وردة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الحادي عشر

صلالة

ديسمبر ٩٢

١

وصلنا المطار بعد أن اكتمل صعود الركاب إلى الطائرة. وقال لنا أحد العسكريين: الطائرة أغلقت أبوابها وستقلع بعد نصف ساعة.

احتج زكريا بأن لدينا مواعيد في صلالة.

قال العسكري بحزم: تعالوا في الواحدة لطائرة بعد الظهر.

جرب زكريا كل أنواع التبريرات والتوسلات التي نعرفها في مصر، وعلم الرجل أني مندوب فوق العادة لوكالة الأنباء المصرية، وأني صديق شخصي للوزير، وأني … وأني … وتحداه زكريا أن يتصل مباشرة بوزارة الإعلام ليتثبت من مزاعمه. وعندما بدت عليه ملامح التردد عرفت أننا سنكسب الجولة.

طلبوا منا بعد قليل الذهاب إلى جناح اﻟ «في أي بي». استقبلنا قائد عسكري عند المدخل وبرفقته جندية سمراء في بلوزة رمادية وجوبة سوداء طويلة وغطاء رأس رمادي. طلب إلينا أن ننتظر قليلًا في قاعة مجاورة فاتجهنا إليها فوق سجادة حمراء، وبعد قليل انضم إلينا رجل وامرأة في الملابس الأوروبية وحدست أنهما عربيان. ظهر القائد بعد لحظة عند المدخل وأبلغهما أنه لا بد من التفريق بينهما؛ إذ يتعين أن تذهب المرأة إلى القاعة المخصصة للنساء.

احتج الرجل الذي ثبت من لهجته أنه لبناني بأن المرأة زوجته.

قال القائد في حرج: ولو. هذه هي الأوامر.

استنكر زكريا إصرار الرجل على بقاء زوجته معنا، وهمس لي وهو يتأمل حقيبة يدي: اللبنانيون ليست لديهم نخوة.

انفصل الزوجان ومرت دقائق ثم ظهر القائد من جديد وأشار لنا أن نتبعه. غادرنا المبنى إلى أرض المطار وتقدمنا من طائرة دي سي. كانت إلى جوارها سيارة مرسيدس سوداء هبط من مقعدها الخلفي رجل مهيب يرتدى الدشداشة البيضاء والخنجر والصندل والكمة، صافح اللبنانيين وانتظر حتى صعدا سلم الطائرة، وأنا وزكريا في أعقابهما ثم استقل سيارته وانصرف.

أُغلقت أبواب الطائرة بمجرد صعودنا إليها وأجلسنا المضيفون الآسيويون أمام جدار يفصلنا عن كابينة القيادة مباشرة، تطلعت خلفي إلى الركاب الذين تكدسوا في صفوف متلاصقة. كان البعض يرتدي سترات أوروبية فوق الدشداشة الوطنية. وأغلبهم ينوءُن بأحمال متنوعة من السلال واللفائف.

مسح زكريا دموعه وقال ونحن نربط الأحزمة: قبل الثورة كان السفر من مسقط إلى ظفار يتم فوق ظهور الدواب ويستغرق ١٨ يومًا.

تساءلت في سذاجة: أي ثورة؟ ابتسم ابتسامته الغريبة وقال: ثورة سيدي قابوس طبعًا.

انطلقت الطائرة فوق الممر المخصص لها استعدادًا للإقلاع، فشرع يحرك شفتَيه بسرعة، ثم أخرج من جيب دشداشته مصحفًا صغير الحجم قلب صفحاته حتى استقر على إحداها وانطلق يقرأ بصوت منخفض. قدرت أنه يقرأ سورة «يس»؛ إذ كان أبي يشيد بفعاليتها في الملمات.

حلقت الطائرة أخيرًا وبعد أن استقرت في مسارها بعض الوقت أغلق المصحف وأعاده إلى جيبه.

قلت في محاولة للتواصل: ما زلت لا أصدق أني أرتدي قميصًا صيفيًّا في نهاية ديسمبر.

قال: هل لاحظت أن ترتيب الفصول عندنا يختلف عنه عندكم؟ نحن الآن في نهاية فصل الربيع سيعقبه بعد أيام فصل الشتاء حتى مارس، ليبدأ الصيف مباشرة وبعده الخريف.

سألته عن موطنه الأصلي، قال إنه من صحار التي تعلو مسقط.

– وأين درست؟

– في البحرين، ثم باكستان.

بدا عازفًا عن الحديث؛ إذ أخرج مصحفه وانتقى صفحة مطوية الطرف واستغرق في القراءة بصوت هامس يعلو بين الحين والآخر.

وصلنا صلالة بعد ساعة ونصف، وجدنا في انتظارنا سيارة لاندروفر حكومية أقلتنا في طريق تحف به الأراضي الخلاء والقصور المسورة الغامضة، سرنا طويلًا بجوار سور مرتفع لا يكشف عما وراءه. كان أعلاه مزخرفًا بنسق هرمي يتدرج صعودًا إلى قمة بارزة ثم يهبط من جديد بنفس عدد الدرجات.

استفسر زكريا من السائق عن المكان، فقال إنه قصر لأحد الوزراء. مضت برهة وعندما لم نستزده انطلق يتحدث من نفسه عن القصر، وعلمنا أنه أعجوبة من الداخل وعمل به أكثر من ستين قاطع رخام وحجَّار. وبه نجف مستورد من مصر وحمامات كاملة مستوردة من إنجلترا وتكييف مركزي. وأن الأبواب الداخلية حفرت عليها نقوش دقيقة تولاها فنيون مخصوصون من الهند.

اخترقنا دوارًا رئيسيًّا واتجهنا يسارًا. مررنا بقصر السلطان وبعدة بيوت قديمة مبنية بالطوب اللبني المغطى بالجص ويتألف بعضها من عدة طوابق اختفت نوافذها المقوسة خلق ستائر خشبية على طريقة المشربية. ولحظت أثر العمارة الهندية في المصاريع الخشبية المحفورة بإتقان والمثبتة إما في الطرف الأسفل من النافذة أو في وسطها. وتجلَّى التأثير الأفريقي في الألوان الحمراء والصفراء الساطعة التي ميزت بعض المصاريع.

صحبتنا صفوف من أشجار جوز الهند حتى بلغنا فندق الهوليداي إن على شاطئ المحيط الهندي.

علق زكريا على الكرات الحديدية الضخمة البيضاوية الشكل التي زينت مدخل الفندق قائلًا: إنها أحجار من الجبل تشكلها الرياح.

حمل فتى هندي حقائبنا واحتفظت بحقيبة يدي معلقة في كتفي، تناولنا فناجين القهوة المعهودة في المدخل، ثم اتجهنا إلى مكتب الاستقبال. وكدت أعتقد أننا النزيلان الوحيدان؛ إذ كان الهدوء شاملًا ولوحة المفاتيح حاشدة.

أعطاني زكريا بطاقة الطائرة الخاصة بي، فدسستها في حقيبة يدي ووضعتها فوق سطح المكتب، ثم أخرجت منها جوازي وسجلت بياناته في أوراق الفندق.

قال لي زكريا وهو يبتسم ابتسامته العجيبة: المكالمة التليفونية هنا تكلف خمسة ريالات.

يحذرني من استخدام التليفون أم يتعمد إهانتي؟

حصلنا على مفاتيحنا من موظف هندي، وانحنيت لأحمل حقيبتي الكبيرة، فمد زكريا يده إلى حقيبة يدي ليحملها عني. جذبتها بعيدًا عن يده وأسرع الفتي الهندي فحمل الحقيبة الكبيرة إلى المصعد وتبعته إلى غرفتي بالطابق الأول.

ألقيت بحقيبة يدي فوق الفراش بعد انصراف الفتى وأجلت البصر حولي. كانت الغرفة رحبة يتكوَّن جدارها المواجه للباب من نافذة عريضة وشرفة تُطل على حديقة الفندق. وشغل الفراش مساحة كبيرة وسط الغرفة بجوار مقعد ثقيل بمسندين ومكتب. تفقدت الحمام المجاور لباب الغرفة وعدت إلى وسطها. أجلت البصر حولي مرة أخرى وتأملت جهاز التليفزيون المواجه للفراش، ثم تقدمت من المقعد وأزحته. استخرجت الكيس الذي يضم اليوميات من حقيبة يدي ورفعت حافة السجادة، ثم دسسته أسفلها وبسطت السجادة وأعدت المقعد مكانه.

كان حلًّا ساذجًا لن يصمد أمام محترف مسلح بالوسائل التكنولوجية، لكنه قد يفيد مع خادم فضولي.

اغتسلت واستبدلت قميصي وغادرت الغرفة. هبطت الدرج إلى ممر هادئ، ثم مضيت مسافة بجوار المطعم إلى البهو حيث ينتظرني زكريا.

ابتدرني قائلًا: لا بد أنك عطشان.

لمحت قاعة تدعى «الخريف كوكتيل لونج»، وتخيلت زجاجة بيرة مثلجة. لكنه قادني إلى قاعة أخرى تعلن لافتتها عن «الخريف كوفي شوب». وأحضر لنا النادل الهندي ثمرتين من جوز الهند. أزال قشرتهما الخارجية بسكين طويلة وأحدث في كل منهما ثقبًا دفع فيه بأنبوبة ماصة من البلاستيك الملون. استطعمت مذاق ماء الثمرة البارد.

علق: الظفاريون يزعمون أن من يشرب ماء جوز الهند مرة يعود إلى صلالة مرة ومرة.

قلت إننا نقول نفس الشيء عن ماء النيل.

أتيت على محتويات الثمرة واحتفظت بها بين يدي وتطلعت إلى لحمها الأبيض حائرًا. سألته عما أفعله بها. فقال: لا شيء. ارمها.

أعدتها إلى الصينية وأنا أتأمل لحمها الأبيض بإشفاق متذكرًا طعمه اللذيذ.

غادرنا الفندق وانطلق بنا السائق في طريق موازٍ للبحر يحمل اسم السلطان قابوس حتى مقر والي المدينة. ولجنا غرفة مخصصة لإدارة العلاقات العامة بها مكتبان يجلس خلفهما شابان بالملابس التقليدية. كان أحدهما أسود اللون والثاني طويل القامة نحيفها مكتئب الوجه يُدعى خلف. ورحبا برفيقي عن معرفة قديمة.

أخذنا خلف في جولة بالسيارة شهدنا خلالها مدينة متكاملة واسعة بمنازل متعددة الطوابق ومعارض سيارات ومطاعم وثلاث دور للسينما ومستشفى يحمل اسم قابوس ومدرسة داخلية ابتدائية تحمل اسمه أيضًا.

قال خلف: هذه المدرسة مخصصة لأبناء الشهداء، ويأخذ التلاميذ مصروفًا شهريًّا أثناء الدراسة.

انتبهت بعد قليل: أي شهداء؟

قال: شهداء المعارك التي دارت هنا في ظفار.

لم يكن من العسير تحديد الجانب الذي استفاد شهداؤه من المدرسة.

مررنا بمبنى الإذاعة والتليفزيون وبمصنع لتعليب الأسماك وآخر للأسمنت. وذكر خلف أن هناك مصانع أخرى لتعبئة الموز واللبن وبيبسي كولا وسفن أب.

موَّن السائق السيارة من محطة خدمة تابعة لشركة شل ثم أخذنا إلى السوق المركزي، ترجلنا في الخارج وطفنا بأنحائه. توقفت أمام منتجات جوز الهند ومشغولات الرعاة من أهل الجبل، وكان هؤلاء يتجولون شبه عراة كاشفين عن أجساد شديدة السمرة وعضلات بارزة ورءوس ذات شعر كث شديد السواد.

طلب زكريا أن نرى آثار ناقة النبي صالح، فغادرنا السوق وقادنا السائق إلى صخرة صلدة تحمل أثرًا واضحًا لخف غائر وأصابع مفلطحة.

وقال خلف: كانت هذه الصخرة سقفًا لإحدى المغارات ثم سقطت عندما سارت عليها الناقة.

سألت: متى كان هذا؟

قال زكريا: في زمن الأنبياء.

حاولت أن أتذكر ما يميز النبي صالح بين رفاقه. استفسرت من زكريا فقال: إنه النبي الذي عجز عن هداية قومه.

جذبني من ذراعي وابتعدنا قليلًا وأضاف بصوت هامس: خلف من الشحرة، وهم ينحدرون من نسل القبيلة التي عقرت ناقة النبي صالح. كانت تزود الناس باللبن والعسل والنبيذ، وعندما عقروها عاقبهم الله بإرسال جحافل النحل عليهم فالتهمتهم.

انضممنا إلى خلف وركبنا السيارة التي اتجهت غربًا. تجلت لنا مساحات خضراء شاسعة تتخللها شجيرات متناثرة، ولاحت من بعيد بضع غنمات وجمل يسير وحده في بطء.

بدأ الطريق يصعد ولم تلبث السيارة أن انحرفت إلى أجمة مليئة بالأغصان. توقفت إلى جوار شجرة تتفرع أغصانها رأسًا فوق سطح الأرض وترتفع حوالي ثلاثة أمتار بأوراق خضراء داكنة تشبه أوراق شجرة الزيتون. هبطنا من السيارة وأخرج السائق مطواة أزال بها جزءًا من اللحاء. ولم تلبث المنطقة العارية أن بدأت في إفراز سائل مثل اللبن.

قال: لو تركناها هكذا ستستمر في الإفراز وبعد أسبوع تكون لدينا كرية صغيرة من اللُّبان.

تنافس الثلاثة في تثقيفي بحضارة اللُّبان. فعلمت أن المصريين القدماء استخدموه في التحنيط، وكان له طريق بري يمتد حتى سواحل البحر الأبيض وآخر بحري حتى أطراف آسيا. وكان بخورًا مقدسًا في المعابد والكنائس، ولا زال يستخدم في البيوت لطرد الأرواح الشريرة والحشرات السامة.

قادنا خلف إلى خيمة كبيرة الحجم على بُعد خطوات جلس في مدخلها رجل أسمر خمسيني بلحية خفيفة وعينين تبرقان دهاءً. رحب بنا عندما رأى خلف وإن لم يبدُ إشارة إلى أنه يعرفه.

أشار لنا خلف أن نقتعد الحصيرة التايوانية الملونة التي جلس الرجل فوق طرفها محتضنًا راديو ترانزستور. تأملني بإمعان ولمعت عيناه المكحولة عندما ذكر له خلف أني مصري. قام على الفور إلى ناقة بركت على مقربة وملأ قصعة معدنية من لبنها ثم قدمها إليَّ. تأملت القصعة التي علتها الرغاوي مترددًا لكن خلف شجعني على الشرب، ففعلت.

قال الرجل موجهًا الحديث لي: اشرب، تحيا القومية العربية.

بدا الشعار غريبًا فلم يسمعه أحد من مدة طويلة. ونظر الرجل إلى خلف نظرة سريعة ثم استطرد موجهًا الحديث لي وهو يبتسم ابتسامة عريضة: صوت العرب من المحيط إلى الخليج يناديكم.

أبديت دهشتي فعلق: أي نعم. نحن نعرف كل شيء. جونسون حمار ونيكسون زعيم الإمبريالية وجمال عبد الناصر بطل العروبة.

تعجبت من جرأته، فهذه العبارات التي كانت مألوفة في الستينيات كفيلة اليوم — في كل مكان تقريبًا من المحيط إلى الخليج — بأن تقود صاحبها إلى السجن.

لم يعلق خلف أو زكريا بشيء بعد أن تركنا الرجل. ولاحظت أن خيمته تقع في بداية الطريق إلى الجبل. فهل وضع هنا على عمد ليكون في استقبال الزوار ويقدم لهم الدليل الحي على سماحة النظام أم هو ملتاث يعيش على الذكرى ولم يسمع حتى بكارتر أو بوش؟

عدنا إلى السيارة وواصلنا الصعود في طريق وعر. ولاحظت تدرج الألوان في أغصان الأشجار: اللون الأخضر عند القواعد يليه اللونان الأصفر والبرتقالي في الوسط ثم البني الداكن في أوراق الأغصان العليا. وفي القمة تبدو الأغصان عارية من الأوراق التي تجمعت على الأرض حول الشجرة، كأنما جمعت الشجرة في غصونها كل فصول السنة الأربعة.

ولجنا ساحة ممهدة يتوسطها مبنى حديث عبارة عن مطعم سياحي يحمل اسم النبي أيوب. تناولنا الغداء على حساب التراث، ولهذا لم يعبأ أحدنا بالأسعار الباهظة. ركزنا أنا وخلف والسائق على السالمون الاسكتلندي المدخن والروبيان المشوي والمقلي، واكتفى زكريا بطبق غريب من قطع الدجاج مع الأناناس والأرز.

مضينا بعد الغذاء مشيًا على الأقدام إلى ضريح النبي أيوب الذي شُيِّد على شكل مستطيل طُليت جدرانه باللونين الأبيض والأخضر. خلعنا الأحذية ودخلنا قاعة فُرشت بالسجاد وعُلقت الآيات القرآنية بجدرانها وتوسطها جسد عملاق مغطى بقماش أخضر اللون. كان طوله ستة أمتار تقريبًا ويكاد يملأ المكان مخلفًا مساحات ضيقة في الجوانب امتلأت بخزانات صغيرة للكتب ومساند شرقية وحمالات خشبية للقراءة.

تطلعت في فضول إلى الجسد الأسطوري المسجى. وعلق خلف على ما دار برأسي من تساؤلات قائلًا: كان هناك في القديم عمالقة.

– بهذه الأحجام؟

– انتظر حتى أريك قبر النبي عمران الذي يبلغ طوله أكثر من ثلاثين مترًا بالتمام والكمال. تعرف قصة النبي أيوب بالطبع؟

كنت أعرفها بالتأكيد، فقد لقنونا إياها في الصغر. لكن التفاصيل ضاعت في زحمة قصص أخرى. ومضت برهة قبل أن أمسك ببعض الخيوط؛ بدأ الأمر بصاعقة أحرقت مخازن الغلال والأشجار ومزارع الكروم. وتبعها زلزال ثم ريح عاتية حملت الطاعون الذي قضى على الماشية. وأُصيب النبي فانتشرت القروح فوق جسده وتقيحت وامتلأت بالدود فنفر منه الجميع، زوجته وأقاربه وأصحابه. لكنه صبر على ما أصابه ولم يفقد إيمانه لحظة واحدة.

لم يسبق أن تمعنت القصة أو فكرت في مصداقيتها. ولم أملك أن أتساءل الآن: هل هو حقًّا المسجى أمامي؟ وهل تعرض حقًّا لكل هذا العذاب؟ وهل آمن فعلًا كل هذا الإيمان؟ وهل يجعل منه هذا إنسانًا أفضل؟

قال خلف ونحن نستدير نحو الباب: المتزوجون حديثًا يأتون دائمًا إلى هنا.

المكان الملائم لبدء المسيرة.

انحنيت لأرتدي حذائي ولمحت رجلًا شديد السمرة يجلس مطأطئ الرأس أمام المسجد المجاور. كانت القروح والندوب تغطي صدره العاري.

ركبنا السيارة ومضينا صُعُدًا في الطريق المرصوف. امتدت الخضرة أمامنا إلى ما لا نهاية يخيم عليها الصمت. ولاحت من بعيد مجموعة من البيوت تتحرك حولها أبقار. وهنا وهناك انتصبت خيام متباعدة من ألوان مختلفة.

قال خلف بصوت رتيب مجرد من الحياة: حتى الثمانينيات كانت هذه الأراضي تزرع على أيدي الفلاحين، ومع انتشار الحياة المدنية وارتفاع الرواتب التي تدفعها الحكومة، هجر الفلاحون الوادي وتركوه للأعشاب البرية وقطعان الماشية، والقادر منهم استأجر هنودًا لزراعتها بل وللرعي أيضًا.

اقتربنا من انحناءة حادة في الطريق ولم يغير السائق من سرعته، لكنه ما لبث أن ضغط بقوة على الفرامل وأطلق صيحة استياء، فقد ظهرت أمامنا شاحنة بيك آب تتبع قطيعًا من الأبل يتقدم على مهل في عرض الطريق.

تبعنا القطيع في بطء حتى بدأ يستدير إلى طريق جانبي وسط الخضرة وتبعته الشاحنة.

دبت الحياة في سائقنا وضغط على المسرع وهو ينقل السرعة واندفع مواصلًا الصعود، أبديت دهشتي من احتكار القطيع والشاحنة للطريق. وعلق خلف: التفاهم مع رعاة الجبل صعب.

تساءلت: أين هم؟

قال وهو يبتسم لأول مرة: آه. وكنت تتوقع راعيًا يحمل عصا ويمشي على قدميه؟ لم يعد هذا الصنف موجودًا. الرعاة الآن يستخدمون الشيفروليه والتويوتا.

لاحت لنا خيمة كبيرة فوق إحدى القمم فاتجهنا إليها. وجدتها مكدسة بأكياس الأرز والدقيق والسكر وصناديق الشاي والصابون وصفائح السمن وغيرها. وعرفت من صاحب الخيمة الباكستاني أن طائرات الهليكوبتر الحكومية تنقل له هذه المواد من صلالة ليبيعها لأهل الجبل بنفس أسعار المدينة.

خطوت جانبًا وأخذت أتأمل الطبيعة الغنية من حولي. ولمحت في أعلى قمة جبلية مجاورة سورًا حديث البناء ظهر خلفه رجال في ملابس عسكرية خضراء. استفسرت من خلف فرفع رأسه إلى أعلى وتطلع إلى السور ثم قال: هذا واحد من المراكز الإدارية التي أقامتها الحكومة فوق الجبال. كل واحد يضم مسجدًا ومدرسةً ومكتب بريد وعيادة طبية ومركزًا تجاريًّا.

وبدا لي ما وراء السور أقرب إلى الثكنة العسكرية، رمقت خلف بطرف عيني فلمحت في عينيه المشرعتين إلى أعلى شيئًا من الرهبة أو الخوف.

سألته: هل يمكنا أن نصعد إليهم؟

قال وهو يستدير متجهًا إلى السيارة: لا أظن أنهم يرحبون بالزائرين.

أضاف السائق وهو يدير السيارة في طريق العودة كأنما يعينني على الفهم: هذه المنطقة كانت مشتعلة بالفتنة والتمرد.

٢

نمت في عمق لأول مرة من زمن واستيقظت مبكرًا. استمتعت بحمام ساخن طويل وبمياه الدوش الدوار فوق أماكن الألم في عنقي وظهري.

لم أجد رغبة في أن أتناول إفطاري مع زكريا، فطلبت خدمة الغرف. لم يرد عليَّ أحد وتنقلت بينها وبين الاستقبال عدة مرات إلى أن جاءني صوت يتحدث الإنجليزية بلهجة هندية. كرر إحدى العبارات إلى أن فهمت أنه يستفسر عن نوع الإفطار الذي أريده؛ كونتيننتال أم شرقي أم أمريكي. اخترت الشرقي الذي يتألف من الجبن الأبيض والفول المدمس واللبنة.

سألني: شاي أم قهوة؟

أحب أن أشرب الشاي مع الإفطار ثم أتبعه بعد قليل بفنجان من القهوة. واختصارًا للوقت طلبت الاثنين معًا.

كرر: شاي أم قهوة؟

قلت: شاي وقهوة.

كرر بصبر نافد: تي أور كوفي سير؟

قلت: تي آند كوفي.

صمت برهة ثم قال: ثانك يو سير.

دق الباب بعد ربع ساعة وفتحته لشاب هندي يحمل صينية عليها عصير جريب فروت وكرواسون ومربى ودورق قهوة. قلت بالإنجليزية: ليس هذا ما طلبته.

قال: ييس سير.

قلت: خذه إذن وأحضر لي الإفطار الشرقي.

قال وهو يضع الصينية على المكتب: ييس سير.

قدَّم إلى الفاتورة لأوقعها كأنما لم أقل شيئًا. يئست من المجادلة فاستسلمت ووقعت.

نزلت إلى البهو بعد الإفطار. أعطيت موظف الاستقبال الهندي مفتاح الغرفة وانتظرت حتى أودعه مكانه في لوحة المفاتيح. كان الصندوق الخاص بي خاليًا من الرسائل. سألته عن زكريا فهزَّ رأسه بالحركة التقليدية وقال: «الرفيج» في السيارة.

هكذا أصبح الملتحي رقيقًا على يد الهندي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وجدت زكريا ينتظر في سيارة داتسون. قال وهو يمسح دموعه: سنذهب أولًا إلى المكتب لنأخذ اللاند روفر. أمامنا رحلة طويلة إلى شيصور التي اكتشفوا تحتها مدينة أثرية منذ شهور. قلعة بسبعة أبراج يعود تاريخها إلى ٢٠٠٠ سنة قبل الميلاد. إنها مدينة إرم التي جاء ذكرها في القرآن ودفنها الله تحت الرمال عندما غلبت الشراهة والطمع أهلها نتيجة ثرائهم.

– ومن اكتشفها؟

– الأثري البريطاني المعروف سير فينيس. خدم هنا في القوات البريطانية أثناء ثورة ظفار.

قلت: عجيبة.

قال: أليس كذلك؟

قلت: أنا أقصد هذا السير فينيس، وقبله موشيه دايان وآخرون. ما الذي يجذب الجنرالات إلى الآثار؟

استقبلنا خلف في سترة أوروبية فوق دشداشته. وأبلغنا بأننا سنذهب إلى منطقة أخرى لأن المنطقة الأولى أُغلقت.

قال وهو يقدم إليَّ صحيفة اليوم: الاكتشافات الآن على قدم وساق. السنة الماضية اكتشفنا في جنوب ظفار آثارًا عمرها ٣٥ مليون سنة: أسنان وبقايا فيلة وقردة وتماسيح وأسماك وسلاحف وقوارض.

– معقول؟ هذا يجعلها أقدم من آثار الفيوم عندنا التي تعتبر أقدم حفريات في العالم.

ابتسم في سعادة: طبعًا. راحت عليكم كما تقولون.

ألقيت نظرة على الصحيفة فوجدت النصف الأعلى لصفحتها الأولى مخصصًا لمؤتمر قمة مجلس التعاون لدول الخليج تحت عناوين ترحب بالإدارة الأمريكية الجديدة وتشيد بدور بوش في تحرير الكويت. كانت هناك صورة ملونة للسلطان بلحيته البيضاء المميزة في مقعد ضخم مذهب وأمامه العلم بألوانه الأزرق والأبيض والأحمر، وتجلى في صورة أخرى بعباءة زرقاء مذهبة الحواشي كشفت الخنجر الفضي في جانبه الأيمن وإلى جواره أمير بوجه ثعلبي وآخر قصير القامة علق خنجره الذهبي في منتصف البطن تحت السرة مباشرة.

تمعنت في عيني السلطان اللتين أوحت نظرتهما بالجدية والصرامة. قلبت الصفحة فطالعتني صورة ثالثة له مع رجل ممتلئ في عباءة تكشف عن الخنجر ونظارة سوداء عريضة بين حاجبين ناصعي البياض وشارب من نفس درجة اللون. بدا لي الوجه مألوفًا لكني لم أتذكر أين رأيته من قبل. وكان الاسم المذكور أسفل الصورة هو «الحارث بن عيشة».

تذكرت إشارة في موسوعة السلطان قابوس الأسماء التي تنتسب إلى الأم. وأوضح لي خلف أنها عادة قاصرة على بدو الصحراء.

قلت: لعلها كل ما تبقى من أيام السلطة المطلقة للمرأة.

انتهزت الفرصة وأضفت: ألا يوجد هنا نشاط نسائي؟ سمعت عن جمعية للمرأة.

قال خلف بصوت مجرد من الحياة: عندنا في مرباط مركز للتأهيل النسوي أنشأته السيدة الجليلة أم السلطان. إذا أحببت نأخذك لزيارته.

صحبنا زميله الأسود هذه المرة وانطلقت بنا السيارة إلى شارع قابوس ثم اتجهت يمينًا نحو المحيط. وبعد فترة أقبلنا على خليج صخري مهجور، تتوسطه أطلال مندثرة تمتد حوالي نصف كيلومتر، وتتألف من أحجار بناء أكسبها الزمن لونًا كابيًّا كئيبًا.

قال بلال: هذه المنطقة تسمى «البليد» باللهجة الجبالية ومعناها بالعربية البلد. كانت ميناءً زارها ماركو بولو في ١٢٩٥، وابن بطوطة بعده بثلاثين سنة، رحمه الله، فقد وصفها بأقذر مكان في العالم، وقال إن البعوض يغطيها، وأبدى دهشته من أن الحيوانات تتغذى على السردين.

كان الجزء الشرقي من المنطقة مشيدًا على شكل مربع يضم مسجدًا كبيرًا بأعمدة مستديرة وخماسية لها قواعد وتيجان منقوشة بآيات قرآنية.

أرانا بلال أساسات مبنى الجمارك القديم وقال: كانت الرياح التي تهب من الشمال الشرقي في هذا الشهر تحمل سفن التمر واللبان إلى شواطئ أفريقيا، ثم تعود مرة أخرى مع الرياح الجنوبية الغربية في أبريل محملة بالعاج والعسل وأصداف السلاحف التي تصنع منها مقابض الخناجر.

هل جاءت أيضًا بأسلافه مكبلين؟

كانت الشمس حارة وشعرت بالإرهاق فأبديت رغبتي في العودة. نزلت وحدي عند الفندق؛ إذ أراد زكريا الذهاب إلى المدينة. تأكدت من أن أحدًا لم يترك لي رسائل وصعدت إلى غرفتي. اغتسلت ونزلت إلى المطعم الخالي إلا من أسرة أوروبية. طلبت عدة سلطات شرقية وشيش كباب وزجاجة بيرة، فهزَّ النادل الهندي رأسه قائلًا إن البيرة غير متوفرة.

انتظرت حتى انصرف، وغادرت مكاني بهدوء وصعدت إلى غرفتي، فأخذت زجاجتي بيرة من الميني بار وعدت بهما إلى المطعم، وضعتهما أمامي فوق المائدة، وإذا بمدير المطعم الهندي يقترب مني هائجًا: نو، نو.

استغرق الأمر بعض الوقت كي أفهم أن تناول الخمور قاصر على الغرف والبار. وأصر على أن أعيد الزجاجتين إلى غرفتي.

حملت الزجاجتين وصعدت إلى الغرفة. أعدتهما إلى الميني بار وهبطت من جديد إلى المطعم.

أكلت بغير حماس ثم مضيت إلى الاستقبال، فألقيت نظرة على الصندوق الفارغ.

سمعت اسمي فاستدرت ووجدت سالم والفندي أمامي وخلفهما البلبوي يحمل حقائبهما.

قال الفندي: لم نشأ أن نتركك تستمتع بطبيعة ظفار وحدك.

لم أحر جوابًا. وانهمك سالم في ملء أوراق الاستقبال.

قال الفندي وهو يتطلع ناحية المطعم: هل أكلت؟ سأموت من الجوع.

قلت إني سبقته وفي طريقي للقيلولة.

قال: خذ قيلولتك ثم تعالَ إلى جناحي لتشرب كأسًا.

انضم سالم إلينا قائلًا: سنذهب بعد ذلك إلى أختي لنتعشى عندها، سأريك منازل الظفاريين.

صعدت إلى غرفتي وتمددت على الفراش بملابسي واستغرقت في النوم على الفور. وعندما استيقظت بحثت عن زكريا فلم أجده. كنت أرغب في احتساء فنجان من القهوة لكني لم أشأ أن أمر بمحنة الصباح فهبطت إلى البهو.

وجدت سالم في انتظاري. سألته عن زكريا فقال: بحثت عنه ولم أجده. على أي حال لن يأتي معنا، فهو لا يحب مجالس الشراب.

غادرنا المبنى إلى حديقة الفندق ومضينا أمام فيلات منفصلة تتكون كل واحدة في طابقين.

قال سالم دون أن يظهر أي تعبير على وجهه: الفندي له هنا شاليه محجوز طول السنة لا يأتي إليه غير بضعة أيام.

بلغنا الشاليه ذا الطابقين ودق سالم الباب ففتحه خادم فليبيني يتدلى قرط من أذنه ويتحرك برقة أنثوية. جلسنا في الصالة إلى جانب مائدة تحمل طبقًا كبيرًا من الفاكهة وزجاجة ويسكي في لفافة تحمل تحيات إدارة الفندق.

هبط الفندي بعد قليل من الطابق الأعلى، كان يرتدي دشداشة رمادية اللون ويضع على كتفيه عباءة مذهبة الأطراف. ألقى نظرة على طبق الفاكهة والويسكي بينما أحضر الخادم الفليبيني مائدة شراب صغيرة رصت فوقها أنواع الخمور المختلفة.

صب لي الفليبيني كأسًا من الجين والتونيك بينما أخذ الفندي وسالم الويسكي.

قال الفندي: خسارة أنك لم تأتِ في الشهر الماضي. كنا نصور رقصة الربوبة. وهي رقصة تشبه الفالس تشتهر بها ظفار وتؤديها فرقة شهيرة هنا اسمها فرقة بن توفيق. على فكرة التسمية من كلمة «ربابة» وهي نفس الآلة الموسيقية الموجودة عندكم في مصر.

قلت: تكفيني الرقصة التي شهدتها في نزوى.

ضحك وارتشف من كأسه ثم قال: كل الرقصات كوم وهذه الرقصة الظفارية كوم آخر. إنها الوحيدة تقريبًا التي تشارك فيها النساء. رقصة تقدمية. أليس كذلك يا سالم؟

نظر إليَّ وغمز بعينه ثم ضحك من جديد.

قال سالم: ربما هذا هو السبب في أنها رقصة صعبة.

خاطبني الفندي: ستتاح لك فرصة رؤيتها في المستقبل. فلا شك أنك ستأتي إلى عُمان وظفار مرة أخرى. من زار ظفار …

أكملت: مرة … زارها مرة ومرة.

انفجر ضاحكًا وهو يملأ كأسه من جديد: نحن نقوم بعملية تحديث ضخمة ونحتاج إلى الخبرات والمواهب من كل مكان.

قلت: عندكم كثير منها.

قلب شفتيه بازدراء: تقصد العمانيين؟ إنهم لا يصلحون لشيء.

نهض سالم واقفًا وهو يقول: سنذهب الآن لموعد العشاء.

قال الفندي: جيد فأنا عندي ارتباطات. خذ السيارة فلن أحتاج إليها.

غادرنا الشاليه وخرجنا إلى الطريق حيث تنتظرنا سيارة بويك بسائق باكستاني، قلت وأنا أضطجع في المقعد الخلفي الوثير: لم أكن أعلم أنك من هذه المنطقة.

قال: أبدًا أنا من عُمان الداخل. كان أبي يعمل بالتجارة، يحمل التمر والليمون إلى مسقط ويعود بالأرز والبن. تعلمت القرآن في الكتاب وحفظته هو وألفية ابن مالك ثم صرت أصحب أبي في رحلاته. رأيت الصغار في العاصمة بالزي المدرسي، فأحببت أن أكون مثلهم، لكن دخول المدرسة كان مقصورًا على أبناء العائلات. ونجح أبي في التغلب على الصعوبات وأدخلني المدرسة. وعندما حصلت على الشهادة الابتدائية أردت أن أواصل تعليمي، وكان هذا مستحيلًا لولا الجبهة.

– وما الذي جاء بأختك إلى هنا؟

– زوجها من المنطقة. تعرَّفت عليه في لندن.

أخذتنا السيارة إلى وسط المدينة. ولجنا شارعًا ضيقًا به منازل قديمة تجمع حشدًا من الهنود أمام جهاز التليفزيون في مدخل أحدها. توقفنا أمام منزل من طابق واحد زُخرفت نوافذه بمربعات متناسقة من اللونين الأزرق والأحمر.

فتح لنا الباب صبي في العاشرة من عمره. وتقدمني سالم بسرعة فتوقفت عند العتبة وما لبث أن عاد وأشار لي بالدخول.

وجدت نفسي في قاعة متوسطة المساحة أرضيتها في مستوى الشارع ومفروشة بالسجاد والخشيات. خلع سالم حذاءه عند الباب فاقتديت به. أقبلت علينا امرأة سمراء باسمة في مقتبل العقد الثالث من العمر هي أخته. كانت ممتلئة الجسم ترتدي ثوبًا حريريًّا ملونًا يغطي كل جسمها وتضع شالًا ملونًا فوق رأسها.

صافحتني في خجل. ولاحت الروج في وجهها والحناء في قدميها ويديها. جلسنا فوق الحشيات والتف حولنا عدد من الصبية والبنات المتفاوتي الأعمار يتأملونني في اهتمام وانفعال. وأدركت أني أمثل حدثًا هامًّا في حياتهم الرتيبة.

انضم إلينا زوج الأخت بعد قليل وهو شاب في مثل عمرها يُدعى فطوم، يرتدي عوينات طبية ودشداشة عادية. وانهمكت الأخت بمعاونة امرأة أكبر منها سنًّا في إعداد مائدة حاشدة فوق صينية وضعت على الأرض مباشرة وحوت الثريد والهريسة والأرز ومشويات اللحم والسمك والكبيبة الشامية والطعمية المصرية والسلطات وعصير البرتقال.

وقال سالم: كانوا سيعدون لك طعاما ظفاريًّا أصيلًا لكن خفنا ألا يعجبك.

أقبلنا على الطعام وانضمت إلينا السيدة الأخرى وجماعة الصبية والفتيات ودار حديث متشابك حول أرض يريد أحد الاستيلاء عليها، ثم عن قطعة قماش اشترتها الأخت بريال للمتر وتريد بيعها بثلاثة. كنت أجلس إلى جوار زوجها فعلمت أنه يستعد للسفر إلى بريطانيا للحصول على دكتوراه في الاقتصاد. وتطرق الحديث إلى إمكانية التنسيق بين دول مجلس التعاون الخليجي، بحيث تتخصص كل دولة في شيء للاستغناء عن الاستيراد.

عارضني قائلًا: السوق ضعيفة، أبوظبي تعدادها ربع مليون، وقطر ٢٠٠ ألف، ولا يمكن الاعتماد على السوق العربي الكبير لأن تكلفة الإنتاج ستكون مرتفعة بسبب عدم توفر عمالة محلية وارتفاع مستوى المعيشة. ربما الحل هو إقامة الصناعات في مصر مثلًا.

من الطبيعي أني رحبت بهذا الحل وقلت: لو كانت الأموال التي أُنفقت في سفه استخدمت في إنشاء مصانع ومزارع في مصر مثلًا أو سوريا والسودان …

أمَّن على حديثي صامتًا.

غسلت يدي في حوض مثبت في حائط القاعة قرب الباب. وعدت إلى شرائح الفافاي التي تولت زوجته تقطيعها لنا، كان مذاقها يجمع بين المانجو والبطيخ.

قلت بصوت عادي: أظن كانت هنا ثورة منذ عشرين سنة تقريبًا.

أومأ برأسه وقال في يسر: كانوا جماعة الجبهة.

– وهل ما زالوا موجودين؟

قال وهو يرمق سالم بنظرة خاطفة: لا. انتهت القصة من مدة.

كان الآخرون مشغولين بحديث عائلي، فقلت بصوت خافت بعض الشيء: ألا تظن أنها تركت نتائج إيجابية؟

قال: الجبهة استولت على الجبال وأرسلوا الأطفال إلى اليمن الجنوبي للتعليم، ومنه إلى العراق وليبيا والبلدان الاشتراكية، وهؤلاء عادوا الآن أطباء ومدرسين وغيرهم. كانت الفكرة هي تحديث البلاد التي أغلقها السلطان سعيد بيدٍ من حديدٍ خوفًا من الأجانب.

علقت في حذر: فتخلصوا منه وفتحوها على آخرها.

قال ملتفًّا حول تعليقي: السلطان السابق كان جريئًا وشجاعًا وله كاريزما، لكنه كان عنيدًا. طلب منه الإنجليز أن يترك العرش فرفض، قابوس كان محبوسًا في قصره هنا لمدة ست سنوات. فتم الاتفاق معه.

تناول شريحة فافاي وأضاف: الإنجليز هم الذين نصبوا السلطان سعيد نفسه سنة ١٩٣٢ بعد أن خلعوا والده ونفوه إلى الهند …

قاطعه سالم الذي كان يصغي لحديثنا في انتباه: هناك شخص عند الباب.

طرق أحدهم الباب، فاندفع أحد الأطفال لفتحه لكن فطوم استوقفه بيده. خيم علينا الصمت وتكرر الطرق ثم توقف.

قال فطوم بعد لحظات: هذا خالي.

أبديت تعجبي فقال: لو فتحت له كان شافك. وهذا طبعًا أمر غير مقبول من الجيل القديم. فلا يمكن تصور غريب في جلسة مثل هذه. لو كانت أمي موجودة ما كان سمح لك أصلًا بالدخول.

علق سالم: ومع ذلك هناك أماكن في الجبل لا يصح فيها أن تطرق الباب، والمفروض أن تدخل مباشرة.

قال فطوم: أيام الجبهة كان وضع المرأة أفضل. الواحد هنا لا يرى زوجة صديقه، لكن إذا قابلها في لندن سهروا معًا.

تدخل في الحديث شاب صغير يدعى أمين لا يتعدى عمره الخامسة عشرة: أنا معك في أن هذا وضع غير طبيعي، لكن لا بد من تغطية وجه المرأة.

سألته عن المبرر.

قال: لأنها تثير شهوة الرجل، والرجل أكثر شهوة من المرأة.

شربنا شايًا أخضر ثم أعلن سالم أنه متعب من السفر. عرضت عليه أخته أن يقضي الليلة عندها بينما يوصلني السائق، فقال إن غرفته بالفندق على نفقة الدولة.

سألني ونحن نستقل السيارة: أنت كثير الأسئلة. والبعض هنا لا يحبون ذلك.

تأملته في حيرة عاجزًا عن تحديد أمره.

أضاف بعد لحظة: هل سألت عن صديقيك؟

أبديت دهشتي: هنا؟ لا.

كنا قد بلغنا الفندق، فتوقف الحديث ورافقني سالم إلى الاستقبال. وجدت رسالة تنتظرني في الفندق. كانت من شخص يدعى أبا عبد الله يدعوني إلى تناول طعام الغذاء في الغد بالمخيم الخاص به، واعدًا بإرسال سيارة تقلني عند الظهر.

عرضت الرسالة على سالم فقال: هذا شرف كبير. أبو عبد الله من أهم شيوخ بيت كثير. رجل متنور رغم أنه يرفض تعليم بناته.

– لكن لماذا يدعوني؟ أنا لا أعرفه.

– أي زائر غريب للمنطقة يعتبر ضيفًا عليه. لا بد أن تذهب. لكن احذر من الأسئلة الكثيرة.

سألت عن زكريا فبدا الارتباك على موظف الاستقبال الهندي وحرك رأسه بالطريقة المألوفة. تطلعت إلى رقم غرفته فرأيت المفتاح معلقًا بجواره.

اتجه سالم إلى المصعد ومضيت إلى البهو، لمحت أحد العاملين خلف مكتب قرب المدخل. كان أسمر البشرة ذا ملامح هندية، مضيت إليه وحادثته بالإنجليزية فضحك. سألته عن زكريا. استمر في الضحك، ثم قال فجأة بلهجة حواري القاهرة: متتكلم عربي يا أستاذ.

قلت: أنت مصري؟

قال: من الجمالية. الاسم متولي.

قلت في ارتباك: عاشت الأسامي. لا مؤاخذة. كل حاجة هنا ملخبطة.

وصفت له زكريا ففقد مرحه.

تطلع حوله ثم قال لي بصوت هامس: أخذوه في الفجر.

– مين اللي خدوه؟

– تفتكر مين؟

قلت: تعرف السبب؟

– الظاهر أنه من الجماعة.

– أي واحدة؟

قال: الدقون. الإخوان. يسمونهم هنا المطوِّعين.

٣

كانت السيارة التي أرسلها لي الشيخ أبو عبد الله من طراز شيروكي. وكان خلف في مقعد السائق.

قلت وأنا أعقد حزام الأمان: لم أكن أعرف أن أبا عبد الله شخصية هامة للغاية.

تشاغل بإدارة المحرك ولم يرد عليَّ، قاد السيارة بمهارة في الطريق المألوف إلى قبر النبي أيوب، ثم توغلنا في الطريق الجبلي وسط الخضرة.

أردت أن أنتزعه من صمته، فسألته عن نوع الدراسة التي حصَّلها. قال إنه درس في صلالة حتى الابتدائية ولزم البيت. وفي سنة ٧٠ حصل على منحة لدراسة الإعدادية والثانوية في قطر، ثم أكمل الدراسة الجامعية في مصر.

قلت: أراهن أنك مللت اصطحاب الزوار إلى نفس الأماكن في كل مرة. خصوصًا وأنهم رجال.

قال: ليس دائمًا. الأسبوع القادم ستأتينا أثرية دنمركية.

قلت: اسمها جوليا؟

قال: نعم. تعرفها؟

قلت: قابلتها في مسقط.

مررنا بأسرة نصبت خيمة كبيرة إلى جوار سيارة لاندروفر وبسطت أمامها سماطًا من البلاستيك. كان الواضح أن أفرادها في نزهة أو «بيكنيك» كما علق خلف. تمهل أمام حظائر حجرية قائلًا بصوت ملول: هذه ليست حظائر ماشية … إنها حظائر نبات.

أوضح لي أن الجيليين يزرعون الشعير والذرة داخل هذه الحظائر ليصونوها من عدوان الماشية والجمال.

مررنا بعدة بيوت يتصاعد منها دخان الطهي، أغلبها دائري الشكل وسقوفه مصنوعة من القش أو ألواح البلاستيك السوداء. غادرنا السيارة أمام أرض مسورة واستخرج خلف من مؤخرتها صندوق كولمان كبير هرع إلينا عدد من الشبان بينهم سود وفليبينيون تعاونوا على إخراج لفافة من السجاجيد وصندوق من المياه المعدنية وآخر من السفن أب.

لمحت بلال راكعًا أمام دائرة من الأحجار يزيح جانبًا قطعًا من الجمر المشتعل وسط حصى كبير الحجم. وبالقرب منه تصاعدت النيران من حفرة جلست أمامها امرأة في ثوب ذي ألوان أفريقية بهيجة بورود حمراء كبيرة في خلفيات زرقاء وخضراء. كانت ترش بكوب بلاستيكي في يدها اليمنى الدقيق السائل فوق صحن من الخشب في يدها اليسرى التي تنتهي بأظافر منسقة مصبوغة. كان ظهرها لي فخطوت جانبًا لأرى وجهها وألفيته مغطًى بقناع مؤطَّر بزخارف نحاسية ينتهي أسفل الذقن فلا يكشف سوى العينين وجوانب الأنف من خلال فتحتين على شكل مثلثين.

خطونا في أرض فضاء متربة اصطفت في طرفها أشجار جوز الهند السامقة. اتجهنا إلى مبنى مستطيل من طابق واحد يتألف من عدة غرف متجاورة، بدا لي مثل عنبر في سجن أو مستشفى. وخرج من الغرفة الأولى رجل نحيل قوي البنية رغم سنيه التي تقترب من السبعين، يرتدي دشداشة رمادية بسيطة ويغطي رأسه بالغطاء الظفاري التقليدي الذي يشبه الحطة الفلسطينية، ويختلف عنها في لونه الأحمر وطريقة العقد فوق الرأس.

همس لي خلف: أبو عبد الله.

رحَّب بي وفي عينيه نظرة شاردة وخاطب خلف قائلًا: أره كيف نعد المضبَّى.

حمل أحد الخدم صينية امتلأت بكتل من اللحم واتجه الى حيث أقعى بلال فتبعناه. عاونه خلف في وضع اللحم فوق الحصى الذي بدا الآن بعد تعريته وتنظيفه من الرماد متوهجًا مثل الجمر.

قرفصت إلى جوارهما أتأمل الجمر وسمعتهما يتحدثان عن زميل لهما تلقى تعويضًا هائلًا بلغ ١٢٠ ألف ريال، أي حوالي مليون جنيه مصري أو ثلث مليون دولار أمريكي، مقابل ضم أرضه لمشروع حكومي.

استوضحت التفاصيل فقال بلال: كل واحد في سن السابعة عشرة يحق له التقدم لأخذ قطعة أرض مجانًا تتراوح مساحتها بين ٦٠٠ و٩٠٠ متر بالقرعة، ثم يبنيها على حسابه أو بواسطة قرض إسكان. وتأتي ضربة الحظ عندما تُضم إلى مشروع حكومي.

انهمك الخدم في نقل السجاجيد والوسائد وصناديق الكولمان والمياه المعدنية والغازية وترامس الشاي وصناديق المناديل الورقية والأطباق الخزفية إلى الداخل، وقلَّب بلال اللحم ونقل القطع الناضجة إلى صينية مخصوصة.

لاحظت أن أغلبها غير تامة النضج وقلت ذلك لبلال فقال: سيدي أبو عبد الله يفضلها هكذا.

نادى علينا أبو عبد الله فمضينا إلى الغرفة التي فرشت بالسجاد والحشيات واجتمع بها أكثر من ستة رجال بينهم الفندي، وكانت هناك مائدة عالية بجوار الجدار وقف أبو عبد الله خلفها مشرفًا على صينية ضخمة من الأرز.

وزع علينا الخدم الأطباق وأكواب المياه المعدنية والغازية، ثم ظهر بلال في المدخل حاملًا صينية اللحم المشوي فوضعها أمام أبي عبد الله، وأقبل هذا يمزق اللحم بيديه ويعطي لكل منا نصيبه.

ظل أبو عبد الله يوزع الطعام دون أن يأكل إلى أن فرغ طبق اللحم فرفعه الخدم ووضعوا مكانه طبقًا آخر من الفاكهة.

شربنا الشاي وبدأ البعض في الانصراف ووقف أبو عبد الله يودعهم في مدخل الغرفة. اقترب مني الفندي بصحبة رجل مهيب المنظر أسمر اللون في دشداشة بيضاء ويغطي رأسه بلفافة معقدة التكوين. قدمه إليَّ قائلًا: أبو عامر كان من قادة الثوار.

تأملت وجهه الحليق السمين الذي أطلت منه عينان كعيون النسور.

قلت: هذه فرصة لأن أعرف منك حكايتهم.

قال: تلفِن لي في أي وقت وتعالَ لزيارتي.

قلت إني سأفعل وتركته بحثًا عن خلف وبلال فوجدتهما يأكلان إلى جوار صانعة الخبز، ورآني الفندي حائرًا فعرض عليَّ أن أرافقه إلى الفندق. ركبت إلى جواره وقاد السيارة بنفسه في صمت ثم دعاني لاحتساء كأس في الشاليه.

صعدت إلى غرفتي فخلعت قميصي الذي وقعت عليه حبات الأرز وفتات اللحم واستحممت ثم استلقيت فوق الفراش. وبعد قليل قمت فارتديت ملابسي وهبطت إلى البهو فاحتسيت قهوة المدخل المجانية المرة وخرجت إلى الحديقة.

فتح لي الخادم الفليبيني باب الشاليه وأفسح لي الطريق إلى غرفة المعيشة السفلية. وجدت الفندي في رفقة صحفي لبناني معروف يصدر مجلة عربية من لندن. كان طويل القامة شديد بياض البشرة وبالغ الأناقة ذا صوت جهوري أحداث أثره بلا شك في مموِّليه. كان يعرض على الفندي كراسة ملونة يحمل غلافها اسم قاعة سوثبي الشهيرة للمزادات في إنجلترا.

وضع الفندي الكراسة جانبًا بمجرد دخولي وسألني عما أشرب. كان طبق الفاكهة وزجاجة الويسكي المهديان من إدارة الفندق في مكانهما على المائدة الجانبية. لكن الزجاجة كانت جديدة من نوع غير نوع الأمس، ومع ذلك لم يقربها أحد وتعاملنا مع محتويات الطاولة المتحركة.

صببت لنفسي كأسًا من الجين وناولني الفليبيني زجاجة التونيك. سألت الصحفي اللبناني عما إذا كانت هذه أول زيارة يقوم بها لعُمان فضحك. وقال الفندي إن له غرفة محجوزة على مدار السنة في شيراتون مسقط.

استأنف الصحفي حديثًا سابقًا عن جولة قام بها في الجمهوريات الإسلامية للاتحاد السوفييتي السابق. ومضى يستعرض الظروف الاقتصادية المتردية وفرص الاستثمار.

صببت كأسًا ثانية وتحول الحديث إلى الوضع العربي. سألني الفندي عما إذا كان ثمة مستقبل للعرب، ولم ينتظر إجابتي وإنما استطرد: القومية العربية مجرد وهم، اللغة العربية ذاتها سبب تفككنا، فهي لغة الركون إلى الماضي والنوم في أحضانه. الواقعي هو الشرق الأوسط.

سكت لحظة ثم لوى شفته في استنكار ومضى يقول: أعرف ما يقال عنا، أننا خضعنا لضغط الأمريكان وأعطيناهم قاعدة. الحقيقة أننا نحن الذين ذهبنا إليهم ورجوناهم أن يأخذوها. اسمع. عبد الناصر الظروف ساعدته على القيام بمواجهات حادة مع القوى الأجنبية فماذا أفادته المواجهة؟

أصابتني الكأس الثالثة بالاكتئاب وأدارت الرابعة رأسي، فاستأذنت في الانصراف، رافقني الفندي حتى باب الشاليه ومضيت في ممشى خافت الإضاءة. مشيت بين فيلات مظلمة واتجهت صوب الشاطئ وسرعان ما كنت أخطو فوق رمال ناعمة انتشرت فوقها أكوام مخروطية من صنع السراطين.

كان الظلام شاملًا يتخلله ضوء خافت غامض صادر عن المحيط، تعثرت في سيري وأوشكت أن أقع لولا أن يدًا أمسكت بي وانتشلتني.

سألت سالم: ماذا تفعل هنا؟

قال: أتمشى. الظاهر أنك شربت عند الفندي.

سرنا على الشاطئ في صمت في اتجاه الفندق. واعترض طريقنا سياج لملعب تنس يقع خلف المطعم. كان مغلقًا بإحكام ولم نجد مفرًّا من العودة من حيث جئنا.

تخبطنا في الظلام ونحن نبحث عن فتحة تؤدي بنا إلى الطريق العام. وأخيرًا جذبني سالم من ذراعي قائلًا: تعالَ من هنا أسهل.

قادني بين أشجار شوكية تخللها بصيص من الضوء حتى خرجنا إلى الطريق العام على بُعد مائتي متر من مدخل الفندق.

كان الطريق مهجورًا وهو أمر طبيعي فلم يكن هناك غير الفندق ثم حدائق مترامية مسورة تابعة للسلطان. مشينا في نهر الطريق صوب الفندق. ولم نكد نخطو قليلًا حتى ظهرت أنوار كشافي سيارة قادمة من ناحيته فصعدنا فوق الرصيف وظهرت خلفها سيارة أخرى، وفجأة بدأت مصابيح السيارتين تتأرجح يمنة ويسرة كأنما فقد السائقان سيطرتهما على عجلتي القيادة. وتقدمت السيارتان نحونا وهما تتراقصان.

أمسك سالم بذراعي وجرني بإلحاح وهو يصيح: أسرع. احتمِ بالعمود.

لم أفهم ما يعنيه إلى أن رأيته يلتصق بأحد أعمدة النور ويشير إليَّ أن أفعل مثله. جريت إلى العمود التالي واحتضنته. اقتربت منا السيارة الأولى على مهل وهي ما تزال تتراقص. ولمحت داخلها عدة رجال في دشداشات بيضاء. وجاءت السيارة الثانية خلفها غاصة بهم.

مرت السيارتان من أمامنا في بطء وتجاوزتانا، تابعتهما ببصري واسترخيت قليلًا في وقفتي استعدادًا لمواصلة السير، ثم رأيت أنهما توقفتا. وبدا كأنما يتداول ركابهما في أمر.

صاح سالم وهو يجري: أسرع.

اندفع في اتجاه الفندق ورأيت السيارة الأولى تدور وتعود من حيث جاءت في اتجاهنا تتبعها زميلتها. تطلعت حولي بحثًا عن شخص أو سيارة أو أي مصدر للعون. كان الشارع خاليًا تمامًا ولم يكن ثمة مدخل لمبنى أو فجوة في الأسوار الممتدة على الجانبين أو زاوية ما يمكن الاحتماء بها. كنا هدفين متاحين تمامًا.

احتمى سالم بعمود النور التالي وتجاوزته جريًا إلى العمود الذي يليه. اقتربت السيارة الأولى منا على مهل. كنا واضحين أسفل المصباحين القويين ورأيت بابها الخلفي يفتح وتبرز منه ساق كأنما يستعد أحد ركابها لمغادرتها. لكن السائق واصل السير وتصاعدت من نوافذها ضحكات صاخبة.

تجاوزتنا السيارة بينما توقفت زميلتها وسلطت كشافيها علينا، وأصبحنا بذلك محصورين بين السيارتين، تذكرت السلاح الفلسطيني فغامرت بترك مواقعي وانحنيت أجمع بعض الحصى والحجارة المتناثرة. صاح سالم: اجرِ.

جرينا إلى العمودين التاليين واحتمينا بهما. واصلت السيارة الأولى سيرها حتى تجاوزت الفندق وظلت الثانية مكانها. أحصيت عدد الأعمدة التي تفصلنا عن مدخل الفندق فوجدتها أربعة.

واصلنا الجري والانتقال بين الأعمدة بينما بلغت السيارة الأولى نهاية الطريق واستدارت عائدة. وحمل إلينا الهواء أصوات نقاش حادة صادرة منها.

بقي أمامنا عمود واحد وقدرت أن السيارة تستطيع اللحاق بنا قبل أن نبلغه. لكنها تباطأت كما أننا جرينا بأقصى ما نملك من طاقة وتمكنا من أن نسبقها إلى بوابة الفندق الخارجية.

لم يكن هناك أثر لسيارات التاكسي الثلاث التي كانت مرابطة دائمًا أمامه. ولا لأي إنسان.

عبرنا الباحة المؤدية للحجارة البيضاوية دون أن نلتقي بأحد في المدخل أو صدر البهو أو خلف المكتب الذي يستخدمه مواطني المصري. لم يكن هنالك غير موظف الاستقبال الهندي بوجهه الجامد وحركة الرأس المألوفة.

تناول سالم مفتاحه واتجه إلى المصعد قائلًا: إنهم شباب سكارى كانوا في بار الفندق، تصبح على خير.

ألقيت نظرة خلفي نحو المدخل والتقطت مفتاحي. تأكدت من أن صندوقي فارغ ولم تأتِني أي رسائل ثم صعدت إلى غرفتي أغلقت الباب خلفي بالسلسلة المعدنية ومضيت إلى النافذة المطلة على حديقة الفندق الخلفية، كانت ستائرها مسدلة لكن بها فرجة في الوسط تطلعت منها إلى الخارج، وقفت برهة دون حراك ودون أن ألمح أثرًا لحركة أو أسمع صوتًا، شددت طرفي الستارة محكمًا إغلاقها ثم أشعلت مصباح النور المجاور لسريري وأدرت التليفزيون.

ظهر لي شاب في ملابس عسكرية تبين بعد قليل أنه عميد ركن ويتولى قيادة السلاح الجوي السلطاني، كان يتحدث بمناسبة عيد القوات المسلحة العمانية عن تدعيم السلاح بطائرات هوكر الإنجليزية.

ظللت أحدق في شاشة التليفزيون إلى أن رحت في النوم.

٤

في هذه المرة اتجهنا شرقًا فوق طريق مرصوف، تشرف عليه من جهة اليسار جبال جرداء مليئة بكهوف فارغة لا تلبث أن تمتلئ بالأغنام والناس عندما تهطل الأمطار. كان الطريق نظيفًا للغاية ومع ذلك انتحت جانبه عربة صغيرة يقودها هندي في أوفرول ذي لون أصفر فوسفوري. وما أن لاحت له سيارتنا حتى انحنى متظاهرًا بجمع فضلات وهمية.

بدت في الجبال طرق رفيعة ملتوية ممهدة تصعد إلى القمم. وكان المحيط يتبدى بين الفينة والأخرى على يميننا، وانتشرت على شاطئه مساحات واسعة من أسماك السردين تحلق فوقها النوارس.

قال خلف: السردين مؤشر على انتهاء الخريف وبداية فصل جديد هو «الصرب». عن قريب تتكاثر الفراشات وتدر الأبقار لبنًا غزيرًا وتمتلئ المناحل بالعسل والنراجيل بماء جوز الهند.

وصلنا طاقة بعد ثلث ساعة واستوقفنا في مدخلها بدوي حافي القدمين يحمل بندقية في كتفه وتكلم مع خلف باللغة الجبالية. كان مكحول العينين ذا شعر أسود لامع مدهون ضمه برباط من الجلد الرقيق وتمنطق بحزام من الخراطيش فوق مئزر ملون.

أشار إليه خلف أن يركب في الخلف. وهمس لي أنه من جنود الفرق الوطنية التي تعسكر في الجبال. واصلنا السير دون أن ندخل البلدة وأشرفنا على مرباط بعد ثلث ساعة أخرى فترجل الجندي.

كانت البلدة تمتد على شكل هلال من البيوت الواطئة أسفل جبل يرتفع عدة آلاف من الأمتار وتطل على خليج من الرمال الناعمة والمياه الصافية وقوارب الصيد.

سألت خلف عما إذا كان ثمة علاقة بين اسمها وكلمة الرباط التي تحملها العاصمة المغربية. وافقني قائلًا إن سيف بن ذي يزن، كما يُروى، اتخذ منها رباطًا أي معسكرًا استقبل فيه الفرس الذين استنجد بهم.

فكرت أن القصة دائمة التكرار: الاستنجاد بأجنبي للتخلص من أجنبي آخر، ثم بأجنبي ثالث للتخلص من الأخير، وهكذا دواليك.

مررنا بقلعة قديمة لها ثلاثة مدافع ومسجد له قبة خضراء. ولجنا شارعًا عريضًا غير مرصوف به عدة فيلات وفي نهايته عمود عُلق فيه جهاز تليفون أصفر اللون.

قلت مستغربًا: تليفون عمومي؟

قال بزهو: دولي.

– وكيف يستخدم؟

– بالكارت الذي يمكن شراؤه من أي دكان.

توقفنا أمام مبنى حديث تعلن لافتته عن مركز للتأهيل النسوي، استقبلتنا سيدة بدينة في الثلاثين أو أكثر، قصيرة القامة سافرة الوجه ترتدي ثوبًا ملونًا. قادتنا إلى غرفة طويلة تضم مكتبًا بجوار الباب وآخر في الطرف تحيط به ثلاث فوتيات وأريكة من الجلد وخزانة. قالت: إن المركز يقدم خدمات متنوعة لنساء المنطقة مثل التوعية بمضار الرضاعة الصناعية وتوفير وسائل منع الحمل والمعاونة في رعاية الأطفال. كما تتعلم فيه النساء الحياكة وصناعة الخزف لكي يتحررن من الاعتماد على الزوج.

دعتني إلى جولة بالمبنى. واعتذر خلف عن مرافقتي قائلًا إنه قام بهذه الجولة عشرات المرات، وإنه سينتظرني في السيارة.

قادتني إلى ردهة طويلة تتصاعد ضجة من غرفة معلقة في نهايتها. اتجهنا إليها وسبقتني إلى الباب، ففتحته وهي تحرص على إبقائه مواربًا، ثم ابتسمت في خجل: إنهن يعملن سافرات. أتحرج من إدخالك عليهن.

أغلقت الباب وقادتني إلى قاعة في الناحية المقابلة تضم معرضًا للمشغولات التي تنتجها عضوات الجمعية؛ مباخر وأزيار وقرب مياه من الجلد وأوانٍ جلدية للحليب ومهاد أطفال تحمل على الظهر وحلي. وكان ثمة ركن خاص لغرفة العروس يضم سريرًا مرتفعًا ذا أعمدة ثبتت في أعلاها قطعة ملونة من القماش تسدل بعد الزواج لأن العروس لا تنكشف لغير أهلها طوال سنة كاملة.

سألتها عن وسائل تمويل نشاط الجمعية فقالت: السيدة الجليلة والدة السلطان ووزارة الشئون الاجتماعية.

– ومن الذي يُعَيِّن العاملات في الجمعية؟

– لا أحد. هناك لجنة قيادية تتشكل بالانتخاب، والعضوات كلهن متطوعات. الرئيسة أيضًا.

عدنا إلى القاعة الأولى فجلست إلى مكتبها بعد أن تركت الباب مفتوحًا. احتللت المقعد المجاور وأنا أقول: هل يمكنني مقابلة الرئيسة؟

تضوعت رائحة عطرية منعشة وظهرت عند الباب فتاة متوسطة القامة ترتدي عباءة سوداء ونقابًا أسود كثيفًا يغطي كل وجهها، بما في ذلك العينين.

توجهت إليها محدثتي قائلة: عندنا ضيف من مصر.

ذكرت اسمي وتحولت إليَّ قائلة: ها هي رئيستنا.

نهضت واقفًا ولم تنبس المقنعة بشيء.

كرهت دائمًا الحديث إلى الأشخاص الذين يرتدون عوينات سوداء تخفي تعبير عيونهم، فما بالك بنقاب كثيف يغطي الوجه كله ولا ينم عن شيء.

شعرت بالضيق وقلت: في بلدي من النادر أن تجد سيدة مقنعة مثلك. حتى المنقبات أغلبهن يكشفن العيون على الأقل.

تحركت وخطت إلى طرف الحجرة، تبعتها مترددًا بينما رمقتنا الأخرى في فضول دون أن تغادر مقعدها.

خلتها ستجلس إلى المكتب الآخر وتدعوني للجلوس في أحد الفوتيات لكنها بقيت واقفة، وفجأة فقدت السيطرة على أعصابي.

قلت في حدة: هل جربت أن تتحدثي إلى حائط؟

ظللنا متواجهين في صمت برهة ثم رفعت يدها ببطء ونزعت النقاب.

عدت إلى الوراء خمسًا وثلاثين سنة، نفس العينين الواسعتين والشفاه الرقيقة والبشرة الخمرية والنظرة المتحدية.

همست: وردة.

قالت في جفاء: بنتها.

قلت: كنت أعرفها.

لم تعلق.

– هل هي …

قاطعتني: لا أعرف.

استعدت توازني وقلت: قرأت جزءًا من يومياتها في مسقط، وقيل لي إنك تحتفظين بالجزء الباقي.

لم تسألني من قال ولا كيف حصلت على الجزء الذي قرأته كأنما الأمر لا يعنيها. أو لعلها كانت تعرف.

سألتني: هل يمكن أن أرى جوازك؟

كنت قد توقعت شيئًا من هذا القبيل فحملته معي. استخرجته من حقيبة يدي وناولته لها. قلبت صفحاته في هدوء وقرأت الاسم في روية وقارنت بين وجهي وصورتي ثم أعادته لي.

– إلى متى ستبقى في صلالة؟

قلت: يومًا أو يومين.

قالت: سأحضرها لك هنا في الغد. آه. غدًا الجمعة. إذن السبت. لا. الأحد. السبت لن آتي هنا.

قلت: بعيد.

فكرت قليلًا ثم قالت: اسمع. سأذهب بعد ظهر اليوم إلى طبيب الأسنان في صلالة. نلتقي عنده.

قلت: أنا لا أعرف المدينة جيدًا. وكل تحركاتي معروفة ولا أحب أن يدري أحد بالأمر.

قالت: لن يدري أحد بشيء. قل إن أسنانك تؤلمك أو تحتاج إلى حشو. واطلب من الفندق أن يدلك على طبيب أسنان. لا تطلب ذلك من جماعة مركز التراث، هؤلاء مخابرات.

– وكيف أضمن أنهم سيدلونني على نفس الطبيب الذي ستذهبين إليه؟ بدا على وجهها تعبير الاستنكار لغبائي، وشرحت لي: أغلب الأطباء هنا هنود ويمكنك أن ترفض الذهاب إليهم بحجة أنك لا تستطيع التفاهم معهم أو لا تثق بهم، اطلب طبيبًا عربيًّا. ليس هنا غير واحد سوري مجنون متزوج من فرنسية. هو الذي يعالجني. ستجدني لديه في الساعة السادسة.

صمتت لحظة ثم أضافت وهي تعيد القناع إلى وجهها: لو حدث أن التقيت بعمي فلا تذكر له شيئًا. كان ينوي دعوتك إلى منزلنا اليوم، لكنه اضطر لمغادرة مرباط وسيعود في المساء.

– من تقصدين؟

– أبو عامر.

صدفة أم مرتب؟

٥

هبطت إلى بهو الفندق في الساعة الخامسة وأنا أدعو الله ألا تضع الصدفة أحدًا في طريقي مثل سالم أو خلف. كان البهو خاليًا وموظف الاستقبال الهندي في مكانه الأبدي والمكتب الذي يجلس إليه مواطني المصري خاليًا.

تقدمت من الهندي وسألته عن كيفية الذهاب إلى طبيب أسنان. أعطاني دفتر التليفون وهو يقول بجفاء: عندك تليفوناتهم.

قلبت صفحات الدليل وتظاهرت بقراءة أسماء الأطباء وعناوينهم ثم قلت: لكن هؤلاء كلهم هنود.

نظر إليَّ في تحدٍّ.

قلت: ألا يوجد واحد عربي؟

هزَّ رأسه بتلك الطريقة الميكانيكية الزنبركية.

لمحت متولي متجهًا إلى مكتبه فحملت الدليل إليه، قلت له إن ضرسي يؤلمني وأريد الذهاب فورًا إلى طبيب أسنان غير هندي.

ابتسم: عندنا واحد سوري، ينفع؟

– لا بأس. على الأقل أستطيع التفاهم معه.

كتب لي اسم الطيب وعنوانه في ورقة صغيرة وناولها لي: إنه في شارع النهضة. التاكسي سيأخذك في ثلث ساعة.

فقلت: وكم أدفع؟

– سيقول لك السائق حوالي ثلاثة ريالات.

كانت الساعة قد بلغت الخامسة والنصف، لكني لم أشأ الانتظار كي ألتقى بأحد وخرجت إلى الطريق.

أقلني سائق باكستاني إلى شارع قابوس ثم اتجهنا يسارًا ومررنا بمنطقة البليد الأثرية. وبعد عشر دقائق كنا في شارع النهضة الذي يشغى بالحياة والحوانيت والمباني.

هبطت أمام دار للسينما تعرض فيلمًا هنديًّا يصور ملصقه قتالًا شرسًا. وجدت عيادة الطبيب في بناية حديثة من طابقين ذات تكوين معقد. اجتزت مدخلًا مسورًا ومضيت في ممر متعرج يؤدي إلى درج مظلم. صعدت إلى الطابق الأول فوجدت بابًا مضاءً تعلوه لافتة باسم الطبيب. دفعت الباب وولجت ردهة خالية مضاءة بمصباح نيون وبها مكتب وتليفون. انتظرت لحظة ثم تطلعت إلى ساعتي كانت تقترب حثيثًا من السادسة.

انفرج باب من الزجاج الفييه والمعدن المدهون باللون البني عن وجه شاحب عصابي لرجل في الخمسين يرتدي معطفًا أبيض فوق قميص وبنطلون. اعتمد بيده على حافة الباب ومال برأسه نحوي: الأستاذ المصري؟

كان يتوقعني إذن. أومأت برأسي.

قال: الممرض ذهب يحضر شريط فيديو: تفضل.

ولجت غرفة كشف عادية بها الجهاز المعهود الذي بدا قديمًا بعض الشيء. أشار لي أن أقتعده ففعلت.

قال وهو يستند بقدمه على درجة أسفل الجهاز ويضع يده خلف رأسي فوق مسند المقعد: سمعت أنك تشكو من آلامٍ في ضرسك.

أملت رأسي إلى الوراء وفتحت فمي. أشرت بإصبعي إلى ضرس كان قد بدأ يؤلمني فعلًا.

قال وهو يضع الملعقة المعدنية في فمي: الكل هنا يشكو من تسوس الأسنان بسبب نقص الكالسيوم.

وضع الملعقة جانبًا وتناول واخزًا معدنيًّا: أنا من حلب. ولي هنا بضع سنوات. هذه العيادة فتحها لي أبو عامر. مقابل المشاركة في نصف الدخل. أنا أعمل وهو يقبض. أحيانًا ١٢٠٠ ريال، وأحيانًا ١٥٠٠.

مائة وعشرين ألف جنيه مصري في الشهر.

قلت: مبلغ جيد.

قال: ليس كما تتصور. على العموم أنا أفكر في المغادرة … المنافسة صارت قوية من الهنود وغيرهم، هناك الآن طبيبات عمانيات.

بدأ يعبث في أسناني بالواخز المعدني. وتظاهرت بأني أتألم.

قال: هناك بعض الأجزاء العارية من اللثة وضرس يحتاج إلى حشو.

قلت إني أفضل الانتظار حتى أعود إلى مصر وكل ما أطلبه هو تسكين الألم.

مسد لي اللثة بزيت القرنفل، وكتب لي روشتة طبية بمسكن تم تناول مظروفًا أصفر اللون من فوق مكتبه وناوله لي: هذا لك.

ترددت ثم سألت: هل جاءت؟

قال: منذ ساعة.

أخذت المظروف وسألته عن الأجر.

قال: لا شيء.

قلت: كيف؟

قال: أنا لم أفعل شيئًا. ثم إنك من بلد جمال عبد الناصر وهذا يكفي.

شكرت هذا الحظ وغادرت العيادة، وقفت في الخارج أفكر. نزعت المظروف الأصفر وأخرجت منه كراستين أصغر حجمًا من الكراسات السابقة وأقل سمكًا شعَّت منهما روائح الرطوبة، وقدرت أنهما كانتا مدفونتين تحت الأرض. أعدتهما إلى المظروف ووضعته في حقيبة يدي وغادرت المبنى.