وردة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثالث عشر

صلالة

ديسمبر ١٩٩٢

دق جرس التليفون فوضعت أوراق وردة جانبًا وتناولت السماعة.

عرفت صوته على الفور: زيد!

ضحك: كنت تتوقعني؟

قلت: نعم. من أين تتكلم؟

قال: من مسقط. اسمع. إلى متى ستبقى عندك؟

قلت: حتى بعد غد.

قال: هل يمكن أن تنتظر يومًا آخر؟ أريد أن أراك.

ترددت. كنت قد بدأت أشعر بالضجر وأتلهف على العودة، لا إلى مسقط وإنما إلى القاهرة.

قلت: يمكنك أن تراني في مسقط.

قال: لا. أفضل عندك، سأتصل بك بمجرد وصولي.

وضع السماعة وأعدت سماعتي في ضيق. كنت قد طلبت من خلف أن يرتب لي حجز الطائرة وسأضطر الآن إلى طلب تأجيله.

مددت يدي إلى أوراق وردة لأواصل القراءة وإذا بجرس التليفون يدق من جديد.

جاءني صوت سالم: ماذا تفعل؟

قلت: أقرأ. ماذا هناك؟

قال: رتبت لك موعدًا. أيمكنك أن تنزل؟

قلت: الآن؟ أنا لم أتعشَ بعد.

قال: لا تقلق. ستأكل.

ارتديت ملابسي وأعدت الأوراق إلى كيسها. أزحت المقعد المجاور للفراش ودسست الكيس أسفل السجادة ثم أعدت المقعد إلى مكانه.

وجدت سالم ينتظرني في البهو وقادني على الفور إلى الخارج حيث كان زوج أخته ينتظر في سيارة مازدا قديمة مركونة على الناحية الأخرى من الطريق ومقدمتها في اتجاه وسط المدينة.

عبرت الطريق خلفه وأنا أتساءل: إيه الحكاية؟

قال وهو يفتح لي باب المقعد الخلفي: اركب أولًا.

جلس إلى جوار قرية الذي انطلق على الفور.

قال: هل تعرف أن لأخت صديقك ابنة هنا؟

تجنبت الرد بالإيجاب أو النفي ووجهت إليه سؤالًا بدلًا منه: هل نحن ذاهبون إليها؟

قال: لأ طبعًا. سنقابل شخصًا آخر. واحد من الجبهة كان في السجن.

التفت نحوي وقال: ألم تقابلها عندما ذهبت إلى جمعية المرأة؟

لا شيء يخفى هنا.

قلت: قابلت واحدة اسمها وعد لكني لم أعرف صلتها بوردة.

قال: إنها هي. كيف وجدتها؟

– لم أتوقع أن تكون مهووسة دينيًّا.

– كيف؟

– تغطي وجهها بنقاب أسود كثيف يخفي حتى عينيها.

– آه. هذا نقاب الأشراف ولا علاقة له بالدين.

مضى فطوم في شارع قابوس الموازي للشاطئ. وأدار الراديو فاستمعنا إلى نشرة أنباء تصدرتها إشارة إلى اغتيال أحد قادة الحزب الاشتراكي اليمني في عدن.

علق سالم: أظن هذا هو الحادث الخمسين من نوعه منذ الوحدة بين الشمال والجنوب.

قال فطوم وهو ينطلق بجوار محمية للطيور: الحمد لله أن العدوى لم تنتقل إلينا.

قال سالم مستنكرًا: هل نسيت سهيل؟

تدخلت في فضول: من هو؟

قال: أحد القادة الأوائل للجبهة، وتوفي أمس في حادث مرور في نزوى. حادث مريب. ترك زوجة وسبعة أطفال.

قال فطوم مهونًا: حادث واحد.

ردَّ سالم كأنما يستأنف نقاشًا سابقًا: وماذا عن الاعتقالات؟ أبو سكحة الذي تخرج من جامعة كييف وعاد في أواخر الصيف الماضي ما زال معتقلًا، مسلم بن نوفل أحضروه مكبلًا من الإمارات وسحبوا منه جواز سفره.

ولماذا لم يعتقلوك أنت أيضًا يا عم سالم؟

اعترض فطوم في حدة: مسلم قُبض عليه بسبب ما عليه من ديون.

قال سالم: أية ديون؟ منذ انضمامه إلى السلطة سنة ٧٠ وهو يحصل على مبالغ طائلة آخرها ٨٠٠ ألف ريال وقطعة أرض، بالإضافة إلى راتب مدير في الحكومة وألف ريال شهريًّا من الديوان السلطاني ومواد غذائية من مكتب محافظ ظفار، وأخيرًا بدأ يدخل في النفط، فوقع مع اليمنيين اتفاقية للتنقيب ممثلًا لإحدى الشركات.

تحول فطوم إلى طريق مترب شبه مهجور وتوقف أمام منزل قديم من طابقين تحيط به حديقة مهملة، كان بابها مفتوحًا على مصراعيه فاجتزناه بالسيارة.

صعدنا بضع درجات متآكلة وطرق سالم بابًا خشبيًّا. فتحه لنا رجل متوسط الطول عصبي القسمات عاري الرأسي، أشار لنا بالدخول وتقدمنا إلى قاعة واسعة كالحة الجدران فُرشت أرضها بالحصير وتوسطتها أريكة وبضعة مقاعد.

تبادلنا التحيات والسؤال عن الأهل والصحاب، وأحضر صبي مراهق زجاجة عرجي قادمة من الجنوب اليمني، وطبقًا من الزيتون، ثم تتابعت الأطباق: كبدة بالشطة وسمك مشوي وجبن أبيض.

قال سالم: أخ مسعود، الأخ المصري يريد أن يسألك عن وردة.

تحول إليَّ في حدة قائلًا: وردة ماتت.

قلت: متى؟

ظهرت نظرة ساهمة في عينيه.

قال: استشهدت أثناء معركة مرباط.

تساءلت: مرباط أم طاقة؟

بدا عليه الارتباك. وتطلع ناحية الباب. وفجأة تبدلت ملامحه وبدا عليه التوتر.

سألنا دون أن يرفع عينيه عن الباب: هل سمعتم؟

تبادلنا النظرات أنا وسالم.

قال فطوم: ليس هناك أحد.

تحول إلينا وما زال ذهنه عالقًا بالباب.

سألته: هل تعرف أخاها؟

هزَّ رأسه: لم يكن لها إخوة.

قلت: هل قابلتها؟

التفت مرة أخرى ناحية الباب وأومأ إلينا أن ننصت.

سمعنا صوت نباح كلب وتصلب جسده ثم همس: جاءوا.

احتسيت كأسي في صمت والتقطت حبة زيتون.

تكرر النباح ثم ابتعد. والتفت نحوي مائلًا بجسده إلى الأمام: الحقيقية لها وجهان.

لم أفهم ما يعنيه، واستطرد هو: سأحكي لك نادرة من نوادر جحا. جاء إليه رجل وأعطاه مصباحًا وطلب عشاءً، فأكرمه جحا، وفي اليوم الثاني أتاه رجلان وقالا له إنهما صديقا صاحب المصباح وتناولا العشاء، وفي اليوم الثالث أتاه ثلاثة وقالوا له إنهم أصدقاء الرجلين صديقي صاحب المصباح ويريدون عشاءً، فأكرمهم كذلك، وفي اليوم الرابع جاءه أربعة وقالوا إنهم أصدقاء الثلاثة أصدقاء الاثنين صديقي صاحب المصباح وطالبوا عشاءً، فقدم لهم جحا الماء فقط، وقال إن هذا الماء صديق ماء الثلاثة أصدقاء الرجلين صديقي الرجل الذي أعطاه المصباح. هل فهمت؟

اعترفت بأني لم أفهم، فقال: هذه نادرة عن الكرم الذي اشتهرت به القبائل العربية. لكنها تريك أيضًا ما يتصفون به من جشع وطفيلية، الحقيقة لها وجهان.

ملأ لنفسه كأسًا وأضاف: قبل أن تظهر الجبهة لم يكن الرجل يخرج من منطقته إلا بعد إبرام اتفاقيات هدنة مؤقتة مع القبائل التي يمر عليها، وذهب رجل ليأتي بزوجته من منزل أهلها، فأطال البقاء وانتهت مدة الهدنة، ثم نفد تبغه فخاطر بحياته ودخل قرية له عداوة مع قبائلها، فتعرفت عليه امرأة من قبيلته. من حسن حظه أنها لم تشِ به فأفلت بحياته.

تطلعت إليه حائرًا فابتسم: هذه حكاية عن القدر. فقد عاش ليُقتل في يوم آخر.

أدركت بعد حكايتين أخريين أنني لن أحصل منه على شيء، فاسترخيت وتركتهم يتبادلون الروايات.