذهبت إلى مكان آخر غير نزوى والحمراء؟

أجبته بالنفي، فقال: لا بد أن تذهب إلى الجنوب. ظفار. إنها جنة على الأرض. جبال هائلة الارتفاع تغطيها الغابات وعيون الماء ودرجة حرارتها معتدلة طول السنة. هل يوجد مكان مثل هذا على ظهر الأرض؟ لا بد أن تراها. إنها منطقة الأحقاف التي جاءت في القرآن. وبها قبور الأنبياء هود وأيوب وصالح. كما أنها المنطقة التي عاش بها قوم عاد وثمود. أعرف أن هذه أمور لا تهمك (وابتسم في خبث) لكن لا بأس من معرفتها.

قلت بلهجة عادية: ألم تكن بها ثورة منذ سنوات؟

تغيرت ملامح وجهه، وأشاح بيده في حسم: مجرد عبث أطفال من عملاء الشيوعية. الأمن الآن مستتب هناك تمامًا كما ترى بنفسك. اسمع، سأدبر لك الزيارة. سيذهب معك سالم أو زكريا.

– لا داعي. يمكنني أن أذهب بنفسي.

قال: لا بد من أن تحصل على تصريح، سواء ذهبت بالبر أو الجو.

رأيت النادل يضع زجاجتين من النبيذ فوق مائدة الشعراء. ولمحت المثقف الكبير يضع ذراعه على كتف جاره الشاب ويتحسس خده بأنامله. لم يستجب هذا للمداعبة وأبعد ذراع رفيقه، ثم تناول إحدى الزجاجتين وصبَّ محتوياتها خلسة في علبة بيرة فارغة دسها في جيب دشداشته.

سألنى الفندي: ما هي آخر نكتة في مصر؟

رويت له نكتة توزيع الميزانية فضحك بشدة ثم قال: اسمع هذه النكتة عن العراقيين. داهم جنودهم بيتًا في الكويت ونهبوه، وبينما هم في طريقهم للخارج سألتهم سيدة البيت متعجبة: هادا بس … وين الاغتصاب؟

ضحكنا فاستطرد: أثناء التدريب سأل ضابط عراقي جنديًّا: لو جاءك العدو من الأمام تعمل إيه؟ قال أضربه بالبندجة. طب لو جاءك من الجنب؟ قال أضربه بالبندجة. وإذا جاء من الخلف؟ قال الجندي: هادا ما عدو، هادا صديق.

استقر صحن اللوبستر أمامي فتأملته طويلًا. لم أكن على دراية بطريقة التعامل معه. انتظرت حتى رأيت الفندي يهاجمه بملعقة فحذوت حذوه.

لحظت أن محتويات زجاجة النبيذ الثانية على مائدة الشعراء انتقلت إلى علب البيرة. ولم أرَهم يأكلون شيئًا، وكنا نشرب القهوة عندما سمعت النادل الهندي يبلغهم بأن موعد الإغلاق حان فنهضوا متثاقلين، ورأيت بقعة حمراء كبيرة على ثياب الشاب الذي وضع علبة النبيذ في جيبه.

غادرنا المطعم بعد قليل. ولاحظت أن مضيفنا لم يدفع شيئًا أو يوقع فاتورة.

ووجدنا الشعراء بجوار الصخور المطلة على البحر ومعهم زميلهم الملتحي الذي انصرف ثائرًا قبلهم.

كان ما زال يغمغم في غضب. وعندما اقتربنا منهم التفت ناحيتي وبصق فوق الأرض.

تجاهلنا جميعًا الأمر وصافحني الفندي مودعًا وهو يقول: أنت تعرف أين تجدني إذا قررت الذهاب إلى الجنوب.

اتجه إلى سيارته برفقة سالم وتبعت فتحي إلى سيارته.

قال وهو يربط حزام الأمان: لا بد أن تذهب. هذه فرصة.

خطر لي فجأة أن كل من ألقاه يلح على ذهابي إلى ظفار. وكنت متأكدًا أن شفيقة ستحثني هي الأخرى على السفر كي تتخلص من وجودي بعض الوقت.