وردة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل السابع عشر

صلالة

١٩٩٢

١

أقلني السائق الباكستاني أو الهندي في الصباح. كنت متوترًا، عاجزًا عن التركيز من قلة النوم، ومن ملاحقة عيني أبي عامر لحقيبة يدي وهو يودعني. ولم أطمئن إلا عندما غادرت السيارة أمام الفندق.

أخذت مفتاحي من الاستقبال ولم أجد غير رسالة من خلف يطلب فيها أن أتصل به. صعدت إلى غرفتي متشوقًا إلى الفراش الذي ينتظرني. وجدت عربة النظافة أمام بابها المفتوح وشابًّا هنديًّا في ملابس عمال الفندق داخلها. وعندما شعر بي أسرع يغادر الغرفة وهو يتمتم معتذرًا.

أغلقت الباب خلفه وثبته بالسلسلة المعدنية. ألقيت بحقيبة يدي فرق الفراش ونظرت إلى التليفون. قهوة أم شاي؟

لمحت زجاجة بيرة فوق المكتب. بدت مثلجة يلتمع زجاجها وبجوارها كوب وفتَّاحة. بيرة في الصباح ولمَ لا؟ أزلت غطاءها وأنا أنزع حذائي بقدميَّ ورفعت الزجاجة إلى شفتي، عندما فتحت عيني ألفيتني راقدًا فوق الفراش بملابسي وصداع حاد يمزق رأسي.

نهضت بصعوبة وخلعت ملابسي وألقيت بها فوق الأرض، دخلت الحمام وملأت حوض الاستحمام بالمياه الدافئة وغصت فيها. أحسست بشيء من التحسن لكن الصداع ظل كما هو.

غادرت الحمام بعد أن جففت جسدي وطلبت قهوة من خدمة الغرف وكررت الطلب كي لا يأتيني عصير. ولم أكد أنتهي من ارتداء ملابسي حتى طرق الباب وفتحته لنادل هندي جديد يحمل القهوة التي طلبتها.

تناولت حقيبة يدي ورفعت غطاءها وأخرجت الكيس الذي أحتفظ فيه بأدويتي، استخرجت حبة بنادول وأعدت الكيس مكانه، وهنا اكتشفت اختفاء الكراسة.

أفرغت محتويات الحقيبة فوق الفراش؛ قلمين، علبة مناديل ورقية، جواز السفر، مفكرة لأرقام التليفون، خريطة لعمان وأخرى لظفار وحدها، برنامج لشركة سياحية، قطعة من اللبان المتحجر أخذتها من خلف، ورقة دونت بها بعض الملاحظات، كيس الأدوية. لا كراسة.

انتفضت واقفًا وقلبت أغطية الفراش. نظرت تحته وفوق المكتب وفي أدراجه وفوق جهاز التليفزيون وتحته.

جلست على حافة الفراش أستعيد حركاتي منذ دخلت الغرفة. كانت الكراسة في حقيبة يدي إلى أن ألقيت بها فوق الفراش. تذكرت الكراسات الأخرى فأزحت المقعد ورفعت طرف السجادة فلم أجد أثرًا لها.

وقفت وسط الغرفة حائرًا ووقعت عيناي على المكتب، لم يكن هناك أثر لزجاجة البيرة التي شربتها ولا للكوب الذي كان إلى جوارها. بحثت عنهما في سلة المهملات القريبة وفي تلك الموجودة في الحمام دون جدوى.

حلم؟

لكن الفتاحة التي استخدمتها في فتح الزجاجة كانت في مكانها فوق المائدة شاهدة على ما حدث.

نقلت البصر بين النافذة المواربة والباب. كانت السلسلة المعدنية مدلاة بجوار القفل وتذكرت أني ثبتها بمجرد دخولي، تذكرت أيضًا أني لم أنزعها عندما فتحت الباب للهندي. كانت مدلاة وقتها كما هي الآن.

اشتد صداع رأسي فأخذت حبة بنادول ثانية واستلقيت فوق الفراش وأغمضت عيني.

دقَّ جرس التليفون فلم أتحرك، استمر الرنين فرفعت السماعة. لم يرد أحد.

ألاعيب السيد زيد؟

بقيت ممددًا أحدق في السقف ثم حانت مني نظرة إلى الباب فرأيت ورقة صغيرة مطوية أسفل حافته.

أسرعت إلى الباب وفتحته وتطلعت إلى الممشى. لم يكن هناك أثر لإنسان أو حركة. من وضع الورقة لا بد فعل ذلك قبل فترة.

هل هو النادل الجديد؟

أغلقت الباب وتناولت الورقة وبسطتها. كانت بتوقيع زيد.

٢

ألقيت بالكنزة الصوفية فوق كتفي وهبطت إلى البهو الشاغر في الساعة السادسة. خرجت إلى الحديقة واتجهت إلى ملعب التنس في خطوات متمهلة كأني أتريض. مررت بحوض السباحة الذي انفردت به أسرة أوروبية تضم عدة أطفال. كان ملعب التنس خاليًا فمضيت بجوار سياجه في اتجاه الشاطئ، ثم انحرفت إلى اليمين وقمت بدورة واسعة لأتجنب شاليه الفندي.

عثرت على أجمة الأشجار الشوكية فنفذت بين أوراقها وخطوت في حذر إلى أن وجدت الفتحة المؤدية إلى الطريق العام.

لم يكن هناك أحد من المارة بالطبع وبدا الطريق مهجورًا. امتدت حدائق السلطان المسورة أمامي على الناحية الأخرى … تطلعت جهة اليمين حيث يقبع مدخل الفندق على مبعدة مائتي متر، كان متواريًا خلف الأشجار التي حجبت عني سيارات التاكسي الثلاث المتوقفة أمامه باستمرار كما حجبتني أيضًا عنها.

استدرت يسارًا وانطلقت بنفس الخطوات المتمهلة حسب التعليمات.

ظهرت سيارة مرسيدس حديثة الطراز قادمة بسرعة من ناحية المدينة. لمحت داخلها رجلين يرتديان الملابس الأوروبية. تابعتها ببصري حتى تلاشت في الانحناءة المؤدية لمدخل الفندق.

ألقيت نظرة على ساعتي وواصلت السير. سمعت صوت موتور سيارة قادمًا من خلفي. غالبت نفسي كي لا أنظر ورائي واحتفظت بنفس إيقاعي حتى حاذتني، وجدتها سيارة أجرة تقل زوجًا أوروبيًّا، ومرت عشر دقائق قبل أن تظهر سيارة أجرة قادمة من المدينة تقل عدة رجال في الدشداشات البيضاء، وعندما قاربوني تطلعوا إليَّ في دهشة واهتمام، بادلتهم النظر وظلوا ينظرون ناحيتي إلى أن ابتعدوا في اتجاه الفندق.

انتهى السور المقابل بناصية شارع. عبرت الطريق ومضيت على الرصيف الأيمن للشارع العمودي. رأيت سيارة قديمة من طراز فورد مركونة قرب الناصية التالية العمودية على شارع قابوس.

اقتربت من السيارة وأنا أدقق النظر إلى سائقها. كان عمانيًّا بحكم ملابسه وظفاريًّا ببشرته السمراء وملامحه الجبلية. تابعني في المرآة المعلقة فوق رأسه وعندما حاذيته تمامًا مد يده وفتح لي الباب الخلفي دون أن ينبس بكلمة.

كانت الخطوات تخرق كل القواعد. في العمل السياسي السري لا يتم لقاء بين غريبين دون ثالث يتولى تعريف أحدهما بالآخر، وفي قصص التجسس والمغامرات يتبادل الغريبان كلمات معينة — ساذجة للغاية — عن الجو أو يحمل أحدهما وردة حمراء في عروة سترته بينما يحمل الثاني صحيفة مطوية، فإذا حاد أحدهما عن النص افتضح زيفه. وها أنا أركب سيارة مجهولة دون نص على الإطلاق.

أدار السائق الموتور بمجرد أن أغلقت الباب خلفي وانطلق نحو الناصية. كانت هناك لافتة تعلن أن امتداد الشارع طريق خاص. عبر التقاطع واستدار يسارًا في شارع قابوس، تذكرت موقفًا مشابهًا عرض لي منذ سبع وثلاثين سنة بالضبط. كان الموعد ليلًا في ساحة نائية بأطراف حي العباسية، وعندما وصلت تبينت في الظلام سيارة فيات سوداء مركونة ومظلمة. وفجأة أضيئت أنوارها واستقر كشافها المبهر على وجهي فأعماني بينما تقدمت مني وتوقفت إلى جواري. وسمعت صوت قائدها الذي أعرفه يحييني ويناولني لفاقة المنشورات التي سأتولى توزيعها. لم تكن هناك بالطبع حاجة إلى كل هذه التصرفات المسرحية، وعلى العكس فقد كان من شأنها أن تجذب إلينا الأنظار.

لم يفُهْ سائقي بكلمة وقاد السيارة بسرعة عادية في الطريق المعهود الموازي للشاطئ. بلغنا محمية الطيور، فخلت أننا ذاهبون إلى صديق سالم المغرم بالنوادر والحكايات. لكنه انتقل إلى طريق رئيسي واتجه يمينًا ثم يسارًا وبعد قليل بدأ الطريق يصعد إلى أعلى وأدركت أننا نتجه إلى الجبل.

خاطبته لأول مرة: إلى أين؟

لم يرد ولم يلتفت نحوي وظل سؤالي معلقًا في الهواء فلزمت الصمت.

أخذ الضوء يتلاشى وروائح الريف تتكاثر. تجاوزنا جرارًا زراعيًّا ومررنا بقرًى صغيرة. اضطجعت في مقعدي وقررت أن أستمتع بالهواء المنعش. وبعد عدة كيلومترات انحرف يمينًا في درب وعر وسقطت أنوار السيارة المبهرة على هضبة شديدة الانحدار. ارتقاها ببطء بعد أن انتقل إلى السرعة الأولى. وأقبلنا على منعطفٍ حادٍّ فصنع دورة واسعة لأقصى ما استطاع. تمنيت أن يكون سائقًا جيدًا وأن يحتفظ بنفس سرعته ولا يقلل منها كي لا نسقط إلى الوراء. وصلنا قمة الهضبة فقررت أن أحييه. خاطبته قائلًا: أحسنت.

للمرة الثانية لم يرد.

أصم أم حكيم؟

أبطأ السير حتى توقفت السيارة. رفع الكابح اليدوي واستند بمرفقيه إلى المقود متطلعًا أمامه، ثم أطفأ النور المبهر وأوقف المحرك وفتح الباب المجاور له وترجل. ودون أن يوجه إليَّ كلمة عبر الطريق إلى أجمة من الشجيرات واختفى خلفها.

وقدرت أنه ربما يتبول ومرت دقائق تحولت إلى ربع ساعة ثم نصف دون أن يظهر. فتحت بابي وترجلت ثم درت حول السيارة. كانت المفاتيح في مكانها أسفل المقود. مددت يدي وضغطت البوق وأنا أتلفت حولي. ضغطته مرة أخرى وتركت يدي فوقه طويلًا ثم وقفت أنتظر.

سئمت أخيرًا من الانتظار ففتحت الباب وجلست أمام المقود. تأكدت من تحييد عصا السرعة وقبضت بأصابعي على مفتاح المحرك.

تعودت أن أفعل شيئين متزامنين قبل أن أدير المحرك: تحييد عصا السرعة وإضاءة النور الدائري. لكن النور الدائري كان مضاء فعلًا فحركت ذراع النور المبهر بشكل آلي، سقط الضوء المبهر فوق فضاء غير محدد المعالم على مبعدة. أدرت المحرك وحركت الذراع لأرى المسافة الأقرب قبل أن أقوم بتحرير الكابح اليدوي، وكانت هذه الحركة هي التي أنقذت حياتي.

فتحت الباب بيد مرتعشة وغادرت السيارة، وقفت إلى جوار الإطار الأمامي أتأمل الهوة السحيقة التي كانت مقدرة لي والتي استقرت مقدمة الإطار فوق حافتها.

درت حول السيارة في حذر ثم ضغطت البوق مرة أخرى. فكرت أن أنادي على السائق واحترت ماذا أقول: هو. أنت. يا ريس! أو ربما هالو كما في الأفلام الأمريكية.

خطر لي أن أحاول قيادة السيارة إلى الخلف ثم تراجعت عن هذه الفكرة. فلا بد أن أخفض الكابح اليدوي أولًا، وفي هذه الحالة تتعرض السيارة للانزلاق أمامًا قبل أن أسيطر عليها.

أطفأت كشاف السيارة وأضأت النور المتقطع ثم أوقفت المحرك. تركت المفاتيح مكانها وأغلقت الباب. تلفت حولي دون أن أتبين أية معالم في الظلام المخيم، شعرت بلمسة برد خفيفة فالتقطت كنزتي ووضعتها فوق كتفي. أعانني الوهج المنبعث من ضوء السيارة على اقتفاء أثر السائق إلى الأجمة ولم تلبث الشجيرات أن تحولت إلى أشجار عالية وتلاشى أي أثر للضوء، تلمست طريقي في صعوبة بينها وهاجمني البعوض بوحشية. كانت الروائح منعشة والأشجار متقاربة تكاد أغصانها تتعانق، وتموج بأصوات غامضة عجزت عن التمييز بينها. حاولت أن أتذكر الحيوانات التي ورد ذكرها في يوميات وردة، ثم تذكرت الضبع الذي أراد أبو عامر أن يطعمني لحمه. أسرعت السير وأنا أتلفت حولي. شعرت بالتعب بعد فترة فاستندت إلى جذع شجرة ثم ابتعدت عنها عندما تذكرت الثعبان العظيم. ولم أجرؤ على اقتعاد الأرض المعشوشبة. فكرت في العودة إلى السيارة واكتشفت أني لن أتمكن من العثور على مكانها، ثم ماذا سأفعل هناك؟ أنام بها حتى الصباح؟ وما يدريني أنها لن تنزلق بي في الهوة دون أن أشعر.

قررت أن أواصل السير حتى أصل إلى طريق عمومي أو قرية أو أصادف خيمة منعزلة. قابلتني شبه تلة أو هضبة فارتقيتها، لمحت ضوءًا خفيفًا على مبعدة فاتجهت نحوه. مشيت من قمة إلى أخرى ومن سهل صغير إلى آخر دون أن تقصر المسافة التي تفصلني عنه، شعرت بالتعب فتوقفت وتبينت فجأةً أن الضوء على يساري بدلًا من أن يكون على يميني كما كان في البداية. واكتشفت أني أمضى من نقطة لأعود إليها ثانية مهما اتجهت يمينًا ويسارًا بسبب تشابه الأرض والمرتفعات والمنحدرات.

شعرت بالعطش وتمنيت أن ألتقي جبليًّا يعطيني بعض الحليب، ثم فكرت في الطعام والأشجار التي يمكن التغذي على أوراقها وتلك التي لا تصلح لذلك بسبب سميتها.

هل مرت وردة من هنا؟

جرجرت أقدامي بصعوبة نحو هضبة مستوية وشممت رائحة روث حيوانات. أقبلت على عدة بيوت حجرية تكشفت عن حظائر للماشية. كانت خالية فواصلت السير وسط قش بلغ ارتفاعه خصري أعقبه صف من الأشجار العملاقة. أشرفت على كوخ صغير مهجور فولجته، كانت أرضه وجدرانه عارية بلا أثر للحياة، لا نيران تبعث الدفء أو وجبة دسمة من لحم الماعز أو حتى الجمل. ومع ذلك قررت أن أستريح به قليلًا.

قفز جسم ما في الهواء واصطدم برأسي فتراجعت وكدت أقع. لم أتبين شيئًا في الضوء الخفيف الغامض الذي أحاط بي. شعرت بحركة في أحد أركان الكوخ فأصخت السمع متوترًا. فأر أو حيوان مشابه؟ ماذا لو كان عقربًا أو الثعبان العظيم بنفسه؟ هل سيدور حول رقبتي ويفعصني أم يعضني ويمضي؟ حاولت أن أتذكر ما أعرفه عن الحشرات والزواحف وكيفية التعامل معها، لكن ذهني بدا عاجزًا تمامًا عن العمل.

شعرت بالإعياء فاقتعدت الأرض في الوسط مبتعدًا عن الجدران. وجدتني عرضة لتيارت الهواء فارتديت كنزتي وانتحيت جانبًا. تقت إلى كوب من الشاي الساخن يتصاعد منه البخار، هاجم البعوض وجهي ويدي فتسليت بمحاولة اصطياده ووجهت اللطمات إلى صدغي وجبهتي دون جدوى، ثم شعرت بالقرصات الحادة تحت ملابسي، براغيث؟ توترت حواسي وبدأت أتتبع التحركات الغامضة في أنحاء جسمي، ثم حاولت أن أشغل نفسي بأمر آخر ففكرت في وعد وما جرى لي معها.

دور في فيلم سينمائي أم بحث عن بابا؟

عندما أيقظتني أصوات الطيور في الفجر وجدتني منكمشًا من البرد إلى جوار الجدار. تحاملت على نفسي ووقفت. كان كل جزء في جسمي يؤلمني وخاصة ظهري. استقبلتني طيور بيضاء وملونة عندما غادرت الكوخ. ألفيتني فوق هضبة مغطاة بالعشب والأدغال الخضراء ولمحت عدة أبقار على مبعدة، فقررت أن أتجه نحوها. لكن الضوء المتزايد كشف عن وادٍ عميقٍ يفصلني عنها. تطلعت حولي فلم ألمح أثرًا للبحر الذي كان يتجلى لوردة من أي نقطة في الجبل.

هل مرت من هنا؟

قررت أن أواصل السير ملتزمًا الأماكن المنحدرة إلى أسفل كي أتجنب التوهان. ألقيت نظرة أخيرة حولي ثم بدأت رحلة العودة.